بداية الوصول في شرح كفاية الأصول تامجلد 7

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: آل شیخ راضی، محمد طاهر، 1904 - م.

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول/ تالیف محمد طاهر آل الشیخ راضی (قدس سره)؛ اشرف علي طبعه و تصحیحة محمد عبدالحکیم الموسوي البکاء.

تفاصيل النشر: تهران: دارالهدی، 14 ق. = 20م. = -13.

مواصفات المظهر: ج.

شابک : دوره 964-497-056-X : ؛ ج. 4 964-497-060-8 : ؛ ج.5، چاپ دوم 964-497-061-6 : ؛ ج. 7، چاپ دوم 964-497-063-2 : ؛ ج.8، چاپ دوم 964-497-064-0 :

يادداشت : الفهرسة على أساس المجلد الرابع، 1426ق. = 2005م. = 1384.

لسان : العربية.

ملحوظة : الكتاب الحالي هو وصف "کفایة الاصول" آخوند الخراساني يكون.

ملحوظة : چاپ دوم.

ملحوظة : ج.5، 7 و 8 (چاپ دوم: 1426ق. = 2005م.= 1384).

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: موسوی بکاء، محمدعبدالحکیم

معرف المضافة: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/8/آ3ک 70212 1300ی الف

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 2954810

تتمة المقصد السابع

تتمة فصل فى اصل البراءة

اشارة

بقي أمور مهمة لا بأس بالاشارة اليها: الاول: إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعا و عقلا فيما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقا و لو كان موافقا لها، فإنه معه لا مجال لها أصلا، لوروده عليها كما يأتي تحقيقه (1)

______________________________

تنبيهات البراءة:

الاول اشتراط جريان البراءة بعدم وجود اصل موضوعي
اشارة

(1) لا يخفى ان الاصل تارة يكون حكميا لا غير من دون الشك في الموضوع، كما لو شك- مثلا- في حرمة شي ء و اباحته من ناحية نسخ الحكم الثابت له أو لا فيجري الاصل الحكمي و هو الاستصحاب للحكم الاولي سواء كان حرمة او حلية، و لا مجرى معه للبراءة، و هل تقدم الاستصحاب الحكمي على اصل البراءة لانه حاكم عليه او لوروده عليه او لغير ذلك ككونه توقيفا؟ ... يأتي بيانه ان شاء اللّه تعالى في مسألة تعارض الاصول.

و اخرى: يكون الاصل الجاري موضوعيا كما لو شك في حرمة شي ء و حليته من ناحية الشك فيما هو الموضوع لهما كالخمرية و الخليّة، و كان معلوم الحالة السابقة بان كان متيقن الخمرية أو الخليّة سابقا، و مع جريان الاصل في الموضوع لا مجال لجريان الاصل في نفس الحكم، بل الحكم يترتب على الموضوع الذي يجري فيه لاستصحاب، لوضوح ان نسبة الموضوع الى حكمه نسبة السبب الى مسببه، و الاصل في السبب اما حاكم على الاصل في المسبب او وارد عليه، بل حتى لو قلنا بعدم تقدّم الاصل السببي على المسببي لا بد من تقديم الاصل الموضوعي، لان الحكم بالنسبة اليه نسبة العارض الى معروضه، و الغاية من جريان الاصل في المعروض لحوق عارضة به، و الّا يسقط الاصل في الموضوعات من رأس، و ان لم يكن هناك اصل جار في الحكم لان البناء على تحقق الموضوع تعبدا ان لم يكن بلحاظ ثبوت حكمة و ترتبه عليه لا وجه لجريانه، لوضوح لغوية التعبد بالموضوع حيث لا يلحقه الحكم و سيأتي ايضا بيانه في مبحث الاستصحاب ان شاء اللّه تعالى، و يظهر من المصنف انه يرى وروده عليه.

ص: 1

فلا تجري- مثلا- أصالة الاباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله التذكية، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية، فأصالة عدم التذكية تدرجها فيما لم يذك و هو حرام إجماعا، كما إذا مات حتف أنفه، فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعمّ غير المذكى شرعا، ضرورة كفاية كونه مثله حكما، و ذلك بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الاوداج الاربعة مع سائر شرائطها، عن خصوصية في الحيوان التي بها

______________________________

فاذا عرفت هذا ... نقول: اذا شك في حرمة شي ء و حليته لا مجال لجريان اصالة البراءة في الحرمة لا شرعا و لا عقلا فيما اذا كان هناك اصل موضوعي كالاستصحاب يعيّن ما هو الموضوع للحرمة او الحليّة.

اما شرعا فلوضوح كون رفع الحرمة المشكوكة بحديث الرفع انما يصح حيث لا يكون هناك ما يثبتها، و مع جريان الاصل المثبت لما هو الموضوع للحرمة تكون الحرمة ثابتة لثبوت موضوعها، و مع ثبوتها لا وجه لجريان اصل البراءة لرفعها.

و اما عقلا فلان موضوع البراءة العقلية اللابيان، و الاصل المثبت للموضوع بيان تام فيرتفع موضوع البراءة العقلية، فاتضح انه بجريان الاصل المثبت لموضوع الحرمة لا مجال لرفعها بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، لوضوح استحقاق العقاب عليها بعد ثبوتها بالاصل المثبت لموضوعها، و لا البراءة الشرعية بعد ثبوت موضوع الحرمة بالاصل.

و منه يتضح ايضا عدم جريان البراءة عقلا و شرعا مع جريان الاصل المثبت لحكم يوافقها، كما لو كان المشكوك المتقدّم مسبوقا بالخليّة فانه مع استصحاب الخليّة تثبت الاباحة، و لا مجال للشك فيها حتى نحتاج الى اثباتها بقاعدة الحل شرعا او البراءة عن الحرمة عقلا، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (انه انما تجري اصالة البراءة شرعا و عقلا فيما لم يكن هناك اصل موضوعي ... الى آخر الجملة)) و بقوله: ( (لوروده عليها)) يظهر منه ان مختاره الورود.

ص: 2

يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية، و مع الشك في تلك الخصوصية فالاصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها، كما لا يخفى (1).

______________________________

أصالة عدم التذكية

(1) بعد ما عرفت من انه مع جريان الاصل الموضوعي لا مجال لاصالة البراءة و لا لاصالة الاباحة قطعا ... يقع الكلام في انه فيما اذا شك في حليّة لحم حيوان للشك في قبوله للتذكية ام لا، فهل هناك اصل موضوعي يثبت الموضوع للحرمة فيه ام لا؟

و توضيح ذلك يحتاج الى بيان امور:

الاول: ان التذكية هل هي من المفاهيم العرفية و هي الذبح و النحر كما يظهر من صاحب القاموس، او انها من الحقائق الشرعيّة كما يظهر من موارد استعماله في لسانه كقوله عليه السّلام: (كل يابس ذكي)(1) و قوله عليه السّلام: (ذكاة الارض يبسها)(2) و قوله عليه السّلام: (ذكاة الجنين ذكاة أمه)(3) و غيرها من الموارد التي اطلق عليها الذكاة في لسان الشارع، فان الظاهر ان استعمالها في هذه المقامات المختلفة ليس على سبيل المجاز.

و على كل فبناء على انها من الحقائق الشرعيّة فهل هي معنى بسيط يترتب على اسباب له عند الشارع فيترتب على الذبح بشرائطه و يترتب على يبس الارض، و يترتب في الجنين على ذكاة أمه؟

او انها عبارة عن نفس هذه الامور التي اعتبرها الشارع كالنحر في الابل و الذبح في غيره؟

ص: 3


1- 1. ( 1) تهذيب الاحكام: ج 1، ص 49.
2- 2. ( 2) راجع نهاية ابن الاثير و لسان العرب و مجمع البحرين في مادة( ذكا).
3- 3. ( 3) وسائل الشيعة: ج 16، باب 18 من أبواب الذبائح حديث 12.

.....

______________________________

أم على نحو كون الامور التي اعتبرها في التذكية كالتسمية و استقبال الكعبة اجزاء او شرائط؟

و على الاخير لا تكون التذكية امرا بسيطا مرتبا على اسباب له، بل هي نفس تلك الاسباب، و عليه فلا تكون تلك الاسباب اسبابا للتذكية بل هي نفس التذكية.

الثاني: انه لا اشكال في ان في بعض الحيوان خصوصية و هي القابلية و الاستعداد لان تتحقق التذكية فيه و تؤثر، و بعض الحيوان ليس فيه تلك الخصوصية و القابلية، لوضوح تحققها في مثل الابل و الغنم و عدم تحققها في مثل الكلب او المسوخ.

و لا يخفى ايضا ان آثار التذكية مختلفة، فتارة تؤثر الطهارة و الحلية لأكل اللحم كما هي في الغنم و الإبل و ساير ما هو مأكول اللحم، و اخرى تؤثر الطهارة فقط من دون حلية الاكل كما في الارنب و الثعلب، فان التذكية فيها طهارة لحمها و اجزائها من دون الحليّة لاكلها لانها مما لا يؤكل لحمه.

الثالث: ان الشك في الحلية تارة للشبهة الحكمية، و اخرى للشبهة الموضوعيّة، و قد تعرّض المصنف في اول كلامه للشك من ناحية الشبهة الحكمية، و اشار الى الشبهة الموضوعية في ذيل كلامه.

الرابع: ان الشك في الشبهة الحكميّة على انحاء:

- منها: ان الشك في الحليّة من جهة الشك في كون الحيوان واجدا للخصوصية التي تؤثر التذكية فيه- بشرائطها- الحلية، او انه ليس واجدا لتلك الخصوصية فلا تؤثر التذكية فيه الحليّة، كما في الحيوان المتولد من كلب و شاة فانه يشك في حلّيته مع فرض ذبحه و تحقق ساير ما اعتبر من الامور الأخر كالتسمية و الاستقبال.

- و منها: ان يعلم بان التذكية تؤثر الطهارة و لكن الشك من جهة كون الحيوان واجدا لخصوصية الحلية للأكل، او غير واجد لها كالحيوان المتولد من ثعلب و شاة مع العلم بكونه اما ثعلبا او شاة.

ص: 4

.....

______________________________

- و منها: ان يشك في الحلية من جهة احتمال مانع عنها كالجلل و الموطوئيّة، فمع العلم بكون الحيوان من الغنم الواجد للخصوصية القابلة لتأثير الحلية و الطهارة، و لكن احتملنا كون الجلل مانعا عن تأثير التذكية فيه و كان الحيوان جلالا.

الخامس: ان المذكى الذي كان اثره الطهارة و الحلية او الطهارة وحدها، و غير المذكى الذي كان اثره النجاسة و حرمة الاكل، هل هما متقابلان بتقابل التضاد؟ بان تكون التذكية معنى وجوديا، و عدم التذكية ايضا معنى وجوديا و هي عنوان الميتة، فيراد من عدم التذكية هو المثبتيّة، و انما عبّر عن المعنى الوجودي بالعنوان العدمي و هو عدم التذكية او كونه غير مذكى لانهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما في الحيوان الذي زهقت روحه لانه اما مذكى او ميتة، فعدم التذكية من الملازمات لعنوان الميتة، و يصح الاشارة الى الملازم بالعنوان الآخر الملازم له.

او انهما من المتقابلين بتقابل العدم و الملكة؟ بان يكون وصف التذكية و عدم التذكية من اللاحقين للذي له شأنية ان يكون ذكيا و غير ذكي و هو الحيوان الذي زهقت روحه، فالحيوان في حال حياته لا مذكى و لا غير مذكى.

او انهما من المتقابلين بتقابل السلب و الايجاب؟ و حيث ان تقابل السلب و الايجاب مما لا يعقل ان يجتمعا و ان يرتفعا فلا يخلو الشي ء عن كونه مصداقا لاحدهما و لا يخلو عنهما شي ء من الاشياء، لوضوح ان تقابل البصر و العمى يجوز ان يخلو الشي ء عنهما معا كالجدار فانه لا اعمى و لا بصير، بخلاف البصر و اللابصر فان الجدار و ان لم يصدق عليه انه اعمى لكنه يصدق عليه انه لا بصر له، و على هذا فالحيوان الحي حال حياته يصدق عليه انه غير مذكى.

اذا عرفت هذا ... فنقول: ان الشك في الحلية و الحرمة في الحيوان اذا كان من جهة الصورة الاولى، و هو ما كان الشك فيه من ناحية الشك في كونه واجدا للخصوصية التي تؤثر التذكية فيه ذلك، ام ليس واجدا لتلك الخصوصية فلا تؤثر فيه شيئا، فان كان التقابل بين التذكية و عدم التذكية من تقابل التضاد لا مجرى لاصالة

ص: 5

جريان اصالة عدم التذكية اذا شك فيها و صور المسألة

عدم التذكية لعدم العلم بها سابقا، لوضوح عدم كون الحيوان حال حياته ميتا، و مثله ما اذا كان التقابل بينهما من تقابل العدم و الملكة فانه لا مجرى فيه ايضا لاصالة عدم التذكية، لما عرفت من انهما وصفان متقابلان لما له شأنية ان يكون مذكى و غير مذكى، و هو الحيوان الذي زهقت روحه، فالحيوان حال الحياة لا مذكى و لا غير مذكى، فلا علم بعدم التذكية حال الحياة حتى يستصحب الى حال الموت.

فينحصر جريان الاصل في عدم التذكية فيما اذا كانا متقابلين بتقابل السلب و الايجاب، لوضوح العلم بعدم التذكية حال الحياة فنستصحب الى حال ازهاق الروح و يترتب الاثر المترتب على زهاق الروح و عدم التذكية، لاحراز احدهما بالوجدان و الثاني بالاصل.

و يظهر من عبارة المصنف امور:

الاول: فرض الصورة الاولى، و هي ما كان الشك في حلية الحيوان من جهة الشك في وجدانه للخصوصية و القابلية و عدمها، و اليه اشار بقوله: ( (فلا تجري مثلا اصالة الاباحة)) و التعبير ب (مثلا) للاشارة الى ان التذكية قد يكون اثرها الاباحة و الطهارة، و قد يكون اثرها الطهارة فقط دون الاباحة، ففي مثل الحيوان المتولد من كلب و شاة- بناء على انه اما كلب او شاة- فانه حينئذ يكون اثر التذكية فيه- لو تمت- الاباحة و الطهارة، و اثر عدم التذكية النجاسة و الحرمة، و مع جريان اصالة عدم التذكية لا تجري اصالة الاباحة ( (في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله التذكية فانه)) يكون من الحرام حتى فيما ( (اذا ذبح مع)) تحقيق ( (سائر الشرائط المعتبرة في التذكية)).

الثاني: انهما من المتقابلين بتقابل السلب و الايجاب، لقوله (قدس سره):

( (فاصالة عدم التذكية تدرجها)) أي تدرج الحيوان المذبوح مع تحقق ساير الشرائط للذبح عدا الخصوصية و القابلية التي كان الشك في حليته و عدم حليته من اجلها و انه واجد لتلك الخصوصية ام لا، فبأصالة عدم التذكية تندرج في الحرام، و تأنيث الفعل

ص: 6

.....

______________________________

و الضمير في تدرجها، اما الضمير فباعتبار كونه ذبيحة، و اما الفعل فقوله في ذيل كلامه: ( (فالاصل عدم تحقق التذكية)).

فاتضح: ان مختار المصنف في الصورة الاولى جريان اصالة عدم التذكية و هي الاصل الموضوعي، و بسبب هذا الاصل يندرج الحيوان المذبوح في عنوان غير المذكى، و عليه يترتب الاثر و هي النجاسة و الحرمة، كما ان الطهارة و الاباحة في آثار الحيوان المذكى، و لا مجال مع جريان هذا الاصل الموضوعي لجريان اصالة البراءة أو الاباحة، لما عرفت من كون الاصل الموضوعي اما واردا عليها او حاكما.

الثالث: ان الحرمة في لسان بعض الاخبار و الآيات مترتبة على عنوان غير المذكى، و لا يضر مع ترتبها على هذا العنوان العام ترتبها في لسان بعض الاخبار على نفس عنوان الميتة التي هي عنوان وجودي اخص من عنوان غير المذكى، لاختصاص ظهورها فيما مات حتف أنفه، و مع ترتب الاثر على هذا العنوان العام لا حاجة الى التكلف في تعميم عنوان الميتة لان يساوق العنوان العام و هو غير المذكى، كما تكلف لذلك الشيخ (قدس سره) في رسائله، و اليه اشار بقوله: ( (و هو حرام)) أي ان عنوان غير المذكى حرام ( (اجماعا)) آيات و اخبارا و هو في الحرمة (كما اذا مات)) الحيوان ( (حتف انفه فلا حاجة الى)) ان نتكلف ( (اثبات ان الميتة تعم غير المذكى شرعا ضرورة كفاية كونه)) أي كفاية كون عنوان غير المذكى ( (مثله)) أي مثل عنوان الميتة ( (حكما)).

ثم اشار بقوله-: ( (و ذلك بان التذكية انما هي عبارة عن فري الاوداج الاربعة مع ساير شرائطها)) ككون الذابح مسلما و التسمية و الاستقبال بالمذبوح و ان يكون ذلك ( (عن خصوصية في الحيوان التي بها)) أي بفري الاوداج مع الشرائط و الخصوصية ( (يؤثر فيه الطهارة وحدها)) كما في الثعلب و الأرنب ( (او مع الحلية)) كما في الغنم و البقر و غيرهما من مأكول اللحم، فان تلك الامور تؤثر فيه حلية اكل لحمه و طهارته- الى امرين:

ص: 7

نعم لو علم بقبوله التذكية و شك في الحلية، فأصالة الاباحة فيه محكمة، فإنه حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام، و لا أصل فيه إلا أصالة الاباحة، كسائر ما شك في أنه من الحلال أو الحرام (1).

______________________________

الاول: كون التذكية عنده من الحقائق الشرعية و انها ليست امرا بسيطا بل هي نفس هذه الامور، لقوله: ( (انما هي عبارة عن فري الاوداج ... الى آخره)).

الثاني: انه اذا كان عنوان غير المذكى مما يترتب عليه الاثر و هو الحرمة و النجاسة او النجاسة وحدها مثل عنوان الميتة، فباستصحاب عدم التذكية في حال الحياة يترتب عليه الاثر المترتب على عنوان غير المذكى المحرز بالقطع بعد زهاق روحه، و لذا الحق كلامه بقوله: ( (و مع الشك في تلك الخصوصية فالاصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها)).

(1) هذه الصورة الثانية و هي ما اذا كان الشك في ترتب الاباحة على التذكية مع العلم بقبول الحيوان للتذكية، و ان اثرها طهارته بعد الذبح قطعا كما في غير المسوخ من الحيوان كالأرانب فان التذكية فيها هي طهارة الحيوان بعد الذبح، فالمتولد من الارنب و الشاة- مثلا- بعد فرض العلم بأنه اما شاة أو أرنب يعلم قطعا بقبوله للتذكية و انها تؤثر فيه الطهارة قطعا، و يتمحض الشك فيه في الاباحة و عدمه، و مختار المصنف في هذه الصورة جريان اصالة الاباحة فيه فيحل اكل الحيوان المشكوك كونه ارنبا او شاة بواسطة اصالة الاباحة.

و توضيح ذلك: انه قد عرفت ان مختار المصنف ان التذكية هي نفس فري الاوداج بشرائطه المعتبرة فيه، و ليست هي امرا بسيطا يترتب على هذه الامور، و لا اشكال ايضا في ان الخصوصية في الحيوان ليست بعض الامور التي تتركب منها التذكية بناء على انها نفس هذه الامور، و ليست من اسباب التذكية بناء على ان التذكية امر بسيط يترتب على هذه الاسباب.

ص: 8

.....

______________________________

و لكنه مما لا اشكال فيه ان للخصوصية و القابلية دخلا في ترتب الآثار على التذكية من حلية الاكل و الطهارة بنحو من الانحاء، و لو بنحو الاعداد لان تؤثر هذه الامور المعنى البسيط الذي اثره الطهارة او مع الحلية، أو لأن يترتب على نفس هذه الامور الطهارة أو الحلية، و لذا كان في صورة الشك فيها يجري الاصل الموضوعي و يترتب عليه ان الحيوان من غير المذكى كما مر، فهي و ان كانت خارجة عن نفس التذكية او عن اسبابها، إلّا أنها لها دخل في ترتب الاثر عليها و لو بنحو الاعداد لان يكون الحيوان مما للتذكية اثر فيه.

فالوجه في جريان اصالة الاباحة في هذه الصورة دون الاصل الموضوعي هو ان المفروض كون الحيوان مما يقبل التذكية، فالخصوصية نفسها لا شك فيها حتى يكون مجال للاصل الموضوعي و هو اصالة عدم التذكية، فانه بعد العلم بقبوله لاصل التذكية لا وجه للشك في اصل التذكية بعد حصول تلك الامور في حال زهوق روح الحيوان، فلا مجرى للاصل الموضوعي اذ لا شك فيه، و انما الشك في انه في مثل هذا الحيوان هل يترتب عليها الطهارة فقط، او هي مع اباحة الاكل فيتمحض الشك في نفس الاباحة من دون جريان اصل في الموضوع الوارد أو الحاكم على اصالة الحل، فلا مانع من جريان اصالة الاباحة و تثبت بواسطتها حلية الاكل.

لا يقال: انه بعد ان كانت الخصوصية مختلفة في الحيوان، فانها في بعض الحيوان يكون اثر التذكية فيه الطهارة و الحلية كما في الغنم المذكى، و في بعض الحيوان تؤثر التذكية الطهارة فقط من دون حلية الاكل كما في الارنب المذكى، فيستكشف من هذا ان هناك خصوصيتين، و لكن في بعض الحيوانات الخصوصيتان معا كما في الغنم، و في بعضها خصوصية واحدة كما في الارنب، فالعلم باحد الخصوصيتين لا ينافي الشك في الخصوصية الاخرى، و عليه فيجري الاصل الموضوعي في الخصوصية الثانية المشكوكة و يترتب عليه حرمة الاكل، فلا مجال لجريان اصالة الاباحة ايضا في هذه

ص: 9

هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية، كما إذا شك- مثلا- في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها، أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة، و معها لا مجال لاصالة عدم تحققها، فهو قبل الجلل كان يطهر و يحل بالفري بسائر شرائطها، فالاصل أنه كذلك بعده (1).

______________________________

الصورة كما في الصورة الاولى، إلّا ان الاثر للاصل الموضوعي في هذه الصورة هي حرمة الاكل دون النجاسة.

فانه يقال: ان نفس الخصوصية و القابلية في الحيوان امر بسيط، و البسيط لا تعدد فيه و انما تعدد الاثر للتذكية، فان الشارع رتب عليها، تارة الطهارة و الحلية معا، و اخرى رتب عليها الطهارة فقط، و لما كان نفس الخصوصية لا شك فيها مع بساطتها لفرض العلم بوجودها فلا مجرى للاصل الموضوعي فلا مانع من جريان اصالة الاباحة، و لذا قال (قدس سره): ( (نعم لو علم بقبوله التذكية)) فلا مجرى للاصل الموضوعي في الخصوصية للعلم بوجودها ( (و)) حينئذ لو ( (شك في الحلية فاصالة الاباحة محكمة)) لعدم وجود الاصل الموضوعي الوارد أو الحاكم عليها في موردها، و يتمحض الشك في حلية هذا الحيوان مع فرض كونه من المذكى، فلا مجال لاصالة عدم التذكية لتدرجه في غير المذكى بعد فرض كونه من المذكى، و تجري اصالة الاباحة بعد عدم الاصل الموضوعي المانع عن جريانها، و لذا قال (قدس سره): ( (فانه حينئذ انما يشك في ان هذا الحيوان المذكى)) هل هو ( (حلال او حرام و لا اصل فيه)) على الفرض ( (إلّا اصالة الاباحة)) فتجري فيه اصالة الاباحة و تثبت بواسطتها اباحة لحمه ( (كسائر ما شك في انه من الحلال او الحرام)) فتأمل.

(1) هذه هي الصورة الثالثة، و هي ما اذا كان الشك من ناحية وجود المانع الموجب لارتفاع الخصوصية في الحيوان المعدة لأن تؤثر التذكية فيه، فاذا شك في ان الجلل في الحيوان هل يؤثر في رفع قابليته و خصوصيته ام لا؟ .. فالاصل الجاري فيه هو

ص: 10

.....

______________________________

الاصل الموضوعي لكن المثبت لقبول التذكية، و عليه يترتب الاثر من الطهارة او الحلية ايضا، و لا مجال لاصالة الاباحة لما مر من ان جريان الاصل الموضوعي سواء كان اثره الحرمة و النجاسة او كان اثره الطهارة و الحلية لا مجال معه لجريان اصالة الاباحة، و في هذه الصورة الثالثة يجري الاصل الموضوعي و لكنه مثبت لقبول التذكية لا لعدمها كما في الصورة الاولى، و لا كالصورة الثانية الذي كان لا مجرى فيها للاصل الموضوعي و الجاري فيها اصالة الاباحة.

و ينبغي ان لا يخفى: ان الشك في كون الجلل مانعا عن الحلية من باب الفرض، لكون مانعيته عنها من المسلمات و ان الجلال مما لا يحل اكل لحمه، و لكن في طهارته بالذبح بشرائطها مجال للشك.

و على كل حال فتوضيح الحال فيه ان الاصل: تارة يجري في بقاء خصوصيته المتيقنة قبل جلله و هو اصل موضوعي باستصحابه تثبت للحيوان المذبوح بشرائطه تحقق الخصوصية حال زهاق الروح، و يترتب عليها اثرها و هو الطهارة- هنا- فقط، و هذا استصحاب تنجيزي لا تعليقي، لتحقق نفس الخصوصية و القابلية قبل الجلل و يشك في ارتفاعها بالجلل فتستصحب الى حال الذبح.

و اخرى: يكون الاصل الجاري تعليقيا و هو استصحاب طهارة هذا الحيوان بالتذكية قبل الجلل، بأن يقال: هذا الحيوان كان بحيث يطهر بفري الاوداج و ساير الشرائط قبل الجلل، و يشك في بقائه على تلك الحال بعد الذبح لاحتمال عدمه بالجلل فيستصحب و يترتب عليه اثره.

و فيه أولا: ان هذا الاصل صحته مبنية على القول بصحة جريان الاستصحاب التعليقي.

و ثانيا: انه من قبيل المسبب بالنسبة الى الخصوصية التي هي مجرى للاستصحاب بنفسها، و مع جريان الاصل في السبب لا وجه لجريان الاصل في المسبب، لأن من آثار بقاء الخصوصية في الحيوان هو طهارة الحيوان المذبوح.

ص: 11

و مما ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليته و حرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان، و أن أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لاجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا، كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا

______________________________

و ثالثة: يستصحب نفس طهارة بدنه قبل الجلل، و هذا استصحاب تنجيزي لا تعليقي، و يشك في ارتفاعها عند الذبح لاجل الجلل، فان الذبح بالنسبة الى الحيوان غير الجلال تأثيره بالنسبة الى حلية الاكل تأثير حدوث، لوضوح انه لا يجوز اكل الحيوان الحي، و انما يجوز اكل الحيوان المذبوح بواسطة تأثير الذبح في حدوث الحلية له بعد الذبح، و اما بالنسبة الى طهارة بدنه فالذبح انما يؤثر في بقاء طهارة بدنه بعد زهاق الروح، فالتذكية بالنسبة الى طهارة بدن الحيوان لا تؤثر احداث الطهارة، و انما اثرها بالنسبة الى الطهارة هو إبقاؤها و استمرارها، و ليست نفس طهارة بدن الحيوان من آثار الخصوصية، لوضوح تحقق الطهارة في بعض الحيوان الميت حتف انفه و هو ما لا نفس له.

فاتضح ان استصحاب نفس طهارة بدن الحيوان قبل الجلل استصحاب تنجيزي، و ليس من آثار نفس الخصوصية حتى يكون استصحابه من قبيل السبب و المسبب.

و قد اشار المصنف الى الاستصحاب بالنحو الاول و هو استصحاب نفس الخصوصية بقوله: ( (فاصالة قبولها)) أي اصالة قبول الحيوان للتذكية المتيقن لفرض تحقق الخصوصية فيه قبل الجلل، فاصالة بقاء هذه الخصوصية ( (معه)) أي مع الجلل لاحتمال ارتفاعها به ( (محكمة و معها)) أي مع جريان هذا الاصل الموضوعي المثبت لبقاء قبول التذكية ( (لا مجال لاصالة عدم تحققها)) أي عدم تحقق التذكية.

و اما قوله (قدس سره): ( (فهو قبل الجلل كان يطهر و يحل بالفري ... الى آخر الجملة)) فيحتمل ان يكون اشارة الى الاستصحاب التعليقي، و يحتمل ان يكون اشارة الى الاستصحاب التنجيزي و هو طهارة بدن الحيوان قبل الجلل، و المراد من قوله: ( (يطهر)) هو استمرار بقاء الطهارة.

ص: 12

شك في طروء ما يمنع عنه، فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه، كما لا يخفى، فتأمل جيدا (1).

______________________________

صور الشك في التذكية بالشبهة الموضوعية

(1) لما فرغ من حال الشك في الحيوان بالنسبة الى الشبهة الحكمية، اشار الى حال الشك في الحيوان بالنسبة الى الشبهة الموضوعية، و قد اشار الى صور ثلاث فيها:

الاولى: ان يشك في كون هذا المذبوح هل هو واجد للخصوصية التي تؤثر التذكية فيه مع تحققها، ام ليس بواجد لتلك الخصوصية فلا يكون للذبح بسائر شرائطه اثر فيه، كما لو شك في ان هذا المذبوح هل هو شاة او من المسوخ ككونه قردا او غير ذلك من المسوخات؟

و من الواضح ان هذا الشك من الشك في الشبهة الموضوعية للعلم بكون لحم الشاة المذبوحة حلالا و لحم القرد المذبوح حراما، فالشك في حرمة هذا الحيوان و حليته نشأ من الجهل بكونه شاة او قردا.

و قد ظهر مما ذكرنا في الصورة الاولى من الشبهة الحكمية ان اصالة عدم التذكية هنا محكمة ايضا لفرض صدق عدم التذكية عليه في حال الحياة، فان هذا الحيوان سواء كان شاة او قردا هو من غير المذكى في حال حياته، و نشك بارتفاع ذلك عنه في حال زهاق روحه بالذبح، فانه لو كان شاة يكون مرفوعا، و لو كان قردا لكان باقيا فنستصحب كونه غير مذكى الى حال زهاق روحه بالذبح و يحصل ما هو الموضوع للحرمة، و هو مركب من امرين زهاق الروح و عدم التذكية، و قد احرز الاول بالوجدان و الثاني بالاصل.

الصورة الثانية: ان يعلم كون الحيوان مما يقبل التذكية ككونه شاة، و لكن يشك في تذكيته للشك في تحقق ما اعتبر في التذكية، كما لو شك في انه ذبح او خنق او انه ذبح بالحديد او بغير الحديد- بناء على اشتراط الحديدية في آلة الذبح- او كون الذابح مسلما او غير مسلم.

ص: 13

.....

______________________________

و قد ظهر مما ذكرنا: ان الحال في هذه الصورة كالحال في الصورة الاولى لصدق عدم التذكية على الشاة حال حياتها فتستصحب الى حال زهاق الروح و يترتب الاثر و هو الحرمة، و قد اشار الى هاتين الصورتين معا بقوله: ( (و مما ذكرنا)) و هو ما ذكره في الصورة الاول من الشبهة الحكمية من اصالة عدم التذكية ( (ظهر الحال فيما اشتبهت حليته و حرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان)) كما في صورة تردد المذبوح بين كونه غنما او قردا او في صورة الشك في حلية الشاة المذبوحة للشك في كون الذبح بالحديد او بغيره مثلا ( (و ان اصالة عدم التذكية محكمة)) في الصورتين لانه في كلتيهما قد شك في تحقق التذكية تارة لاجل الخصوصية و اخرى للشك في شرائطها، و يجمعهما معا كون الشك من ناحية تحقق ما هو معتبر في التذكية، و لذا قال (قدس سره): ( (فيما شك فيها)) أي في التذكية ( (لاجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا)) من الخصوصية و من شرائط التذكية.

الصورة الثالثة: ان نعلم بكون الجلل مانعا عن قبول التذكية و موجبا لرفع الخصوصية في الحيوان المحلل الاكل، و لكنه نشك في ان هذا الحيوان المذبوح هل طرأ عليه الجلل المانع ام لا؟ و لا اشكال في هذه الصورة من ان الاصل هو بقاء تلك الخصوصية للعلم بها حال الحياة، و الشك في ارتفاعها بالجلل فنستصحب بقاءها الى حال الذبح، و يترتب عليها تحقق الحلية بالذبح، و الى هذا اشار بقوله: ( (كما أن اصالة قبول التذكية محكمة)) في هذه الصورة و هي ما ( (اذا شك في طروء ما يمنع عنه)) أي القبول لها ( (فيحكم بها)) أي بالتذكية ( (فيما احرز الفري)) للاوداج ( (بسائر شرائطها)) وجدانا ( (عداه)) أي عدا عدم هذا المانع، و يرتفع اثر هذا الشك باستصحاب بقاء الخصوصية الى حال الذبح، فان من آثارها حلية المذبوح و عدم الاعتناء باحتمال هذا المانع.

ص: 14

الثاني: إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا و عقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات و غيرها، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط و أتى أو ترك بداعي احتمال الامر أو النهي (1).

______________________________

الثاني: حسن الاحتياط شرعا و عقلا
اشارة

فتحصل مما ذكرنا جريان الاصل الموضوعي المثبت للحرمة في الصورتين الاوليين و جريان الاصل الموضوعي المثبت في الصورة الثالثة، فلا مجال لجريان اصالة الاباحة في هذه الصورة كلها، تارة للاصل المخالف لها و اخرى للاصل الموافق حكما لها.

(1) حاصل ما اشار اليه في هذا الامر هو حسن الاحتياط شرعا و عقلا، و ترتب الثواب عليه، و انه لا استثناء فيه في كل ما احتمل وجوبه او حرمته سواء كان من العبادات او من غيرها.

اما حسن الاحتياط شرعا، فلورود الامر به في لسان الشارع كثيرا كما مرت الاشارة اليه في ادلة الاخباريين، و الامر به شرعا اما مولوي او ارشادي، فان كان مولويا فلازمه كونه حسنا، اذ لا يعقل امر الشارع مولويا بغير ما هو حسن عنده، و ان كان ارشاديا الى حسنه عقلا فارشاد الشارع الى ما هو حسن عند العقل يدل ايضا على امضائه لهذا الحسن العقلي و صحته عنده.

و اما حسن الاحتياط عقلا، فلوضوح ان الطاعة من مصاديق العدل و الحسن عند العقل، و لا ريب ايضا ان اتيان العبد بما يحتمل وجوبه أو حرمته- أي ترك ما يحتمل حرمته- عند مولاه من مصاديق اطاعة العبد لمولاه، بل هي عند العقل اكمل الطاعات و افضل مراتب الانقياد، لان الانقياد لاحتمال امر المولى ابلغ في الاطاعة و الالتزام بمراسيم العبودية من الاطاعة لما علم انه مما امر به المولى.

و اما ترتب الثواب عليه، فلوضوح انه بعد ما عرفت انه حسن شرعا و عقلا، و انه من اكمل الطاعات و افضل الانقيادات لا مناص من استحقاق العبد للثواب على ما هو افضل الطاعات.

ص: 15

و ربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الامر بين الوجوب و غير الاستحباب، من جهة أن العبادة لا بد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا (1).

______________________________

إشكال جريان الاحتياط في العبادات

و اما عدم الاستثناء و انه حسن مطلقا حتى في العبادات فلما سيأتي من عدم صحة الاشكال على الاحتياط في العبادات و عبارة المتن واضحة، و قوله فيما اذا احتاط و اتى او ترك بداعي احتمال الامر و النهي فانه تفسير للامتثال بعنوان الاحتياط، فان معنى كون الامتثال امتثالا احتياطيا هو كون المكلف قد اتى و تحرك عن احتمال الامر او ترك لاحتمال النهي.

(1) حاصل الاشكال انه لا يمكن الاحتياط في العبادات، فما شك بكون الوجوب المحتمل على فرض تحققه عباديا لا يمكن الاحتياط فيه، لان الاحتياط في العبادة لا يكون إلّا بكون المأتي به عباديا، و هو لا يعقل ان يتحقق إلّا بقصد القربة.

و لا يخفى ان معنى الامر بالاحتياط في مقام محتمل الوجوب العبادي لازمه اخذ الامر في متعلق الامر، لبداهة ان قوله ائت بمحتمل الوجوب عبادة: أي أقصد في مقام الاتيان التقرب باتيانه بداعي الامر المحتمل، و هذا هو المحذور الذي يشير اليه الماتن، و ربما قيل انه هناك محذور آخر في المقام و هو انه من الواضح، لتوقف قصد القربة على قصد امتثال الامر، لا يتأتى قصد امتثال الأمر الا بعد العلم بالامر و الجزم به، و مع فرض كون العبادة محتملة لا علم و لا جزم بالامر فلا يتأتي الاحتياط فيها.

و لا يخفى ان الوجوب العبادي المحتمل: تارة يدور امره بين كونه واجبا او مباحا، و الاشكال في هذه الصورة هو في امكان الاحتياط فيه من ناحية لزوم اخذ الامر في الامر، و من جهة توقفه على العلم بالامر.

و اخرى يدور امره بين كونه واجبا او حراما. و فيه مع الاشكال المذكور انه لا حكم للعقل و لا للشرع بحسن الاحتياط، بل لا يعقل الاحتياط، لان الاحتياط

ص: 16

.....

______________________________

اتيان ما هو حسن و محبوب على كل حال، و من الواضح ان محتمل الوجوب و الحرمة لا يقطع باتيانه انه اتيان ما هو حسن و محبوب على أي حال اما لحسنه بذاته او لحسنه بعنوان الاحتياط لفرض انه محتمل الحرمة، و محتمل الحرمة محتمل القبح و المبغوضية.

فتبين ان الاحتياط انما يكون حسنا حيث يكون مما يقطع بانه لا قبح فيه و لا مبغوضية، فلا يرى العقل حسن الاتيان بما احتمل كونه مبغوض المولى، و يلزم تركه لو كان واصلا و ان احتمل كونه محبوبا له ايضا، و يلزم اتيانه لو كان واصلا.

و ثالثة: يدور امره بين كونه واجبا او مكروها، و الحال في هذه الصورة هو الحال في صورة الدوران بين الوجوب و الاباحة في تمحض الاشكال من ناحية عدم تأتي قصد القربة، لان احتمال الكراهة مع فرض كونه مرخصا فيه فعلا لا يمنع عن حسن الاحتياط عند العقل، فيما كان الطرف الآخر هو احتمال لزوم الاتيان بالفعل لو كان واصلا.

و قد اتضح مما ذكرنا: ان اشكال عدم تأتي قصد القربة مطّرد في هذه الصور كلّها.

و رابعة: يدور امره بين كونه واجبا عباديا او مستحبا، و كذلك في هذه لا اشكال بحسن الاحتياط لانه لم يؤخذ في الاحتياط قصد الامر، لفرض كونه امرا عباديا مفروغا عنه، و الامر الاحتياطي قد تعلّق بما هو مفروض كونه عبادة، و لم يتعلّق الامر الاحتياطي باتيانه بداعي الامر، بل الامر الاحتياطي تعلّق بذات ما هو مفروض كونه عبادة، و لا اشكال ايضا من جهة عدم العلم و الجزم، لفرض العلم و الجزم بوجود الامر إما وجوبيا او استحبابيا، و لا تحتاج العبادة الى اكثر من قصد الامر المفروض تحققه، فان الاشكال اما ان يكون من ناحية عدم تأتي قصد الامر لعدم امكان اخذ الامر، او من جهة عدم تأتي قصد الوجه، لان مرجع اشتراط العلم و الجزم الى اشتراط الاتيان بقصد الوجه، و لا يتأتي في محتمل الوجوب قصد الوجه.

ص: 17

و حسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الاشكال، و لو قيل بكونه موجبا لتعلق الامر به شرعا، بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته (1)؟

______________________________

الجواب عن الاشكال باستكشاف الأمر بالاحتياط لمّا و مناقشة المصنف (قده) فيه

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (و ربما يشكل)) الحكم بحسن الاحتياط في محتمل الوجوب مطلقا و ان كان عباديا، بانه لا وجه ( (في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الامر)) في العبادة المحتملة ( (بين الوجوب و غير الاستحباب)) و هي الصور الثلاث المتقدمة لاطّراد اشكال عدم تأتي قصد القربة فيها، و ان اختصّت الصورة الثانية باشكال آخر، و اما في مقام الدوران بين الوجوب و الاستحباب فقد عرفت عدم الاشكال لتأتي قصد القربة قطعا، و على كل فالاشكال فيما عدا هذه الصورة الاخيرة في جريان الاحتياط في العبادة هو ( (من جهة ان العبادة لا بد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بامر الشارع تفصيلا)) كما لو علم بانه واجب او مستحب بعينه ( (او اجمالا)) كما لو علم بانه اما واجب او مستحب، و فيما لم يعلم بالامر لا تفصيلا و لا اجمالا فلا مجال لحسن الاحتياط لعدم امكانه في العبادات المحتملة كما عرفت.

(1) لا يخفى ان المصنف قد اشار الى وجوه اجيب بها عن هذا الاشكال لا يصح عنده الجواب بها: منها ما اشار اليه بقوله: ( (و حسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي)).

و تقريب هذا الجواب: انه لا اشكال في حسن الاحتياط عند العقل، و كلما كان حسنا عند العقل كان حسنا عند الشارع ايضا، للملازمة بين ما يراه العقل و ما يراه الشرع، اما لان الشارع رئيس العقلاء فمرجع ما يرونه الى ما يراه، أو لان ما ادركه العقل من الحسن الشارع اولى بادراكه منه، و على كل فما يراه العقل حسنا يراه الشارع حسنا ايضا، و ما كان عند الشارع حسنا لا بد من الامر به على طبق حسنه، لان الحسن عند الشارع علة تامة لامره به، فأمر المولى معلول للحسن.

ص: 18

.....

______________________________

فاتضح مما ذكرنا: ان الاحتياط في محتمل الوجوب ممكن لتحقق الامر به قطعا فتتأتى فيه قصد القربة.

و اتضح ايضا: ان حسن الاحتياط عقلا هو الكاشف عن الامر به كشفا لميّا و هو كشف العلة عن المعلول، و قد اشكل المصنف على هذا الجواب باشكالين:

الاول: ما اشار اليه بقوله: ( (و لو قيل بكونه موجبا لتعلق الامر به)) و سيوضحه في اشكاله على الجواب الثاني عن هذا الاشكال، و بيانه: ان الامر الذي ينفع قصده في وقوع متعلقه عباديا هو الامر المولوي دون الامر الارشادي، و على فرض الالتزام بان ما يراه العقل يراه الشرع فيكون حسنا ايضا عنده، الّا انه لا يلزم من ذلك الامر به من الشارع مولويا، بل امره به لا يكون إلّا ارشاديا كامر الشارع بالاطاعة، لوضوح انه بعد حكم العقل بذلك و جعله للداعي الى اتيانه لا يبقى مجال للامر المولوي الذي لا يكون الابداعي جعل الداعي، و بعد جعل الداعي من العقل لا مجال لجعل الداعي من الشارع.

فحاصل هذا: انّا لا نسلّم ان الحسن العقلي كاشف عن الامر المولوي المتوقف عليه قصد القربة.

الثاني: ما اشار اليه بقوله: ( (بداهة توقفه ... الى آخر الجملة)) و توضيحه: انه لو سلّمنا كون الحسن العقلي كاشفا عن الامر المولوي لكنه يكون كاشفا في غير المقام، اما في المقام فلا حكم من العقل بالحسن حتى يكون كاشفا عن الامر، لوضوح انه يلزم من حكم العقل بحسن الاحتياط في محتمل الوجوب الدور، لاستلزامه توقف الشي ء على نفسه، لان حسن الاحتياط عند العقل هو حكم من الاحكام المتعلقة بموضوعها، و من الواضح ان كل حكم بالنسبة الى موضوعه هو من قبيل العارض بالنسبة الى المعروض، و من الجلي توقف العارض على معروضه، فالحسن بما انه حكم و عارض لموضوعه و هو الاحتياط فهو متوقف على الاحتياط، فاذا كان الاحتياط ممكنا من قبل ذاته امكن ان يلحقه الحكم عليه بالحسن، و اذا لم

ص: 19

.....

______________________________

يكن الاحتياط ممكنا لا يعقل ان يلحقه الحكم عليه بالحسن، فحسن الاحتياط موقوف على امكان الاحتياط، و الاحتياط انما يكون ممكنا في المقام حيث يتأتى من المكلف قصد القربة، و تأتي قصد القربة منه يتوقف على الامر بالاحتياط، و من الواضح ان الامر بالاحتياط متوقف على حسن الاحتياط لانه معلول له كما عرفت، فحسن الاحتياط يتوقف على امكان الاحتياط توقف العارض على معروضه، و امكان الاحتياط يتوقف على الامر بالاحتياط، و الامر بالاحتياط يتوقف على حسن الاحتياط، فانتهى الامر بالواسطة الى توقف حسن الاحتياط في المقام على نفسه و هو الدور، فحسن الاحتياط انما يكون علة للامر في غير المقام، و هو فيما اذا كان امكان الاحتياط ثابتا بذاته للاحتياط، و لا يكون متوقفا على الامر به كما في المقام، و الى هذا اشار بقوله: ( (و حسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الاشكال)) في المقام ( (و لو قيل بكونه)) أي و لو قيل بكون حسن الاحتياط ( (موجبا لتعلق الامر به)) أي بالاحتياط ( (شرعا)) بنحو ان يكون الامر مولويا و لم نناقش في ان حسن الاحتياط لا يستلزم الامر المولوي كما مر، لكنه انما يكون موجبا للامر المولوي في غير المقام، اما في المقام فلا يعقل ذلك لاستلزامه الدور ( (بداهة توقفه)) أي توقف حسن الاحتياط ( (على ثبوته)) أي على ثبوت الاحتياط لانه عارض على الاحتياط، و من الواضح ( (توقف العارض على)) ثبوت ( (معروضه فكيف يعقل ان يكون)) العارض ( (من مبادئ ثبوته)) أي من مبادئ ثبوت معروضه، فان العارض اذا كان من مبادئ ثبوت معروضه يستلزم الدور، لوضوح توقف ثبوت العارض على ثبوت معروضه، فاذا كان ثبوت معروضه متوقفا على ثبوت العارض كان ثبوت العارض متوقفا على ثبوت نفسه.

ص: 20

الجواب عن الاشكال بترتب الثواب على الاحتياط

و انقدح بذلك أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا القول بتعلق الامر به من جهة ترتب الثواب عليه (1)، ضرورة أنه فرع إمكانه، فكيف يكون من مبادئ جريانه؟ هذا مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الامر به بنحو اللم، و لا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإن، بل يكون حاله في ذلك حال الاطاعة، فانه نحو من الانقياد و الطاعة (2).

______________________________

(1) هذا اشارة الى الجواب الثاني عن هذا الاشكال، و تقريبه: انه لا اشكال بترتب الثواب على الاحتياط في المقام، و ترتب الثواب اما ان يكون للامر المولوي من الشارع او للانقياد، و ليس ترتبه في المقام لاجل الانقياد لان الانقياد هو الاتيان بالشي ء مع فرض مخالفته للواقع، و لا اشكال ان ثواب الاحتياط ليس له فرض مخالفة للواقع، فلا بد و ان يكون الثواب عليه للامر به، و اذا كان هناك امر ارتفع الاشكال بعدم امكان الاحتياط في محتمل الوجوب، و قد اشار الى تقريب الجواب بقوله:

( (و انقدح بذلك انه لا يكاد يجدي في رفعه)) أي في رفع الاشكال ( (ايضا القول بتعلق الامر به)) أي بالاحتياط المستكشف ( (من جهة ترتب الثواب عليه)) أي على الاحتياط، و قد عرفت انه لا اشكال مع تحقق الامر لحصول العلم و الجزم به، و مع حصول العلم يتأتى من المكلف قصد القربة.

(2) قد اشكل على هذا الجواب الثاني باشكالين ايضا، الاول: الدور الذي تقدم ايراده على الجواب الاول، فانه وارد على هذا الجواب ايضا، لان ترتب الثواب على الامر متوقف على تحقق الامر توقف المعلول على علته، و الامر بالاحتياط متوقف على امكان الاحتياط توقف الحكم على موضوعه و العارض على معروضه، و امكان الاحتياط في المقام موقوف على الامر لتتأتى بواسطته قصد القربة، و تحقق العلم بالامر متوقف على ترتب الثواب توقف المكشوف على كاشفه، فترتب الثواب قد انتهى الى كونه متوقفا على نفسه، او نكتفي بلزوم الدور في علة ترتب الثواب و هو الامر، بان نقول ان ترتب الثواب يتوقف على الامر، و الامر متوقف على

ص: 21

.....

______________________________

امكان الاحتياط، و امكان الاحتياط في المقام متوقف على الامر به فيلزم الدور في علة الثواب و هو الامر، و اذا لزم الدور من فرض تحقق علة الشي ء لا يعقل تحقق ذلك، فالمعلول و هو الثواب لا يعقل تحققه للزوم الدور بفرض تحقق علته، و الى هذا اشار بقوله: ( (ضرورة انه فرع امكانه فكيف يكون من مبادئ جريانه)).

الاشكال الثاني على هذا الجواب: انه قد انقدح ايضا مما ذكرنا في حسن الاحتياط، بانه على فرض تسليم استلزام الحسن للامر فلا يكون الامر امرا مولويا النافع قصده في حصول القربة، بل الامر يكون ارشاديا من الشرع الى الحسن العقلي، كأمر الشارع بالاطاعة كما عرفت، فلا يكون حسن الاحتياط كاشفا لميا عن الامر المولوي، و مثله نقول في ترتب الثواب فان ترتب الثواب لا يستلزم الامر المولوي استلزام المعلول لعلته فيكون كاشفا إنيا عن الامر المولوي النافع قصده في حصول القربة، فان ترتب الثواب لا ينحصر امره باطاعة الامر المولوي و لا بالانقياد المفروض فيه المخالفة للواقع، بل يترتب على كل ما كان اتيانه مظهرا من مظاهر رسم العبودية و مراسم الرقية من العبد لمولاه، و الاحتياط و ان لم يفرض فيه المخالفة إلّا انه من مظاهر العبودية و مراسم الرقية، فلا يكون ترتب الثواب على الاحتياط في المقام بعد تسليم امكانه كاشفا إنيا عن الامر المولوي كشف المعلول عن علته، كما لا يكون الحسن كاشفا عنه كشفا لميا كشف العلة عن معلولة، و الى هذا اشار بقوله:

( (هذا مع ان حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الامر به بنحو اللم)) لان الامر معلول لحسن الاحتياط، فكشفه عن الامر يكون كشفا لميا لانه كشف العلة عن المعلول ( (و لا)) يكون ( (ترتب الثواب عليه)) أي على الاحتياط ( (بكاشف عنه)) أي عن الامر به ( (بنحو الإن)) لان الثواب معلول للامر، فكشفه عنه يكون كشفا إنيا و هو كشف المعلول عن علته ( (بل يكون حاله في ذلك)) أي يكون حال ترتب الثواب على الاحتياط ( (حال)) ترتبه على ( (الاطاعة فانه نحو من)) انحاء ( (الانقياد و الطاعة)).

ص: 22

و ما قيل في دفعه: من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة (1).

______________________________

جواب الشيخ الأعظم (قده) عن الاشكال

(1) هذا الجواب الثالث الذي ذكره الشيخ الاعظم في رسائله عن هذا الاشكال.

و حاصله: ان الاحتياط في العبادة و ان توقف على الامر المولوي لتتأتى فيه نية القربة و لكن الامر المولوي موجود فيه، و قد دلت الاخبار الآمرة بالاحتياط عليه، فالامر المولوي في المقام متعلق بنفس الفعل الذي يؤتى به، و تسميته احتياطا باعتبار انه كالاحتياط الحقيقي من كل جهة، الا في كون الاحتياط الحقيقي في المقام هو الاتيان بالفعل المحتمل الوجوب بداعي القربة، و في هذا المقام الاحتياط هو الاتيان بالفعل المحتمل الوجوب لتعلق الامر به بذاته من دون داعي القربة باتيانه بما هو محتمل الوجوب، و يكون اطلاق الاحتياط عليه من المجاز لكمال المشابهة بينه و بين الاحتياط الحقيقي، فمتعلق الامر في هذا الاحتياط المجازي هو مجرد الفعل بذاته المطابق للعبادة الواقعية لو كانت من جميع الجهات عدا نية القربة فيه، و هي الاتيان به بما هو محتمل الوجوب، و بهذا يرتفع اشكال الدور لانه انما يلزم فيما لو كان الامر بالاحتياط بما هو احتياط حقيقي يكون الاتيان بالفعل فيه بداعي كونه محتمل الوجوب، لا فيما كان الامر فيه متعلقا بذات الفعل، و الى هذا اشار بقوله: ( (المراد بالاحتياط في العبادات)) ليس هو الاحتياط الحقيقي بل ( (هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة)) و المراد بنية القربة في الاحتياط الحقيقي هو الاتيان بداعي احتمال الوجوب.

اما نية القربة في هذا الاحتياط المجازي هو الاتيان بالفعل بداعي نفس الامر الاحتياطي المتعلق بذات الفعل، و لما كان الامر الاحتياطي مولويا و انه احتياط في العبادة فلا بد و ان يكون قد اخذ فيه قصد القربة على ساير الاوامر المتعلقة بالعبادات.

ص: 23

فيه: مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة، بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا عباديا، و العقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط، و النقل لا يكاد يرشد إلا إليه (1).

______________________________

ايراد المصنف (قده) على جواب الشيخ الأعظم (قده)

(1) اورد عليه المصنف ايرادين ايضا، الاول: ان الكلام في عنوان هذه المسألة هو حكم العقل بحسن الاحتياط مطلقا، و اشكل المستشكل فيه بعدم امكانه في خصوص العبادات، فالكلام دعوى و اشكالا انما هو في الاحتياط الذي يحكم العقل بحسنه، و من الواضح ان الاحتياط الذي يحكم العقل بحسنه هو الاتيان بالفعل بما هو محتمل الوجوب، لان معنى الاحتياط في الشي ء هو الاتيان به للتحفظ على الواقع، و لاحراز الاتيان بالواقع بما هو واقع لو كان، فلا مناص من كون الاحتياط في المقام الذي يحكم العقل بحسنه هو الاتيان بالفعل بما هو محتمل الوجوب، و اما الاتيان بالفعل لتعلق الامر به بذات الفعل فليس هو من الاحتياط اصلا و لا حكم للعقل بحسنه، لوضوح انه لو دل دليل على تعلق الامر بذات الفعل كان ذات الفعل بما هو ذات الفعل لا بما هو محتمل الوجوب مطلوبا، و لازم طلبه كذلك كونه مطلوبا نفسيا، فان كان الامر فيه قريبا كان عباديا ايضا، و إلّا كان مطلوبا نفسيا فقط، و لما كان المفروض كونه عبادة فيكون مطلوبا نفسيا عباديا، و الامر بالاحتياط- بما هو احتياط- لا محالة يكون الامر فيه طريقيا لا نفسيا، لانه بداعي التوصل به الى الواقع لا بداعي نفس الفعل بذاته.

فاتضح مما ذكرنا: ان متعلق الحسن العقلي هو الاحتياط بما هو احتياط، و هو اتيان الفعل بما هو محتمل الوجوب لا بما هو واجب نفسي، و كذلك المستفاد من الادلة النقلية التي كان الامر فيها متعلقا بمادة الاحتياط، كقوله عليه السّلام: (فاحتط لدينك)(1)

ص: 24


1- 4. ( 1) وسائل الشيعة ج 18، ص 123 باب من أبواب صفات القاضي ح 41.

نعم، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة، لما كان محيص عن دلالته اقتضاء على أن المراد به ذاك المعنى، بناء على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة، كما لا يخفى (1) أنه التزام

______________________________

فان الظاهر منها كون المتعلق فيه هو الاحتياط بما هو احتياط، و اتيان للفعل بما هو محتمل التكليف، لا الاتيان به لانه واجب نفسي بذاته، فظاهر الادلة النقلية ايضا كون الامر فيها طريقيا لا نفسيا.

فالجواب عن الاشكال بالتزام كون الاتيان به بداعي الامر المتعلق بذات الفعل و ان ارتفع به اشكال الدور، إلّا انه ليس بجواب عن الاشكال على الاحتياط في العبادة في محتمل الوجوب، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (فيه مضافا الى عدم مساعدة دليل حينئذ)) أي عدم مساعدة دليل من الادلة العقلية و النقلية على حسن الاحتياط في العبادة المحتملة بنحو ان يكون بنفسه مطلوبا، بل الظاهر فيها كونه مطلوبا طريقيا، و ذلك باتيانه بداعي كونه محتمل الوجوب، بل ( (بهذا المعنى فيها)) و هو الوجه المذكور من التزام كون الامر فيه متعلقا بذات الفعل المطابق للعبادة المحتملة من دون قصد القربة خروج عما هو المفروض، لوضوح ( (انه)) بهذا المعنى ( (ليس باحتياط حقيقة)) لما عرفت من الاحتياط الحقيقي هو الاتيان بالفعل بداعي كونه محتمل الوجوب ( (بل هو امر لو دل عليه دليل)) كانت دلالته ان المطلوب هو ذات الفعل بعنوانه الخاص به لا بعنوان انه محتمل الوجوب ( (كان)) حينئذ ( (مطلوبا مولويا نفسيا عباديا و العقل لا يستقل)) في حكمه ( (إلّا بحسن الاحتياط و)) كذلك الدليل الدال على الاحتياط من ( (النقل)) فانه ( (لا يكاد يرشد الا اليه)) أي لا يرشد إلّا الى الاحتياط الحقيقي كمثل كقوله عليه السّلام: (فاحتط لدينك) لان متعلقه هو نفس مادة الاحتياط الظاهرة في الاحتياط الحقيقي و ان الامر فيه للارشاد الى حسنه عقلا.

(1) توضيح هذا الاستدلال مما ذكره: انه لو كان الاشكال المذكور في الاحتياط في العبادة المحتملة لا مدفع له، ثم يدل الدليل النقلي على صحة الاحتياط في خصوص

ص: 25

بالاشكال و عدم جريانه فيها، و هو كما ترى (1).

______________________________

العبادة، بان يكون صريحا على الترغيب في خصوص العبادة لكان لما ذكره من حمل الامر بالاحتياط على تعلقه بذات الفعل، و انه من الاحتياط مجازا لا حقيقة، اما لو كان عاما فالاشكال المذكور يصح ان يكون مخصصا له و حاضرا له في غير العبادة المحتملة، و على كل فاذا دل الدليل النقلي صريحا على صحة الاحتياط في العبادة فجمعا بين منع العقل عن الاحتياط في العبادة المحتملة، و دلالة الدليل النقلي على صحة الاحتياط فيها، لا محيص فيه الا عن حمل الدليل النقلي الدال على الاحتياط الذي ظاهره الاحتياط الحقيقي على الاحتياط المجازي، و هو تعلق الامر بذات الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة، و الى هذا اشار بقوله: ( (نعم لو كان هناك دليل)) نقلي يدل ( (على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة)) بنحو دلالته على ذلك بالخصوص لا بالعموم، و على هذا الفرض ( (لما كان)) لنا ( (محيص عن)) حمل ( (دلالته اقتضاء على ان المراد به)) على خلاف ظاهره (ذاك المعنى)) و هو الاحتياط المجازي، لانحصار التصرف في الدليل النقلي فيما اذا خالفه الدليل العقلي، لعدم امكان التصرف في الدليل العقلي، لوضوح عدم امكان الاجمال في الدليل العقلي لا موضوعا و لا حكما، بخلاف الدليل النقلي فلان دلالته انما هي بالظهور و من الممكن ارادة خلاف الظاهر فيما له ظاهر، فلذا ينحصر التصرف في الدليل النقلي، فيحمل ما ظاهره الاحتياط الحقيقي على الاحتياط مجازا و ان كان خلاف الظاهر.

هذا كله بناء على عدم امكان الجواب عن الاشكال المذكور المانع عن امكان الاحتياط في العبادة بمعناه الحقيقي، و الى هذا اشار بقوله: ( (بناء على عدم امكانه فيها بمعناه حقيقة)).

(1) هذا هو الايراد الثاني على جواب الشيخ الاعظم، و تقدير معنى العبارة: ان هذا الجواب الثالث فيه مضافا الى عدم مساعدة دليل ... الى آخره انه التزام بالاشكال،

ص: 26

قلت: لا يخفى أن منشأ الاشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها، مما يتعلق بها الامر المتعلق بها، فيشكل جريانه حينئذ، لعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها (1)،

______________________________

مختار المصنف (قده) في دفع الاشكال

فقوله: مضافا ... الى آخر الجملة هو الايراد الاول، و قوله انه التزام بالاشكال هو الايراد الثاني.

و حاصله: ان الجواب عن الاشكال المذكور بالالتزام بامر متعلق بذات الفعل مرجعه الى الالتزام بالاشكال، و ان العقل مانع عن امكان الاحتياط في العبادة المحتملة، و يؤول هذا التسليم الى ان هذا الجواب ليس بجواب. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (انه)) أي الجواب بما ذكره هو ( (التزام)) منه (قدس سره) ( (بالاشكال و)) ان ما ذكره المستشكل من ( (عدم جريانه)) أي عدم جريان الاحتياط ( (فيها)) أي في العبادة صحيح ( (و هو كما ترى)) لما سيأتي الجواب عنه في قوله قلت.

او ان المراد بقوله كما ترى انه لا ينبغي ان يكون الجواب عن الاشكال بتسليم الاشكال، فلا يصح عده جوابا عن الاشكال ثانيا.

(1) توضيحه: ان الاشكال المذكور من عدم امكان الاحتياط في العبادة المحتملة يمكن ان يكون له منشآن:

احدهما: ما يراه المصنف منشأ له، و حاصله: ان اشكال الاحتياط في العبادة المحتملة هو من اجل ان متعلق الاحتياط لا بد و ان يكون الفعل بما هو عبادة، فانه لو كان متعلقه ذات الفعل لم يكن من الاحتياط، فالامر بالاحتياط سواء كان من العقل او من الشرع لازمه تعلق الامر بالفعل مع قصد القربة، و قد عرفت في مبحث التعبدي و التوصلي ان تعلق الامر بالفعل مع اخذ قصد القربة فيه محال لمحاذير مر ذكرها هناك، و ان ما لا يتأتى إلّا من قبل الامر لا يعقل اخذه في متعلق الامر، فاشكال عدم امكان الاحتياط في المقام في العبادة المحتملة ينشأ من ان لازم كونه احتياطا في العبادة هو تعلقه بالفعل بقصد القربة، اما بنحو الاشتراط او بنحو

ص: 27

و قد عرفت أنه فاسد، و إنما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لاجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه.

و عليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الامكان، ضرورة التمكن من الاتيان بما احتمل وجوبه بتمامه و كماله، غاية الامر أنه لا بد أن يؤتى به على نحو لو كان مأمورا به لكان مقربا، بأن يؤتى به بداعي احتمال الامر أو احتمال كونه محبوبا له تعالى، فيقع حينئذ على تقدير الامر به امتثالا لامره تعالى، و على تقدير عدمه انقيادا لجنابه تبارك و تعالى، و يستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد (1).

______________________________

الجزئية، و الامر بالاحتياط و لو من العقل اذا كان متعلقه الاحتياط المفروض تعلقه بالفعل بما هو مأخوذ فيه القربة يأتي فيه الاشكال المذكور في اخذ قصد القربة متعلقا للامر، و قد مر محالية اخذ قصد القربة متعلقا للامر، و لذلك لا يتأتى الاحتياط في المقام، و الى هذا اشار بقوله: ( (ان منشأ الاشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها مما يتعلق بها)) أي بقصد القربة ( (الامر المتعلق بها)) أي بالعبادة، و لما كان الامر متعلقا بالاحتياط اللازم كون متعلقه هو العبادة بما هي عبادة لفرض كونه احتياطا في العبادة و لذلك ( (فيشكل جريانه)) أي جريان الاحتياط ( (حينئذ)) في المقام ( (لعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها)) لعدم امكان تعلق الامر الاحتياطي بالعبادة المفروض قصد القربة فيها إما جزءا او شرطا.

(1) يشير الى فساده الذي مر في مبحث التعبدي: من ان قصد القربة لم يؤخذ في العبادة كسائر الشروط المأخوذة فيها كالستر و القبلة مثلا، بل حيث كان الفرض انها عبادة و الغرض من العبادة لا يتم إلّا بقصد القربة، فالعقل يرشد الى اتيان متعلق الامر بقصد القربة، و اما الامر فلم يتعلق الا بنفس الفعل العبادي من دون اخذ قصد القربة فيه، و الاحتياط في المقام كذلك فانه حيث فرض كونه احتياطا في العبادة فمتعلق الامر الاحتياطي نفس الفعل العبادي من دون اخذ قصد القربة فيه، و لكن

ص: 28

.....

______________________________

حيث فرض كونه احتياطا في العبادة فالعقل يلزم ياتيانه بقصد القربة، و هو اتيانه بداعي احتمال الامر لتتحقق عباديته لو كان واجبا عباديا في الواقع.

فاتضح ان عدم التمكن الناشئ من توهم لزوم اخذ قصد القربة في متعلق الامر الاحتياطي فاسد، لعدم اخذ قصد القربة في متعلق الامر الاحتياطي، بل الامر الاحتياطي متعلق بنفس الفعل في المقام من دون اخذ قصد القربة فيه، و قصد القربة مما يرشد الى لزومه العقل بعد فرض كونه احتياطا في العبادة، فلا وجه لعدم امكان الاحتياط في المقام لهذا التوهم، و قد اشار الى وجه الفساد بقوله: ( (و انما اعتبر قصد القربة فيها)) أي في العبادة المقطوع بها في غير المقام و في العبادة المحتملة في المقام من جهة اعتبار ذلك فيها ( (عقلا لاجل ان الغرض منها)) أي من العبادة ( (لا يكاد يحصل بدونه)) أي بدون قصد القربة ( (و عليه)) أي و على فرض كون العقل يرشد اليها من ناحية دخولها في الغرض و لا تكون متعلقة للامر الحقيقي او الاحتياطي، و لذلك ( (كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الامكان ضرورة التمكن من الاتيان بما احتمل وجوبه)) بقصد القربة ( (بتمامه و كماله غاية الامر انه)) في محتمل الوجوب ( (لا بد ان يؤتى به على نحو لو كان)) الاحتياط مصادفا للواقع و كان الفعل واجبا عباديا واقعا و ( (مأمورا به)) بنحو ان يؤتى به عبادة ( (لكان)) الفعل المؤتى به بعنوان الاحتياط ( (مقربا)) ايضا و وقوع الفعل المؤتى به بعنوان الاحتياط قربة يكون بنحوين، اما ( (بان يؤتى به بداعي احتمال الامر او)) بداعي ( (احتمال كونه محبوبا له تعالى)) فان قصد المحبوبية الاحتمالية كقصد الامر الاحتمالي يوجب وقوع الفعل قربيا و عباديا ( (فيقع)) الفعل المؤتى به احتياطا بداعي احتمال الامر ( (حينئذ على تقدير الامر به)) واقعا ( (امتثالا لامره تعالى)) الواقعي لمصادفة الاحتياط للواقع ( (و على تقدير عدمه)) أي عدم الامر به واقعا يقع الاحتياط ( (انقيادا لجانبه تبارك و تعالى و)) تحصل ان المكلف الآتي بالفعل بداعي الاحتياط ( (يستحق الثواب على

ص: 29

.....

______________________________

كل حال اما على الطاعة)) في صورة المصادفة ( (او)) على ( (الانقياد)) في صورة عدم المصادفة و عدم الامر به واقعا.

هذا ما ذكره هنا ... و قد قال في هامش الكتاب ما محصله:

انه لو اغمضنا النظر عن إرشاد العقل الى لزوم قصد القربة به لدخوله في الغرض، نقول ان الاحتياط في المقام ممكن بتعدد الامر، أمر يتعلق بالفعل بعنوانه، و امر ثان يتعلق باتيانه بداعي احتمال الوجوب، هذا هو الوجه الاول الذي يراه المصنف منشأ للإشكال في امكان الاحتياط في المقام.

ثانيهما: ان منشأ الاشكال ليس ما ذكر، بل المنشأ هو ان قصد القربة لا يحصل بقصد الاحتمال، بل لا بد فيه من العلم بقصد القربة سواء كان قصد القربة مأخوذا في متعلق الامر بأمر واحد أو بأمرين او بارشاد من العقل، و الوجه في اعتبار العلم به و الجزم بدخوله و انه لا يتأتى بقصد احتمال ذلك، هو ان قصد القربة هو الذي يتحرك به المكلف في مقام امتثاله للمأمور به العبادي، و لا يعقل التحرك إلّا بما هو حاضر في افق النفس ليكون محركا للمكلف، و حضور الشي ء في افق النفس لا يكون إلّا بالعلم به، و مع فرض عدم العلم في المقام لفرض كونه محتملا لا يكون قصد القربة حاضرا في افق النفس حضورا تاما، و مع عدم حضوره تماما لا يعقل التحرك.

و الحاصل: ان حضوره احتمالا لا يعقل التحرك به، و الذي يمكن التحرك به هو الحضور التام العلمي الجزمي، فعلى هذا لا يكون منشأ الاشكال في امكان الاحتياط هو عدم امكان اخذ قصد القربة في متعلق الامر الاحتياطي، بل عدم امكان الاحتياط لعدم العلم بقصد القربة، و انه اذا كان محتملا لا يعقل وقوع التحرك عنه، و اذا لم يقع التحرك عن الاحتمال لا يتحقق الاحتياط، و اذا كان التحرك عن نفس الامر بالاحتياط لا يكون احتياطا، بل يكون عبادة حقيقة عن امر معلوم حقيقة لا عن داعي الاحتمال.

ص: 30

و قد انقدح بذلك أنه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها (1) بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشي ء، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها، كما لا يخفى (2).

______________________________

فتحصل مما ذكرنا: ان التحرك عن الاحتمال مستحيل لعدم الحضور في افق النفس، مع ان الاحتياط لا يكون احتياطا في المقام إلّا بالاتيان بداعي الاحتمال ...

و لا بد ان يكون الجواب عنه: هو ان النفس كما تتحرك عن الامر المعلوم كذلك تتحرك النفس عن الامر المظنون و المحتمل، لان صورة الامر بما هو مظنون او محتمل حاضرة في افق النفس كحضور صورة الامر المعلوم فيها.

فاتضح انه كما يكون العلم بالامر محركا كذلك يكون ظن الامر و احتماله ايضا محركا، فان صادف الواقع كان الفعل طاعة، و ان لم يصادف الواقع كان الفعل انقيادا.

(1) حاصله: انه بعد ما عرفت من امكان الاحتياط في المقام بالاتيان بالفعل بداعي احتمال وجوبه ... يتضح انه لا حاجة الى تصحيح الاحتياط في المقام بالالتزام بتعلق الامر الاحتياطي بنفس الفعل بذاته، ليتأتى قصده و يقع عبادة بواسطة قصد هذا الامر المتعلق بذات الفعل كما مر في الجواب الثالث عن الشيخ الاعظم في رسائله، و لذا قال (قدس سره): ( (و قد انقدح بذلك)) أي بما مر من امكان الاحتياط في العبادة، و ان المأتي به بداعي احتمال وجوبه يقع قريبا يتضح ( (انه لا حاجة في جريانه)) أي في جريان الاحتياط ( (في العبادات الى تعلق امر بها)) أي بذات ما هو عبادة.

(2) حاصله: ان ما ذكر من تصحيح الاحتياط في المقام- بالتزام تعلق امر بنفس الفعل بذاته، و لا بد من كونه امرا مولويا عباديا، لوضوح ان الامر الارشادي و المولوي التوصلي لا يلزم قصدهما، و لا بد في وقوع العبادة عبادة من قصد الامر، فلذلك كان الامر في العبادة لا بد و ان يكون مولويا عباديا- يستلزم الخلف و ان لا يكون الامر الاحتياطي امرا احتياطيا، لما مرت الاشارة اليه من ان معنى الاحتياط

ص: 31

.....

______________________________

في العبادة هو الاتيان بداعي كونه محتمل الوجوب، و الاتيان بداعي الامر المتعلق بذات العبادة اتيان له بداعي الامر المعلوم، فاذا كان امرا مولويا عباديا يقع هذا الفعل عبادة كسائر العبادات الواصل امرها و المأتي بها بداعي امرها المعلوم المحقق، و هو خلف لفرض كون الامر احتياطيا للتحفظ على الواقع، لا لان متعلقه امر عبادي بذاته و بعنوانه.

و بعبارة اخرى: الاتيان بالشي ء بداعي التحفظ على الواقع المحتمل غير اتيانه لذاته و لعنوانه الخاص به، فتصحيح الاحتياط بتعلق الامر الاحتياطي بذات محتمل الوجوب لا بداعي انه محتمل الوجوب لا يكون من الاحتياط في شي ء، بل ظهر مما ذكرنا ان الاحتياط في محتمل الوجوب لا داعي له الى امر اصلا لا مولوي توصلي و لا عبادي، لانه بعد حكم العقل بحسن الاحتياط الذي لا يقع احتياطا الا ملازما لقصد القربة، و هو اتيانه بداعي احتمال وجوبه فلا داعي للامر التوصلي به لحكم العقل بحسنه، و لا داعي للامر العبادي لفرض كون الاحتياط ملازما لقصد القربة فلا داعي ايضا للامر العبادي.

و على كل، فقد بان انه لا وجه لتصحيح الاحتياط في المقام بتعلق امر بذات ما هو محتمل الوجوب، بل تعلق الامر به كذلك يوجب كونه عبادة مستقلة بذاته لا عبادة احتياطية للتحفظ، و يكون كسائر الواجبات و المستحبات العبادية و هو خلف، لفرض كونه احتياطا في العبادة لا انه عبادة مستقلة، و لذلك ترقى المصنف فقال:

( (بل لو فرض تعلقه بها)) أي لو فرض في المقام تعلق الامر بذات العبادة المحتملة بعنوان ذاتها لا بعنوان انها عبادة محتملة ( (لما كان)) ذلك ( (من الاحتياط بشي ء بل)) يكون عبادة مستقلة ( (كسائر ما علم وجوبه او استحبابه منها)) أي من العبادات.

و الحاصل: ان الفرق بين ما ذكره المصنف و ما ذكره الشيخ هو تعلق الامر بالمحتمل الوجوب بما هو محتمل الوجوب، غايته ان العقل يرشد الى قصد اتيانه بداعي القربة، و عند الشيخ تعلق الامر بذات محتمل الوجوب لا بما هو محتمل الوجوب.

ص: 32

فظهر أنه لو قيل بدلالة أخبار من بلغه ثواب على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب و لو بخبر ضعيف، لما كان يجدي في جريانه في خصوص ما دلّ على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف، بل كان عليه مستحبا كسائر ما دلّ الدليل على استحبابه (1).

______________________________

الجواب الخامس في دفع الإشكال بأخبار من بلغ

و لكن يمكن ان يقال: انه بعد ان كان يرشد العقل الى اتيانه بداعي القربة، و داعي القربة لا يكون إلّا بقصد امتثال الامر، فان كان الامر المقصود اتيانه بداعيه هو الامر المتعلق بداعي محتمل الوجوب و هو الامر الاحتياطي عاد المحذور، و ان كان الامر هو المتعلق بذات الفعل، ففيه أولا: انه ليس هناك امر متعلق بذات الفعل على رأيه، و ثانيا: يرجع الى ما ذكره الشيخ.

(1) هذا خامس الاجوبة عن الاشكال المتقدم في امكان الاحتياط في محتمل الوجوب او الاستحباب، و لا يخفى انه يختص بالوجوب و الاستحباب الذي قام عليهما خبر ضعيف، و لا يعمّ مطلق محتمل الوجوب و الاستحباب، و ان لم يقم عليه دليل اصلا لوضوح انه مع فرض عدم قيام دليل عليه اصلا لا يكون مشمولا لأخبار من بلغ المختصّة بالمحتمل الذي قام عليه خبر ضعيف غير تام الحجيّة.

و حاصل هذا الجواب: ان سيأتي دلالة اخبار من بلغ على امر استحبابي متعلق بمؤدّى ما قام عليه الخبر الضعيف، و لكونه عباديا لظهور بعضها في من عمل ذلك العمل رجاء ذلك الثواب، فاذا تمّ هذا ... نقول انه لو دلّ خبر ضعيف على وجوب شي ء فيمكن جريان الاحتياط فيه بقصد الامر الاستحبابي العبادي المتحصّل من اخبار من بلغ، و هذا امر قربي معلوم، فلا اشكال في جريان الاحتياط لا من ناحية قصد القربة لفرض كونه قربيّا و لا من ناحية عدم العلم لفرض كونه معلوما.

و حاصل ما اشكل عليه: هو انه قد ظهر مما ذكرنا: ان الاتيان بالفعل المحتمل الوجوب لا بداعي انه محتمل الوجوب، بل بداعي الامر المتعلق به بذاته لا يكون من الاحتياط في شي ء، فالاتيان بمحتمل الوجوب بقصد الامر الاستحبابي المتعلق بذاته

ص: 33

لا يقال: هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه، و أما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنه محتمل الثواب، لكانت دالة على استحباب الاتيان به بعنوان الاحتياط، كأوامر الاحتياط، لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الارشادي (1).

______________________________

بواسطة اخبار من بلغ لا يكون اتيانا له بعنوان الاحتياط، بل يكون فعلا مستحبا كسائر المستحبات بعناوينها الذاتية، و الى هذا اشار بقوله: ( (فظهر انه لو قيل بدلالة اخبار من بلغه ثواب على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب و لو بخبر ضعيف لما كان يجدي في جريانه)) أي في جريان الاحتياط لتوقف كونه احتياطا على اتيانه بعنوان انه محتمل الوجوب لا للامر المتعلق به بعنوانه، و اشار الى اختصاصه بخصوص ما قام عليه الخبر الضعيف بقوله: ( (في خصوص ما دل على وجوبه او استحبابه خبر ضعيف بل كان عليه)) أي بل كان بناء على استحبابه باخبار من بلغ يكون ( (مستحبا كسائر ما دل الدليل على استحبابه)) بعنوانه و لا يكون من الاحتياط في شي ء.

(1) حاصله: ان اخبار من بلغ اذا قيل انها تدل على جعل الحكم الاستحبابي على طبق مؤدى الخبر الضعيف البالغ للمكلفين، كان الامر الاستحبابي متعلقا بذات الفعل المحتمل لا بالاحتياط فيه و اتيانه بداعي الاحتمال كما ذكرت، و لا يكون من الاحتياط في شي ء، و اما اذا كان المستفاد من اخبار من بلغ هو الامر الاستحبابي باتيان الشي ء بداعي احتمال انه قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيكون المتحصّل منها هو الامر بالاحتياط، و لا اشكال انه أمر مولوي عبادي فيتأتى الاحتياط بواسطة هذا الامر الاستحبابي المستفاد من اخبار من بلغ، و يترفع الاشكال المذكور من عدم امكان الاحتياط في العبادة المحتملة، و الى هذا اشار بقوله: ( (لا يقال هذا لو قيل بدلالتها)) أي لو قيل بدلالة اخبار من بلغ على جعل الحكم الاستحبابي و ( (على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه)) فانه لا يكون من الاحتياط في شي ء كما

ص: 34

فإنه يقال: إن الامر بعنوان الاحتياط و لو كان مولويا لكان توصليا، مع أنه لو كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط، و مجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه آنفا (1).

______________________________

مر بيانه ( (و اما لو دل)) دليل من بلغ ( (على استحبابه)) أي استحباب الفعل المأتي به ( (لا بهذا العنوان)) و هو عنوانه بذاته ( (بل)) يدل على استحبابه ( (بعنوان انه محتمل الثواب لكانت)) اخبار من بلغ ( (دالة على استحباب الاتيان به)) أي بالفعل ( (بعنوان الاحتياط)) و يكون الامر المستفاد من اخبار من بلغ ( (كأوامر الاحتياط)) مثل قوله عليه السّلام: احتط لدينك، و اخوك دينك، في الدلالة على اتيان الشي ء لاجل الاحتياط، بان يؤتى به بداعي الاحتمال فيما ( (لو قيل بانها)) أي لو قيل ان أوامر الاحتياط كانت ( (للطلب المولوي لا الارشادي)) و على هذا فيرتفع الاشكال في عدم امكان الاحتياط، لعدم العلم بقصد القربة لا تفصيلا و لا اجمالا، فان هذا الامر الاستحبابي معلوم تفصيلا.

(1) توضيحه: ان اخبار من بلغ، اما ان يكون المستفاد منها جعل الحكم الاستحبابي على طبق مؤدى الخبر الضعيف الذي بلغ، فلا يكون من الاحتياط في شي ء كما مر بيانه.

و اما ان يكون المستفاد منها هو اعطاء الثواب على الاتيان بقصد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قاله، فلا تكون لها دلالة على الامر الاستحبابي بالاتيان بالفعل بداعي الاحتمال، بل لا يكون لها دلالة على امر اصلا، و انما المتحصل منها هو اعطاء الثواب على هذا الانقياد و الاتيان برجاء الواقع، و المستشكل لا يستشكل في امكان الانقياد، و لكنه يستشكل في امكان الاحتياط في العبادة و وقوع الفعل عباديا بواسطة الاحتياط، بحيث لو اصاب الاحتياط الواقع لنجزه، و لوقع الفعل عبادة كالفعل المأتي به بداعي الامر العبادي المعلوم. هذا كله في الاحتياط بالنسبة الى اخبار من بلغ.

ص: 35

ثم إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الاخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب، فإن صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من بلغه عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم شي ء من الثواب فعمله، كان

______________________________

و اما توضيح الحال في كلية الامر الاحتياطي فنقول: الاحتياط ان كان في غير العبادة فلا مانع من كون الامر فيه مولويا توصليا، اذا لم نقل بان مطلق الاوامر الاحتياطية لا تكون الا ارشادية، لكفاية جعل الداعي فيها من ارشاد العقل الى حسنها، و اما الاحتياط في العبادة المحتملة فلا يعقل ان يكون فيه امر أصلا لا توصلي و لا عبادي، لوضوح انه لو كان توصليا لما كان مصححا لقصد القربة، و ان كان عباديا فاما ان يتعلق بعنوان ذات الفعل المحتمل الوجوب فلا يكون من الاحتياط في شي ء كما عرفت، و اما ان يتعلق باتيانه بداعي الوجوب فلا يكون امرا عباديا، لان عبادية العبادة باتيانها بداعي احتمال الوجوب لا بداعي الامر الاحتياطي المتعلق باتيانها بداعي احتمال الوجوب، فلو كان امر لكان توصليا لا عباديا، مع انه لا داعي الى الامر التوصلي ايضا لفرض ارشاد العقل الى اتيانه بداعي الاحتمال، فلا فائدة في هذا الامر الاحتياطي التوصلي، و الى هذا اشار بقوله: ( (فانه يقال ان الامر بعنوان الاحتياط و لو كان مولويا)) أي لو قلنا بان الامر الاحتياطي ليس منحصرا في الارشاد بل يكون مولويا لكنه اذا كان مولويا ( (لكان توصليا)) و ذلك في غير الفعل العبادي، اما في العبادة المحتملة فلا يكون مجديا لو كان توصليا، و كونه عباديا لا معنى له مع فرض كون العبادية فيه انما هي باتيانه بداعي الاحتمال لا بداعي الامر الاحتياطي و عباديته، لكونه متعلقا بذات الفعل لا مانع منه، إلّا انه لا يكون من الاحتياط في العبادة اصلا، و إلى هذا اشار بقوله: ( (مع انه لو كان عباديا كان مصححا للاحتياط و مجديا في جريانه)) أي و مجديا في جريان الاحتياط بما هو احتياط ( (في العبادات)) بل يكون عبادة مستقلة لا عبادة احتياطية.

ص: 36

أجر ذلك له، و إن كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقله ظاهرة في أن الاجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنه ذو ثواب (1)، و كون

______________________________

المستفاد من دلالة أخبار من بلغ

(1) لما انجر الكلام الى اخبار من بلغ ... شرع المصنف في ما يستفاد منها، و انه هل هو جعل الحكم الاستحبابي على طبق مؤدى الخبر البالغ، أو ان المستفاد منها هو اعطاء الثواب على الانقياد و الاتيان برجاء الواقع و التماسه، او ان المتحصل منها جعل الحجية للخبر الضعيف؟

الذي يظهر من المشهور هو الاول لافتائهم باستحباب العمل الذي ادى اليه الخبر الضعيف، و هو مختار المصنف ايضا، و استظهر الشيخ الاعظم في رسالة التسامح الثاني.

و اما الثالث فواضح الضعف لانه لو كان الغرض فيها للشارع جعل الحجية للخبر الضعيف، لقال: ان الراوي للثواب على عمل قد جعلت روايته حجة او امثال هذه العبارة، لا قوله: ان من عمل على طبق ما بلغه كان ذلك الثواب له و ان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقله، فان ديدن الشارع في مقام جعل الحجية ان يقول ان ما دلت عليه الحجة هو الواقع، كما في مثل قوله عليه السّلام: (العمري و ابنه ثقتان فما أديا اليك عني فعني يؤديان)(1).

و يبقى الامر دائرا بين ما استظهره المصنف تبعا للمشهور من جعل الحكم الاستحبابي النفسي على طبق مؤدى الخبر الضعيف بعنوان من بلغ، و بين ما استفاده الشيخ الاعظم و هو اعطاء ثواب العمل البالغ لاجل الانقياد، و لازم مختاره (قدس سره) هو عدم الحكم و عدم الامر الاستحبابي المولوي، و اذا كان هناك امر فهو ارشادي محض.

ص: 37


1- 5. ( 1) الكافي ج 1، ص 330.

.....

______________________________

و لا يخفى انه هناك احتمالات اخرى واهنة جدا اعرضنا عن ذكرها.

و قبل التعرض للأخبار و مفادها ينبغي ان لا يخفى: ان اخبار من بلغ لا تشمل الحرمة و الكراهة المدلولة للخبر الضعيف، لظهور قوله من بلغه ثواب على عمل في خصوص الخبر الدال على الاستحباب او الوجوب، فان الظاهر من الثواب على العمل هو الثواب على الفعل لا على الترك، و ليس الترك مستحبا شرعيا، لعدم انحلال الحكم الى حكمين.

و لا يخفى ايضا ان المراد بالخبر الضعيف هو الضعيف من ناحية السند لا من ناحية الدلالة، لظهور قوله و ان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقله في ذلك.

و من الواضح ايضا ظهور اخبار من بلغ في كون الواسطة المبلغة للثواب هو الخبر الحسي الضعيف، دون المبلغ للثواب حدسا كالفتوى بالاستحباب من المفتي، فانه و ان بلغ الثواب على العمل إلّا انه بواسطة الحدس دون الحس، و ذلك ايضا لظهور قوله عليه السّلام و ان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقله في ان المبلغ للثواب كان منه التبليغ بواسطة نقله لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، لا لحدسه ان الحكم المترتب عليه الثواب هو حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

و لكن جماعة من الاكابر شملوه للاجماع المنقول و الفتوى، بان يراد من بلغه وصول الثواب سواء كان بالتبليغ اللفظي او بغيره من انحاء الوصول و هو غير بعيد.

و مما ينبغي ان لا يخفى ايضا ان اخبار من بلغ موردها الخبر الضعيف دون الخبر المعتبر، لان المستفاد منها اما جعل الحكم، و لا معنى لجعل الحكم على طبق مؤدى الحكم المعتبر فانه من اجتماع المثلين، و اما اعطاء الثواب و لا معنى له ايضا بعد ان دل عليه الخبر المعتبر، مع ان الظاهر منها تكفلها لما لم يتكفله الخبر البالغ بذاته، و مع كون الخبر معتبرا فانه يكون متكفلا بذاته لما تكفلته اخبار من بلغ، مضافا الى ما مر من ان المناسب لقوله و ان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقله هو كون الخبر البالغ ضعيفا، و اذا كان معتبرا يكون مؤداه مما قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، لا انه لم يقله.

ص: 38

.....

______________________________

و اما اخبار من بلغ فهي كثيرة:

منها: الصحيحة المشار اليها في المتن.

و منها: ما عن البحار فقد روى الصحيحة المذكورة، و قال بعد ذكرها ان الخبر من المشهورات رواه العامة و الخاصة.

و منها: ما في الوسائل عن عدة الداعي لابن فهد، قال روى الصدوق عن محمد بن يعقوب بطرقه عن الائمة عليهم السّلام: (من بلغه شي ء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه و ان لم يكن الامر كما نقل اليه)(1).

و منها: ما عن الكليني في الكافي بسنده الصحيح عن ابي عبد اللّه عليه السّلام: (قال عليه السّلام: من سمع شيئا من الثواب على شي ء فصنعه كان له و ان لم يكن على ما بلغه)(2).

و منها: ما عن الكافي ايضا عن محمد بن مروان (قال سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: من بلغه ثواب من اللّه على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه و ان لم يكن الحديث كما بلغه)(3).

و منها: ما عن طرق العامة عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال (قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم من بلغه من اللّه فضيلة فاخذ بها و عمل بها ايمانا باللّه و رجاء ثوابه اعطاه اللّه ذلك و ان لم يكن كذلك).

و قال ابن فهد (ره) له بعد نقله لهذه الروايات فصار هذا المعنى مجمعا عليه بين الفريقين.

و لا يخفى انها اخبار مستفيضة و قد ادعى تواترها معنى و قد عمل بها الاصحاب فسندها مما لا ريب في حجيته.

ص: 39


1- 6. ( 1) وسائل الشيعة: ج 1، 61/ 8، باب 18 من أبواب مقدمة العبادة.
2- 7. ( 2) الكافي: ج 2، ص 87.
3- 8. ( 3) الكافي: ج 2، ص 87.

.....

______________________________

و اما المستفاد من هذه الاخبار فهل هو جعل الحكم الاستحبابي لما قام عليه الخبر الضعيف كما هو ظاهر المشهور، او ان المستفاد منها هو اعطاء الثواب على العمل لاتيانه بداعي الانقياد و رجاء ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قاله، فيكون المحصل منها هو ترتب الثواب لاجل الانقياد، و لا يكون لها دلالة على كون العمل بنفسه مستحبا بعنوان انه قد بلغ الثواب عليه.

و المختار للمصنف هو ما استفاده المشهور من دلالتها على جعل الحكم الاستحبابي، لظهور صحيحة هشام بن سالم المشار اليها في ترتب الثواب على نفس العمل بقوله عليه السّلام: (من بلغه شي ء من الثواب فعمله- أي فعمل الذي قد بلغه انه له ثواب- كان اجر ذلك له)(1) فان الظاهر منها كون الاجر و الثواب على نفس العمل لا على الانقياد و الرجاء، و لازم كون الثواب على نفس العمل ان نفس العمل هو الموضوع و هو الملزوم لهذا الثواب، و لا يكون كذلك الا حيث يكون هو مستحب بنفسه، فتدل هذه الصحيحة على ان المستحب الذي هو الملزوم لهذا الثواب هو نفس العمل، فالمتحصل منها ذكر اللازم و هو الثواب دليلا على جعل ملزومه و هو استحباب نفس العمل كما هو احد طرق بيان جعل المستحبات في لسان الاخبار، كدلالة قوله عليه السّلام: من سرح لحيته فله كذا من الثواب و الاجر، و من صلى النافلة او صام اليوم الفلاني فله كذا مقدار من الثواب ... على ان تسريح اللحية هو المستحب بعنوانه، و ان صوم اليوم الفلاني و النافلة الكذائية مستحبان بعنوان ذاتهما، فلازم هذا الظاهر ان البلوغ حيثية تعليلية لجعل العمل الذي هو البالغ بالخبر مستحبا بعنوانه، و لذا ترتب الثواب و الاجر على نفس العمل، و إلى ما ذكرنا اشار بقوله:

( (ظاهرة)) أي ان الصحيحة المذكورة ظاهرة ( (في ان الاجر كان مترتبا على نفس الذي بلغه عنه صلى اللّه عليه و آله و سلّم انه ذو ثواب)) لقوله عليه السّلام من بلغه فعمله كان اجر ذلك له،

ص: 40


1- 9. ( 1) وسائل الشيعة ج 1، 60/ 3 باب 18 من أبواب مقدمة العبادة.

العمل متفرعا على البلوغ، و كونها الداعي إلى العمل (1) غير موجب لان يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه، فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به و بعنوان الاحتياط (2)، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها

______________________________

فترتب الاجر على نفس العمل لازمه كون نفس العمل بذاته مستحبا، و ان بلوغه حيثية تعليلية لجعله مستحبا.

فالمتحصل منها كون نفس العمل مستحبا، و لكنه في ظرف كونه قد بلغ المكلف الثواب عليه.

(1) يريد ان يشير الى ما يمكن ان يكون منافيا للظهور المذكور، الذي عرفت ان لازمه كون الفعل بذاته مستحبا، و هو امران:

الاول: انه ينافي هذا الظهور ظهور الفاء في قوله فعمله في التفريغ على البلوغ، فان ظاهر التفريع كون المتفرع معلولا للمتفرع عليه، و لازم هذا كون العمل معلولا للبلوغ، و معنى كونه معلولا للبلوغ هو كون الداعي للعمل هو البلوغ دون نفس عنوان الفعل بذاته، و من الواضح ان لازم كون الفعل بعنوانه مستحبا هو كون العمل بداعي استحبابه لا بداعي البلوغ، و هذا ينافي ظهور قوله عليه السّلام من بلغه شي ء من الثواب فعمله في انه قد عمل لما بلغه من الثواب عليه، فان هذا الكلام ظاهر في ان الداعي للعمل هو رجاء ذلك الثواب و اذا كان الداعي للعمل هو رجاء ذلك الثواب لم يكن مجال لان يكون الداعي له هو نفس عنوان الفعل بذاته، لوضوح محالية اجتماع داعيين فعليين على فعل واحد، فالفعل الماتي به بداعي الرجاء لا يعقل ان يكون الداعي له نفس عنوان ذاته و استحبابه بنفسه، و الى هذا اشار بقوله: ( (و كون العمل متفرعا على البلوغ و)) و معنى ذلك ( (كونها الداعي الى العمل)) أي كون نفس العمل و ان الداعي لاتيانه هو نفس استحبابه الذاتي، لا بلوغ الثواب و ان يؤتى برجاء الواقع لا بداعي نفسه.

(2) يشير الى الجواب عن هذا الظهور المنافي لكون العمل بنفسه مستحبا.

ص: 41

.....

______________________________

و بيانه: ان الفاء لا تدل على اكثر من التفريع و كون العمل متفرعا على البلوغ، و لكن تفريع شي ء على شي ء كما يكون لكونه معلولا له كذلك يكون لمحض ترتبه عليه من دون ان يكون المتفرع معلولا للمتفرع عليه، لوضوح انه كما يصح التفريع في العلية و المعلولية كقوله من اتلف مال الغير فهو له ضامن في ان الضمان معلولا للاتلاف، كذلك يصح التفريع في مثل قوله من سمع الاذان فبادر الى الصلاة كان له ثواب كذا، فان الفاء التفريعية هنا لا تدل على اكثر من كون المبادرة متفرعة على سماع الاذان، و اما كون سماع الاذان هو الداعي للمبادرة فلا، لوضوح ان الداعي للمبادرة هو استحبابها ذاتا لا سماع الاذان، بل حيث انه لما سمع الاذان قصد المبادرة لما عليها من الثواب صح ان تفرع المبادرة على السماع للاذان.

فتحصل مما ذكرنا: ان الفاء لمطلق التفريع، و التفريع لا يستلزم كون المفرع عليه هو العلة للمتفرع عليه، و ليس لها ظهور في العلية لتمنع ظهور ترتب الثواب على نفس العمل عما يقتضيه من كون العمل مستحبا بذاته، و السبب في التفريع هو انه لما كان بلوغ الثواب عليه كظرف لجعل استحباب العمل بذاته صح التفريع، فيكون الظاهر من الرواية ان من بلغه الثواب فعمل كان له الثواب على عمله، و لازم هذا كون العمل بنفسه مستحبا، و ان البلوغ كظرف لجعل هذا الفعل مستحبا، و يصح التفريع لان الفاء لمطلق ترتب شي ء على شي ء، لا لخصوص كون المتفرع معلولا للمتفرع عليه.

و الى هذا اشار بقوله: ( (غير موجب)) أي ان نفس التفريع غير موجب للمعلولية و ( (لان يكون الثواب انما يكون مترتبا عليه)) أي على الفعل ( (في)) خصوص ( (ما اذا اتى به برجاء انه مأمور به)) واقعا ( (و بعنوان الاحتياط)).

ص: 42

و عنوانا يؤتى به بذاك الوجه و العنوان (1). و إتيان العمل بداعي طلب قول النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم كما قيد به في بعض الاخبار، و إن كان انقيادا، إلا أن

______________________________

(1) لا يخفى ان هذا تعليل لقوله: ( (غير موجب لان يكون الثواب انما يكون مترتبا عليه ... الى آخر الجملة)) و لا يخفى ايضا غموض العبارة فيما هو مراده منها.

و يحتمل في تفسيرها احتمالان:

الاول: ان صدر الصحيحة و ان دل على ان البلوغ للثواب هو الداعي الى العمل، إلّا ان ذيلها قد دل على ان ذلك الثواب مترتب على نفس العمل، و لا منافاة بين الامرين، فان المتحصل منها ان هذا العمل كما يمكن ان يؤتى بداعي البلوغ و رجاء الثواب الواقعي، كذلك يمكن ان يؤتى به بداعي نفس الثواب المترتب على نفس العمل، و لا دلالة للصدر على حصر الثواب للعمل بخصوص العمل الذي يؤتى به بداعي الرجاء، و يشعر بهذا التفسير قوله ( (غير موجب لان يكون الثواب انما يكون مترتبا عليه فيما اذا اتى برجاء انه مأمور به و بعنوان الاحتياط)) أي لا دلالة للصدر على حصر الثواب للعمل بخصوص ما إذا اتى به برجاء انه مأمور به و بعنوان الاحتياط حتى يكون منافيا لترتب الثواب عليه فيما اذا اتى به بداعي نفس عنوان ذات العمل و يكون قوله: ( (بداهة ... الى آخره)) تعليلا لهذا المعنى.

و حاصله: ان كون العمل يمكن ان يؤتى به بداعي الرجاء و البلوغ للثواب الواقعي لا يستلزم ان يكون ذلك قيدا فيه و وجها له، بحيث لا يترتب عليه إلّا اذا اتى به بقصد الرجاء، بل كما يمكن ذلك يمكن ايضا ان يترتب عليه الثواب فيما اذا اتى به بقصد عنوانه الذاتي و الثواب المترتب على نفس عنوان الفعل ... و يبعد هذا الاحتمال امران:

الاول: انه عين الجواب الآتي عن الاشكال الثاني المشار اليه بقوله: ( (و اتيان العمل بداعي طلب قول النبي ... الى آخره)) و الظاهر ان الجواب عن الاشكال في هذه الصحيحة هو غير الجواب عن الاشكال الآتي.

ص: 43

.....

______________________________

الثاني: ان الظاهر من الصحيحة ان هناك ثوابا واحدا للعمل، اما ان يكون مترتبا على اتيانه بقصد الرجاء، او يكون مترتبا عليه فيما اذا اتى به بقصد عنوان نفس العمل، و اذا سلم المصنف كون صدر الصحيحة تدل على الثواب لهذا العمل بقصد الرجاء، فلا بد و ان يكون الاجر في ذيلها هو ذلك الثواب المترتب على العمل بقصد الرجاء، و لا يكون الذيل دالا على ان للعمل ثوابا آخر يترتب بعنوانه عليه حتى يكون كاشفا عن الحكم الاستحبابي لنفس عنوان الفعل كشف المعلول عن علته، و هو الامر به بعنوانه حتى يكون الثواب مترتبا عليه بعنوانه ايضا.

لا يخفى ان هذا الثاني خلاف ما يظهر من المصنف في جوابه عن الاشكال الثاني، لانه قد التزم بان اخبار من بلغ المطلق منها يدل على الثواب على نفس العمل و لازمه جعل الحكم الاستحبابي، و المقيد منها يدل على الثواب على الاتيان برجاء الواقع و لازمه كون الثواب على الانقياد، و لا مانع في المستحبات من عدم تقييد مطلقاتها بالمقيد منها.

الاحتمال الثاني: ان يكون مراده ان صدر الصحيحة و ان دل على ان البلوغ هو الداعي للعمل، إلّا انه لا يدل على تقييد الاتيان بالعمل بهذا الداعي، بل البلوغ و رجاء الثواب يكون داعيا للعمل من باب الداعي الى الداعي، و المتحصل منها على هذا ان من بلغه الثواب يكون داعيا له لان يعمل العمل لاجل تحصيل ذلك الثواب، و اذا كان ذلك الثواب مترتبا على نفس العمل كما هو مدلول ذيلها، فذلك الداعي يكون داعيا له لان يقصد العمل بنفس عنوانه، لانه هو الذي يترتب عليه ذلك الثواب، و لا دلالة في الصحيحة على ان الثواب انما يترتب على هذا العمل حيث يؤتى به بقصد الرجاء لا غير، حتى يكون منافيا لما دل عليه الذيل من ترتب الثواب على نفس قصد عنوانه الكاشف ذلك عن استحبابه بنفسه.

و بعبارة اخرى: ان كون البلوغ داعيا للعمل لا يدل على تقيد العمل بهذا الوجه و العنوان حتى يكون لا يترتب عليه ذلك الثواب الا مقيدا بإتيانه بقصد الرجاء،

ص: 44

الثواب في الصحيحة انما رتب على نفس العمل، و لا موجب لتقييدها به، لعدم المنافاة بينهما، بل لو أتى به كذلك أو التماسا للثواب الموعود، كما قيد به في بعضها الآخر، لاوتي الاجر و الثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط و انقياد، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوبا و إطاعة، فيكون وزانه وزان من سرح لحيته أو من صلى أو صام فله كذا (1) و لعله

______________________________

و على هذا ينطبق قوله: ( (بداهة ان الداعي الى العمل لا يوجب له وجها)) أي ان الداعي لا يوجب ان يكون قيدا و وجها للعمل، بحيث انما يترتب الثواب عليه فيما اذا أتى به بهذا القيد او الوجه و هو قصد الرجاء ( (و)) لا دلالة للصدر على ان قصد الثواب الواقعي كان ( (عنوانا)) لازما لا يترتب عليه شي ء إلّا ان ( (يؤتى به بذاك الوجه و العنوان)) فالاحتمال الثاني اقرب، و اللّه العالم.

(1) هذا اشارة الى الاشكال الثاني على استفادة الحكم الاستحبابي النفسي لنفس عنوان الفعل من اخبار من بلغ، و حاصله: ان هذه الصحيحة و ان دل ذيلها على ترتب الثواب على نفس عنوان العمل الكاشف عن الامر الاستحبابي المتعلق بنفس عنوان العمل، إلّا ان اخبار من بلغ ليست الصحيحة وحدها، بل هناك اخبار أخر ظاهرة على ان الثواب هو للعمل الماتي به بقصد الرجاء، كرواية محمد بن مروان المتقدمة التي كان مضمونها: من بلغه عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم ثواب على عمل فعمله التماس قول النبي كان له و ان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقله ... فان قوله عليه السّلام في هذه الرواية فعمله التماس قول النبي ظاهر في ان العمل المترتب عليه هو المأتي به بقصد الرجاء و التماس قول النبي، و هذا ظاهر في ان الثواب في المقام للانقياد و ليس لنفس العمل بعنوانه، فتكون هذه الرواية و امثالها قرينة على المراد من هذه الصحيحة ايضا، و لا بد من صرف ظهورها الى ظاهر هذه الرواية.

و حاصل ما اجاب به: هو انه لا مانع من ان يكون المستفاد من اخبار من بلغ امرين: الاتيان الانقيادي هو اتيان الفعل بقصد الرجاء و التماس قول النبي

ص: 45

.....

______________________________

الواقعي و لهذا ثواب الانقياد، و الاستحباب النفسي و هو ترتب الثواب على نفس عنوان الفعل.

و الاول يستفاد من رواية محمد بن مروان، و الثاني يستفاد من الصحيحة، و لا داعي لتقييد احدهما بالآخر.

و قد اشار الى الاشكال بقوله: ( (و اتيان العمل بداعي طلب قول النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم كما قيد به في بعض الاخبار و ان كان انقيادا)) و هي مثل رواية محمد بن مروان التي مر أنها ظاهرة في ان الثواب للعمل الماتي به التماسا لقول النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم، فكونه التماسا لقول النبي هو القيد المتقيد به العمل الذي لازمه كون الثواب في اخبار من بلغ للانقياد لا للاستحباب النفسي لنفس عنوان الفعل، و اشار الى الجواب عنه بقوله: ( (إلّا ان الثواب في الصحيحة انما رتب على نفس العمل)) كما مر بيانه، و ان لازمه الاستحباب لنفس عنوان الفعل لا الانقياد، و بعد ان كان مفادها ذلك لا داعي لحملها على مفاد رواية محمد بن مروان الظاهرة في ان الثواب للانقياد ( (و لا موجب لتقييدها به)) أي لا موجب لتقييد الصحيحة في ان ثواب العمل فيها مقيد بالالتماس و الانقياد ( (لعدم المنافاة بينهما)) أي لعدم المنافاة بين مفاد الصحيحة من الالتزام بالثواب لنفس العمل غير المقيد بالالتماس، و بين مفاد رواية محمد بن مروان الدالة على ان الثواب مقيد بالعمل بداعي الالتماس، و لا مانع من ترتب الثواب على العمل بعنوان نفسه فيكون مستحبا بذاته، و من ترتبه على العمل بداعي الالتماس فيكون الثواب انقياديا، و لذا قال (قدس سره): ( (بل لو اتى به كذلك)) أي بداعي عنوان نفس الفعل و استحبابه النفسي كما في الصحيحة ( (او)) اتى به بداعي الانقياد و ( (التماسا للثواب الموعود كما قيد به في بعضها الآخر)) و هي رواية ابن مروان، و حيث لا منافاة بينهما فلو اتى بالعمل بداعي عنوان نفسه ( (لاوتي الاجر و الثواب على نفس العمل لا بما هو احتياط و انقياد فيكشف)) ترتب الثواب على نفس عنوان العمل ( (عن كونه بنفسه)) مستحبا و ( (مطلوبا)) بنفسه ( (و)) يكون اتيانه

ص: 46

لذلك أفتى المشهور بالاستحباب (1)، فافهم و تأمل (2).

______________________________

( (اطاعة)) للاستحباب المتعلق بذاته ( (فيكون)) المستفاد من الصحيحة ( (وزانه وزان من سرح لحيته او من صلى او صام فله كذا)) فكما ان المستفاد من هذه الجمل هو استحباب تسريح اللحية و الصلاة و الصوم بعناوينها الذاتية، كذلك يكون مدلول الصحيحة المرتبة للثواب على نفس العمل في ظرف البلوغ هو استحباب نفس العمل بعنوانه.

(1) لا يخفى انه اذا كان الثواب للانقياد لا يكون عنوان العمل بنفسه مستحبا، فلا يجوز الافتاء باستحبابه، و المشهور يفتون باستحباب ما دل عليه الخبر الضعيف، فافتاؤهم كذلك يدل على أن نفس العمل عندهم هو المستحب، و يترتب على نفس اتيانه بعنوانه و الثواب، و الوجه في افتائهم كذلك لا بد و ان يكونوا قد فهموا من الصحيحة ذلك.

(2) لعله اشارة الى ان الظاهر في اخبار من بلغ هو وحدة المطلوب فيها، و انها كلها مسوقة لامر واحد، فالمستفاد منها: اما ان يكون اثبات الثواب للعمل المتقيد بالالتماس، فتكون دالة على كون الثواب انقياديا، و لا يكون نفس العمل بعنوانه مستحبا و يكون الامر فيها لو كان فهو للارشاد.

و اما ان يكون المستفاد منها ترتب الثواب على نفس العمل، فيكون نفس العمل مستحبا بعنوانه و يكون الامر فيها مولويا، فحمل بعضها على التقييد و بعضها على عدم تقييد العمل ينافي وحدة المستفاد فيها.

او يكون اشارة الى ان الصحيحة مما يمكن ان يكون ذيلها قرينة على صدرها، و قد عرفت ان التفريع فيها و كون العمل بداعي بلوغ الثواب يقتضي ان يكون المشار اليه في ذيلها- بقوله كان اجر ذلك له- هو الثواب على العمل المتقيد، لا على نفس العمل، و لا اقل من ان يكون من مصاديق احتفاف الكلام بمحتمل القرينية

ص: 47

.....

______________________________

فتكون مجملة، و تبقى الروايات الأخر كرواية محمد بن مروان ظاهرة في كون الثواب فيها انقياديا.

او يكون اشارة الى ان الصحيحة لا دلالة لها على استحباب نفس العمل اصلا، لانها قد دلت على ثبوت الثواب لمن عمل مع فرض عدم وصول اخبار من بلغ له، لبداهة دلالتها على ان من عمل بمجرد بلوغه الثواب كان له الثواب بنحو القضية الخبرية عن فرض عامل عمل كذلك، و لا اشكال في ان من عمل كذلك انما عمل للبلوغ لا للاستحباب الذاتي.

و غاية ما يمكن ان يكون مبعدا له امور ثلاثة:

الاول: ظهور صدر الصحيحة في ان الثواب على نفس العمل.

و الجواب عنه: ان العمل انما يكون محققا للانقياد، اذ لا يعقل ان يتحقق الانقياد من دون العمل، و لا وجه للاخذ بهذا الظهور بعد تقييده بان الثواب منوط باتيانه بالتماس قوله النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

الثاني: ان اخبار من بلغ اذا دلت على ترتب الثواب على الانقياد فتكون ارشادية الى ما يحكم به العقل من حسن الانقياد و ثواب الانقياد، ثواب آخر غير الثواب الخاص المقرر لنفس العمل، و اخبار من بلغ صريحة في ان الثواب الموعود به هو الثواب الخاص دون مطلق الثواب، و مع كونه هو الثواب فهو ثواب من الشارع بما هو شارع لا بما هو رئيس العقلاء، و لازم كونه من الشارع جعل ملزومه و هو الحكم الاستحبابي.

و الجواب عنه: ان كون الثواب هو الثواب الخاص لا يستلزم جعل الحكم الاستحبابي، لان ثواب الشارع على الانقياد معين واقعا، و تعيينه لا يستلزم ان يكون ثوابا منه بما هو شارع، و لما كان المكلف يأتي به برجاء ذلك الثواب الذي بلغه فتفضل الشارع عليه و اخبره ان له على انقياده عين ذلك الثواب.

ص: 48

الثالث: إنه لا يخفى أن النهي عن شي ء، إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان، بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان و لو دفعة لما امتثل أصلا، كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة (1) و لو

______________________________

الثالث: جريان البراءة و عدمها في الشبهة الموضوعية التحريميّة
اشارة

الثالث: ان الظاهر من اخبار من بلغ هو الترغيب في العمل، و لازم الترغيب في العمل كون العمل بنفسه راجحا و محبوبا، و ليس الحكم الاستحبابي الا كون العمل بذاته محبوبا و راجحا.

و الجواب عنه: ان الترغيب في العمل انما هو لانه به يتمّ الانقياد، اذ لا يعقل ان يكون المكلف منقادا من دون ان يعمل، و ليس في اخبار من بلغ ظهور في ان العمل بذاته راجح و محبوب، بل تقييد الاتيان به برجاء قول النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم ربما يدل على خلاف ذلك.

(1) لما فرغ فيما سبق من جريان البراءة و عدمها في الشبهة الحكمية التحريمية ... أشار بهذا الامر الثالث الى الكلام في جريان البراءة و عدمها في الشبهة الموضوعية التحريمية التي يكون الشك فيها لاجل الشك في الانطباق، بعد وصول الحكم المتعلق بالكلي ... و الاحتمالات في المقام ثلاثة:

- جريان البراءة في الفرد المشكوك مطلقا.

- و عدم جريانها فيه مطلقا.

- و التفضل بين كون النهي التحريمي انحلاليا بحيث ينحل الى نواه متعددة بتعدد افراد الطبيعة، كالنهي عن الخمر فانه ينحل الى نواه متعددة بتعدد افراد طبيعة الخمر المتعلقة للنهي، و بين تعلقه بمجموع اعدام الطبيعة، و الفرق بين النحو الاول و النحو و الثاني هو ان النهي على النحو الاول يكون له اطاعات و عصيانات متعددة بتعدد افراد الطبيعة، بخلافه على النحو الثاني فانه لو وجد فرد من افراد الطبيعة و لو مرة واحدة في زمان واحد او في مكان واحد لتحقق العصيان، فتكون اطاعة هذا النهي بترك المجموع، و عصيانه بفعل فرد واحد من الافراد.

ص: 49

أنحاء تعلق النهي بالطبيعة

فاذا كان النهي على النحو الاول جرت البراءة في الفرد المشكوك، و ان كان النهي على النحو الثاني لم تجر البراءة، و هذا هو مختار الماتن (قدس سره).

و توضيح هذا التفصيل يتوقف على بيان امرين:

الاول: ان المصلحة الداعية الى الامر بالشي ء، تارة تكون في كل فرد من افراد الطبيعة و لذلك يكون الطلب عموما شموليا بنحو الكل الافرادي.

و اخرى تكون المصلحة قائمة بالطبيعة، و لكن بنحو يكون بمجرد حصول الطبيعة تتحقق المصلحة الداعية و لذلك يكون الطلب عموما بدليا.

و ثالثة: تكون المصلحة قائمة في مجموع افراد الطبيعة، بحيث يكون المطلوب مجموع الافراد على نحو لو ترك واحد منها لما حصل الامتثال اصلا، و بهذا يفترق عن النحو الاول، فانه فيه لكل فرد اطاعة و عصيان، فيمكن أن تكون للطبيعة عصيان باعتبار ترك فرد منها، و اطاعة باعتبار اتيان فرد آخر منها، بخلاف النحو الثالث فان الاطاعة لا تكون الّا باتيان المجموع، و العصيان يتحقق بترك فرد واحد منها، و يسمى الطلب فيه بالكلّ المجموعي، و يفترق عن الثاني بان اطاعته منوطة باتيان الكل، بخلاف الثاني فان اطاعته منوطة باتيان فرد من افراد الطبيعة، و تركه يكون بترك الكل او بترك ما عدا واحد من الكل، بخلاف الثاني فان تركه بترك الكلّ فقط، و اتيانه باتيان فرد من الافراد.

و في قبال الطلب المتعلق بالفعل بالانحاء الثلاثة النهي المتعلق بالترك فانه ايضا على انحاء ثلاثة:

الاول: ان يكون النهي المتعلق بالترك لقيام مفسدة بكل فرد من افراد الطبيعة، بحيث يكون لكل فرد من افرد الطبيعة اطاعة و عصيان، و عليه يكون النهي المتعلق بالطبيعة منحلا الى نواه متعددة بتعدد افراد الطبيعة، و يكون النهي على هذا عاما شموليّا افراديا.

ص: 50

.....

______________________________

الثاني: ان يكون النهي المتعلق بالطبيعة لاجل قيام مفسدة بمحض وجود الطبيعة، و على هذا فلا بد و ان يكون النهي شموليا ايضا، الّا انه اذا عصى و اتى بالطبيعة سقط النهي عن الطبيعة، و حيث كان ترك الطبيعة لا يتحقق الّا بترك جميع افرادها فلذلك كان النهي شموليا.

الثالث: ان يكون النهي لاجل مصلحة قائمة بالترك بجميع افراد الطبيعة، و على هذا فالنهي ايضا لا بد و ان يكون شموليا يشمل جميع افراد الطبيعة، لوضوح ان المصلحة قائمة بجميع تروك افراد الطبيعة.

و الفرق بين الثاني و الثالث هو ان السبب في النهي الثاني هو المفسدة في وجود الطبيعة، و في الثالث هو المصلحة القائمة بالترك لجميع افراد الطبيعة، و لا فرق بينهما من ناحية سقوط النهي لو اتى بفرد من افراد الطبيعة، فانه كما يسقط النهي في الثاني لتحقق المفسدة بمجرد وجود الطبيعة كما لو نهى عن الإعماء فانه بعد تحقق طبيعة العمى لا يبقى مجال للنهي عن طبيعة العمى، كذلك يسقط النهي في الثالث حيث كان لمصلحة قائمة بجميع التروك، فانه لو اتى بفرد من افراد الطبيعة لا يعقل ان تتحقق المصلحة القائمة بجميع التروك.

الامر الثاني: ان الملاك لجريان البراءة و عدمها هو وصول النهي و عدم وصوله، و لما كان النهي في النحو الاول منحلا الى نواه متعددة فلا بد من وصول موضوع النهي حتى يكون مانعا عن جريان البراءة، فاذا تردد المائع بين كونه خمرا او غير خمر فلا مانع من جريان البراءة في هذا المائع المردد، لفرض عدم وصول النهي فيه، و قد فرضنا ان النهي ينحل الى نواه متعددة، و فرض الشك في كونه خمرا فرض عدم العلم بخمريته، الذي لازمه عدم وصول النهي عنه، فلا مانع من جريان البراءة فيه، لان لكل فرد من افراد الطبيعة نهيا خاصا متعلقا به، و لا بد من وصوله حتى يكون منجزا في حق المكلف.

فاتضح ان تعدد النهي في النحو الاول هو الملاك لجريان البراءة في الفرد المشكوك.

ص: 51

.....

______________________________

و اما النهي على النحو الثاني و الثالث، فلما كان النهي في الثاني متعلقا بمحض ترك الطبيعة المتوقف على ترك جميع افرادها، و في النحو الثالث لما كان السبب في النهي عن الفعل هو تعلق المصلحة بجميع التروك فكان المطلوب فيها في الحقيقة هو جميع التروك على نحو الكلّ المجموعي، و في كلا هذين النحوين النهي واحد و المتعلق واحد، فانه في الثاني نهي واحد تعلق بنفس وجود الطبيعة، و في الثالث نهي واحد تعلق بمجموع وجودات افرادها، و المفروض وصول هذا النهي الواحد المتعلق بمتعلق واحد، و شغل الذمة اليقيني به يستدعي الفراغ اليقيني به، فلذلك اذا كان النهي على النحو الثاني أو الثالث فلا مجال لجريان البراءة في الفرد المشكوك، فيكون المدار في جريان البراءة و عدمها هو وحدة النهي و متعلقه و تعدد النهي و متعلقه، فان تعدد النهي و لو تحليلا كان مجال لجريان البراءة، لعدم وصول النهي في مقام تردده بين الفرد المشكوك حرمته و عدمها، كالمائع المردد بين كونه خمرا او خلا، و ان لم يتعدد النهي لم يكن مجال لجريان البراءة لوصول النهي الواحد مع متعلقه، و شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني فلا بد من احراز الامتثال للنهي الواصل، و لا يحصل الاحراز إلّا بترك جميع افراد الطبيعة، اما بالقطع او بالاصل كما سنشير اليه.

و الى هذا التفصيل اشار بقوله: ( (الثالث انه لا يخفى ان النهي عن شي ء اذا كان بمعنى طلب تركه في زمان او مكان بحيث لو وجد في ذاك الزمان او المكان و لو دفعة)) واحدة ( (لما امتثل)) النهي ( (اصلا)) و ذلك في ما لو كان النهي عن مفسدة في محض وجود الطبيعة كالقتل او العمى، او كان لمصلحة في جميع تروك افراد الطبيعة، فانه لو كان عن مفسدة في وجود محض الطبيعة و وجدت الطبيعة بوجود فرد من افرادها لتحققت المفسدة و حصل العصيان، و كذا فيما كان لمصلحة في جميع تروك افرادها، فانه لو وجد فرد واحد منها لما تحققت المصلحة المترتبة على جميع التروك، و على هذا فحيث وصل النهي الواحد المتعلق بشي ء واحد- هو اما محض الطبيعة أو جميع افرادها على نحو الكل المجموعي، فان الكل المجموعي واحد ايضا كمحض

ص: 52

بالاصل، فلا يجوز الاتيان بشي ء يشك معه في تركه، إلا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الاتيان به.

نعم، لو كان بمعنى طلب تركه كل فرد منه على حدة، لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد، و حيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة (1).

______________________________

وجود الطبيعة- فلا بد من امتثاله بترك الجميع، لان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، و لذلك ( (كان اللازم على المكلف احراز انه تركه بالمرة)) ليحصل به احراز الامتثال و احراز انه تركه بالمرة، اما ان يكون بالقطع او يكون بالاصل.

(1) توضيحه: ان الامتثال للامر او النهي كما يحرز بالقطع، كذلك يحرز بالاصل، فانه لو امر المولى بشي ء فكما يحرز امتثاله بالقطع باتيانه، كذلك يحرز امتثاله بالاصل كما لو اتى بالواجب و شك في بطلانه لوجود القاطع، فانه يحرز بالاصل استمرار بقاء الامتثال و عدم بطلان ما اتى به، و مثله النهي المتعلق بشي ء واحد، فانه تارة يحرز امتثاله بالقطع بترك جميع افراد الطبيعة قطعا، و اخرى يحرز امتثاله بالاصل و استصحاب انه كان تاركا له فيما اذا شك في ذلك عند ارتكابه للفرد المشكوك، فانه بعد ان كان تاركا له في حال توجه النهي له فيستصحب ذلك و به يحرز استمرار بقائه على الترك لجميع افراد الطبيعة، مثلا لو كان النهي المتعلق بالخمر من قبيل النحو الثاني أو الثالث لا من قبيل النهي الانحلالي، و كان المكلف في حال بلوغه تاركا لشرب الخمر، ثم ارتكب شرب المائع المردد بين الخمر و الخل، فانه و ان شك في بقاء الامتثال لاحتمال كون ما شربه خمرا، إلّا انه بواسطة استصحابه لترك شرب الخمر المتيقن له قبل بلوغه و في زمان بلوغه الى ما بعد ارتكابه لشرب المائع المردد، فباستصحابه ذلك الترك يثبت ان تركه مستمر و باق الى هذا الزمان، و بواسطة هذا الاستصحاب يحرز بقاؤه على الامتثال و انه لا مؤاخذة عليه في شرب هذا المردد، اما اذا كان مشتغلا بشرب الخمر في حال توجه النهي بفرض انه في اول زمان بلوغه كان

ص: 53

فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شي ء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة، فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة، أو كان الشي ء مسبوقا بالترك، و إلا لوجب الاجتناب عنها عقلا

______________________________

مشغولا بشرب الخمر و لو كان ذلك لعذر، إلّا انه لما كان قد انتقض يقينه بترك شرب الخمر فلا يمكنه استصحاب تركه للخمر، و على هذا الفرض لا يجوز له شرب المائع المردد، لما عرفت من لزوم احرازه لترك شرب الخمر، و حيث لا اصل عنده يحرز له ذلك، فلا بد من ان يكون احرازه لامتثاله لترك الخمر منحصرا في احرازه بالقطع، و مع شرب المائع المردد لا يكون محرزا لذلك، لفرض احتماله لكون ما شربه خمرا، و لا مناص له من احراز امتثال هذا النهي الواصل اليه المتعلق بشي ء واحد غير منحل الى نواه متعددة.

و الى الاحراز بالاصل اشار بقوله: ( (فلا يجوز الاتيان بشي ء يشك معه)) أي يشك مع الاتيان به ( (في تركه)) لامتثال النهي الواصل اليه ( (إلّا اذا كان مسبوقا به)) أي مسبوقا بالترك له، فانه اذا كان كذلك جاز له الاتيان بشي ء يشك مع الاتيان به في الامتثال، لانه يمكنه ان يحرز استمرار امتثاله باستصحاب الترك المتيقن سابقا، فيعتمد على هذا اليقين ( (ليستصحب)) بقاؤه على استمرار الترك ( (مع الاتيان به)) أي مع الاتيان للفرد المشكوك.

ثم اشار الى جريان البراءة فيما اذا كان النهي انحلاليا، لما عرفت من عدم الوصول في فرض الانحلال بقوله: ( (نعم لو كان النهي بمعنى طلب ترك كل فرد منه)) أي من متعلق النهي ( (على حدة)) فيكون النهي منحلا الى نواه متعددة بمقدار افراد المتعلق للنهي ( (لما وجب الا ترك ما علم انه فرد)) لذلك المتعلق، لوضوح انه لا يعلم بوصول النهي الا حيث يصل متعلقه، و لذا قال (قدس سره): ( (و حيث لم يعلم تعلق النهي إلّا بما علم انه مصداقه فاصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة)).

ص: 54

لتحصيل الفراغ قطعا، فكما يجب فيما علم وجوب شي ء إحراز إتيانه إطاعة لامره، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه و عدم إتيانه امتثالا لنهيه. غاية الامر كما يحرز وجود الواجب بالاصل، كذلك يحرز ترك الحرام به (1)، و الفرد المشتبه و إن كان مقتضى أصالة البراءة جواز

______________________________

(1) هذا بيان لما اختاره من التفصيل في المشتبه من افراد الشبهة الموضوعية التحريمية، من انه لا يجب الاجتناب عن مطلق المشتبه في الشبهة الموضوعية التحريمية و ان علم بالحكم الكلي، و تجري البراءة في النهي المتعلق بالطبيعة الكلية اذا كان النهي انحلاليا، و فيما لم يكن انحلاليا فلا مجرى للبراءة مطلقا، و يجري الاستصحاب في خصوص ما كان مسبوقا بالترك كما مر بيانه، و الى هذا اشار بقوله: ( (فانقدح بذلك ان مجرد العلم بتحريم شي ء)) و ان كان واصلا بما هو متعلق بكلي الطبيعة إلّا انه ( (لا يوجب لزوم الاجتناب عن افراده المشتبهة فيما كان المطلوب بالنهي)) انحلاليا ينحل الى ( (طلب ترك كل فرد على حدة)) فانه فيه تجري البراءة كما عرفت، و كذلك فيما لم يكن انحلاليا بان كان متعلق النهي شيئا واحدا، و لكنه كان مسبوقا بالترك فيجري الاستصحاب دون البراءة و ان اتفقا في نتيجة الامر بجواز ارتكاب الفرد المشتبه، و اليه اشار بقوله: ( (او كان الشي ء مسبوقا بالترك)) و اما في عدا ذلك بان كان متعلق النهي شيئا واحدا لا متعددا و لم يكن هناك استصحاب، فيجب الاجتناب عن الفرد المشتبه، و لا تجري البراءة العقلية لان شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، و الى هذا اشار بقوله: ( (و إلّا لوجب الاجتناب عنها)) أي عن الافراد المشتبه ( (عقلا)) و من هذا يظهر ان كلام المصنف في جريان البراءة العقلية فلا ينبغي الايراد عليه بانه سيأتي منه في باب الاشتغال جريان البراءة النقلية.

ثم اشار الى الوجه في لزوم الاجتناب في الفرض المذكور بقوله: ( (لتحصيل الفراغ قطعا)) و ان الحال في النهي كالحال في الامر ( (فكما يجب فيما علم وجوب شي ء احراز اتيانه)) لوصوله بالعلم به فيجب على المكلف احراز الامتثال ( (اطاعة

ص: 55

الاقتحام فيه، إلا أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه، و لا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا، فتفطن (1).

______________________________

لامره فكذلك يجب فيما علم حرمته احراز)) الامتثال للنهي في ( (تركه)) لمتعلق النهي ( (و)) يلزمه ( (عدم اتيانه)) لما تعلق به ( (امتثالا لنهيه)).

و اشار الى أن الاحراز كما يكون في الواجب بالقطع و بالاصل، كذلك هو في النهي فانه كما يكون بالقطع يكون بالاصل بقوله: ( (غاية الامر كما يحرز وجود الواجب بالاصل كذلك يحرز ترك الحرام به)) أي كذلك يحرز ترك الحرام بالاصل ايضا.

(1) يشير الى ما يمكن ان يقال انه في الفرد المشتبه حيث لم يعلم النهي عنه و لم تعلم حرمته بخصوصه فيكون من مصاديق ما لا بيان فيه، و تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ... فاشار الى الجواب عنه بما حاصله: ان الفرد المشتبه و ان كان مما لم يصل البيان فيه بخصوصه إلّا انه لا تجري فيه قاعدة البراءة العقلية، لتوقف امتثال ما وصل البيان فيه- و هو النهي الواصل المتعلق بالطبيعة الواحدة غير المنحل الى نواه متعددة- على ترك الفرد المشتبه، لانه بارتكابه لا يكون محرزا لامتثال ذلك النهي الواصل، و المفروض وجوب امتثاله، و لذا قال (قدس سره): ( (و الفرد المشتبه و ان كان مقتضى اصالة البراءة جواز الاقتحام فيه)) لانه لم يصل البيان فيه بخصوصه ( (إلّا)) انها لا تجري فيه لتوقف امتثال ما وصل البيان فيه على ترك الفرد المشتبه، لوضوح ( (ان قضية لزوم احراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه)) لوضوح تعلق النهي بمحض وجود الطبيعة او بجميع افرادها، و لا بد من احراز امتثاله ( (و لا يكاد يحرز)) امتثال ذلك النهي الواحد المتعلق بشي ء واحد المفروض وصوله ( (إلّا بترك المشتبه ايضا)) لبداهة انه مع الارتكاب للفرد المشتبه لا يحرز امتثال ذلك النهي، فاحراز الامتثال له كما يتوقف على ترك ما علم حرمته كذلك يتوقف على ترك ما اشتبهت حرمته.

ص: 56

الرابع: إنه قد عرفت حسن احتياط عقلا و نقلا، و لا يخفى أنه مطلقا كذلك، حتى فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة، أو أمارة معتبرة على أنه ليس فردا للواجب أو الحرام (1)، ما لم يخلّ بالنظام فعلا، فالاحتياط قبل ذلك مطلقا يقع حسنا، كان في الامور المهمة كالدماء و الفروج أو غيرها، و كان احتمال التكليف قويا أو ضعيفا، كانت الحجة على خلافه أو لا، كما أن الاحتياط الموجب لذلك

______________________________

الرابع: حسن الاحتياط ما لم يلزم منه اختلال النظام

(1) قد عرفت في الامر الثاني حسن الاحتياط عقلا فيما لم يصل من الشارع فيه شي ء و احتمل ذلك، و في هذا الامر الرابع اراد التنبيه على حسن الاحتياط مطلقا ما لم يلزم منه الاختلال بالنظام.

و لا يخفى ان المراد من حسن الاحتياط نقلا هو ورود الامر الارشادي فيه من الشارع، لوضوح ان لازم الامر المولوي فيه هو حكم الشارع بالاحتياط، لا مجرد كونه حسنا عند الشارع، فكونه حسنا عند الشارع فقط لا بد و ان يكون امر به بما هو حسن، و معنى ذلك هو كون امره به ارشاديا، و المراد من الاطلاق في حسن الاحتياط هو حسنه حتى فيما قام الدليل الشرعي على عدم وجوبه او عدم حرمته، سواء في الحكم الكلي كما ورد في انه لا حرمة في الربا في ما يباع بالعدّ لا بالكيل او الوزن، او قامت الامارة المعتبرة شرعا على ان الفرد المشكوك ليس من الحرام او الواجب، كما لو قامت البينة على ان المشكوك ليس من افراد الحرام او افراد الواجب، و الى هذين الفرضين اشار بقوله: ( (فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب او الحرمة)) كما مرّ مثاله في رفع الحرمة في الحكم الكلي في عدم حرمة الربا في المعدود ( (او)) فيما قامت ( (امارة معتبرة)) كالبينة القائمة في الفرد المشتبه ( (على انه ليس فردا للواجب او الحرام)) فانه في هذين الفرضين و ان قامت الحجة على عدم الحرمة إلّا ان الاحتياط فيه حسن عقلا و نقلا.

ص: 57

لا يكون حسنا كذلك (1)، و إن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الامر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا (2)،

______________________________

(1) لا يخفى ان ما يوجب الاختلال بالنظام قبيح ارتكابه عقلا، و ما كان قبيحا عند العقل لا يعقل ان يحكم العقل بحسنه، فخروج ما يخلّ بالنظام عن حسن الاحتياط خروج موضوعي لانه من افراد القبيح، و لذلك قال (قدس سره): ( (ما لم يخل بالنظام فعلا)).

و لا يخفى ان الاحتياط تارة يكون في الجمع بين محتملات التكليف الواحد، كما لو تردد الخمر بين آنية كثيرة او يكون بعضها خارجا عن محل الابتلاء، و اخرى يكون في مقام الجمع بين تكاليف متعددة المتعلق، و هو حسن في كلا الفرضين، إلّا ان يلزم منه الاختلال بالنظام، و اذا لزم منه الاختلال لا يكون حسنا بل يكون قبيحا، و مما ينبغي ان يعلم ان الاحتياط لما كان في الجمع بين المحتملات سواء لتكليف واحد او لتكاليف متعددة، فلزوم الاختلال بالنظام انما يلزم في الجمع بين جميعها، اما الاحتياط في بعضها بمقدار لا يلزم منه الاختلال فهو باق على حسنه العقلي او النقلي، و الى هذا اشار بقوله: ( (فالاحتياط قبل ذلك مطلقا يقع حسنا)) ثم اشار الى وجه الاطلاق بقوله: ( (كان في الامور المهمة كالدماء و الفروج او غيرها و)) سواء ( (كان احتمال التكليف قويا او ضعيفا)) و سواء ( (كانت الحجة)) قائمة ( (على خلافه)) أي على الترخيص الذي هو خلاف الاحتياط ( (اولا)) ففي هذه الموارد كلها المفروض فيها عدم حصول الاختلال من الاحتياط فيها فان الاحتياط فيها يكون حسنا عقلا و نقلا، كما ان المقدار الموجب لاختلال النظام لا يكون الاحتياط فيه حسنا، بل يكون قبيحا، و لذا قال (قدس سره): ( (كما ان الاحتياط الموجب لذلك)) أي للاختلال في النظام ( (لا يكون حسنا كذلك)) أي لا يكون حسنا لا عقلا و لا نقلا.

(2) حاصله: انه حيث كان المفروض لزوم الاختلال في النظام من الاحتياط التام في جميع محتملات التكليف الواحد و في جميع موارد التكاليف فيكون الاحتياط التام

ص: 58

فافهم (1).

______________________________

قبيحا لا حسنا، و بمقدار لا يلزم منه الاختلال فهو باق على حسنه، ففي مقام الاحتياط في موارد التكاليف المتعددة اذا التفت المكلف الى ان الاحتياط التام في جميعها يلزم منه الاختلال و أراد ان يحتاط فيما لا يلزم منه الاختلال، فينبغي له ان يقدم الاحتياط في الموارد المهمة على غيرها، و الاحتياط في احتمالات التكاليف القوية كالمظنونة على المحتملات غير المظنونة، و الاحتياط فيما لم تقم الحجة الخاصة فيه على الترخيص على غيره، لوضوح ان هذه الموارد ارجح في اعمال الاحتياط فيها من غيرها، و الى هذا اشار بقوله: ( (و ان كان الراجح لمن التفت الى ذلك)) أي الى لزوم الاختلال من الاحتياط في الكل، و إلى ان بعضها ارجح من غيره، ففي مقام اعمال الاحتياط ينبغي له ( (من اول الامر ترجيح بعض الاحتياطات)) على البعض الآخر، فيقدم ما هو اقوى ( (احتمالا)) كالقوي على الضعيف ( (او)) ما هو اقوى ( (محتملا)) كالفروج و الدماء على غيرها.

(1) لعله اشارة الى ما يمكن ان يقال: ان الاحتياط قبل الاخلال يكون حسنا، و بعده لا يكون حسنا، فهو في مقام الاحتياط في التكاليف المحتملة المتعددة لا في محتملات التكليف الواحد، فانه مبنى على جواز التفكيك بين الموافقة القطعيّة و المخالفة القطعية.

و لا يمكن ان يقال ان امكان التفكيك و عدم امكانه انما هو في الاحتياط اللازم، و اما الاحتياط لاجل احتمال التكليف فلا مانع من كونه حسنا و ان كان في بعض محتملات التكليف الواحد لكفاية احتمال التكليف في حسنه، لوضوح ان الاحتياط في محتملات التكليف الواحد قبل الاخلال ليس باحتياط، لان الاحتياط هو انه اذا كان هناك شي ء فلا بد من اصابته، و في محتملات التكليف الواحد لا يكون ذلك إلّا باتيان الجميع، و المفروض عدم حسنه لاخلاله بالنظام.

ص: 59

فصل فى اصالة التخيير

الوجوه و الأقوال في المسألة

إذا دار الامر بين وجوب شي ء و حرمته، لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا (1)، ففيه وجوه: الحكم بالبراءة عقلا و نقلا لعموم النقل، و حكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به، و وجوب الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا، و التخيير بين الترك و الفعل عقلا، مع التوقف عن الحكم به رأسا، أو مع الحكم عليه بالاباحة شرعا، أوجهها الاخير (2)، لعدم الترجيح بين

______________________________

دوران الأمر بين المحذورين

(1) دوران الامر بين وجوب الشي ء و حرمته منوط بامرين:

الاول: العلم اجمالا بان الحكم الواقعي يدور بينهما، و لا مجال فيه لبقية اقسام الحكم من الاستحباب و الكراهة و الاباحة الواقعية.

الثاني: عدم نهوض الحجة على احدهما بخصوصه، كما اذا اختلفت الامة في المسألة على قولين، قول فيه بالوجوب، و قول آخر بالحرمة، فبناء على ان اختلاف الامة على قولين يوجب نفي الثالث، فيعلم اجمالا بان الواقع يدور بينهما، و حيث فرض اختلاف الامة على قولين فلا تكون الحجة في المقام ناهضة على خصوص احدهما بعينه لا غير و قد اشار الى الامر الثاني بقوله: ( (لعدم نهوض حجة على احدهما بخصوصه)) و اشار الى الامر الاول بقوله: ( (بعد نهوضها)) أي بعد نهوض الحجة ( (عليه اجمالا)) أي على الدوران بين الوجوب و الحرمة و ان الحكم الواقعي هو احدهما لا غير.

(2) الوجوه في هذه المسألة التي اشار اليها في المتن خمسة:

الاول: الحكم فيه بالبراءة عقلا و نقلا، اما عقلا فلعدم المانع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيه، و اما نقلا فلعدم المانع من شمول ادلة البراءة النقلية كمثل ما لا يعلمون و دليل الاباحة مثل قوله عليه السّلام: (كل شي ء لك حلال ... و إلى هذا اشار بقوله: ( (الحكم بالبراءة عقلا و نقلا ... الى آخر الجملة)).

ص: 60

الفعل و الترك، و شمول مثل كل شي ء لك حلال حتى تعرف أنه حرام له (1)،

______________________________

مختار المصنف (قده) في المسألة

الثاني: الاخذ باحدهما تعيينا و هو الحرمة لترجيحها على الوجوب، و عدم احتمال ترجيح الوجوب عليها، و اليه اشار بقوله: ( (و وجوب الاخذ باحدهما تعيينا)).

الثالث: الاخذ باحدهما تخييرا بان يأخذ اما بالفعل فلا يكون له الاخذ بالترك أو يأخذ بالترك فلا يكون له الاخذ بالفعل، و الى هذا اشار بقوله: ( (او تخييرا)).

الرابع: التخيير بين الفعل و الترك عقلا. و الفرق بينه و بين الثالث انه على الرابع له ان يفعل و ان يترك أي لا يكون له الاخذ بالفعل و الترك معا، فان شاء فعل و ان شاء ترك، و لكن ذلك من ناحية حكم العقل في المقام، و اما من ناحية الحكم الشرعي فهو التوقف فليس له الافتاء بالاباحة الشرعية، و الى هذا اشار بقوله:

( (و التخيير بين الترك و الفعل عقلا مع التوقف عن الحكم)) الشرعي ( (به رأسا)).

الخامس: التخيير بين الفعل و الترك عقلا مع الحكم فيه بالاباحة شرعا، و اليه اشار بقوله: ( (او مع الحكم عليه بالاباحة شرعا)) أي مع التخيير فيه بين الفعل و الترك عقلا الحكم عليه ايضا بالاباحة شرعا.

و لا يخفى الفرق ايضا بين القول الاخير و القول الاول و هو البراءة عقلا و نقلا، لما سيأتي الاشارة اليه من عدم جريان البراءة العقلية، و ان الحكم العقلي بالتخيير بين الفعل و الترك لا من جهة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

و مختار المصنف هو الاخير و اليه اشار بقوله: ( (أوجهها الاخير)).

(1) لا يخفى ان مختار المصنف مركب من جزءين: الجزء الاول هو التخيير عقلا بين الفعل و الترك، و الدليل عليه هو انه بعد قيام الحجة على الفعل و على الترك فهما متنافيان لا يمكن العمل بهما بما هو عمل بالحجة، و لا مرجح لاحدهما على الآخر، فلا تأثير للحجتين و ان تم البيان فيهما لفرض فعليتهما، فالعقل يرى عدم المانع عن الفعل و عن الترك لا من جهة عدم البيان الفعلي، بل من جهة عدم منجزيتهما و عدم

ص: 61

و لا مانع عنه عقلا و لا نقلا (1).

______________________________

الموانع المتوهّمة عن شمول دليل الاباحة للمقام

الترجيح لاحدهما، فلا مانع يراه العقل من ارتكاب الفعل او الترك، و هو غير حكمه بجواز الارتكاب لقاعدة قبح العقاب بلا بيان لفرض تحقق البيان هنا، غايته انه بيان لا يمكن ان يؤثر، و سيأتي لهذا مزيد بيان ان شاء اللّه تعالى عند تعرض المصنف لعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في المقام، و الى هذا اشار بقوله:

( (لعدم الترجيح بين الفعل و الترك)).

و الجزء الثاني هو الحكم بالاباحة شرعا لان المقام مما يشمله قوله عليه السّلام: (كل شي ء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه) بناء على ما مرّ منه: من استظهار شموله للشبهة الحكمية و لا اختصاص لها بالشبهة الموضوعية ... و بناء على ما مرّ منه ايضا من شموله لمشكوك الوجوب كمشكوك الحرمة ... و بناء ايضا على ان المراد من الغاية و هي حتى تعرف انه حرام بعينه هي المعرفة الموجبة للتنجّز، و بعد تمامية هذه الامور الثلاثة فهي تشمل المقام مما دار الامر فيه بين الوجوب و الحرمة لعدم معرفة انه حرام بعينه.

(1) الموانع المتوهّمة عن شمول دليل الاباحة للمقام اما عقلية او نقلية، اما العقلية:

فمنها: انه لما كان المقام هو دوران الامر بين وجوب الفعل و حرمته، فاذا كان واجبا كان الفعل لازما، و اذا كان حراما كان العدم لازما، و حيث ان الشخص لا يخلو عن فعل الشي ء او تركه فهو مضطر الى احدهما، و مع الاضطرار الى احدهما فلا مجال لجعل الاباحة شرعا، للغوية ذلك، و عدم فائدته بعد ان كان المقام مما يضطر اليه.

و الجواب عنه: ان الاضطرار المانع عن الحكم حتى حكم الاباحة هو الاضطرار السالب للقدرة، و من الواضح ان الشخص و ان كان مما لا مناص له من ان يفعل او يترك، الّا انه يفعل بالقدرة و الارادة و يترك بالقدرة و الارادة، و دليل الاباحة جار في الفعل من جهتين: من جهة احتمال وجوبه، و من جهة احتمال حرمته، ففي مقام

ص: 62

و قد عرفت أنه لا يجب موافقة الاحكام التزاما، و لو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا، و الالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا (1)، و قياسه

______________________________

جريانه من جهة احتمال الوجوب لا يكون الشخص مضطرا من ناحية فعل ذلك الشي ء حتى يكون الترخيص لغوا، و في مقام جريانه من ناحية احتمال الحرمة لا يكون مضطرا الى الترك حتى يكون الترخيص في الترك لغوا ايضا.

و منها: ان الحكم بالاباحة انما يكون في مقام يمكن للشارع ان يحكم فيه بالاحتياط، و من الواضح انه لا يمكن ان يحكم الشارع في المقام بالاحتياط، لعدم امكان الاحتياط فيما دار الامر فيه بين الوجوب و الحرمة.

و الجواب عنه: ان الحكم بالاباحة شرعا لا يختص بان يكون مما يجوز ان يحكم الشارع فيه بالاحتياط، بل الشرط فيه امكان الجعل التعبدي فيه لغير الحكم بالاباحة، و من الواضح انه يمكن التعبد الشرعي بان يجعل الشارع في المقام لزوم الفعل او لزوم الترك.

و منها: ما اشار اليه في المتن من مانعية لزوم الموافقة الالتزامية، و سيأتي بيانه و الجواب عنه.

(1) لا يخفى ان الكلام في وجوب الموافقة الالتزامية من ناحيتين:

الاولى: انه هل للحكم موافقتان: موافقة جوارحيّة، و موافقة جنانيّة و هي الالتزام بالحكم جنانا؟ .. و قد مرّ الكلام فيها في مباحث القطع.

الثانية: في ان الموافقة الالتزامية- على القول بها- هل تمنع عن جريان الاصول ام لا؟ و هذه الناحية هي المربوطة بمقامنا، و قد مرّ الكلام ايضا فيها في مباحث القطع، و بعد تعرّض المصنف لذكر وجوب الموافقة الالتزامية في المقام من حيث كونه مانعا عن جريان اصالة الاباحة في ما دار الامر فيه بين الوجوب و الحرمة، فلا بد من التعرّض لما يمكن من تقريبه و الجواب عنه ..

ص: 63

.....

______________________________

اما تقريبه فنقول: ان الالتزام في المقام اما باحد الحكمين تعينيا او تخييرا او الالتزام بالجامع و هو الالزام لان الحكم الواقعي اما وجوب او حرمة، و على كل من هذه الاحتمالات فلا يمكن جعل الاباحة في مورده لمنافاة الحكم فيه بالاباحة لما التزم به جنانا على كل حال، و هو واضح لان الحكم الملتزم به الزامي في هذه الصور الثلاث كلها.

و الجواب عنه اولا: بانه قد قد مر في مباحث القطع انه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزامية لا من العقل و لا من الشرع، و انه ليس هناك امتثالان امتثال خارجي و امتثال جناني.

و ثانيا: ان الالتزام على فرض تسليم وجوبه، فهو انما يجب حيث يمكن الالتزام بالحكم المعلوم تفصيلا، اما اذا لم يعلم به تفصيلا فالالتزام فيه بعنوان كونه واجبا او بعنوان كونه محرما اما تعيينا او تخييرا لا دليل عليه اولا، و ثانيا انه مستلزم للتشريع لفرض عدم معلومية الحكم الواقعي المعلوم اجمالا، و اما الالتزام بالالزام الجامع فباطل ايضا، لوضوح ان الالزام الموجود في المقام لم يكن حكما بما هو الزام و جنس، لعدم تحققه بما هو جنس، بل هو متحقق في ضمن احد فصليه اما في ضمن الوجوب او في ضمن الحرمة، فالالتزام بالالزام بحده الجنسي ليس من الالتزام بالحكم في المقام.

نعم الالتزام الممكن في المقام هو الالتزام بما هو حكم اللّه واقعا بهذا العنوان بنحو الاشارة اليه بهذا المقدار اجمالا، و الالتزام بالحكم بهذا العنوان لا ينافي جعل الاباحة فيه ظاهرا.

فان قلت: ان الحكم الواقعي في المقام إما وجوب او حرمة فالالتزام فيه و لو بنحو ما ذكر ينافي جعل الاباحة ظاهرا.

فانا نقول: انه لا منافاة بين الالتزام بالحكم الواقعي غير المؤثر و هو باق على واقعيته من دون ان يكون منجزا، و بين جعل الاباحة ظاهرا، و قد اشار الى عدم

ص: 64

بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة و الآخر على الوجوب (1) باطل، فإن التخيير بينهما على تقدير كون الاخبار حجة من باب السببية

______________________________

وجوب الموافقة الالتزامية حتى تكون مانعا عن قاعدة الحل في المقام بقوله: ( (و قد عرفت)) في مباحث القطع ( (انه لا يجب موافقة الاحكام التزاما)).

و اشار الى انه لو سلمنا وجوبها لكان اللازم الالتزام بالحكم اجمالا و بما هو حكم اللّه واقعا، و هذا الالتزام لا يمنع عن جريان هذا الاصل في المقام بقوله: ( (و لو وجب)) الالتزام بالاحكام جنانا ( (لكان هو الالتزام اجمالا بما هو الواقع)) و ( (معه)) أي مع هذا الالتزام الاجمالي كان شمول كل شي ء للمقام ( (ممكنا)) لما عرفت من عدم المنافاة بين الالتزام الاجمالي و جريان قاعدة الحل في المقام.

و اشار الى ان الالتزام التفصيلي باحدهما تشريع اولا، و ثانيا انه لا دليل على وجوبه في المقام لفرض عدم معلومية الحكم تفصيلا بقوله: ( (و الالتزام التفصيلي باحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا)).

(1) لما اشار الى عدم المانع العقلي عن جريان القاعدة من ناحية وجوب الموافقة، اشار الى عدم المانع نقلا.

و توضيحه: ان قياس المقام بتعارض الخبرين الدال احدهما على الوجوب و الآخر على الحرمة: تارة لان يكون القياس بالخبرين هو المدرك للاخذ باحدهما بخصوصه في المقام تخييرا، و مع كون الواجب هو الاخذ باحدهما لا وجه للقول الخامس و هو التخيير بين الفعل و الترك عقلا و جريان قاعدة الحل نقلا.

و اخرى: ان يكون القياس لاجل وجوب الالتزام باحدهما بخصوصه، و مع وجوب الالتزام باحدهما بخصوصه لا يكون مجال لجريان قاعدة الحل في المقام.

و على كل فبطلان قياس المقام بتعارض الخبرين الدال احدهما على الوجوب و الآخر على الحرمة ينفي الامرين معا، و ان كان ظاهر المصنف في المتن هو الكلام من الناحية الثانية.

ص: 65

يكون على القاعدة، و من جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين، و على تقدير أنها من باب الطريقية فإنه و إن كان على خلاف القاعدة، إلا أن أحدهما- تعيينا أو تخييرا- حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الاصابة مع اجتماع سائر الشرائط، صار حجة في هذه الصورة بأدلة الترجيح تعيينا، أو التخيير تخييرا، و أين ذلك مما إذا لم يكن

______________________________

و حاصله: ان التكليف الواقعي و ان كان لا يقتضي الالتزام التخييري بينه و بين الالتزام بضده، لوضوح ان كل حكم يقتضي الالتزام به بنفسه لا التخيير بين الالتزام به او بضده، و كذلك فيما كان الدال على وجوب الالتزام هو الدليل الخارجي الدال على وجوب الالتزام بالاحكام، فانه انما يدل على وجوب الالتزام بالاحكام بعناوينها المختصة بها، و لا دلالة على الالتزام تخييرا بين عنوان الحكم و بين عنوان الحكم الآخر.

إلّا انه لما دل الدليل في تعارض الخبرين على لزوم الاخذ باحدهما تخييرا فيجب الالتزام بمؤدى الخبر الذي يختاره المكلف.

و الملاك في تعارض الخبرين موجود في المقام لان الملاك في التخيير في تعارض الخبرين: اما لمراعاة الحكم الظاهري الدال عليه الخبران و ان لا يترك كلا الحكمين الظاهرين، فالمقام اولى لانه من دوران الامر بين الحكمين الواقعيين.

و اما لان الملاك في التخيير بين الخبرين المتعارضين هو لاجل احداث الخبرين لاحتمال الحكم الواقعي، و هنا اولى ايضا لوضوح العلم في المقام بان الواقع يدور بين الاحتمالين من الوجوب و الحرمة، فالملاك للتخيير بين الخبرين موجود في المقام، و مع تحقق الملاك لا بد في المقام من الاخذ باحد الامرين، و مع الاخذ به فهو الذي يجب الالتزام به، و لا مجال حينئذ لجريان قاعدة الحل في المقام، و الى ما ذكرنا اشار بقوله ( (و قياسه)) أي قياس المقام ( (بتعارض الخبرين الدال احدهما على الحرمة و الآخر على الوجوب)).

ص: 66

المطلوب إلا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا؟ و هو حاصل، و الاخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل (1).

______________________________

(1) و حاصله: ان قياس المقام بالخبرين باطل، لان حجية الاخبار اما من باب السببية و الموضوعية، و يكون قيام الخبر على حكم موجبا لكونه هو الحكم الواقعي، و لازم ذلك كون التعارض بين الخبرين يكون من قبيل المتزاحمين، و عليه فيكون التخيير في الخبرين المتعارضين على القاعدة، لان كل واحد من الخبرين قد اقتضى ان يكون مؤداه حكما واقعيا، و حيث لا يمكن الجمع بينهما فلا بد من التخيير بينهما.

و قد اتضح مما ذكرنا بطلان قياس المقام بالخبرين المتعارضين على السببية، لان المفروض في المقام كون الحكم الواقعي هو احد الحكمين لا كلاهما، فلا وجه لقياس ما كان الحكم الواقعي احدهما بما كان الحكم الواقعي كليهما، و الى هذا اشار بقوله:

( (فان التخيير بينهما)) أي بين الخبرين الدال احدهما على الوجوب و الآخر على الحرمة ( (على تقدير كون الاخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة)) اذ بعد ان كان مؤدى كل واحد منهما حكما واقعيا، و لا يمكن الجمع بينهما لتزاحمها، و لا يجوز تركهما لانه من ترك الواجب قطعا، فلا بد من التخيير بينهما و يكون ذلك ( (من جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين)) و لا يصح قياس المقام به لان الحكم الواقعي فيه واحد كما عرفت.

و اما بناء على الحجية في الامارات من باب الطريقية بغرض ايصال الواقع: أي ان المصلحة الواقعية الداعية لجعل الحكم واقعا هي الداعية ايضا لايصال الحكم من حيث لا علم به، فالقاعدة الاولى في الخبرين المتعارضين هو التساقط، لانهما ليسا من المتزاحمين بل هما متكاذبان، لان مصلحة الحكم الواقعي المنبعث عنها جعل الامارة واحدة، و الحكم الواقعي الذي كان جعل الخبر لغرض ايصاله واحد ايضا، فلذلك كان الخبران المتعارضان متكاذبين لا متزاحمين، و مع العلم بكذب احدهما فالقاعدة تقتضي التساقط، فالاخذ باحدهما تعيينا او تخييرا على خلاف القاعدة،

ص: 67

.....

______________________________

هذه هي القاعدة الاولى في الخبرين المتعارضين على الطريقية، و الى هذا اشار بقوله:

( (و على تقدير انها من باب الطريقية فانه و ان كان)) الاخذ باحدهما ( (على خلاف القاعدة)) لانهما ليسا من المتزاحمين بل هما من المتكاذبين.

و اما في الاخذ باحدهما تعيينا فيما اذا كان احدهما ارجح كما تدل عليه ادلة الترجيح، أو الاخذ باحدهما تخييرا كما تقتضيه ادلة التخيير و هي القاعدة الثانية الواردة في خصوص الخبرين المتعارضين، فالوجه فيه هو ان الملاك في الخبر هو احتمال اصابته الواقع، فكون الطريق الخبري محتمل الاصابة هو الملاك لجعل الخبر بما له من الشرائط حجة، و هذا الملاك مفقود في المقام اذ ليس في المقام طريق فيه احتمال الاصابة، بل ليس في المقام الا مجرد احتمال كون الحكم الواقعي هو احد الحكمين من الوجوب و الحرمة، فلا وجه للقياس ايضا بناء على الطريقية في الخبرين، لان القاعدة الاولى فيها هو التساقط دون التخيير حتى يقاس المقام بهما، و الملاك في القاعدة الثانية في الخبرين هو احتمال اصابة الخبر للواقع و هو مفقود ايضا، لانه ليس في المقام الا مجرد احتمال الواقع، و ليس هنا طريق محتمل الاصابة حتى يكون للقياس فيه مجال.

فاتضح انه لا يصح قياس المقام بالخبرين المتعارضين بناء على السببية و على الطريقية، فالقياس على كل حال باطل، فلا يجب الالتزام باحد الحكمين بخصوصه في المقام كما يجب الالتزام بمؤدى احد الخبرين بخصوصه حتى يكون مانعا عن شمول قاعدة الحل في المقام، و انما الواجب في المقام- بناء على وجوب الموافقة الالتزامية- هو الالتزام و الاخذ بالحكم الواقعي الصادر على نحو الاجمال، و قد عرفت عدم مانعيته عن جريان قاعدة الحل في المقام، و اما الاخذ بخصوص احدهما مع انه تشريع فانه التزام بما ربما لا يكون التزاما بالحكم الواقعي، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله:

( (إلّا ان احدهما)) أي ان الملاك للاخذ باحدهما على الطريقية فهو موجود في الخبرين دون المقام، لان الملاك في الاخذ باحد الخبرين ( (تعيينا)) كما تقتضيه ادلة

ص: 68

نعم، لو كان التخيير بين الخبرين لاجل إبدائهما احتمال الوجوب و الحرمة، و إحداثهما الترديد بينهما، لكان القياس في محله، لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير هاهنا، فتأمل جيدا (1).

______________________________

الترجيح ( (او تخييرا)) كما تقتضيه ادلة التخيير ( (حيث كان)) كل واحد من الخبرين ( (واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الاصابة)) لوضوح ان كل واحد من الخبرين المتعارضين محتمل الاصابة ( (مع)) فرض ( (اجتماع سائر الشرائط)) للحجية ككونه خبرا عن حس و كون المخبر به ثقة، فلذلك ( (صار حجة في هذه الصورة)) و هي صورة التعارض ( (ب)) حسب القاعدة الثانية المستفادة من ( (ادلة الترجيح)) من الاخذ باحدهما و الالتزام به اما ( (تعيينا)) حيث يكون احدهما واجدا للمزية المرجحة ( (او)) المستفادة من ادلة ( (التخيير)) حيث لا يكون لاحدهما مزية فيجب الاخذ باحدهما ( (تخييرا)) و الالتزام به، و هذا مفقود في المقام اذ ليس هنا إلّا مجرد كون الواقع احد الحكمين، و ان كل واحد منهما محتمل لان يكون هو الواقع، و ليس في المقام طريق فيه الملاك الموجود في الخبر و هو احتمال اصابته الواقع، فلو قلنا بوجوب الموافقة الالتزامية في المقام فيجب الالتزام بما هو الحكم واقعا على نحو الاجمال، و لذا قال (قدس سره): ( (و اين ذلك)) أي و اين الملاك الموجود في الخبرين المتعارضين الموجب للالتزام باحدهما تعيينا او تخييرا ( (مما اذا لم يكن المطلوب)) فيه ( (الا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا)) على نحو الاجمال ( (و هو حاصل)) بناء على وجوب الموافقة في المقام ( (و)) اما ( (الاخذ بخصوص احدهما)) مع انه تشريع ( (ربما لا يكون اليه)) أي الى الواقع ( (بموصل)).

فاتضح انه لا وجه لقياس المقام بالخبرين المتعارضين.

(1) حاصله: انه لو كان الملاك للتخيير في الخبرين المتعارضين بحسب القاعدة الثانية هو كون الخبرين بقيامهما على الوجوب و الحرمة أوجبا احتمال الوجوب و الحرمة، و هما السبب لاحداث هذا الاحتمال، لا ان الملاك ما ذكرناه من احتمال اصابة الخبر

ص: 69

و لا مجال- هاهنا- لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنه لا قصور فيه- هاهنا- و إنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها، و الموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة، كما لا يخفى (1).

______________________________

للواقع، لكان هذا الملاك الموجب للتخيير في الخبرين المتعارضين في الوجوب و الحرمة موجودا في مقامنا، لما هو واضح من وجود احتمال كون الواقع هو الوجوب او الحرمة في المقام، لكان القياس في محله، و لكنك قد عرفت ان الملاك في الخبرين هو احتمال اصابة كل واحد من الخبرين للواقع، لا مجرد ابداء الخبرين لاحتمال الوجوب و الحرمة و احداثهما، لتردد الواقع بينهما، و عبارة المتن واضحة.

(1) توضيحه: ان القول الاول في المقام هو جريان البراءة العقلية و النقلية، و مختار المصنف الذي هو القول الخامس هو التخيير عقلا و البراءة نقلا، و قد اشرنا في صدر المسألة ان حكم العقل في المقام بالتخيير ليس لجريان البراءة العقلية، و لو كان لجريان البراءة العقلية لما كان فرق بينهما الا مجرد التعبير، فلذلك اشار المصنف الى عدم جريان البراءة العقلية في المقام، و ان حكم العقل بالتخيير لعدم الترجيح بين الحجتين.

و الوجه في عدم جريان البراءة العقلية التي هي قبح العقاب بلا بيان، هو ان المراد من البيان هو العلم بالحكم، و من الوضح ايضا ان العلم الاجمالي بالحكم يؤثر في التنجز كالعلم التفصيلي به، و العلم الاجمالي في مقام دوران الامر بين الوجوب و الحرمة موجود، فانه يعلم اجمالا بالالزام الدائر بين الالزام بالفعل و الالزام بالترك، و انما لا يجب امتثاله في المقام لعدم التمكن من موافقته القطعية و ترك مخالفته القطعية، و لذا لو علمنا بان الشي ء اما واجب فعله اليوم او حرام فعله غدا، بان نعلم اجمالا بتوجه تكليف الزامي لنا هو اما وجوب اكرام زيد اليوم أو هو حرمة اكرامه في غد، فانه لا شبهة في لزوم امتثال هذا الالزام، و يجب اكرام زيد اليوم و يحرم اكرامه في غد، للتمكن من موافقته القطعية و مخالفته القطعية، فيحكم العقل بلزوم موافقته القطعية و يستحق عليها الثواب، و بلزوم ترك مخالفته القطعية و يستحق

ص: 70

.....

______________________________

على المخالفة القطعية العقاب، فلا قصور في المقام من ناحية العلم و البيان، و انما القصور في المقام هو من ناحية عدم التمكن من امتثال هذا الالزام، فانه مع دوران الامر بين كون الشي ء الواحد اما واجبا او حراما لا يتمكن من امتثال هذا الالزام بترك مخالفته القطعية، لانه ان فعل يحتمل المخالفة لاحتمال كون الفعل حراما، و ان ترك يحتمل المخالفة لاحتمال كون الفعل واجبا، و اذا كان احتمال المخالفة لازما على كل حال فلا يعقل ان يحكم العقل بتنجز هذا الالزام، لان تنجز التكليف منوط بالقدرة على الامتثال بالقدرة على ترك مخالفته القطعية، فحيث لا قدرة على ترك المخالفة القطعية فلا يحكم العقل بتنجز هذا التكليف الالزامي.

و بعبارة اخرى: ان فعلية التكليف منوطة بأمرين: وصول التكليف، و القدرة على متعلقه بان لا يكون غير مقدور كالطيران الى السماء.

و تنجز التكليف ايضا منوط بأمرين: وصول التكليف، و التمكن من الموافقة القطعية و ترك المخالفة القطعية، و اذا كان بحيث لا يتمكن من موافقته القطعية و ترك مخالفة القطعية فلا يكون التكليف منجزا.

و قد اتضح مما ذكرنا: انه لا قصور من ناحية الوصول للتكليف لوصول الالزام في المقام، و انما كان هذا الوصول غير مؤثر لفقد شرطه الثاني، و هو كونه مما يمكن موافقته القطعية و ترك مخالفته القطعية، فلا قصور من ناحية البيان و انما القصور من ناحية القدرة على الامتثال، و من الواضح ايضا ان عدم القدرة على الامتثال غير مربوط بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فظهر مما ذكرنا: انه لا مجرى للبراءة العقلية في المقام، لوضوح وصول البيان المؤثر لو لا المانع و هو عدم القدرة على الامتثال، و إلى هذا اشار بقوله: ( (و لا مجال هاهنا)) لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فانه لا قصور فيه)) أي فانه لا قصور في البيان ( (هاهنا)) و يدل على عدم القصور فيه ما عرفت من انه لو كان الامتثال ممكنا لكان العلم بهذا الالزام مؤثرا او منجزا، كما لو علم اما بوجوب اكرام زيد اليوم او حرمته غدا.

ص: 71

ثم إن مورد هذه الوجوه، و إن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب و الحرمة على التعيين تعبديا، إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما و الرجوع إلى الاباحة، لانها مخالفة عملية قطعية على ما أفاد شيخنا الاستاذ (قدس سره) (1)، إلا أن الحكم أيضا فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا

______________________________

عدم تأتي الوجوه كلها الّا على التوصليين أو كان احدهما المردد تعبديا

(1) توضيحه: ان الوجوه الخمسة المذكورة لا تتأتى كلها الا فيما كان الوجوب و الحرمة كلاهما توصليين او كان احدهما المردد بين الوجوب و الحرمة تعبديا، اما لو كانا كلاهما تعبديين او كان احدهما المعين تعبديا، بان يكون الشي ء اما واجبا تعبديا و حراما تعبديا، او كان الوجوب على فرضه تعبديا، أو الحرمة على فرضها تعبدية بان تختلف الامة- مثلا- على قولين احدهما يقول بالوجوب التعبدي و الآخر يقول بالحرمة التوصلية أو بالعكس فلا تتأتى الاقوال جميعها في ذلك.

و بيان ذلك: ان القول الاول و هو البراءة عقلا و نقلا، و القول الخامس الذي هو مختار المصنف و هو التخيير عقلا عملا و جريان الاباحة نقلا، فيما كانا تعبدين او كان احدهما المعين تعبديا فلا يتأتيان، و الوجه في ذلك ان القول بالبراءة عقلا و نقلا، و القول بالتخيير و بالاباحة مشروط بعدم لزوم المخالفة القطعية من ذلك، اما لو لزمت المخالفة القطعية فلا مجال للقول بالبراءة و لا الاباحة.

و من الواضح انه لو كانا تعبديين او احدهما المعين كالوجوب- مثلا- تعبديا فان لازم القول بالبراءة و الاباحة- فعلا و تركا- هو الاذن و الترخيص في الفعل كيفما كان و الترك كذلك، فاذا كان كان كلاهما تعبديين ففعل- مثلا- لا بقصد القربة فانه يعلم بالمخالفة القطعية، لانه لو كان واجبا لكان الفعل لا بقصد القربة مخالفة له، و لو كان المطلوب الترك فقد خالفة ايضا لفرض كونه فعله، و لو كان احدهما المعين كالوجوب تعبديا فانه ايضا فيما لو فعل لا بقصد القربة تحصل المخالفة القطعية، فلا وجه للقول بالبراءة و الاباحة مع العلم بان لازمها جواز المخالفة القطعية، اما لو كانا توصليين او

ص: 72

.....

______________________________

كان احدهما المردد تعبديا فانه لا يعلم بالمخالفة القطعية، اما لو كانا توصليين فواضح، و اما لو كان احدهما المردد تعبديا فانه ايضا لا يعلم بالمخالفة القطعية، لانه لو فعل لا بقصد القربة لا يقطع بالمخالفة لاحتمال كون الحكم الواقعي هو وجوب الفعل و كان توصليا، و كذلك فيما لو ترك لا بقصد القربة فانه ايضا لا يقطع بالمخالفة لاحتمال كونه هو الحرمة و كانت توصلية ايضا، و كذلك لو فعل بقصد القربة فانه لا يقطع بالمخالفة لاحتمال كون الفعل واجبا سواء كان توصليا أو تعبديا، فانه يكون قد اتى به، اذ قصد القربة لا تنافي الوجوب التوصلي، و كذلك لو ترك بقصد القربة فانه ايضا لا يقطع بالمخالفة و هو واضح مما ذكرنا.

و ينبغي ان لا يخفى ان الاقوال المذكورة انما تختلف في مسألة المخالفة القطعية كما عرفت، و اما في الموافقة القطعية فالاقوال كلها تشترك، سواء في التعبديين و التوصليين و المختلفين، فان الموافقة القطعية ممتنعة على كل حال و هو واضح.

و قد اشار الى ما ذكرنا من عدم تأتي الاقوال جميعها الا على التوصليين، او كان احدهما المردد تعبديا، اما لو كانا تعبديين او احدهما المعين تعبديا فلا تتأتى الوجوه المذكورة كلها بقوله: ( (ثم ان مورد هذه الوجوه)) الخمسة المذكورة ( (و ان كان ما اذا لم يكن واحد من الوجوب و الحرمة على التعيين تعبديا)) و هو يشمل التوصليين و ما كان احدهما تعبديا و لكنه كان مرددا، فانه يصدق على كل منهما انه ليس احدهما المعين تعبديا فانهما مورد الوجوه الخمسة كلها ( (اذ لو كان تعبديين او كان احدهما المعين كذلك)) أي تعبديا لا تاتي الوجوه المذكورة كلها فيها، لما عرفت من عدم تأتي البراءة العقلية و الاباحة النقلية فيهما لتأتي المخالفة القطعية العملية فيهما، و مع العلم بالمخالفة القطعية العملية لا وجه للقول بالبراءة و الاباحة، لان العلم بالنسبة الى لزوم ترك المخالفة القطعية العملية منجز، و مع تنجزه لا وجه لجريان البراءة و الاباحة.

ص: 73

بين إتيانه على وجه قربي، بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه، و تركه كذلك، لعدم الترجيح و قبحه بلا مرجح.

فانقدح أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام، و إن اختص بعض الوجوه بهما، كما لا يخفى (1).

______________________________

فاتضح انه لو كانا تعبديين او كان احدهما المعين تعبديا ( (لم يكن اشكال في عدم جواز طرحهما معا و الرجوع الى الاباحة)) او البراءة العقلية ( (لانها مخالفة عملية قطعية)) لان لازم البراءة العقلية و الاباحة النقلية الاذن في الفعل و الترك كيفما كان.

(1) توضيحه: انه اذا كانا تعبديين او احدهما المعين تعبديا، فحيث كان الحكم المعلوم اجمالا هو الالزام، و موافقته القطعية ممتنعة و لا ترجيح لاحدهما على الآخر، فالعقل يحكم بالتخيير بينهما، و حيث كان المفروض تعبدية احدهما على التعيين او كليهما فلا بد و ان يكون التخيير العقلي بينهما باتيان احد الطرفين، على نحو لو كان هو الحكم الواقعي لكان ذلك امتثالا له، فيتعين لذلك ان ياتي بالفعل بقصد القربة او يترك بقصد القربة.

فظهر مما ذكرنا: ان الصحيح في مقام الدوران بين الوجوب و الحرمة المفروض تعبدية احدهما المعين او كليهما هو بعض القول الرابع، و هو التخيير بين الفعل و الترك و لكن مع قصد القربة فعلا او تركا، و القطع بعدم البراءة عقلا او نقلا.

و لا يخفى ايضا ان الوجه الثاني و هو الاخذ باحدهما تعيينا و هو ترجيح جانب الحرمة كما يأتي في التوصليين يتأتى في التعبديين ايضا، لان مدركه هو ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة، و هو كما يتأتى في التوصلية يتأتى في التعبدية ايضا، و كذلك القول الثالث و هو الاخذ باحدهما تخييرا، فانه ايضا كما يتأتى في التوصلية يتأتى في التعبدية ايضا لقياس المقام على الخبرين المتعارضين، و لا فرق بين التوصلية و التعبدية.

ص: 74

و لا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين، و مع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه كما هو الحال في دوران الامر بين التخيير و التعيين في غير المقام (1)،

______________________________

استقلال العقل بالتخيير بما لم يكن ترجيح في احدهما

فظهر مما ذكرنا: ان التعبدية لا توجب خروج المقام عن الكلام لعدم تأتي الوجوه كلها فيه، فانه يكفي جريان بعض الوجوه فيه، و قد اشار الى الوجه الصحيح في ما كانا تعبديين او احدهما تعبديا بقوله: ( (إلّا ان الحكم أيضا فيهما اذا كانا كذلك)) أي في المقام الدائر بين الوجوب و الحرمة التعبديين أو التعبدي احدهما المعين ( (هو التخيير عقلا بين)) الفعل و الترك و لكن بنحو يكون ( (اتيان)) كل واحد من الطرفين ( (على وجه قربي بان يؤتى به)) أي بالفعل ( (بداعي احتمال طلبه)) ليقع قريبا لو كان هو الواقع ( (و)) ان يؤتى في مقام ( (تركه كذلك)) أي بان يترك بداعي احتمال طلب الترك ليقع ايضا قريبا، و اشار الى الوجه في هذا التخيير بقوله ( (لعدم الترجيح)) لاحد الطرفين ( (و قبحه)) أي و قبح الترجيح ( (بلا مرجح)) و اشار الى عدم الوجه في تخصيص الكلام بخصوص التوصليين لتأتي الاوجه كلها فيه، لما عرفت من تأتي بعض الوجوه على التعبدية ايضا و ان لم تأت كلها بقوله: ( (فانقدح انه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة الى ما هو المهم في المقام)) و هو التخيير على الوجه الذي عرفته ( (و ان اختص بعض الوجوه)) و هو البراءة العقلية و النقلية ( (بهما)) أي بالتوصليين او ما كان احدهما غير المعين تعبديا.

(1) توضيحه: ان دوران الامر بين التخيير و التعيين بحسب اصطلاح القوم في مقامين:

الاول: دوران الامر بين العام و الخاص، فان الامر ان كان عاما فالخاص فرد له و يحصل به امتثاله، و ان كان خاصا فالخاص هو المطلوب بخصوصه فيتعين الخاص بدعوى حكم العقل بانه مما يقطع به الامتثال دون افراد العام الآخر.

الثاني: في الواجبين المتزاحمين فيما اذا احتمل اهمية احدهما، فان العقل يحكم بالتعيين بالاخذ بمحتمل الاهمية، لوضوح انه لو احرزت الاهمية لتقدم الاهم تعيينا،

ص: 75

.....

______________________________

لعدم معقولية مزاحمة المهم للاهم، و الحال في احتمال الاهمية كذلك، لانه بعد ان تساويا في الوجوب فلا شك ان محتمل الاهمية يترجح على ما ليس بأهم، و مع وجود المرجح لاحدهما لا وجه لكون المرجوح في عرض الراجح عند العقل، فالعقل يحكم بتقديم محتمل الاهمية.

اذا عرفت هذا ... فنقول: ان المقام و هو دوران الامر بين الوجوب و الحرمة و ان كان ليس من الواجبين المتزاحمين، إلّا ان الملاك الموجب لتقديم محتمل الاهمية في الواجبين موجود هنا لبداهة ان تقديم محتمل الاهمية في الواجبين انما هو لصيرورة محتمل الاهمية ذا مزية مرجحة، و مع تحقق المرجح في احدهما يرى العقل تقديم الراجح، و هذا الملاك موجود في المقام لفرض احتمال الاهمية لاحدهما المعين كالوجوب مثلا، بمعنى انه لو احرزنا في هذا الشي ء ملاك الوجوب و ملاك الحرمة لتقدم ملاك الوجوب، لفرض كون المصلحة فيه اهم من المفسدة، فاذا احتمل كون الوجوب على فرض تحققه واقعا فهو اهم من الحرمة على فرض تحققها واقعا، فلا بد من تقديم الوجوب لترجحه على فرضه عند العقل على الحرمة على فرضها، و الى هذا اشار بقوله: ( (و لا يذهب عليك ان استقلال العقل بالتخيير)) في مقام الدوران بين الوجوب و الحرمة ( (انما هو فيما لا يحتمل الترجيح في احدهما المعين)) و التقييد بكون الترجيح في معين كالوجوب مثلا، لانه لو احتملت الاهمية بنحو الترديد ايضا بين الوجوب و الحرمة لما كان احدهما بخصوصه متعينا للترجيح لو كان، فلا يحكم العقل بترجيح لاحدهما بخصوصه لفرض عدم تعين ما هو الراجح منهما، و على كل فالحكم بالتخيير بينهما انما هو حيث لا يحتمل الترجيح لاحدهما بخصوصه، و اذا كان احدهما بخصوصه محتمل الاهمية يتعين الاخذ به، و لا يكون للعقل حكم بالتخيير فيما كان الحال كذلك، و لذا قال (قدس سره): ( (و مع احتماله)) أي و مع احتمال الترجيح في احدهما المعين ( (لا يبعد دعوى استقلاله)) أي لا يبعد دعوى استقلال العقل حينئذ ( (بتعيينه)) أي بتعيين محتمل الترجيح ( (كما هو الحال في دوران الامر

ص: 76

و لكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما، و زيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الاخلال بها في صورة المزاحمة، و وجب الترجيح بها، و كذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران (1).

______________________________

بين التخيير و التعيين في غير المقام)) و هو تزاحم الواجبين، فانه يتقدم في ذلك المقام محتمل الاهمية و يرى العقل تعيينه و لا يحكم بالتخيير بينهما، و حيث كان الملاك موجودا في المقام فلذا كان مقام دوران الامر بين الوجوب و الحرمة كمقام دوران الامر بين الواجبين المتزاحمين، فان العقل انما يحكم بالتخيير فيهما فيما اذا تساويا، و اما اذا احتمل اهمية احدهما يكون المحتمل الاهمية هو المتعين.

(1) قد نبه في عبارته على امرين:

الاول: ان الترجيح الموجب للتعيين هو قوة المحتمل لا قوة الاحتمال، فلو كان احدهما اقوى ظنا و لكن كان الآخر المرجوح اهم و اقوى مصلحة، فان التقديم يكون لما هو اقوى محتملا و ان كان اضعف ظنا، و الى هذا اشار بقوله: ( (و لكن الترجيح انما يكون لشدة الطلب)) فان شدة الطلب انما تكون لقوة المصلحة.

الثاني: ان شدة الطلب و تأكده كما يكون لقوة المصلحة، كذلك يكون لوجود مصلحة اخرى تقتضي الطلب لو انفردت بنفسها، فانها اذا اجتمعت مع مصلحة الوجوب الاول توجب شدة الطلب و تأكده، و الى هذا اشار بقوله: ( (و زيادته)) أي و زيادة الطلب في احدهما المعين ( (على الطلب في الآخر)) فاذا كان الحال في الواجبين المتزاحمين كذلك، بان كان احدهما اقوى مصلحة او انطبق عليه مصلحة اخرى، فانه يتقدم على الواجب الآخر الذي تكون المصلحة فيه اضعف، او كانت متساوية و لكن انطبق على احدهما المعين مصلحة اخرى لزم مراعاة ذلك في صورة تزاحم الواجبين، و لذا قال (قدس سره): ( (بما لا يجوز الاخلال بها)) أي اذا كان احدهما اشد طلبا لقوة مصلحته او انطبق عليه مصلحة زائدة لا يجوز الاخلال بهذه المزية ( (في صورة المزاحمة و وجب الترجيح بها)) أي وجب الترجيح لذي المزية،

ص: 77

و لا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا، لاجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة، ضرورة أنه رب واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام، فكيف يقدم على احتماله احتماله في صورة الدوران بين مثليهما (1)؟

______________________________

دفع وهم ترجيح احتمال الحرمة لأولوية دفع المفسدة

فاذا كان هذا الاحتمال موجودا في مقام الدوران بين الوجوب و الحرمة بان كان ذو المزية هو الوجوب فلا بد من تقديمه، و لذا قال: ( (و كذا وجب ترجيح ذي المزية في صورة الدوران)) بين الوجوب و الحرمة فالملاك الموجب للترجيح في الواجبين المتزاحمين موجود في مقامنا و هو صورة الدوران بين الوجوب و الحرمة، فيوجب الترجيح ايضا و التقديم لذي المزية، فحكم العقل بالتخيير في مقامنا مشروط بعدم احتمال الاهمية لاحدهما.

(1) حاصله: الدفع لما يمكن ان يتوهم: من انه بعد الحكم بلزوم الترجيح لذي المزية فلا بد في مقام الدوران بين الوجوب و الحرمة ان يتقدم جانب الحرمة لانها هي الواجدة للمزية المرجحة على جانب الوجوب، و لذا ذهب بعضهم لتقديم احدهما معينا و هو الحرمة على الوجوب كما مر ذكره في ضمن الوجوه الخمسة، و الوجه في تقديم جانب الحرمة هو ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة، بعد وضوح كون الحرمة ناشئة عن المفسدة في الفعل و الوجوب ناشئا عن المصلحة التي هي المنفعة في الفعل، فدائما يكون التقديم في مقام الدوران بين الوجوب و الحرمة لجانب الحرمة على جانب الوجوب، فيكون حكم العقل هو التعيين دون التخيير.

و الجواب عنه: انا لا نسلم كون دفع المفسدة دائما اولى من جلب المنفعة، فانه كثيرا ما تكون مصلحة اهم من مفسدة، فمع العلم بالمصلحة و المفسدة لا تتقدم المفسدة على المصلحة دائما، فلا يتقدم جانب الحرمة المعلومة على جانب الوجوب المعلوم دائما، فكيف يتقدم احتمال المفسدة على احتمال المصلحة دائما؟ كما في صورة الدوران بين الوجوب و الحرمة فان كلا من المفسدة و المصلحة محتملة فيه.

ص: 78

فافهم (1).

______________________________

و قد اشار الى هذا التوهم و الجواب عنه بقوله: ( (و لا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا)) على احتمال الوجوب ( (لاجل)) دعوى ( (ان دفع المفسدة اولى من ترك المصلحة)) فانه غير مسلم ( (ضرورة انه رب واجب)) معلوم ( (يكون مقدما على الحرام)) المعلوم ( (في صورة المزاحمة)) بينهما ( (بلا كلام فكيف يقدم على احتماله)) أي كيف يقدم على احتمال الواجب ( (احتماله)) أي ان احتمال الحرام لاجل كونه من دفع المفسدة لا يقدم على احتمال الواجب، لانه من ترك المصلحة ( (في صورة الدوران بين مثليهما)) أي انه اذا دار الامر بين شي ء واجب و شي ء آخر حرام، بان وقعت المزاحمة بينهما فلا يتقدم الحرام على الواجب، كذلك فيما دار الامر بين احتمال وجوب شي ء واحد و احتمال حرمته فانه لا يتقدم احتمال حرمته على جانب وجوبه، و هو المراد بقوله بين مثليهما أي ان احتمال وجوب شي ء واحد و احتمال حرمته مثل وجوب شي ء و حرمة شي ء آخر اذا وقعت المزاحمة بينهما.

(1) يمكن ان يكون اشارة الى ان دعوى تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب انما هي لدعوى كون الغلبة المتبعة تقضي بتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب، فاذا ثبتت الغلبة لا بد من الحاق سائر الموارد بها، و لا يضر هذه الدعوى انه يكون بعض الواجبات مقدما على بعض المحرمات فانه لا يضر بدعوى الغلبة، فلا بد من ان المنع يكون بمنع دعوى الغلبة المدعاة.

و يمكن ان يكون اشارة الى منع اصل قياس المقام بالواجبين المتزاحمين فلا يكون احتمال الاهمية في المقام كاحتمال الاهمية في الواجبين المتزاحمين، لان الملاك في المقام غير الملاك هناك، فان ملاك التخيير هنا لعدم التنجيز، و ملاك التعيين هناك في الواجبين هو بعد تنجزهما، غايته انه لا يمكن امتثالهما معا، فان احراز الاهمية او احتمالها في الواجبين المتزاحمين كان بعد التنجز، و لذلك كان من الدوران بين

ص: 79

فصل

لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب أو التحريم، فتارة لتردده بين المتباينين، و أخرى بين الاقل و الاكثر الارتباطيين، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الاول: في دوران الامر بين المتباينين.

لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا- و لو كانا فعل أمر و ترك آخر (1)- إن كان فعليا من جميع الجهات، بأن يكون واجدا لما هو العلة

______________________________

فصل فى أصالة الاحتياط

اشارة

التخيير و التعيين، اما في المقام فحيث لا تنجيز فلا يكون احراز الاهمية او احتمالها موجبا لاندراجه في مسألة دوران الامر بين التخيير و التعيين، و اللّه العالم.

(1) لما فرغ من الكلام في الشك في التكليف ... شرع في الكلام في الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف، و حيث فرض مع العلم شك فلا بد و ان يكون العلم اجماليا لانه هو المشوب بالشك:

و هو تارة يكون علما بالتكليف و الشك في مصداقه و انطباقه، كما لو علم بوجوب الاكرام و شك في انه اكرام زيد بن عمرو أو زيد بن خالد.

و اخرى: يكون علما بجنس التكليف و شكا في نوعه، كما لو علم بالالزام و شك في انه هو طلب فعل معلوم او هو ترك فعل آخر معلوم ايضا كما لو شك في ان المطلوب وجوب اكرام زيد، او حرمة اكرام عمرو.

و ثالثة: يكون علما بالتكليف و شكا في قدر سعته و ضيقه، كما في الاقل و الاكثر الارتباطيين، و اما الاقل و الاكثر غير الارتباطيين فليس هناك علم اجمالي، بل علم تفصيلي بالاقل و شك بدوي في الاكثر.

فالكلام في هذا الفصل في مقامين:

ص: 80

التامة للبعث أو الزجر الفعلي، مع ما هو من الاجمال و التردد و الاحتمال، فلا محيص عن تنجزه و صحة العقوبة على مخالفته، و حينئذ لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الاباحة مما يعمّ أطراف العلم مخصّصا عقلا، لاجل مناقضتها معه (1).

______________________________

المقام الاول: دوران الأمر بين المتباينين

اشارة

المقام الاول: في الدوران بين المتباينين، و يشمل ما اذا كان التكليف معلوما بماهيته تماما و كان الشك في مصداقه كالقسم الاول، و ما اذا لم يكن معلوما تماما و لكن كان جنسه معلوما و كان الشك في نوعه كالقسم الثاني.

و المقام الثاني: في الاقل و الاكثر الارتباطيين.

و قد ظهر مما ذكرنا: ان التباين، تارة يكون من ناحية الفصليّة او النوعية و هي الوجوب و التحريم كما في القسم الثاني، و اخرى يكون التباين من ناحية الجزئية و الفردية كما في القسم الاول، و لذلك جعل المصنف التردّد أولا بين المتباينين و الاقل و الاكثر الارتباطيين، و نبّه على دخول القسم الثاني في المتباينين فجعل البحث في مقامين، ثم نبّه على دخول القسم الثاني و هو ما كان الشك في النوعية في المتباينين بقوله: ( (لا يخفى ان التكليف المعلوم بينهما مطلقا و لو كانا فعل امر و ترك آخر)).

(1) توضيحه ببيان امور: الاول: انه هل للاصول مجال في اطراف العلم الاجمالي ام لا؟ و قد مرّ الكلام في ذلك، و ان دعوى الشيخ الاعظم بلزوم المناقضة بين الصدر و الذيل في دليل الاستصحاب لا وجه له، لان المراد من اليقين في الذيل هو اليقين في الصدر، فمع الغض عن منجّزية العلم الاجمالي لا مانع من جريان الاستصحاب في اطرافه، لان الموضوع فيه هو اليقين السابق و الشك اللاحق، و هو متحقق في كل طرف بخصوصه من اطراف المعلوم بالاجمال.

الاقوال في العلم الاجمالي خمسة

الثاني: ان الاقوال في العلم الاجمالي خمسة:

- الاول: انه علّة تامة في لزوم الموافقة القطعية و حرمة المخالفة القطعية، و هو ما يظهر من المصنف هنا.

ص: 81

.....

______________________________

- الثاني: انه مقتض بالنسبة اليهما معا، و هو الذي ظهر من المصنف في مباحث القطع.

- الثالث: انه علّة تامة بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية و مقتض بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية، و اليه ذهب الشيخ الاعظم في رسائله و وافقه جماعة من المحققين.

- الرابع: انه علّة تامة بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية، و بالنسبة الى الموافقة القطعية لا علّة و لا مقتض، و يحكى انه الظاهر من المحقق القمّي حيث قال بحرمة المخالفة القطعيّة و بوجود الدليل على البراءة في جميع اطراف المعلوم بالاجمال، بحيث لو لا حرمة المخالفة القطعية لجاز ارتكاب الاطراف جميعا.

- الخامس: ما ينسب الى المجلسي من انه لا علة و لا مقتض بالنسبة الى كلا الامرين.

الثالث: انه قد مرّ من المصنف في المباحث المتقدّمة ان الفعلي على نحوين:

- الاول: هو الفعلي من جميع الجهات.

- الثاني: هو الفعلي لا من جميع الجهات. و مراده من الفعلي من جميع الجهات هو كون الحكم بالغا من الاهمية الى حدّ لا بد للمولى من ايصاله و لو يجعل الاحتياط، و الفعلي لا من جميع الجهات هو كونه بحيث لو علم به تفصيلا من باب الاتفاق لتنجّز و لم يكن بالغا حدّ الاهمية الى لزوم ايصاله بكل طريق.

الرابع: ان المعلوم بالتفصيل علم لا يشوبه جهل و شك، فان العلم التفصيلي بان هذا الاناء نجس هو علم بالنجس و علم بانه هو هذا بخصوصه فلا شك فيه و لا جهل، و المعلوم بالاجمال هو علم يشوبه جهل و شك، فان العلم بان النجس هو احد الإناءين هو علم بوجود النجس، و علم انه هو احد الإناءين، لازمه الجهل بانه هو احدهما بالخصوص، فبالنسبة الى كل واحد منهما بخصوصه لا علم بذلك بل هناك شك في انه هو هذا او هذا؟

ص: 82

.....

______________________________

الخامس: ان جريان الاصول يتوقف على امرين:

- الاول: تحقق موضوع الاصل و هو الشك.

- الثاني: عدم المانع من اجتماع النقيضين او الضدين اما قطعا او احتمالا، لما مرّ غير مرّة من ان احتمال المحال محال، بل المحال لا بد و ان يكون مقطوع العدم، فكما ان ما يستلزم القطع باجتماع النقيضين او الضدين محال وقوعه، كذلك ما يستلزم منه احتمال اجتماع النقيضين او احتمال اجتماع الضدين محال ايضا.

و منه ظهر: انه لا مجال للاصول في المعلوم بالتفصيل من الجهتين، لعدم تحقق موضوع الاصول فيه، لوضوح انه علم لا يشوبه شك، فلا موضوع للاصول فيه المفروض تقومه بالشك، و لوجود المانع ايضا لان حكم الاصل لو كان هو الاباحة او الطهارة للزم القطع باجتماع الضدين، لمضادة الاباحة التي هي حكم الاصل مع الحرمة المعلومة بالتفصيل، و مضادة الحكم بالطهارة- مثلا- للمعلوم تفصيلا نجاسته، و لزوم اجتماع النقيضين ايضا، لان لازم جريان الاصل هو عدم تنجّز الحكم الواقعي، و في المعلوم بالتفصيل لا شك في تنجّز الحكم الواقعي، فجريان الاصل فيه لازمه كون الحكم الواقعي غير منجز و منجز و هو اجتماع النقيضين بالقطع، و في مورد العلم الاجمالي الفعلي من ساير الجهات يلزم من جريان الاصل في كل طرف بخصوصه اجتماع الضدين و احتمال اجتماع النقيضين، لوضوح انه بعد ان كان العلم الاجمالي بالغا حدّ الاهمية بحيث يكون منجزا، فان جريان الاصل في كل طرف بخصوصه لازمه احتمال اجتماع الحكم المعلوم بالاجمال المنجّز مع الاباحة او الطهارة، و لازمه احتمال ان لا يكون منجزا في ما يخصّ هذا الطرف و هو احتمال المناقضة، اما المعلوم بالاجمال الذي لم يكن فعليا من كل جهة الذي قد عرفت انه هو الذي لو علم به تفصيلا لتنجّز، ففي حال عدم العلم به تفصيلا لا يكون المعلوم بالاجمال منجزا، و في مثله لا مانع من جريان الاصول في اطرافه، لعدم لزوم المضادة و لا المناقضة، اذ المضادة و المناقضة انما هي بين الحكمين المنجّزين، فحيث

ص: 83

منجزية العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي من جميع الجهات

لا تنجّز للعلم الاجمالي على الفرض فلا مانع من احتمال اجتماع حكم واقعي غير منجز مع حكم الاصل المنجّز، و بمثل هذا جمع المصنف بين الحكم الظاهري و الواقعي في مبحث الظن في اشكال لزوم اجتماع الحكم الواقعي و الظاهري في جعل الامارة، بناء على ان المجعول فيها هو الحكم على طبق مؤداها.

اذا عرفت هذه الامور ... فنقول: ان المفروض في المقام هو كون الاقوال الخمسة المذكورة في فرض كون العلم الاجمالي بالغا حدّ الاهمية بحيث كان منجزا على كل حال.

و قد اتضح مما ذكرنا: ان المعلوم بالاجمال اذا كان فعليا من جميع الجهات كان منجزا، و معنى ذلك هو كونه علة تامة بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية و الى حرمة المخالفة القطعية، و لا مجرى للاصول في اطرافه للزوم احتمال اجتماع الضدين و النقيضين من جريانها، و قد عرفت ان جريان الاصول كما لا بد من تحقق الموضوع فيها و هو الشك، كذلك لا بد من القطع بعدم المانع، و الاصول و ان كان موضوعها و هو الشك موجودا في الطرف، إلّا ان المانع موجود و هو لزوم احتمال اجتماع النقيضين و الضدين من جريانها فلا تجري لوجود المانع، فلا بد فيما دل بعمومه- على جريانها في الاطراف لمعلوم بالاجمال كدليل الرفع، و قوله عليه السّلام: (ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم)، و قوله عليه السّلام: (الناس في سعة ما لا يعلمون)- من التزام التخصيص فيه عقلا، لما عرفت من عدم معقولية جريانها مع احتمال اجتماع الضدين و النقيضين.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (لا يخفى ان التكليف المعلوم بينهما)) أي بين المتباينين ( (مطلقا و لو كانا)) أي و لو كان الحكمان المتباينان هو ( (فعل امر و ترك آخر)) بان كان المعلوم بالاجمال هو الحكم الالزامي الجامع بينهما، فان المدار في جريان الاصول في اطرافه و عدم جريانها هو انه ( (ان كان فعليا من جميع الجهات بان يكون)) بالغا حد الاهمية لايصاله و لو بالاحتياط، و حينئذ يكون ( (واجدا لما هو

ص: 84

و إن لم يكن فعليا كذلك، و لو كان بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله و صح العقاب على مخالفته (1)، لم يكن هناك مانع عقلا و لا شرعا

______________________________

العلة التامة للبعث او الزجر الفعلي)) المنجز ( (مع ما هو)) ما عليه ( (من الاجمال و التردد و الاحتمال)) بالنسبة الى انطباقه على كل طرف من اطرافه، فان كل طرف من اطرافه يحتمل ان يكون هو المعلوم بالاجمال، و اذا فرض كون المعلوم بالاجمال فعليا من جميع الجهات ( (فلا محيص عن تنجزه)) و لزوم الاحتياط فيه بلزوم موافقته ( (و صحة العقوبة على مخالفته)) و كونه معلوما بالاجمال لا ينافي كونه فعليا من جميع الجهات، فان ايصاله بعد ان كان ممكنا بالاحتياط فلا بد من تنجزه بلزوم الاحتياط ( (و حينئذ لا محالة)) لا يكون مجال لجريان الاصول في اطرافه و ( (يكون ما دل بعمومه على)) الجريان فيها مثل دليل ( (الرفع او الوضع او السعة او الاباحة)) او الاستصحاب ( (مما يعم)) بظاهره ( (اطراف العلم)) الاجمالي ( (مخصصا عقلا لاجل)) ما عرفت من احتمال ( (مناقضتها معه)) أي احتمال مناقضة الاصول مع العلم الاجمالي، و قد عرفت ان احتمال المحال كالقطع بالمحال لا بد و ان يكون مقطوع العدم دائما.

(1) لما عرفت ان المدار في عدم جريان الاصول في اطراف العلم الاجمالي و جريانها فيها على كونه فعليا من جميع الجهات، و عدم كونه فعليا من جميع الجهات، بان يكون لو علم به من باب الاتفاق لتنجز، فانه اذا كان فعليا من جميع الجهات كان علة تامة لوجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة القطعية، و لا مجال لجريانها في اطرافه لاحتمال المناقضة و المضادة، و اذا لم يكن فعليا كذلك فلا يكون منجزا، و لا مانع من اجتماع الواقعي غير المنجز مع الحكم الظاهري، فلا مانع من جريان الاصول في اطراف العلم الاجمالي، لان اللازم في مثل هذا العلم الاجمالي المعلق تنجزه على العلم التفصيلي به- لو حصل من باب الاتفاق- هو كون وجوب امتثاله و موافقته و صحة العقاب على مخالفته منوطين بالعلم به تفصيلا، و العلم الاجمالي به

ص: 85

عن شمول أدلة البراءة الشرعية للاطراف (1).

______________________________

بما هو علم اجمالي لا اثر له اصلا فلا تجب موافقته و لا تحرم مخالفته ما دام باقيا على اجماله، فلا يلزم من جريان الاصول في اطرافه احتمال مضادة او مناقضة، و قد عرفت ان موضوع الاصول موجود في اطراف العلم الاجمالي، و انما المانع هو احتمال المضادة و المناقضة، و لا مجال لاحتمال المضادة و المناقضة ايضا كما عرفت، و سيأتي بيانه ايضا فلا مانع عن شمول ادلة الاصول لأطراف العلم الاجمالي في غير الفعلي من جميع الجهات، و لذا قال (قدس سره): ( (و ان لم يكن فعليا كذلك)) أي لم يكن فعليا من جميع الجهات، و قد اشار الى المراد من غير الفعلي من جميع الجهات بقوله: ( (و لو كان)) المعلوم بالاجمال بمثابة ( (بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله)) و وجبت موافقته ( (و صح العقاب على مخالفته)).

(1) توضيحه: انك قد عرفت ان الفعلي من جميع الجهات هو البالغ حد الاهمية، بحيث يلزم ايصاله اما تفصيلا او بنحو جعل الاحتياط، و ما لم يكن فعليا كذلك فهو الذي لم يكن بالغا هذا الحد، و مرجع هذا الى ان الفعلي من جميع الجهات هو البالغ مرتبة التنجز، و غير البالغ مرتبة التنجز لا يكون فعليا من جميع الجهات، و قد عرفت ان المضادة و المناقضة هي في مرتبة الفعلية البالغة حد التنجز، اما الفعلي غير البالغ هذه المرتبة و كان بحيث لو علم به لتنجز فلا بعث منجز فيه و لا زجر كذلك فيه ايضا، لوضوح ان المضادة انما تحصل بين الداعيين بالفعل، و ما لم يكن الحكم الفعلي داعيا بالفعل لا يكون مضادا لضده الداعي بالفعل.

و منه يتضح عدم المانع العقلي من اجراء الاصول في اطراف المعلوم بالاجمال اذا لم يكن فعليا من جميع الجهات، لتحقق موضوع الاصول و هو الشك و عدم المانع العقلي و هو احتمال المضادة، لبداهة انه لو كان واقعا منطبقا على الطرف الذي جرى فيه الاصل لا يضاد ما يقتضيه الاصل، لعدم حصول الدعوة منه بالفعل الى ضد ما يدعو له الاصل الجاري حتى يكون مضادا له.

ص: 86

.....

______________________________

و اما عدم المانع الشرعي عن جريان الاصل، فلان المانع عن جريان الاصل في اطراف العلم الاجمالي- المفروض كونه ليس بفعلي من جميع الجهات بعد تحقق موضوعه و هو الشك- امران:

- الاول: ما يمكن ان يدعى ان كلا من دليلي البراءة- كقوله: رفع ما لا يعلمون، او الناس في سعة ما لا يعلمون- و الحلية- كقوله: كل شي ء لك حلال- له غاية لا بد من احرازها، فان دليل البراءة و هو رفع ما لا يعلمون مقيد بانه لا رفع مع العلم، فان المراد هو رفع ما لا يعلمون حتى يعلموا، فاذا علموا فلا رفع، و كذلك قوله الناس في سعة ما لا يعلمون انه لو علموا فلا سعة للناس بل يقعون في ضيق ما علموا، و كذلك دليل الحلية فانه مصرح فيه بان الحلية حتى تعرف انه حرام، فلا بد من احراز ان مجرى البراءة و الحلية مما لا يحتمل كونه معلوما، و مع العلم الاجمالي المردد بين الاطراف لا يحرز كون مجرى الاصل مما احرز فيه عدم كونه معلوما، لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال على مجرى الاصل، و مع احتمال انطباقه عليه يكون مجرى الاصل مما يحتمل انه هو المعلوم، فلا يكون مما احرز انه لم يكن معلوما، فلا مجرى للاصول في اطراف المعلوم بالاجمال من ناحية عدم احراز الغاية فيها و هو عدم العلم، لا من حيث عدم تحقق موضوعها و هو الشك، و لا من حيث المانع العقلي، بل من حيث ظهور ادلة الاصول في ان مجراها لا بد و ان يحرز فيه مما لا يعلم، و مع احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على مجاريها لا يكون قد احرز انه مما لا يعلم.

و الجواب عنه: ان الاحراز و عدم الاحراز انما هو في غير الصفات النفسية الوجدانية للنفس كالعلم و الظن و الشك، و انما يصح بالنسبة الى عنوان الفعل نفسه ككونه خلا او خمرا، او بالنسبة الى حكمه ككونه حراما او واجبا او نجسا او طاهرا، اما بالنسبة الى العلم و الظن و الشك فلا مجال للاحراز فيها و عدم الاحراز، بل هي اما موجودة في افق النفس أولا، و اما احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على الطرف

ص: 87

و من هنا انقدح أنه لا فرق بين العلم التفصيلي و الاجمالي، إلا أنه لا مجال للحكم الظاهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات، لا محالة يصير فعليا معه من جميع الجهات، و له مجال مع الاجمالي، فيمكن أن لا يصير فعليا معه، لامكان جعل الظاهري في أطرافه، و إن كان فعليا من غير هذه الجهة (1)،

______________________________

الفرق بين العلم التفصيلي و الاجمالي

فالمراد لا بد و ان يكون هو احتمال انطباق ذات المعلوم لا بما هو معلوم، لعدم معقولية اجتماع الاحتمال مع العلم، فالغاية موجودة لفرض الشك، و مع كون الطرف مشكوكا فهو لا بد و ان لا يكون مما علم به او مما عرف انه حرام.

- الثاني: ما ذكره الشيخ من المناقضة بين الصدر و الذيل في دليل الاستصحاب، و قد مر الجواب عنه مرارا، و ان المراد من اليقين في الذيل هو اليقين في الصدر، فلا ينقض اليقين التفصيلي الا بيقين تفصيلي.

فاتضح انه بعد فرض كون المعلوم بالاجمال ليس بفعلي من جميع الجهات و هو غير منجز فلا مانع من جريان ادلة الاصول في اطرافه، و لذا قال (قدس سره): ( (لم يكن هناك مانع عقلا و لا شرعا عن شمول ادلة البراءة الشرعية للاطراف)) في مورد العلم الاجمالي الذي لا يكون متعلقه بفعلي من جميع الجهات.

(1) توضيحه: انه قد ظهر مما ذكرنا من انقسام العلم الاجمالي الى فعلي من جميع الجهات و غير فعلي من جميع الجهات- ان الفرق بين العلم التفصيلي و العلم الاجمالي المقسم لهذين القسمين، هو ان العلم التفصيلي منحصر في امر واحد و هو كونه دائما يكون هو الفعلي من جميع الجهات المنجز بالفعل، لبداهة ان المراد من غير الفعلي من جميع الجهات في قسمة العلم الاجمالي هو كونه بحيث لو علم به لتنجز ... فالعلم الاجمالي يكون منجزا اما بخروجه من الاجمالية الى التفصيلية، او يجعل الاحتياط في مورده لبلوغ المصلحة في متعلقه حدا من الاهمية، بحيث يلزم ايصالها و لو بالاحتياط، فهو مما يمكن ان يكون فعليا من جميع الجهات و ان لا يكون

ص: 88

.....

______________________________

فعليا كذلك، و لازم هذا الفرق بين العلم التفصيلي و العلم الاجمالي هو انه لا مجال للاصول مع العلم التفصيلي، لانه مضافا الى عدم تحقق موضوعه فيه انه قد صار حتميا و منجزا بالفعل، فيلزم من جريان الاصل فيه القطع بالمضادة، بخلاف العلم الاجمالي حيث كان موضوع الاصل متحققا في اطرافه، و كان هو مما يمكن ان لا يكون بينه و بين الحكم الظاهري احتمال المضادة، فكان العلم الاجمالي مما يمكن ان لا يكون فعليا منجزا، فلا مانع من جعل الحكم الظاهري في اطرافه.

و قد عرفت- مما مر ايضا- ان الاهمية في العلم الاجمالي اذا احرزت كان ادلة الاصول مخصصة للمانع العقلي و هو احتمال المضادة، و اما اذا لم تحرز فلا مانع من شمول ادلة الاصول لاطرافه.

و منه يظهر انه لأدلة الاصول اطلاق يشمل اطراف العلم الاجمالي، فيستكشف من جريانها في الاطراف حيث لم تحرز الاهمية للمعلوم بالاجمال ان العلم الاجمالي لم يكن فعليا من جميع الجهات، و إلّا لجعل الشارع الاحتياط في مورده، فيكون جريانها كاشفا عن كونه ليس بفعلي من جميع الجهات، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (و من هنا انقدح)) أي مما ذكرنا من كون العلم الاجمالي الذي ليس بفعلي من جميع الجهات الذي لا مانع عقلا و لا شرعا من جريان الاصول في اطرافه انقدح ( (انه لا فرق بين العلم التفصيلي و الاجمالي إلّا انه لا مجال للحكم الظاهري مع)) العلم ( (التفصيلي فاذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات)) بالقدرة على امتثاله مثلا و عدم الحرجية فيه مثلا فانه ( (لا محالة يصير فعليا معه)) أي مع العلم التفصيلي به ( (من جميع الجهات)) لتمامية جميع شروط تنجزه ( (و)) اتضح انه ( (له مجال مع)) العلم ( (الاجمالي)) لما عرفت من انه يمكن ان يكون فعليا من جميع الجهات، و يمكن ان لا يكون فعليا من جميع الجهات، و قد عرفت ايضا انه مع كونه ليس بفعلي من جميع الجهات فلا مانع من جريان الاصول في اطرافه و جعل الحكم الظاهري في مورده، و يستكشف بجعل الحكم الظاهري في اطرافه انه ليس بفعلي من

ص: 89

فافهم (1).

ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالاجمال كان فعليا من جميع الجهات لوجب عقلا موافقته مطلقا و لو كانت أطرافه غير محصورة، و إنما التفاوت بين المحصورة و غيرها هو أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم، مع كونه فعليا لولاه من سائر الجهات.

و بالجملة لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة و غيرها، في التنجز و عدمه، فيما كان المعلوم إجمالا فعليا، يبعث المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 7 ؛ ص90

و الحاصل أن اختلاف الاطراف في الحصر و عدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم، و لو أوجب تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر، و عدمها مع عدمه، فلا يكاد يختلف العلم الاجمالي باختلاف الاطراف قلة و كثرة في التنجيز و عدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية و عدمها بذلك، و قد عرفت آنفا أنه لا تفاوت بين

______________________________

جميع الجهات، و لذا قال (قدس سره): ( (فيمكن ان لا يصير)) العلم الاجمالي ( (فعليا معه)) أي مع جعل الحكم الظاهري في اطرافه، و جعل الحكم الظاهري في اطرافه- حيث لا يكون فعليا من جميع الجهات- ممكن، و اليه اشار بقوله: ( (لامكان جعل الحكم الظاهري في اطرافه)) و حينئذ لا يكون فعليا من جميع الجهات ( (و ان كان فعليا من غير هذه الجهة)) أي جهة جعل الحكم الظاهري.

(1) يمكن ان يكون اشارة الى انه لا مانع بين كون العلم الاجمالي فعليا من جهة و غير فعلي من جهة اخرى، لان الفعلية لا تساوق التنجز، و من الواضح ان بلوغ الحكم مرتبة التنجز يتوقف على جهات: كالقدرة، و عدم الحرج و عدم الاضطرار الى الارتكاب، و كونه واصلا اما تفصيلا او يجعل الاحتياط في مورده، فكونه فعليا من جهة لا ينافي كونه غير فعلي من جهة اخرى.

ص: 90


1- 10. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

التفصيلي و الاجمالي في ذلك، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضا، فتأمل تعرف (1).

______________________________

(1) توضيحه: انه بعد ما عرفت من كون العلم الاجمالي- بما هو علم الاجمالي- لا يفترق عن التفصيلي في قابلية ان يكون منجزا و بالغا مرتبة العلم التفصيلي من حيث المنجزية و الفعلية الحتمية، فهو من حيث كونه علما اجماليا لا قصور فيه عن قابلية المنجزية المتحققة في العلم التفصيلي و الفعلية الحتمية اصلا ... يظهر لك ان عدم تنجز العلم الاجمالي في بعض الموارد لا يكون من ناحية كونه علما اجماليا، بل من ناحية المعلوم، فان المعلوم ربما لا يكون بالغا حد الاهمية بحيث يجب ايصاله بالاحتياط، و لذا جاز جعل الحكم الظاهري في مورده، و ربما يكون خارجا عن محل الابتلاء، و ربما يكون مضطرا الى ارتكاب اطرافه، و ربما يكون وجوب موافقته مستلزما للحرج، و هذه الامور كلها ترجع الى ناحية المعلوم لا الى ناحية كونه علما اجماليا، فان عدم كون العلم الاجمالي منجزا في هذه الموارد لا لانه علم اجمالي، بل لان المعلوم تارة غير بالغ حد الاهمية، و اخرى لان المعلوم كان خارجا عن محل الابتلاء، و ثالثة لانه كان حرجيا، و رابعة للاضطرار الى ارتكابه.

فاتضح مما ذكرنا: ان المعلوم بالاجمال اذا كان بالغا حد الاهمية، و لم يكن خارجا عن محل الابتلاء، و لم يكن مضطرا الى ارتكابه، و لم يكن حرجيا- فلا بد و ان يكون منجزا، و اذا كان منجزا فتجب موافقته القطعية و ان كانت اطرافه كثيرة و غير محصورة، لما عرفت من أن كونه علما اجماليا لا يفترق في قابليته للمنجزية عن العلم التفصيلي، و كون اطرافه كثيرة و غير محصورة ليس بمانع من حيث كونه معلوما، فلو كانت اطرافه كثيرة، و كان بالغا حد الاهمية، و كان غير خارج عن محل الابتلاء، و لا حرج و لا اضطرار في لزوم الارتكاب، فلا مانع من كونه منجزا و تجب موافقته و ان كان اطرافه غير محصورة.

ص: 91

.....

______________________________

نعم الغالب في الاطراف غير المحصورة يكون بعضها خارجا عن محل الابتلاء، او يلزم الحرج من تجنبها جميعا، او يكون اضطرار الى ارتكاب بعضها، فيكون عدم التنجز في هذه الموارد لا لكونها كثيرة و غير محصورة، بل لاجل احد الامور المذكورة، و لذا لو لم يكن احد الامور متحققا لما كان هناك مانع عن تنجز العلم الاجمالي و ان كانت اطرافه كثيرة و غير محصورة.

فما اشتهر من ان العلم الاجمالي ان كانت اطرافه محصورة يجب الاحتياط في اطرافه، و ان كانت اطرافه غير محصورة فلا يجب الاحتياط فيه، لا وجه له لما عرفت من ان كون الاطراف محصورة او غير محصورة ليس بمانع عن تنجزه، و لعل السبب في هذه الشهرة هو ملازمة الاطراف غير المحصورة لاحد الموانع المذكورة، لا لان عنوان حصر الاطراف و عدمه من جملة الموانع عن تنجز العلم الاجمالي.

و ينبغي ان لا يخفى ان الموانع المذكورة عدا جعل الحكم الظاهري، كما انها تكون في العلم الاجمالي تكون ايضا في العلم التفصيلي، فان المعلوم بالتفصيل قد يكون خارجا عن محل الابتلاء فلا يكون الخطاب فيه منجزا، و قد يكون حرجيا، و قد يكون مضطرا الى ارتكابه فلا يمنع كونه معلوما بالتفصيل عن الترخيص فيه.

و على كل فقد ظهر مما ذكرنا امران:

الاول: ان نفس كثرة الاطراف و عدم حصرها ليس بمانع عن منجزية العلم.

الثاني: ان العلم الاجمالي بما هو علم اجمالي لا يفترق عن العلم التفصيلي في قابليته للتنجيز، و اذا كان غير منجز فلا بد ان يكون ذلك من ناحية المعلوم بالاجمال لا العلم الاجمالي.

و قد اشار الى الاول بقوله: ( (ان الظاهر انه لو فرض ان المعلوم بالاجمال كان فعليا من جميع الجهات)) بان كان بالغا حد الاهمية بحيث يجب الاحتياط فيه ( (لوجب عقلا موافقته)) بترك جميع اطرافه ( (و لو كانت اطرافه غير محصورة)) و ما اشتهر من ان الشبهة غير المحصورة الاطراف لا يجب الاحتياط فيها لا وجه له ( (و انما

ص: 92

.....

______________________________

التفاوت بين المحصورة و غيرها هو ان عدم الحصر ربما يلازم)) غالبا ( (ما يمنع عن فعلية المعلوم)) ككونه خارجا عن محل الابتلاء، و لذلك لا يكون العلم الاجمالي منجزا ( (مع كونه فعليا لولاه)) أي لو لا ما يمنع في المعلوم من التنجز كخروجه عن محل الابتلاء مثلا لكان العلم الاجمالي منجزا لفرض كونه فعليا ( (من سائر الجهات)) عدا هذه الجهة و هي خروجه عن محل الابتلاء.

و الحاصل: ان عدم الحصر لا خصوصية فيه بعنوان كونه عدم الحصر في المنع عن تنجز العلم الاجمالي و لذا قال (قدس سره): ( (و بالجملة لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين)) الشبهة ( (المحصورة و غيرها)) و هي الشبهة غير المحصورة من حيث عنوان الحصر و عدمه في دخله ( (في التنجز و عدمه فيما)) اذا ( (كان المعلوم اجمالا)) بالغا حد الاهمية بحيث كان ( (فعليا)) من جميع الجهات ( (يبعث المولى نحوه فعلا او يزجر عنه كذلك)) أي فعلا ( (مع ما هو عليه من كثرة اطرافه)).

و اشار الى الامر الثاني و هو ان الاختلاف بين المعلوم بالاجمال و المعلوم بالتفصيل ليس من ناحية العلم، بل من ناحية المعلوم، فربما يكون المعلوم بالاجمال لغير المحصورة ليس بفعلي من ناحية ملازمته للخروج عن محل الابتلاء مثلا فلا يكون فعليا، لا من جهة الفرق فيه من ناحية العلم بل هو من ناحية المعلوم بقوله:

( (و الحاصل ان اختلاف الاطراف في الحصر و عدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم)) لما عرفت من عدم الفرق بين العلم التفصيلي و العلم الاجمالي من ناحية كون الاول تفصيليا و الثاني اجماليا في قابلية التنجز و عدمه، فلا تفاوت بينهما من ناحية العلم ( (و لو أوجب تفاوتا)) بينهما ( (فانما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر و عدمها)) أي و عدم فعلية البعث و الزجر ( (مع عدمه)) أي مع عدم الحصر من ناحية كون غير المحصور كان ملازما لما يمنع عن الفعلية كالخروج عن محل الابتلاء ( (ف)) اتضح انه ( (لا يكاد يختلف العلم الاجمالي باختلاف الاطراف قلة و كثرة)) في كون القليل محصورا و الكثير غير المحصور ( (في التنجيز و عدمه ما لم يختلف المعلوم))

ص: 93

و قد انقدح أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها، ضرورة أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليا لوجب موافقته قطعا، و إلا لم يحرم مخالفته كذلك أيضا (1).

______________________________

من ناحية عدم مقارنته لما يمنع عن التنجز و مقارنته لذلك ( (في الفعلية)) في غير المقارن لما يمنع ( (و عدمها)) أي و عدم الفعلية في المقارن لما يمنع و ( (بذلك)) يختلف العلم الاجمالي عن العلم التفصيلي ( (و)) اما من ناحية العلم بما هو علم فانه ( (قد عرفت آنفا انه لا تفاوت بين التفصيلي و الاجمالي في ذلك)) أي في التنجز و عدمه ( (ما لم يكن تفاوتا في طرف المعلوم ايضا)).

(1) يشير بهذا الى ما عن جماعة من ان العلم الاجمالي يختلف عن العلم التفصيلي في ناحية كونه علما اجماليا و تفصيليا، و ان العلم التفصيلي علة تامة في وجوب الموافقة القطعية و حرمة المخالفة القطعية، بخلاف العلم الاجمالي فانه علة تامة في حرمة المخالفة القطعية، و اما بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية فليس بعلة تامة، بل هو مقتض بالنسبة اليها.

و حاصله: التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية و وجوب الموافقة القطعية في العلم الاجمالي، و لازمه عدم المانع من الترخيص في اطراف المعلوم بالاجمال بمقدار لا يلزم منه مخالفة قطعية.

و قد انقدح مما ذكرنا سابقا: انه لا وجه للتفكيك بينهما، و وجه الانقداح ما عرفت من ان المعلوم بالاجمال اذا كان فعليا من جميع الجهات كان منجزا بالفعل، و مع كونه منجزا بالفعل لا يعقل عدم تأثيره في وجوب الموافقة القطعية، للزوم احتمال المضادة في الترخيص في احد اطراف المعلوم بالاجمال مع العلم الاجمالي المنجز فيما اذا كان منطبقا على ما رخص فيه، و احتمال اجتماع الضدين كالقطع باجتماعهما محال فلا بد من القطع بعدمه، لان المحال لا بد و ان يكون مقطوع العدم، و اذا لم يكن المعلوم بالاجمال فعليا من جميع الجهات، فكما لا تجب موافقته

ص: 94

و منه ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا، إما من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه، أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معينا أو مرددا، أو من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا

______________________________

القطعية كذلك لا تحرم مخالفته القطعية كما مر بيانه مفصلا، فالتفكيك بينهما من ناحية العلم نفسه لا وجه له بل هما متلازمان، و انه كلما حرمت مخالفة العلم الاجمالي قطعا وجبت موافقته قطعا، و كلما لم تجب موافقته قطعا لم تحرم مخالفته قطعا، فلا وجه لهذا التفكيك، فانه متى كان علة تامة في حرمة المخالفة كان علة تامة في وجوب الموافقة ايضا، و الى هذا اشار بقوله: ( (و قد انقدح)) مما مر من كون المدار في العلم الاجمالي على كونه فعليا من جميع الجهات و عدم ذلك في التنجز و عدمه و مع تنجزه لا فرق في حرمة المخالفة و وجوب الموافقة القطعيتين و كذلك الحال في عدم الفرق بينهما في حال عدم تنجزه فظهر من هذا ( (انه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية)) للعلم مع فرض كونه فعليا من جميع الجهات ( (مع)) القول ب ( (حرمة مخالفتها)) و لا يخفى ان ضمير مخالفتها يرجع الى القطعية: أي مع القول بحرمة المخالفة القطعية، إلّا انه لا يخلو هذا التعبير من سماجة و مسامحة.

ثم اشار الى الوجه في كون هذا الاحتمال الذي هو التفكيك بينهما لا وجه له بقوله: ( (ضرورة ان التكليف المعلوم اجمالا لو كان فعليا)) من جميع الجهات ( (لوجب موافقته قطعا)) كما تحرم مخالفته قطعا ( (و إلّا)) أي و ان لم يكن فعليا من جميع الجهات ( (لم يحرم مخالفته كذلك)) أي قطعا، فلا وجه لهذا التفكيك لان فرض التفكيك في مقام فرض كونه فعليا من جميع الجهات.

و قد تبين انه اذا كان فعليا من جميع الجهات تجب موافقته القطعية كما تحرم مخالفته القطعية، لما بينا من ان احتمال اجتماع المتضادين كالقطع باجتماعهما، فلا فرق بين العلم التفصيلي و العلم الاجمالي بعد ان كان العلم الاجمالي فعليا من جميع الجهات.

ص: 95

الشهر، كأيام حيض المستحاضة مثلا، لما وجب موافقته بل جاز مخالفته (1)، و أنه لو علم فعليته و لو كان بين أطراف تدريجية، لكان منجزا و وجب موافقته.

______________________________

(1) الموارد الثلاثة التي ذكرها، و هي خروج بعض الاطراف عن محل الابتلاء، و الاضطرار الى ارتكاب بعض الاطراف معينا او مرددا، او تعلق العلم الاجمالي بموضوع مردد يقطع بتحققه اما في ما مضى او في الحال او فيما يأتي في ضمن شهر واحد مثلا، كما في الزوجة المستمرة الدم في شهر واحد او اكثر، فانه يعلم ان بعض الدم حيض، و لكنه مردد بين ان يكون في ايام الشهر المتقدمة او في هذه الايام الحاضرة او في الايام المستقبلة، مثلا اذا كانت المرأة في العشرة الثانية من الشهر فيعلم اجمالا أن حيضها اما العشرة السابقة او هذه العشرة او العشرة الاخيرة من الشهر، و لا يخفى ان هذه الثلاثة تشترك في امر واحد و هو فقدان الشرط لتنجز العلم الاجمالي، فانه يشترط فيه ان يكون منجزا على كل تقدير من اطرافه، و في الخروج عن محل الابتلاء لا يكون منجزا في الطرف الخارج عن محل الابتلاء، في الاضطرار الى ارتكاب الطرف المعين أو المردد لا يكون ايضا منجزا في الطرف الذي يضطر الى ارتكابه، و في المردد بين ايام الشهر ايضا لا يكون منجزا فعلا في الطرف الماضي او المستقبل، و حيث انه سيبحث في الشبهات الآتية عن الاولين و هما الخروج عن الابتلاء و مورد الاضطرار، فينبغي التكلم فعلا في المردد بين الماضي و الحال و المستقبل.

و قد ظهر مما مر ايضا: ان العلم الاجمالي اذا لم يكن فعليا من جميع الجهات كما في هذه الموارد الثلاثة، فكما لا تجب موافقته القطعية لا تحرم مخالفته القطعية، و الى هذا اشار بقوله: ( (و منه ظهر انه لو لم يعلم فعلية التكليف)) من جميع الجهات فيما علم ( (اجمالا)) من حيث الموارد الثلاثة المشار اليها بقوله: ( (اما من جهة عدم الابتلاء ببعض اطرافه)) أي اطراف المعلوم بالاجمال ( (او من جهة الاضطرار الى

ص: 96

فإن التدرج لا يمنع عن الفعلية، ضرورة أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي، كالحج في الموسم للمستطيع (1)، فافهم.

______________________________

منجزية العلم الاجمالي في التدريجيات

بعضها)) أي بعض الاطراف اما ( (معينا او مرددا او من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه اجمالا في هذا الشهر كايام حيض المستحاضة مثلا)) المستمرة الدم و هو مردد بين ما مضى من ايام الشهر و بين الايام الحالية و بين الايام المستقبلة، فانه في هذه الموارد الثلاثة لما لم يكن منجزا و فعليا من جميع الجهات فلا تجب موافقته و لا تحرم مخالفته، و لذا قال: ( (لما وجب موافقته بل جاز مخالفته)) القطعية.

(1) توضيحه يتوقف على بيان امرين:

الاول: ان المراد من التدريجي و غير التدريجي ليس ما لا يمكن اجتماعهما في زمان واحد و ما يمكن اجتماعهما في زمان واحد، فان من علم بان احدى زوجتيه حائض يجب موافقة هذا العلم الاجمالي بترك وطيهما معا و ان كان وطؤهما معا في آن واحد محالا، و كذلك من علم بنجاسة احد الإناءين فانه يحرم عليه شربهما معا و ان كان شربهما معا في آن واحد لا يمكن غالبا، بل المراد من التدريجية هو ان احدهما بخصوصه لا يمكن ان يقع الا في المستقبل، و المراد من غير التدريجي هو ما يمكن ان يقع كل منهما في حد ذاته في الحال، فان شرب كل واحد من الإناءين يمكن ان يقع في الحال في حد ذاته، و كذلك وطء كل من الزوجتين فانه ايضا يمكن ان يقع كل واحد من وطء كل منهما في الحال، فهما من غير التدريجي و ان لم يمكن اجتماعهما في زمان واحد معا، و هذا بخلاف وطء الحائض التي يكون حيضها في آخر الشهر فانه لا يمكن ان يكون وطؤها محرما الا في آخر الشهر.

الثاني: عدم فعلية الخطاب المتعلق بالمستقبل: تارة يكون لعدم فعلية موضوعه، و هو الحيض مثلا، فان الموضوع لحرمة وطء الزوجة هو الحيض، فحيث لا تكون حائضا لا تكون حرمة الوطء فعلية، و اما نفس الزمان فلا مدخلية له في الحرمة و هو واضح، فعدم فعلية الخطاب المتعلق بالحيض الذي يكون في آخر الشهر لعدم

ص: 97

.....

______________________________

الحيض، لا لان زمانه مستقبل و ليس بفعلي، و لذا لو حلف على ترك وطء زوجته غدا بناء على صحة المعلق، فان الخطاب بحرمة وطء الزوجة المحلوف على ترك وطيها غدا فعلي، و ان كان ظرف الوطء مستقبلا.

و اخرى يكون الزمان شرطا للوجوب كما في الوقت بالنسبة الى الصلاة، فان عدم الفعلية فيه لانتفاء الشرط فعلا و هو الزمان، و اما اذا كان الزمان شرطا للواجب كالحج بناء على الواجب المعلق فالتكليف فعلي فيه.

اذا عرفت هذا ... فنقول: ان حرمة وطء الزوجة المستمرة الدم المعلوم اجمالا تحقق الحيض في ضمن الشهر الواحد انما لا يكون بفعلي لعدم احراز موضوعه و هو الحيض، اما ناحية كون ظرفه مستقبلا فلا يمنع عن الخطاب الفعلي، لما مر في الواجب المعلق من صحة تعلق الخطاب بامر استقبالي كما يصح تعلقه بامر حالي، و ان الخطاب بالحج للمستطيع هو فعلي في وقت تحقق الاستطاعة و ان كان ظرف اداء مناسك الحج في المستقبل، فالمسوغ لوطء الحائض المذكورة المردد امر حيضها بين الحال و الاستقبال او بين الماضي و الحال و الاستقبال هو عدم فعلية الموضوع لحرمة الوطء و هو الحيض، لا لان ظرف الحيض امر استقبالي، و يشهد لعدم مدخلية الاستقبال نفسه هو انه لو علم اجمالا بحلفه على ترك وطء زوجته، و تردد بين كونه قد حلف على ترك وطيها اليوم او غدا، فانه لا اشكال في لزوم موافقته القطعية بترك وطيها اليوم و غدا، فكون زمان الخطاب مرددا بين كونه حالا أو استقبالا لا يمنع عن فعلية الخطاب و انما المانع في مسألة الحائض هو عدم تحقق الموضوع، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (و انه لو علم فعليته)) أي لو علم فعلية الخطاب ( (و لو كان بين اطراف تدريجية)) كما في المثال المذكور، فان من علم بالحلف على ترك وطء زوجته و تردد بين كونه قد حلف على ترك وطيها اليوم او غدا ( (لكان)) الخطاب بترك وطيها ( (منجزا)) و ان تردد بين زمان حالي و زمان استقبالي ( (و وجب)) عليه ( (موافقته فان)) نفس ( (التدرج)) في الزمان ( (لا يمنع عن الفعلية ضرورة انه كما يصح

ص: 98

تنبيهات الاشتغال
اشارة

الاول: إن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معيّن، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معيّن (1)،

______________________________

الاول: الاضطرار الى بعض اطراف العلم الاجمالي

التكليف بامر حالي كذلك يصح)) التكليف المتعلق ( (بامر استقبالي كالحج في الموسم للمستطيع)) فان الخطاب بالحج يكون فعليا و ان كان متعلقه امرا استقباليا كما مرّ تحقيق ذلك في الواجب المعلّق.

(1) توضيحه: ان الاضطرار اما ان يكون الى معين او الى غير معين.

و الاول: كما اذا علم بغصبيّة احد الإناءين كان احدهما ماء و الآخر خلا فاضطر الى شرب الماء.

و الثاني: كما اذا كان الاناءان- المعلوم غصبية احدهما او نجاسته- ماء بان علم ان احد هذين الماءين في الإناءين نجس او مغصوب، فاضطر الى شرب احدهما، و على كلّ من الفرضين فاما ان يكون الاضطرار سابقا على العلم الاجمالي، أو يكون مقارنا له، او متأخرا عنه، و حيث لا فرق بين المقارنة و السبق فالتقسيم يكون باعتبار تأخر الاضطرار عن العلم تارة، و عدم تأخره عنه اخرى ... فالاقسام اربعة:

- الاول: الاضطرار الى المعيّن قبل العلم.

- الثاني الاضطرار الى المعيّن بعد العلم.

- الثالث: الاضطرار الى غير المعيّن قبل العلم.

- الرابع: الاضطرار الى غير المعيّن بعد العلم.

ثم لا يخفى ان الاقوال في المسألة ثلاثة:

الاول: مختار المصنف في المتن و هو عدم تنجز العلم الاجمالي في الاقسام الاربعة كلها بواسطة الاضطرار، فلا فرق بين ان يكون الاضطرار قبل العلم او بعده و سواء كان الى معيّن او غير معيّن.

ص: 99

ضرورة أنه مطلقا موجب لجواز ارتكاب أحد الاطراف أو تركه، تعيينا أو تخييرا، و هو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا، و كذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا (1)، و ذلك لان التكليف المعلوم بينها من أول الامر كان محدودا

______________________________

الثاني: ما يظهر من حاشيته في المقام في هامش الكتاب (1): و هو ان الاضطرار الى غير المعين سواء كان قبل العلم او بعده يمنع عن التنجز، و اما الاضطرار الى المعيّن فان كان قبل العلم منع عن التنجز و ان كان بعد العلم لا يمنع عن التنجز.

الثالث: ما يظهر من الشيخ الاعظم و هو ان الاضطرار انما يمنع عن تنجز التكليف المعلوم بالاجمال في خصوص ما اذا كان الى معين و كان سابقا على العلم، اما الاضطرار الى المعيّن المتأخر عن العلم فلا يكون مانعا عن التنجز، و مثله ما اذا كان الاضطرار الى غير المعين سواء كان سابقا على العلم او متأخرا عنه فانه لا يمنع عن التنجز.

و قد اشار الى مختاره في المتن بقوله: ( (كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان الى واحد معين كذلك يكون مانعا لو كان الى غير معيّن)) و في ذيل هذه العبارة اشار الى عدم الفرق بين سبق الاضطرار على العلم و بين تأخره عن العلم بقوله: ( (و كذلك لا فرق بين ان يكون الاضطرار كذلك)) أي الى المعيّن او غير المعيّن ( (سابقا على حدوث العلم)) الاجمالي ( (او لاحقا له)).

(1) يشير بهذا الى السبب في عدم الفرق بين الاضطرار الى المعيّن و الى غير المعيّن، و سيأتي الاشارة الى السبب في عدم الفرق بين سبق الاضطرار عن العلم و تأخره بقوله: ( (و ذلك)).

و توضيح الحال في عدم الفرق بين الاضطرار الى المعيّن و الى غير المعيّن: هو ان الترخيص في المعيّن تعييني و في غير المعين تخييري، و لازم الترخيص سواء كان تعيينا او تخييرا هو عدم العقاب على الحرام لو صادف كونه هو الطرف المعيّن في المعين

ص: 100

.....

______________________________

واحد الاطراف في غير المعين، فيكون العقاب على الطرف الآخر عقابا على غير الحرام، فالترخيص للاضطرار في الطرف أو في احد الاطراف على كل حال بحيث لو صادف انه هو الحرام لكان حلالا بواسطة الاضطرار، فلا وجه لتنجز العلم الاجمالي في الطرف غير المضطر اليه، لانه يكون من المشكوك، و لا شبهة في ان المشكوك مجرى البراءة.

و بعبارة اخرى: ان العلم الاجمالي لا بد ان يكون منجزا على كل تقدير، و من الواضح انه في الطرف المضطر اليه لا يكون منجزا.

و الحاصل: انه مجرد الاضطرار الى احد الاطراف معينا او مخيرا يصيّر الطرف المضطر اليه جائز الارتكاب مطلقا و ان كان هو الحرام، و الترخيص بنحو الاطلاق ينافي المنع عن الطرف الآخر بنحو الاطلاق ايضا، لان لازم الاطلاق العقاب فيه على غير الحرام، فلازم الترخيص في طرف بنحو الاطلاق عدم المنع عن الطرف الآخر، لانه حيث لا يصح العقاب عليه بنحو الاطلاق فيكون مشكوكا بدوا و هو مجرى البراءة دون الاحتياط، و اليه اشار بقوله: ( (ضرورة انه)) أي الاضطرار ( (مطلقا موجب لجواز ارتكاب احد الاطراف او تركه)) أي ترك ارتكابه ( (تعيينا) في الاضطرار الى المعين ( (او تخييرا)) في الاضطرار الى غير المعيّن، و قد عرفت ان الاضطرار الموجب للترخيص مطلقا في المعيّن و في غير المعين و ان كان هو الحرام ينافي المنع عن الطرف الآخر.

و من الواضح: انه بعد الترخيص لا يبقى العلم بحرام مردد بين الطرفين، لان لازم الترخيص في الطرف المضطر اليه معيّنا او في احد الاطراف مخيرا مطلقا- و ان كان هو الحرام- هو احتمال كون المرخص فيه هو الحرام، و لازم هذا جليا انه لا علم بالحرام قطعا بعد الترخيص في احد الاطراف، و يكون مشكوكا بدوا فهو مجرى البراءة، و الى هذا اشار بقوله: ( (و هو)) أي الترخيص و جواز الارتكاب بسبب الاضطرار في احد الاطراف ( (ينافي العلم)) الفعلي ( (بحرمة المعلوم او بوجوبه بينها

ص: 101

بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوما، لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين، أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الاطراف بلا تعيين (1).

______________________________

فعلا)) أي بين الاطراف، لاحتمال كون الحرام هو المرخص فيه و هو الجائز ارتكابه بحكم الشارع و بالوجدان، و لازم ذلك الجواز- في احد الاطراف المحتمل كونه هو الحرام- لا يبقى علم بحرام فعلي في بقية الاطراف او علم بواجب فعلي فيها.

و قد ظهر مما ذكرنا: ان جواز الارتكاب منوط بحصول الاضطرار، فبمجرد تحقق الاضطرار يتحقق الاذن من الشارع، لوضوح دلالة قوله عليه السّلام رفع ما اضطروا اليه على ذلك، و ان الرافع للتكليف هو نفس الاضطرار دون الارتكاب، فسواء ارتكب المضطر ام لم يرتكب يتحقق الاذن له في الارتكاب، فالزمان المتخلل بين زمن الاضطرار و بين زمن الارتكاب الحكم فيه هو الترخيص و جواز الارتكاب، لا ان الترخيص يكون مقارنا لزمن الارتكاب، و مثله عند العقل، لوضوح ان التكاليف منوطة بالقدرة على طرفي الفعل او الترك، و عند حصول الاضطرار لا يكون للمكلف قدرة على الطرفين، لوضوح ان الطرف المضطر الى ارتكابه لا قدرة عليه للمكلف.

فاتضح: انه بمجرد حصول الاضطرار يتحقق الترخيص شرعا و عقلا.

(1) يشير بهذا الى عدم الفرق بين الاضطرار السابق على العلم الاجمالي و بين الاضطرار اللاحق بعد العلم الاجمالي.

و توضيحه يتوقف على بيان امرين: الاول: ان الفرق بين الاضطرار السابق و اللاحق هو انه في الاضطرار السابق على العلم الاجمالي حيث انه يحتمل ان يكون المضطر اليه هو الحرام الواقعي، فلا يكون العلم الاجمالي الحاصل بعد الاضطرار

ص: 102

.....

______________________________

منجزا اصلا، بخلاف العلم الاجمالي السابق على الاضطرار فانه قبل الاضطرار منجز لعدم المانع.

الثاني: ان القدرة على جميع الاطراف شرط في تنجز التكليف بقاء و حدوثا، فما لا قدرة عليه لا يكون العلم منجزا فيه، سواء كان عدم القدرة سابقا على حدوث التكليف فلا يكون منجزا حدوثا، او كان لاحقا للتكليف فلا يكون منجزا بقاء، لوضوح ان القدرة شرط للتكليف حدوثا و بقاء، فكما ان الاضطرار الموجب لعدم القدرة يكون موجبا لعدم حدوث التنجز اذا كان سابقا، يكون كذلك موجبا لانقطاع التنجز اذا كان لاحقا. فاتضح: ان الاضطرار الموجب لعدم القدرة به ينتهي التكليف المعلوم اذا كان لاحقا للعلم. فكون التكليف السابق على الاضطرار منجزا قبل حصول الاضطرار لا يوجب فرقا في المقام، لعدم الفرق بين عدم تنجز التكليف لتحقق المانع و بين عدم التكليف المرتفع بحصول المانع، فلا فرق بين عدم حدوث التنجز و بين ارتفاعه بقاء.

و اتضح مما ذكرنا: ان التكليف محدود بعدم الاضطرار، فقبل حصول الاضطرار الى التكليف انما يكون منجزا لعدم حصول ما هو الحد له، و بعد حصول حده لا بقاء له، لما عرفت من كون القدرة حدا للتكليف و الاضطرار موجب لعدم القدرة، فالتكليف قبل الاضطرار محدود بعدم حدوث الاضطرار، و لازم ذلك ان لا بقاء له بعد عروض الاضطرار.

و ببيان آخر نقول: ان هنا امورا ثلاثة: الاول: انه لا اشكال في انه اذا تعلق الشك في حصول البراءة عما اشتغلت الذمة به فهو مورد الاحتياط، و هو معنى قولهم شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

الثاني: انه لا إشكال ايضا في ان الاضطرار بحسب الدليل الشرعي الدال على رفع الاضطرار يكون من حدود التكاليف الواقعية التي كانت بموجب اطلاقها شاملة

ص: 103

.....

______________________________

لحالة الاضطرار و عدمه، فانه بعد تحقق دليل رفع الاضطرار فالجمع بينهما يقتضي كون الاضطرار حدا للتكاليف الواقعية.

الثالث: انه من الواضح ايضا ان المؤثر من القطع واقعا هو ما كان مطابقا للواقع، أما اذا انكشف انه جهل مركب فلا يكون مؤثرا.

و قد اتضح من هذه الامور الثلاثة انه لا فرق بين الاضطرار السابق و اللاحق على حد سواء، و الفرق بينهما هو انه في الاضطرار السابق يكون الشك في تنجز التكليف حدوثا، و في الاضطرار اللاحق ينكشف ان هذا التنجز الذي كنا نرى استمراره لم يكن مستمرا، و ان العلم الاجمالي كان محدودا في المقام بالاضطرار، لانه حيث يحتمل ان يكون ما فيه الاضطرار هو الحرام الواقعي فلذا يشك في وجود التكليف بعد الاضطرار، و اذا كان التكليف محتملا كان مورد البراءة.

لا يقال: ان الاضطرار و ان كان حدا للتكليف، إلّا انه بحصوله يكون موجبا لانقطاع التكليف، و اما قبل حصول الاضطرار فلا اشكال في كون التكليف منجزا، و حيث يحتمل كون الحرام واقعا هو الطرف غير المضطر اليه فيشك لذلك في انقطاع التنجز فيستصحب تنجزه بعد عروض الاضطرار.

فانه يقال: لا مجال للاستصحاب بعد كون الاضطرار من حدود التكليف، فان معنى كونه من حدوده هو حدوث الترخيص شرعا بمجرد عروضه فيما وقع الاضطرار اليه، و قد عرفت ان الترخيص في المضطر اليه مطلقا و ان كان حراما واقعا ينافي بقاء العقاب على الحرام الواقعي فلا شك في بقاء التنجز بعد عروض الاضطرار فلا مورد لاستصحابه، و الى هذا اشار بقوله: ( (و ذلك)) أي ان الوجه في عدم الفرق بين سبق الاضطرار و لحوقه هو ( (لان التكليف المعلوم بينها)) أي بين الاطراف ( (من اول الامر كان محدودا بعدم عروض الاضطرار الى متعلقه)) فلا فرق بين سبق الاضطرار على التكليف و بين لحوق الاضطرار للتكليف و عروضه عليه بعد تحققه، و لذلك ( (فلو عرض)) الاضطرار ( (على بعض اطرافه)) أي على بعض اطراف

ص: 104

.....

______________________________

التكليف ( (لما كان التكليف به)) أي لما كان التكليف بالمعلوم بالاجمال ( (معلوما)) بعد عروض الاضطرار ( (لاحتمال ان يكون)) منطبق التكليف ( (هو المضطر اليه فيما كان الاضطرار الى المعين او يكون)) منطبق التكليف ( (هو المختار فيما كان)) الاضطرار ( (الى بعض الاطراف بلا تعيين)) هذا ما اختاره في المتن.

و اما ما اختاره في هامش هذا الكتاب ..

فتوضيحه: ان الفرق بين الاضطرار الى المعين و بين الاضطرار الى احدهما غير المعين، هو ان لازم الاضطرار الى غير المعين هو الترخيص في ارتكاب ايهما يختاره المكلف، و مع الترخيص في ارتكاب ايهما شاء للاضطرار لا فرق بين الاضطرار على التكليف او تأخره عن التكليف في خصوص الاضطرار الى غير المعين، لان الترخيص مطلقا في ارتكاب ايهما شاء- و لو كان هو الحرام الواقعي الذي لازمه عدم بقاء العقاب على الحرام الواقعي لو صادف ان المختار للمكلف هو الحرام الواقعي- ينافي بقاء العقاب على الحرام الواقعي.

و اما الاضطرار الى المعين فلو تأخر الاضطرار عن التكليف فلانه و ان كان لا شك في ان التكليف المعلوم اجمالا محدود بالاضطرار المعلوم و انه لا قدرة بعد الاضطرار، إلّا ان الشك في المعين يرجع بالدقة الى الشك في ان ذلك المعلوم بالاجمال المعلوم تحديده بالاضطرار هل ينطبق على المعين الذي تعلق الاضطرار به ام لا ينطبق عليه؟

و مع معلومية تنجزه قبل عروض الاضطرار فالشك في انطباقه على المعين يوجب الشك في انقطاع تنجزه، و من الواضح ان التنجز المعلوم لا ينقطع بالشك في بقائه.

و منه يتضح الفرق بين المعين و غير المعين، فان اطلاق الترخيص لازمه الترخيص في مخالفة المنجز بما هو منجز، و حينئذ لا محالة لا بقاء للتنجز مع اطلاق الترخيص فيه، بخلاف الاضطرار الى المعين فانه لا اطلاق في الترخيص فيه الى المنجز بما هو منجز، بل غايته هو كون الاضطرار موجبا للترخيص فيه بخصوصه، و لذا يرجع الشك فيه

ص: 105

.....

______________________________

الى الشك في انطباق المنجز المعلوم المحدود بالاضطرار على هذا المعين الذي وقع الاضطرار اليه.

و بعبارة اخرى: ان فعلية تنجز التكليف في الطرفين قبل عروض الاضطرار كان متحققا، و بعد عروض الاضطرار الى المعين يشك في ان التكليف المنجز هل كان محدودا بالاضطرار فيما كان المضطر اليه المعين هو الحرام الواقعي، او كان غير محدود بالاضطرار فيما كان الحرام الواقعي في الطرف غير المضطر اليه؟ ... و مع الشك في كون التكليف الواقعي المعلوم بالاجمال محدودا تنجزه فلا يكون باقيا او غير محدود تنجزه فيكون باقيا- يلزم بقاؤه لتحقق شغل الذمة به قبل عروض الاضطرار، فلا بد من الفراغ اليقيني عن ذلك.

و الحاصل: ان التكليف قبل عروض الاضطرار الى المعين كان فعليا مطلقا، و بعد عروض الاضطرار الى المعين يشك في كون فعليته هل تحددت بالاضطرار الى المعين أم هي باقية غير محدودة في الطرف غير المضطر اليه؟ و لا وجه لرفع اليد عن فعليته المطلقة قبل الاضطرار بالشك في تحديدها، و لازم ذلك بقاؤه منجزا في الطرف المعين غير المضطر اليه. و هذا بخلاف الاضطرار الى غير المعين فان عروض الاضطرار الى غير المعين يوجب الترخيص المطلق في أي طرف شاءه المكلف، فلا يكون هناك شك في دوران التكليف المنجز بين المضطر اليه و غير المضطر اليه، لوضوح انه لا تعين للمضطر اليه حتى يكون الامر دائرا بينه و بين غيره، بل لازم الاضطرار الى غير المعين هو الترخيص غير المعين في طرف بخصوصه، و لازم الترخيص المطلق العلم بعدم بقاء الاطلاق في فعلية التكليف، و لاجل هذا عدل عما في المتن في الدورة الاخيرة الى ما ذكره في هامش الكتاب: من بقاء العلم الاجمالي منجزا في خصوص الاضطرار اللاحق فيما اذا كان الاضطرار الى الطرف المعين.

ص: 106

لا يقال: الاضطرار إلى بعض الاطراف ليس إلا كفقد بعضها، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك لا ينبغي الاشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجا عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه (1).

______________________________

(1) حاصله: لا يخفى ان هذا مرتبط بما اختاره في المتن، و حاصله: النقض على ما ذكره من كون الاضطرار الى احد الاطراف موجبا لعدم تنجز التكليف في الطرف غير المضطر اليه.

و بيانه: انه لا اشكال في كون فقد بعض اطراف المعلوم بالاجمال بعد تنجزه ليس بمانع من بقائه منجزا في الطرف الموجود، مثلا لو علم بنجاسة احد الإناءين ثم تلف احد الإناءين فلا اشكال عندهم في بقاء العلم الاجمالي منجزا في لزوم اجتناب الطرف الموجود، و كذا لو علم بوجوب اكرام زيد أو عمرو ثم مات احدهم فلا اشكال ايضا عندهم في لزوم اكرام الشخص الباقي.

و من الواضح ايضا ان فقد احد الاطراف مما يحتمل معه ذهاب المعلوم بالاجمال، لاحتمال كونه هو الثابت، و لا فرق بين عدم الحرمة لاجل ذهاب ما هو الحرام واقعا و تلفه، و بين عدم الحرمة لاجل الاضطرار الى ما هو الحرام واقعا، و حيث لم يكن اشكال في لزوم الاحتياط في الطرف الباقي بعد تلف احد الاطراف، فكذلك لا ينبغي ان يكون اشكال في لزوم الاحتياط في الطرف غير المضطر اليه فيما اذا عرض الاضطرار الى بعض الاطراف بعد تنجز التكليف، و يلزم الاجتناب عن الطرف الآخر، كما يلزم الاجتناب مع الفقدان فيما اذا كان المعلوم بالاجمال هو الحرمة، و يجب امتثاله في الطرف الباقي فيما اذا كان المعلوم بالاجمال هو الوجوب، و الحال مثله في عروض الاضطرار، و عبارة المتن واضحة، و قد اشار الى وجوب الاجتناب في الحرمة و وجوب الامتثال في الوجوب بقوله: ( (فيجب الاجتناب عن الباقي)) فيما اذا كان المعلوم بالاجمال هو حرمة احد الاطراف، و فيما اذا كان المعلوم بالاجمال

ص: 107

فإنه يقال: حيث أن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به و قيوده، كان التكليف المتعلق به مطلقا، فإذا اشتغلت الذمة به، كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك، و هذا بخلاف الاضطرار إلى تركه، فإنه من حدود التكليف به و قيوده، و لا يكون الاشتغال به من الاول إلا مقيدا بعدم عروضه، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلا إلى هذا الحد، فلا يجب رعايته فيما بعده، و لا يكون إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية، فافهم و تأمل فإنه دقيق جدا (1).

______________________________

هو الوجوب بقوله: ( (او ارتكابه)) أي ارتكاب الطرف الباقي و الاتيان به، لان شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ عن عهدة التكليف باليقين ايضا، و اليه اشار بقوله: ( (خروجا عن عهدة ما تنجز عليه)) و هو التكليف الذي تنجز عليه ( (قبل عروضه)) أي قبل عروض الاضطرار.

(1) حاصل ما اجاب به عن هذا النقض هو ان الاضطرار من حدود التكليف، و الفقدان ليس من حدود التكليف، و هذا الفرق هو الموجب لكون عروض الاضطرار رافعا لفعلية التكليف المعلوم بالاجمال دون الفقدان.

و توضيحه: ان الفرق بينهما يتضح في فرض المعلوم بالتفصيل، فان فقدان الموضوع يوجب ارتفاع التكليف لعدم المحل للمكلف به، و في الاضطرار يرتفع التكليف مع وجود المحل و الموضوع للتكليف، فالاضطرار حدّ للتكليف بذاته لانه به يرتفع مع وجود موضوعه و تحقق محله، بخلاف ارتفاع التكليف بعدم موضوعه فانه و ان ارتفع به التكليف، الّا ان ارتفاع التكليف بذلك لانه انعدم موضوعه لا لتحقق ما يمنع عن نفس التكليف مع بقاء موضوعه.

و منه يتضح: ان حدّ التكليف نفسه هو ما امكن ان يكون رافعا له مع الغض عن موضوعه، بخلاف ارتفاع الموضوع فانه لا يعقل ان يكون حدّا للتكليف مع الغض

ص: 108

.....

______________________________

عن موضوعه، و لذلك كان الاضطرار من حدود نفس التكليف، دون ارتفاع موضوعه فانه ليس من حدود ذات التكليف.

و بعبارة اخرى: ان عروض الاضطرار يوجب الترخيص فيما هو الحرام، بخلاف فقدان موضوع الحرام فانه لا يوجب الترخيص في الحرام لانعدام ما هو الحرام بعدم الموضوع، فلا معنى للترخيص في الحرام حال عدم الحرام.

فاذا اتضح الفرق بينهما في كون الفقدان ليس من حدود التكليف، بخلاف الاضطرار فانه من حدود نفس التكليف- اتضح الفرق بينهما في المعلوم بالاجمال، فان التكليف المنجز اذا عرض فقدان احد الاطراف لا يرتفع تنجزه، اذ لم يعرض على نفس التكليف ما يوجب الترخيص، و حيث انه يشك في ارتفاع ما اشتغلت الذمة به فلا بد من الفراغ اليقيني عنه، بخلاف ما اذا عرض الاضطرار فانه حيث كان موجبا للترخيص فبقاء التكليف المنجز يوجب احتمال اجتماع الضدين، و لذلك يكون التكليف مقيدا بعدم الاضطرار من الاول، و مع عروض ما يرتفع به فعلية التكليف لا يكون التكليف فعليا بعد عروضه، و به ترتفع فعلية التكليف المنجز، و مع ارتفاع فعلية التكليف لا شك في شغل الذمة حتى يلزم الفراغ اليقيني عنه. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (فانه يقال حيث ان فقد المكلف به)) الذي هو الحرام ( (ليس من حدود التكليف به)) أي ليس من حدود الطلب المتعلق به ( (و)) لا من ( (قيوده)) بخلاف الاضطرار فانه من حدود نفس الطلب المتعلق به و قيوده، فلذلك ( (كان التكليف المتعلق به مطلقا)) من حيث فقدان موضوعه، اذ لا يعقل ان يتقيد به.

و لا ينبغي ان يقال: انه اذا لم يكن التقييد لا يمكن الاطلاق.

فانه يقال: المراد من الاطلاق هنا هو العدم المقابل للايجاب، لا العدم المقابل للملكة، فمراده من قوله مطلقا هو عدم امكان تقيد التكليف بعدم موضوعه، و اذا لم يكن متقيدا به ( (فاذا اشتغلت الذمة به)) كما هو المفروض من عروض الفقدان بعد تنجز العلم الاجمالي ( (كان قضية الاشتغال به يقينا)) يستدعي ( (الفراغ عنه

ص: 109

.....

______________________________

كذلك)) أي يقينا، و حيث يشك في الفراغ اذا لم يجتنب عن الطرف الباقي فلا بد من الاجتناب عنه تحصيلا للفراغ ( (و هذا بخلاف الاضطرار الى تركه)) أي الى ترك التكليف نفسه المتعلق بالمكلف به مع بقاء موضوعه لان الاضطرار يوجب الترخيص فيما هو الحرام، فلذلك كان من حدود نفس التكليف، و لذا قال: ( (فانه من حدود التكليف به و قيوده)) فالتكليف محدود بعدم الاضطرار من الاول ( (و لا يكون الاشتغال به من الاول الا مقيدا بعدم عروضه)) أي بعدم عروض الاضطرار، فاذا عرض الاضطرار في احد اطراف المعلوم بالاجمال فلا يقين بفعلية التكليف، لاحتمال كون الحرام في الطرف المضطر اليه المرتفع به فعلية التكليف.

لا يقال: كان التكليف فعليا قبل الاضطرار و الآن يشك في فعليته فتستصحب.

فانه يقال: بعد ما عرفت من كون التكليف محدودا بالاضطرار، فالتكليف الذي كان فعليا قبل عروض الاضطرار هو التكليف المقيد بعدم الاضطرار، و لم تكن فعليته مطلقة من جهة الاضطرار و عدمه حتى يصح استصحابه، فبعد عروض الاضطرار لا يكون هناك الا شك في التكليف الفعلي و هو مورد البراءة، و لذا قال (قدس سره): ( (فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به الا الى هذا الحد)) و هو ما قبل عروض الاضطرار و بعد عروض ما يوجب ارتفاع فعليته لو صادفه لفرض كونه حدا له ( (فلا يجب رعايته)) أي لا يجب رعاية التكليف ( (فيما بعده)) أي فيما بعد عروض ما يحتمل كونه هو الحد له فلا يجب الاحتياط فيه ( (و لا يكون)) الاحتياط فيه ( (الا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية)).

و مما ذكرنا تبين الاشكال فيما ذهب اليه الشيخ الاعظم: من ان الاضطرار انما يحل العلم الاجمالي في خصوص الاضطرار الى المعين قبل العلم الاجمالي.

و اما في غيره- و هو الاضطرار الى غير المعين سواء في السابق على العلم الاجمالي او في اللاحق للعمل الاجمالي، و الاضطرار الى المعين اللاحق للعلم

ص: 110

.....

______________________________

الاجمالي- فلا يحلّ العلم الاجمالي و يبقى التكليف منجزا في هذه الصور الثلاث.

و الوجه في بقاء العلم الاجمالي منجزا في الاضطرار الى غير المعين- سواء كان سابقا على العلم الاجمالي او لاحقا له- ان الاضطرار الى غير المعين ليس اضطرارا الى النجس، اذ لا خصوصية خاصة في الاناء النجس لرفع الاضطرار، فلا اضطرار الى ارتكاب النجس و لو على سبيل الاحتمال، لانه حين عروض الاضطرار لا خصوصية للنجس حتى يكون الاضطرار اضطرارا اليه. نعم حين الارتكاب يحتمل ان يكون النجس هو الذي ارتكبه المضطر، فقبل الارتكاب الاضطرار انما هو الى انه لا يمكنه ترك الإناءين معا، و لا خصوصية للاناء النجس، و لما كان الحرام بما هو حرام غير مضطر اليه، و متعلق التكليف بما هو مقدور فعلا و تركا، و ليس المردد بعنوان كونه مرددا حراما و لا هو بما هو مردد مضطرا اليه. بل معنى الاضطرار الى غير المعين ما عرفت و هو انه لا يقدر على تركهما معا، مع القدرة على فعل كل منهما و تركه في نفسه، فشرائط تنجيز الخطاب الواقعي من العلم به و القدرة على متعلقة موجودة فيؤثر العلم اثره.

و الحاصل: ان المكلّف يعجز عن الموافقة القطعية دون الامتثال بالكليّة، و انما يكون معذورا فيما هو عاجز عنه و هو الموافقة القطعية، دون اصل الامتثال بالكلية، فيعذر عقلا فيما هو عاجز عنه و هو الموافقة القطعية و تركهما معا، لا في غيرها و هو اصل الموافقة كليّة مع ثبوت المقتضي لأصل الموافقة و لو في ترك احد الإناءين.

و قد اجيب عنه بجوابين: الاول: ما اشار اليه في المتن و هو منافاة الترخيص التخييري مع الحرمة التعيينيّة و هي حرمة الاناء غير الملزوم شربه، و تسقط الحرمة التعيينية للمضادة و هي منافاة الترخيص التخييري للحرمة التعيينية، فلا علم بتكليف فعلي بعروض الاضطرار الى احدهما غير المعين حتى يقال بان سقوط لزوم الموافقة القطعية لا يقتضي سقوط حرمة المخالفة القطعية.

ص: 111

الثاني: إنه لما كان النهي عن الشي ء إنما هو لاجل أن يصير داعيا للمكلف نحو تركه، لو لم يكن له داع آخر- و لا يكاد يكون ذلك إلا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به، و أما ما لا ابتلاء به بحسبها، فليس للنهي عنه موقع أصلا، ضرورة أنه بلا فائدة و لا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل (1)- كان الابتلاء بجميع الاطراف مما لا بد منه في تأثير العلم، فإنه

______________________________

الثاني: شرطية الابتلاء بتمام الاطراف
اشارة

الثاني: ما عن شيخنا الاستاذ (قدس سره) من ان المعذورية في ارتكاب احدهما و رفع عقاب الواقع عند المصادفة ينافي بقاء عقاب الواقع على حاله حتى تحرم المخالفة القطعية، لانه بمجرد الاضطرار يرتفع التكليف، لبداهة انه بمجرد الاضطرار ياذن له في الارتكاب سواء ارتكب ام لم يرتكب، فان الاضطرار الى ارتكاب احدهما غير المعين بمجرد عروضه بما هو مشفوع بالجهل بما هو الحرام واقعا يجوز له الشارع او العقل الارتكاب قبل ان يرتكب، فلا وجه للقول بالتوسط في التنجز في المقام كما عن بعض الاجلة الاكابر، فراجع ..

(1) هذا التنبيه الثاني لتحقيق حال الخروج عن محل الابتلاء بالنسبة الى التكليف، و توضيحه يحتاج الى بيان امور:

الاول: ان صريح الشيخ في رسائله (طاب ثراه) هو ان الخروج عن محل الابتلاء ليس هو الخروج الموجب لعدم القدرة عليه عقلا بحيث يكون الابتلاء به ممتنعا عقلا، كما لو كان قد خرج الى محل يحول بينه و بين المكلف، مثلا بحر لا يستطيع المكلف عبوره و لا واسطة عنده، و ليس المراد منه ايضا الخروج الموجب لكونه ممتنعا عادة بحيث لا يمكن الوصول اليه عادة، فان الخروج بهذين المعنيين مما يدخل في عدم القدرة العقلية و العادية، بل المراد منه هو ما امكن الابتلاء به، إلّا ان الابتلاء به كان خلاف العادة، كما لو خرج احد الإناءين الواقع طرفا للعلم الاجمالي الى بلد يبعد عادة ابتلاء المكلف به، و اذا كان المراد منه هذا المعنى لا ما يرجع الى الامتناع العقلي

ص: 112

.....

______________________________

و العادي، فلا بد و ان يكون الدليل عليه غير ما دلّ على اعتبار القدرة في فعلية التكليف.

الثاني: انه بعد ما عرفت المراد من الابتلاء الذي هو محل الكلام .. تعرف انه بعد قيام الدليل على اعتبار عدم الخروج في فعلية التكليف يكون من حدود التكليف، لوضوح بقاء ما هو الموضوع للتكليف، فيكون المرتفع هو التكليف نفسه، و ما كان رافعا لفعلية التكليف مع بقاء موضوعه فلازمه ان يكون حدا للتكليف، و ان فعليته منوطة به: أي ان فعلية التكليف منوطة بعدم الخروج عن محل الابتلاء.

الثالث: ان ما اشار اليه في المتن من الدليل لشرطية عدم الخروج عن محل الابتلاء لفعلية التكليف و هو امران: الاول: الاستهجان و ان فعلية الخطاب مع الخروج عن محل الابتلاء يكون مستهجنا عند العرف و لغوا و مما لا فائدة فيه.

و بيانه: ان النهي عن الشي ء كالامر به انما هو لداعي جعل الداعي للعبد الى ترك الفعل، كما انه في الامر لداعي جعل الداعي الى الفعل، ففي مورد الزجر و النهي انما يصح ان يكون النهي زاجرا و رادعا للعبد هو فيما اذا تمت مقدمات الفعل، بحيث لا يكون الرادع عنه الّا زجر المولى و نهيه، فحينئذ يصحّ خطاب المولى عبده بالزجر عن الفعل و طلب تركه منه، اما اذا كان الفعل متروكا بحسب طبعه لعدم الابتلاء به فلا فائدة في خطاب العبد بالترك لما هو متروك بحسب طبعه، و يعدّ الخطاب منه لعبده في الزجر عنه مستهجنا و لغوا لا فائدة فيه.

و يظهر مما ذكرنا: ان عدم الخروج عن محل الابتلاء هو من حدود التكليف التحريمي دون التكليف الايجابي، لان التكليف الايجابي هو ما كان بداعي جعل الداعي لايجاد الفعل، و من الواضح ان ايجاد الفعل يتوقف على ايجاد مقدماته، فاذا كان متعلق التكليف الايجابي خارجا عن محل الابتلاء عادة يجب على المكلف ادخاله في محل الابتلاء لتوقف ايجاده على ذلك، بخلاف الطلب التحريمي فانه لما كان بداعي جعل الداعي الى الترك فلا يمكن ان يكون هذا النهي داعيا للعبد الا حيث يكون

ص: 113

.....

______________________________

مقدمات الفعل كلها متحققة، بحيث لا يمنع العبد عن الفعل الّا نهي المولى عنه و زجره عن ارتكابه، فاذا فرضنا كونه متروكا بحسب طبعه عادة فلا داعي أيضا لجعل هذا الداعي.

لا يقال: انه اذا كانت المقدمات كلها موجودة و كان العبد منصرفا بحسب طبعه عن الفعل ايضا يكون الفعل متروكا بحسب طبعه، فلا داعي لجعل الداعي للردع عنه، و هذا مما لا يسعكم الالتزام به.

فانه يقال: ان المراد من جعل الداعي هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا، لا جعل ما هو داع بالفعل، و لما كانت المقدمات كلها موجودة فيمكن ان تتحقق الدعوة، لامكان ان ينقلب هذا الانصراف عنه الى الرغبة الى ايجاده، اما اذا لم تكن مقدماته موجودة اما كلها او بعضها فلا يعقل الّا ان يكون متروكا، و مع كونه لا بد ان يكون متروكا فلا فائدة في جعل الداعي الى تركه.

الثاني: انه لما كان الداعي هو جعل الداعي الى الترك، و كان المفروض كونه متروكا لعدم بعض مقدماته او كلها، فيكون جعل الداعي الى تركه من قبيل طلب الحاصل. و قد اشار الى ان النهي كالامر هو ايضا بداعي جعل الداعي بقوله: ( (انه لما كان النهي عن الشي ء انما هو لاجل ان يصير)) النهي ( (داعيا للمكلف نحو تركه)) أي نحو ترك الفعل ( (فيما لو لم يكن له)) هناك ( (داع آخر)) الى الترك: أي ان النهي لما كان بداعي جعل الداعي الذي معناه كون النهي داعيا الى الترك، فلازم ذلك انه اذا كان هناك سبب للترك كالخروج عن محل الابتلاء و كان الفعل متروكا بحسب طبعه عادة ان لا يبقى مجال لسببيّة النهي، و اذا كان كذلك فلا يكون الخطاب بطلب الترك فعليا مع فرض كون الفعل متروكا بحسب طبعه عادة ( (و لا يكاد يكون ذلك)) أي لا يكاد يكون النهي عن الشي ء داعيا للمكلف الى الترك ( (الا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به)) بان كان داخلا في محل الابتلاء عادة و كان مما يمكن ابتلاء المكلف به عادة ( (و اما ما لا ابتلاء به بحسبها)) أي بحسب العادة ( (فليس ل)) فعلية ( (النهي عنه موقع

ص: 114

بدونه لا علم بتكليف فعلي، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به (1).

و منه قد انقدح أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر و انقداح طلب تركه في نفس المولى فعلا، هو ما إذا صح انقداح

______________________________

الضابط في ما هو داخل في محل الابتلاء مما هو خارج عنه

اصلا)) و بهذا اشار الى أن عدم الخروج عن محل الابتلاء هو شرط غير شرط القدرة العقلية و العادية، بجعل العادة صفة و قيدا للابتلاء، بان يكون الابتلاء و عدم الابتلاء بحسب العادة دون القدرة كما مرّ بيانه. و بتخصيص النهي بقوله: ( (فليس للنهي عنه موقع اصلا)) اشار الى ان عدم الابتلاء شرط لخصوص النهي دون الامر.

و اشار الى الدليل الاول على هذا الاشتراط بقوله: ( (ضرورة انه بلا فائدة و لا طائل)) و اشار الى الدليل الثاني بقوله: ( (بل يكون من قبيل طلب الحاصل)).

(1) هذا جواب قوله: ( (لما كان النهي عن الشي ء)) ... في صدر العبارة، و تقديره انه لما كان النهي عن الشي ء انما هو لاجل ان يصير داعيا ... الى آخر العبارة، كان الابتلاء بجميع الاطراف مما لا بد منه في تأثير العلم الاجمالي.

و حاصله: انه بعد ما عرفت من ان النهي كالامر هو بداعي جعل الداعي و ان المتروك من طبيعته لعدم مقدماته او بعضها يلغو جعل الداعي من المولى الى تركه- تعرف ان الدخول في محل الابتلاء من شرائط فعلية التكليف، و مع خروج المعلوم بالتفصيل عن محل الابتلاء يعلم بعدم فعلية التكليف، و بخروج احد اطراف المعلوم بالاجمال عن محل الابتلاء لا بعلم بفعلية التكليف، لاحتمال ان الخارج عن محل الابتلاء هو متعلّق الخطاب واقعا. و الى هذا اشار بقوله: ( (كان الابتلاء بجميع الاطراف مما لا بد منه في تأثير العلم)) الاجمالي ( (فانه بدونه)) أي بدون الابتلاء بجميع الاطراف، فانه اذا خرج بعض الاطراف عن محل الابتلاء ( (لا)) يكون هناك ( (علم بتكليف فعلي لاحتمال)) انه قد ( (تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به)).

ص: 115

الداعي إلى فعله في نفس العبد (1) مع اطلاعه على ما هو عليه من الحال (2)، و لو شك في ذلك كان المرجع هو البراءة، لعدم القطع

______________________________

(1) مراد المصنف اعطاء الضابط لما هو داخل في محل الابتلاء مما هو خارج عن محل الابتلاء، و حاصل هذا الضابط ان المدار في الدخول في محل الابتلاء و الخروج عنه هو امكان انقداح الداعي في نفس العبد الى فعله، و عدم امكان انقداح الداعي الى الفعل في نفس العبد.

و توضيحه: انه نفرض ان العبد لا ينزجر بنهي المولى عن اتيان الفعل المنهي عنه، فاذا كان العبد بحيث يفعله لو لم يكن منقادا لنهي المولى فذلك الفعل داخل في محل الابتلاء، و اذا كان العبد بحيث لا ينقدح له ارادة فعله و ان لم يكن منقادا الى نهي المولى لعدم حصول مقدماته بالفعل فذلك الفعل خارج عن محل الابتلاء، فان النجس لو كان مثلا في غير بلد العبد لا ينقدح للعبد ارادة شربه فعلا.

و بعبارة اخرى: ان الضابط انه ان كان العبد بحيث يمكن ان يكون الرادع له عن فعل المنهي عنه هو نهي المولى، لا فقد بعض المقدمات او كلها، فذلك الفعل داخل في محل الابتلاء، و ان كان المانع للعبد عن الفعل هو عدم بعض مقدمات الفعل او كلها لا نهي، المولى فذلك هو الخارج عن محل الابتلاء.

و قد اشار المصنف في عبارته الى ما هو المناط في الابتلاء، و منه يظهر ان المناط في عدم الابتلاء هو عدم تحقق ما هو المناط للابتلاء بقوله: ( (و منه قد انقدح ان الملاك في الابتلاء)) الذي هو الشرط لفعلية التكليف من قبل المولى و ( (المصحح لفعلية الزجر)) منه ( (و انقداح طلب تركه في نفس المولى هو ما اذا صح)) هذا هو الخبر لقوله ان الملاك أي ان الملاك للفعلية من قبل المولى هو ما اذا كان بحيث يصح ( (انقداح الداعي الى فعله في نفس العبد)).

(2) لا يخفى انه قد اختلف في مرجع الضمير في اطلاعه في ان مرجعه هو العبد او المولى، فالمصرّح به من بعض الاساتذة الاعلام ان ضمير اطلاعه يرجع الى المولى،

ص: 116

.....

______________________________

لان المانع من فعلية النهي من قبل المولى هو منافاة الخروج عن محل الابتلاء لفعليته من قبل الحكيم، لعدم الفائدة في الفعلية بعد ان كان الفعل متروكا من طبعه، فان امكان كون النهي فعليا من قبل المولى بحيث يكون نهيه مما يمكن ان يكون داعيا الى ترك الفعل حيث تتمّ مقدماته، و اذا كان الفعل متروكا بطبعه لعدم مقدماته او بعضها فنهيه لا يمكن ان يكون داعيا الى الترك فعلا، و تكون فعليّته من قبل المولى لغوا و مستهجنة و الحكيم لا يفعل اللغو و المستهجن.

و لا يخفى ان اطلاع المولى على الدخول و الخروج عن محل الابتلاء هو الذي له دخل في فعلية الطلب من قبله، و اطلاع العبد و عدمه لا دخل له بالفعلية من قبل المولى.

و يمكن ان يقال: ان الدخول في محل الابتلاء هو شرط- واقعا- للفعلية، سواء اطلع المولى عليه ام لم يطلع، و في حال عدم اطلاع المولى على الخروج عن محل الابتلاء و ان كان لا منافاة فيه للحكمة من الحكيم لعدم اطلاعه، إلّا ان فعلية نهيه مما لا واقع لها واقعا، لعدم امكان ان يكون نهيه رادعا واقعا، مع انه خلاف ظاهر سوق العبارة، فان ظاهرها رجوع ضمير اطلاعه الى العبد خصوصا مع كون المولى في الاحكام الشرعية هو ما لا يخفى عليه شي ء، و العبد هو الذي يكون له اطلاع تارة على الدخول في محل الابتلاء، و لا يكون له اطلاع على ذلك اخرى بان كان جاهلا بكون المكلف به ليس في متناوله فعلا و خارج عن محل ابتلائه. و يكون المتحصّل من العبارة على هذا ان الضابط في فعلية التكليف من قبل المولى: هو كون العبد بحيث لو علم بالحال و اطلع عليه فان كان مما يمكن ان ينقدح الداعي له الى الفعل فهو مناط الدخول في محل الابتلاء، لانه في هذا الفرض يمكن ان يكون نهي المولى رادعا له و داعيا له الى الترك، و ان كان بحيث لا ينقدح الداعي الى الفعل في نفس العبد فهو مناط عدم فعلية التكليف من قبل المولى، لان الفعل على هذا الفرض يكون متروكا بحسب طبعه ففعليّة الخطاب فيه تكون لغوا و بلا فائدة، و اللّه العالم.

ص: 117

بالاشتغال، لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به إلا فيما إذا شك في التقييد بشي ء بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه، لا فيما شك في اعتباره في صحته، تأمل لعلك تعرف إن شاء اللّه تعالى (1).

______________________________

المرجع عند الشك في الخروج عن محل الابتلاء

(1) توضيحه يتوقف على بيان امور: الاول: انه قد ظهر مما ذكرنا انه لو علم بدخول الفعل في محل الابتلاء كان النهي عنه فعليا، و ان علم بخروجه عن محل الابتلاء كان النهي عنه غير فعلي، فاذا شك في كونه داخلا في محل الابتلاء او غير داخل ... فهل المرجع اطلاق خطاب النهي، او المرجع اصالة البراءة عن التكليف؟

الثاني: انه قد ظهر مما ذكرنا ايضا: ان الدخول في محل الابتلاء من الشرائط العقلية، بحيث يكون التكليف مع الدخول في محل الابتلاء صحيحا من المولى، و مع الخروج عن محل الابتلاء لا يكون التكليف من المولى صحيحا، فالشك في الدخول و عدمه مرجعه الى الشك في صحة التكليف من المولى عقلا و عدم صحته عقلا.

الثالث: ان الرجوع الى اطلاق الخطاب في مقام الشك في اخذ قيد للخطاب في الشبهة الحكمية او في تحقق ما هو قيده في الشبهة الموضوعية- بناء على صحة الرجوع الى اطلاق الخطاب فيها كما في المخصص اللبي- انما هو فيما اذا كان الخطاب مما احرز صحة الخطاب به عقلا و كان من ناحية اخذ قيد فيه شرعا و عدم اخذه شرعا، اما اذا لم يحرز صحة الخطاب عقلا فلا وجه للتمسك بالاطلاق.

الرابع: ان الشك في الدخول و عدمه: تارة يكون من ناحية الشبهة الحكمية بان كان خروج الشي ء مما يشك فيه عند العرف في انه هل يعدّ عند العرف خروجا عن محل الابتلاء، او لا يعدّ خروجا عن محل الابتلاء عندهم؟ بحيث لا يعدّ خطاب المولى فيه من اللغو، كما لو كان الشي ء خارجا الى محلة اخرى غير المحلّة التي يقطنها المكلف بحيث يشك عرفا في صحة الخطاب بالنهي عنه و عدم صحته.

و لا يقال: انه اذا كان الشرط من الشروط العقلية فلا وجه للشك فيه لعدم تردد العقل في احكامه العقلية.

ص: 118

.....

______________________________

فانه يقال: ان ما يحكم به العقل هو صحة الخطاب مع عدم اللغوية و عدم صحته مع لزوم اللغوية، و اما تمييز ما به تحصل اللغوية اولا تحصل فليس من الموضوعات العقلية، فمجال الشك فيه واضح.

و اخرى: يكون الشك من ناحية الشبهة الموضوعية بان كان سبب الشك هو ان الخروج هل كان- مثلا- الى دار مجاورة لدار المكلف فلا يكون ذلك خروجا عن محل الابتلاء قطعا، او كان الى بلد آخر فانه يكون خروجا عن محل الابتلاء قطعا؟

اذا عرفت هذه الامور ... فنقول: ان المرجع عند الشك في الخروج عن محل الابتلاء و عدمه هو البراءة لا اطلاق الخطاب، لما عرفت من ان صحة التمسك بالاطلاق انما يكون بعد المفروغية عن صحة الخطاب و هو في غير القيود و الشروط العقلية، و اما اذا كان اطلاق الخطاب مما يشك في صحته عقلا فلا وجه للرجوع الى التمسك باطلاق الخطاب، و من الواضح كما عرفت ان الشك في الخروج عن محل الابتلاء و عدمه يرجع الى الشك في صحة الخطاب و عدمه عقلا.

و منه يتضح انه لا فرق بين كون الشك من ناحية الشبهة الحكمية او الشبهة الموضوعية في المقام الذي يصح التمسك بالاطلاق فيها لو كان الشك في تحقق القيود الشرعية كما في المخصص اللبي، لما عرفت من ان الشك في المقام يرجع الى الشك في صحة الخطاب عقلا و عدمه، و لذلك اطلق المصنف و قال: ( (و لو شك في ذلك)) أي في الخروج عن محل الابتلاء و عدمه مطلقا، سواء كان من ناحية الضيق و السعة في الخروج الذي يلزم منه اللغوية عند العرف و هي جهة الشبهة الحكمية، او كان من ناحية تحقق الخروج و عدمه من جهة الشبهة الموضوعية، لفرض كون الخروج المشكوك لو كان متحققا لكان مما يمنع عن توجه الخطاب قطعا.

و الحاصل: انه لو شك في الخروج و عدمه من أي ناحية كانت ف ( (المرجع هو البراءة لعدم القطع بالاشتغال)) اليقيني حتى يستدعي الفراغ اليقيني، و لا وجه للرجوع الى التمسك بالاطلاق فيثبت الاشتغال، لما عرفت من رجوع الشك الى

ص: 119

الثالث: إنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم، لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورة و أن تكون غير محصورة (1).

______________________________

الثالث: الشبهة غير المحصورة

صحة الخطاب عقلا و عدمه، و لذا قال: ( (لا اطلاق الخطاب)) و قد اشار الى ما ذكرنا من الوجه في عدم صحة الرجوع الى الاطلاق بقوله: ( (ضرورة انه لا مجال للتشبث به)) أي بالاطلاق ( (الا فيما اذا شك في التقييد بشي ء بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه)) أي بدون ذلك التقييد المشكوك كما فيما اذا كان التقييد المشكوك من التقيدات الشرعية فانه لا شك في صحة الخطاب مع عدم ذلك القيد المشكوك، بخلاف ما اذا كان فيه من القيود العقلية فان الخطاب لا يصح اذا كان قيد الخطاب العقلي متحققا، و الشك فيه يرجع الى الشك في تحقق ما هو مفروغ اعتباره، و لا يرجع الى الشك في اعتبار القيد المشكوك و عدمه كما في القيود غير العقلية حتى يكون المرجع اطلاق الخطاب.

و مما ذكرنا يظهر: ان مراد المصنف من قوله: ( (لا فيما شك في اعتباره في صحته)) انه لا يرجع الى اطلاق الخطاب فيما اذا شك في تحقق ما هو المعتبر في صحة الخطاب.

(1) توضيحه: ان الكلام في ان عدم حصر اطراف المعلوم بالاجمال هل هو مانع عن فعلية العلم الاجمالي بما هو عدم الحصر، بحيث يكون عنوان عدم الحصر مانعا بذاته كعنوان الخروج عن محل الابتلاء او عنوان العسر و الضرر، او انه ليس بمانع بما هو عدم الحصر ما لم يقارنه احد الامور المذكورة، فيكون المانع عن الفعلية للعلم الاجمالي هو احد الامور المقارنة لعدم الحصر لا نفس عدم الحصر؟

و لا يخفى انه لا بد و ان يفرض الكلام في مقام كان العلم الاجمالي فعليا من كل جهة عدا عدم الحصر، و لا يكون هناك احد الامور المذكورة من الخروج عن محل الابتلاء او غيره مما يمنع عن الفعلية، فان كان نفس عدم الحصر مانعا عن الفعلية كان العلم الاجمالي غير فعلي لاجله، و لا يخفى ايضا ان شرط فعلية التكليف بشي ء اما

ص: 120

.....

______________________________

ان يدل عليه العقل كالقدرة و عدم الخروج عن محل الابتلاء، او الشرع كعدم العسر و عدم الضرر. و حيث فرض ان التكليف في الاطراف غير المحصورة مقدور و ليس بخارج عن محل الابتلاء، و لا يرى العقل ان نفس عدم الحصر من الموانع عن فعلية التكليف- فلا يكون عدم الحصر من الشرائط العقلية، و لم يدل دليل شرعي على شرطية عدم الحصر كما دلّ على شرطية عدم العسر و عدم الضرر فلا يكون شرطا شرعيا ..

نعم قد ادعى الاجماع على عدم فعلية التكليف مع عدم الحصر .. و فيه: اولا:

انه لا حجية للاجماع المنقول.

و ثانيا: ان دعوى الاجماع على كون نفس عنوان عدم الحصر مانعا عن الفعلية دعوى بلا بيّنة، و لعل سبب التوهّم فيه هو ملازمة عدم الحصر غالبا لاحد الامور السابقة المانعة عن الفعلية فتوهّم ان المانع هو نفس عنوان عدم الحصر.

فاتضح مما ذكرنا: انه لا تفاوت بين كون الاطراف في المعلوم بالاجمال محصورة او غير محصورة في تنجز العلم الاجمالي في كليهما، و انه لا مجال فيها للبراءة العقلية، لوضوح العلم بالتكليف و هو البيان و مع البيان لا مجرى للبراءة العقلية، و لا مجرى للبراءة النقلية لما عرفت من لزوم المضادة القطعيّة في الترخيص في جميع الاطراف، و احتمال المضادة في الترخيص في بعض الاطراف، و لا فرق في ذلك بين كون الاطراف محصورة او غير محصورة، فانه مع فعلية التكليف لا مجرى للبراءة اصلا و يحكم العقل بلزوم الاجتناب عن جميع الاطراف سواء كانت الاطراف محصورة او غير محصورة و لذا قال: ( (انه مع فعلية التكليف المعلوم لا تفاوت ... الى آخر الجملة)).

ص: 121

نعم ربما تكون كثرة الاطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها أو ارتكابه، أو ضرر فيها أو غيرهما مما لا يكون معه التكليف فعليا بعثا أو زجرا فعلا (1)، و ليس بموجبة لذلك في

______________________________

(1) حاصله: انه بعد ما عرفت ان ليس عنوان عدم الحصر بنفسه من موانع فعلية التكليف، و لكن حيث انه ربما يقارنه احد الموانع عن فعلية التكليف كلزوم العسر من اجتناب الاطراف الكثيرة فيما اذا كان التكليف هو الحرمة، او لزوم العسر في ارتكاب جميع الاطراف فيها فيما كان التكليف هو الوجوب، او لزوم الضرر من الاجتناب عنها كلها، او لزوم الضرر من الارتكاب لجميعها، او يكون المقارن للشبهة غير المحصورة التحريمية الخروج عن محل الابتلاء، فانه حينئذ يجوز الارتكاب في اطرافها، او لا يجب الاتيان باطرافها جميعا، و لكنه ليس لعنوان عدم الحصر بل لاحد الموانع المفروض مقارنتها لها، و لا يخفى ان هذه الموانع تمنع عن فعلية التكليف و ان كانت الشبهة محصورة. فلا فرق بين الحصر في الاطراف و عدم الحصر فيها كما تقدم بيانه، إلّا انها غالبا تكون مع عدم الحصر، و عليه فلا بد في الشبهة غير المحصورة من ملاحظة مقارنتها لاحد الموانع و عدم مقارنتها لها، فان قارنها احد الموانع ارتفعت فيها فعلية التكليف، و ان لم يقارنها احد الموانع فلا مناص عن فعلية التكليف فيها، و الى هذا اشار بقوله: ( (نعم ربما يكون كثرة الاطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية)) أي موجبة لعسر موافقة التكليف القطعية ( (باجتناب كلها)) أي باجتناب كل الاطراف في الشبهة غير المحصورة التحريمية ( (او ارتكابه)) و ذلك في مورد الشبهة غير المحصورة الوجوبية بان كان ارتكاب جميع الاطراف موجبا للعسر فيها ( (او)) كان موجبا ل ( (لضرر فيها)) أي في الاجتناب او الارتكاب ( (او غيرهما)) أي في غير العسر و الضرر بان كان المانع المقارن هو الخروج عن محل الابتلاء فانه ( (مما لا يكون معه التكليف فعليا بعثا او زجرا فعلا)) و الاول هو الوجوب و الثاني هو الحرمة.

ص: 122

غيره (1)، كما أن نفسها ربما تكون موجبة لذلك، و لو كانت قليلة في مورد آخر، فلا بد من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالاجمال (2) أنه يكون أو لا يكون في هذا المورد، أو يكون مع كثرة أطرافه (3) و ملاحظة أنه مع أية مرتبة من كثرتها، كما لا يخفى (4).

و لو شك في عروض الموجب، فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان، و إلا فالبراءة لاجل الشك في التكليف الفعلي، هذا هو حق القول في المقام (5)، و ما قيل في ضبط المحصور و غيره لا يخلو

______________________________

(1) هذا معطوف على قوله: ( (موجبة)) ... في صدر العبارة، و التقدير: انه ربما يكون كثرة الاطراف في مورد موجبة للعسر و ليس بموجبة للعسر في غير ذلك المورد.

(2) قوله (قدس سره): ( (كما ان نفسها .. الخ)): أي ربما تكون نفس الاطراف موجبة للعسر ايضا و لو كانت تلك الاطراف قليلة في مورد آخر، و على كل حال فلا بد من ملاحظة المانع عن الفعلية للتكليف المعلوم بالاجمال فقد يكون مع قلة الاطراف كما يكون مع كثرة الاطراف، و الى هذا اشار بقوله: ( (فلا بد من ملاحظة ذاك الموجب .. الى آخر الجملة)).

(3) قوله (قدس سره): ( (انه يكون .. الخ)): أي لا بد من ملاحظة ذلك الموجب لرفع الفعلية انه يكون في مورد الشبهة او لا يكون في موردها و ان كانت افراد الشبهة قليلة، و في مورد كثرة الاطراف ايضا لا بد من ملاحظته هل هو موجود فيها؟

(4) قوله (قدس سره): ( (و ملاحظة انه .. الخ)) حاصله: انه بعد ما عرفت من ان العسر او احد الموانع الاخرى تكون غالبا مع كثرة الاطراف، فلا بد من ملاحظة انه أي مقدار من كثرة الاطراف يقارنه العسر او غيره؟

(5) توضيحه: الظاهر منه (قدس سره) عدم الفرق بين الشك في عروض العسر و الضرر، و بين الشك في الخروج عن محل الابتلاء في انه اذا شك في عروضهما بعد تنجز التكليف قبل عروضها فالمرجع هو الاطلاق، و ما مرّ منه من ان الشك في

ص: 123

من الجزاف (1).

الرابع: إنه إنما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف، مما يتوقف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك

______________________________

الرابع: ملاقي بعض اطراف الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي
اشارة

الخروج عن محل الابتلاء يرجع الى الشك في الصحة و الامكان لازمه عدم الرجوع الى الاطلاق، فيما اذا كان المشكوك عروضه هو الخروج عن محل الابتلاء، لكنه حيث ان مبناه هو التمسك بالاطلاق في الشبهة الموضوعية فيما اذا كان المخصص لبيا، و من الواضح ان الخروج عن محل الابتلاء من المخصص اللبي، فلا مانع من التمسك بالاطلاق في الخروج عن محل الابتلاء، و اما العسر و الضرر فان كان الشك فيهما من ناحية الشبهة الحكمية فالمرجع هو الاطلاق، و ان كان فيهما من ناحية الشبهة الموضوعية فلا يكون المرجع فيهما هو الاطلاق بل لا بد من الرجوع الى الاصول، و الى هذا اشار بقوله: ( (فالمتبع هو اطلاق الدليل لو كان)) و اما الاصل الذي يرجع اليه حيث لا اطلاق فهو البراءة للشك في التكليف الفعلي، فان الشك في عروض ما يرفع التكليف الفعلي لازمه الشك في فعلية التكليف، و متى كان الشك كذلك فالمرجع البراءة، و لذا قال (قدس سره): ( (و إلّا فالبراءة لاجل الشك في التكليف الفعلي)).

(1) الظاهر ان مراده انه بعد ما عرفت من ان عنوان عدم الحصر ليس بمانع بنفسه عن فعلية التكليف فمن الجزاف ذكر الضابط للشبهة المحصورة و غير المحصورة.

و يحتمل ان يكون مراده ان نفس ما ذكر من الضوابط لها غير خال عن الاشكال، و لذا قال الشيخ الاعظم في رسائله بعد ذكر ضوابط متعددة لها: ( (و هذا غاية ما ذكروا او يمكن ان يذكر في ضابط المحصور و غيره، و مع ذلك فلم يحصل للنفس وثوق بشي ء منها))(1) انتهى.

ص: 124


1- 11. ( 1) فرائد الاصول ج 2، ص 438( تحقيق عبد اللّه النوراني).

الحرام المعلومين في البين دون غيرها، و إن كان حاله حال بعضها في كونه محكوما بحكمه واقعا (1).

______________________________

(1) توضيحه: انه لو لاقى اناء احد الإناءين احد الإناءين المعلوم بالاجمال نجاسة احدهما. و قد اشار في المتن الى فروض ثلاثة تختلف نتائجها فانه: تارة يكون حكم الملاقي بالكسر لاحد الإناءين المعلوم بالاجمال نجاسة احدهما مما لا يجب الاجتناب عنه. و اخرى:

يكون حكم الملاقي بالكسر لاحدهما مما يجب الاجتناب عنه دون الملاقى بالفتح.

و ثالثة: يكون حكم الملاقي بالكسر لاحدهما هو وجوب الاجتناب لانه يكون احد الاطراف، فيكون الملاقى و الملاقي كلاهما مما يجب اجتنابهما.

و توضيح الحال في الفرع الاول و هو اختصاص وجوب الاجتناب بالملاقى بالفتح، دون الملاقي بالكسر فانه لا يجب الاجتناب عنه، و ذلك فيما لو تقدم العلم الاجمالي بنجاسة احد الإناءين ثم بعده حدثت ملاقاة اناء ثالث لاحد الإناءين فان القاعدة تقتضي عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر.

و غاية ما يمكن ان يدعى في لزوم الاجتناب عنه كما يلزم الاجتناب عن الملاقى بالفتح هو صيرورة الملاقي بالكسر بسبب الملاقاة من اطراف العلم الاجمالي المنجز، غايته انه كانت اطرافه قبل الملاقاة اثنين و بعد الملاقاة ثلاثة، و هذا لا يعد فارقا فانه بعد تنجز العلم الاجمالي بوجوب الاجتناب عما هو النجس الواقعي، و من الواضح انه بعد الملاقاة صار حكم هذا الملاقي بالكسر واقعا حكم الاناء الملاقى بالفتح، لوضوح انه لو كان الملاقى بالفتح نجسا لكان حكم الملاقي بالكسر هو النجاسة ايضا، فيكون العلم الاجمالي بالنجس بعد الملاقاة دائرا بين ان يكون في الطرف غير الملاقى او يكون في الطرف الملاقى بالفتح و ملاقيه، و كون الامر دائرا قبل الملاقاة بين طرفين لا يضر، لوضوح ان الحال فيه كما لو قسمنا الاناء الملاقى بالفتح الى اناءين فان الاطراف تكون ثلاثة، و لا شبهة في لزوم الاجتناب عنها ثلاثتها، و بعد ان كان حكم الملاقي بالكسر واقعا حكم الملاقى بالفتح فيكون حاله حال ما اذا قسمنا الملاقى

ص: 125

.....

______________________________

بالفتح الى اناءين هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب كون حكم الملاقي بالكسر حكم الملاقى بالفتح.

و الجواب عنه: ان وجوب الاجتناب عن الملاقى بالفتح لا لانه نجس واقعا، اذ من الواضح انه مما يحتمل كونه نجسا لا انه معلوم النجاسة، و الّا لكان معلوما بالتفصيل لا انه طرف للمعلوم بالاجمال، و انما يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح لتنجز المعلوم بالاجمال و توقف امتثال التكليف المنجز على اجتناب جميع اطرافه.

فما لم يكن الملاقي بالكسر طرفا للمعلوم بالاجمال المنجز لا يجب الاجتناب عنه، و طرفيته للمعلوم بالاجمال باحد امور ثلاثة كلها مفقودة:

الاول: ان تكون النجاسة للسراية بمعنى الملاقي بالكسر انما يكون نجسا لسراية النجاسة من الملاقى بالفتح فيه، فانه لو سرى الملاقى بالفتح الملاقي بالكسر لكان الملاقي بالكسر طرفا للعلم الاجمالي، لتحقق ما هو الطرف للعمل الاجمالي و هو الملاقى بالفتح في الجسم الملاقي بالكسر، و هذا المعنى من السراية بعيدة ارادته، لشهادة الوجدان بان النجاسة غالبا لا تسري في الملاقي لها، فان الماء الملاقي للعذرة اليابسة او للدم اليابس بل للدم الرطب و العذرة الرطبة اذا كان المقدار من النجس صغيرا جدا لا يسري في الماء الملاقي له.

و ينبغي ان يراد من السراية اما العلية و المعلولية الحقيقية، و ليس في التأثير بنحو العلية سراية من العلة الى المعلول بحيث تكون العلة منتشرة في المعلول، بل العلية الحقيقية معناه كون النجاسة امرا واقعيا توجب التأثير في ملاقيها باعطاء نفس الخصوصية الموجبة لنجاسة نفسها لملاقيها. او انه يراد من السراية- بناء على كون النجاسة من الاعتبارات الشرعية- ان الشارع كما اعتبر النجاسة لخصوصية اقتضت اعتبارها في نفس ذات النجس العيني كذلك لملاقيه خصوصية اقتضت ان يعتبر الشارع نجاسته ايضا، و على هذا فالملاقي للنجس فرد آخر من النجاسة غير النجس الذي هو العلة، لبداهة ان التأثير الواقعي او بمعنى اعتبار الشارع يوجب كون الملاقي

ص: 126

.....

______________________________

للنجس فردا آخر من النجس، و كل فرد من النجس له حكم غير حكم الفرد الآخر، و ان كان ذلك الفرد هو العلة المؤثرة حقيقة او موجبة لاعتبار الشارع لنجاسة ملاقيه.

الثاني: ان يكون طرفيه الملاقي بالكسر للعلم الاجمالي من جهة ان الدليل الدال على وجوب اجتناب النجس في الملاقى بالفتح هو الدليل على وجوب الاجتناب في الملاقي بالكسر، بحيث يكون نفس اجتنب النجس في الملاقى بالفتح هو نفسه متوجها الى الملاقي بالكسر، فاذا كان كذلك كان الملاقي بالكسر طرفا للتكليف المعلوم بالاجمال المنجز كالملاقى بالفتح. و هذا ايضا باطل لوضوح ان الملاقى بالفتح لو كان هو النجس الواقعي لاوجبت الملاقاة حدوث فرد آخر من النجس يتوجه له خطاب آخر بوجوب الاجتناب عنه كالخطاب الاول المتوجه الى الملاقى بالفتح، فلا يكون نفس اجتنب الاول في الملاقى بالفتح هو نفسه متوجها الى الملاقي بالكسر، بل الملاقاة تقتضي توجه خطاب آخر للملاقي بالكسر غير الخطاب في الملاقى بالفتح.

الثالث: ان يكون الملاقي بالكسر بسبب الملاقاة يكون من شئون الملاقى بالفتح، كاكرام خادم الرئيس لاجل الرئيس، فان اكرام خادم الرئيس ليس لاجل خطاب يخصه بل نفس وجوب اكرام الرئيس يقتضي اكرام خادمه، لان اكرام خادمه من شئون اكرامه، بل نفس وجوب اكرام الرئيس يكون منسوبا الى الرئيس اولا و بالذات، و الى خادمه ثانيا و بالعرض. و على هذا يكون ايضا الملاقي بالكسر من اطراف المعلوم بالاجمال لانه من شئون ما تنجز العلم الاجمالي فيه و هو الملاقى بالفتح.

و هذا باطل ايضا، لما عرفت من ان الملاقي بالكسر بسبب الملاقاة لو كان الملاقى بالفتح هو النجس الواقعي يكون فردا آخر من النجس، له حكم يخصّه و خطاب يختص به كالحكم و الخطاب المختصين بالملاقى بالفتح، لا ان الملاقي بالكسر من شئون الملاقى بالفتح، و لو كان من شئون الملاقى بالفتح لكان خطاب الملاقى كافيا فيه، لوضوح ان اكرام خادم العالم لا لخطاب يخصّ الخادم بل هو من شئون

ص: 127

.....

______________________________

خطاب اكرم العالم، لان اكرام خادم العالم نحو من اكرام نفس العالم، و ليس النجس الملاقي بالكسر كذلك، بل لو كان ملاقيا للنجس الواقعي لكان له خطاب يختصّ به كخطاب النجس الواقعي.

و حيث بطلت هذه الامور الثلاثة، و ان الملاقي بالكسر لو كان ما لاقاه نجسا واقعا لتنجّز فيه خطاب آخر غير الخطاب الاول المنجز الذي كان له طرفان، لانه فرد آخر من النجس يحتاج الى خطاب آخر يكون منجزا فيه غير الخطاب المعلوم بالاجمال الذي كان منجزا.

فاتضح: ان العلم الاجمالي المنجز ليس له الّا طرفان الملاقى بالفتح و الطرف الآخر، و اما الملاقي بالكسر فليس هو بطرف للعلم الاجمالي المنجز، و حيث كان توجه الخطاب الآخر الى الملاقي بالكسر مشكوكا كان مجرى للبراءة.

لا يقال: ان هناك علما اجماليا يكون الملاقي بالكسر طرفا، لانا نعلم اجمالا بان النجس الواقعي بحسب القطع الوجداني اما ان يكون هو الاناء غير الملاقى او الاناء الملاقى بالفتح و ملاقيه و هو الملاقي بالكسر، فالملاقاة توجب علما اجماليا آخر له طرفان احد طرفيه الاناء غير الملاقى، و طرفه الآخر الاناء الملاقى بالفتح و الملاقي بالكسر.

فانه يقال: ان هذا العلم الاجمالي الثاني لا اثر له، لوضوح ان الملاقى بالفتح و طرفه غير الملاقى قد تنجز فيهما العلم الاجمالي الاول، فلا يكون لهذا العلم الاجمالي اثر في التنجيز بالنسبة اليهما، لان المنجز اولا لا ينجز ثانيا، و العلم الاجمالي المنجز لا بد و ان يكون تنجيزه مؤثرا في جميع اطرافه، فحيث لا اثر لهذا العلم الاجمالي الثاني في جميع الاطراف فلا يكون منجزا و مؤثرا في وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر.

و لا يخفى ايضا ان ما ذكروه من كون الملاقي بالكسر و الملاقي بالفتح بحكم انقسام الاناء الملاقى بالفتح الى إناءين فانه قياس مع الفارق، لان لزوم الاجتناب في مقام

ص: 128

و منه ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شي ء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالاجمال، و أنه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه،

______________________________

انقسام الملاقى بالفتح لانه انقسام لما تنجز فيه الخطاب، بخلاف الملاقي بالكسر فانه لو وجب اجتنابه لكان لتنجز خطاب آخر فيه، لا انه انقسام لما تنجز فيه الخطاب الاول، فلا وجه لهذا القياس.

نعم، نجاسة الملاقي بالكسر فرع لنجاسة الاناء الملاقى بالفتح، و لا ضرر في هذا بعد ان كان تنجّز الخطاب في الملاقي بالكسر لخطاب آخر يتنجز فيه. و سيأتي التنبيه في الفرع الثاني ان كون الملاقى بالفتح هو الاصل في نجاسة الملاقي بالكسر لا يضر ايضا في تنجز الخطاب في الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح، لان الاصالة و الفرعية في التنجيس واقعا لا تستلزم المتابعة في التنجز.

و على كل، فقد اشار الى ان المدار في الاحتياط عقلا بوجوب اجتناب طرفي العلم الاجمالي- في الحرمة او وجوب ارتكابهما فيما كان متعلق العلم الاجمالي هو الوجوب المردد بينهما- انما هو على تنجّز الخطاب لا على اتحاد حكم الملاقى بالفتح و حكم الملاقي بالكسر واقعا بقوله: ( (انما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الاطراف)) لانه ( (مما يتوقف على اجتنابه)) أي على اجتناب خصوص الاطراف فيما اذا كان المعلوم اجمالا الحرام ( (و ارتكابه)) أي او كان مما يتوقف على ارتكاب خصوص الاطراف فيما كان المعلوم اجمالا الوجوب ( (حصول العلم)) هذا فاعل يتوقف: أي انما يجب الاحتياط عقلا فيما اذا كان يتوقف حصول امتثال العلم المنجّز على ذلك، اما بلزوم ( (اتيان الواجب او)) لزوم ( (ترك الحرام المعلومين)) المنجّزين ( (في البين))، حاصله: ان الخطاب المنجز يختصّ بخصوص اطراف العلم الاجمالي ( (دون غيرها)) كالملاقي بالكسر لاحدها ( (و ان كان حاله)) أي حال ذلك الغير ( (حال بعضها)) أي حال بعض الاطراف واقعا ( (في كونه)) أي في كون ذلك الغير ( (محكوما بحكم)) مثل حكم ذلك البعض ( (واقعا)).

ص: 129

فيما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالا بالنجس بينها، فإنه إذا اجتنب عنه و طرفه اجتنب عن النجس في البين قطعا، و لو لم يجتنب عما يلاقيه، فإنه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فردا آخر من النجس، قد شك في وجوده، كشي ء آخر شك في نجاسته بسبب آخر (1).

______________________________

وجوب الاجتناب عن خصوص الملاقى دون الملاقي

(1) بعد ما عرفت ان المدار على كون الشي ء طرفا للعلم الاجمالي المنجّز، يختلف الحال في الملاقي بالكسر و الملاقى بالفتح، فربما يجب الاجتناب في خصوص الملاقى بالفتح دون الملاقي بالكسر، و ربما يجب الاجتناب في خصوص الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح، و ربما يجب الاجتناب عنهما معا.

و قد اشار الى الفرع الاول- و هو وجوب الاجتناب عن خصوص الملاقى بالفتح دون الملاقي بالكسر- بقوله: ( (و انه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى)) بالفتح ( (دون ملاقيه)) أي دون الملاقي بالكسر و ذلك ( (فيما)) اذا ( (كانت الملاقاة بعد العلم اجمالا بالنجس بينها)) أي بعد حصول العلم الاجمالي بالنجس بين الاطراف و تنجزه فيهما فنفرض ان له طرفين بان كان هناك اناءان علمنا أولا بنجاسة احدهما ثم لاقى احدهما إناء ثالثا، فان الملاقي بالكسر لا يجب الاجتناب عنه و لذا قال:

( (فانه اذا اجتنب عنه)) أي عن الملاقى بالفتح ( (و)) اجتنب ( (طرفه)) غير الملاقى فقد ( (اجتنب عن النجس)) المنجز ( (في البين قطعا و لو لم يجتنب عما يلاقيه)) أي و لو لم يجتنب عن الملاقي بالكسر ( (فانه على تقدير نجاسته)) أي على تقدير نجاسة الملاقي بالكسر ( (لنجاسته)) أي لنجاسة الملاقى بالفتح واقعا ( (كان)) الملاقي بالكسر ( (فردا آخر من النجس)) غير النجس الذي هو الملاقى بالفتح، و اذا كان الملاقي بالكسر فردا آخر ليس من اطراف ما تنجز فيه العلم الاجمالي اولا، و حيث ان الملاقي بالكسر مشكوك النجاسة لاحتمال ان لا يكون الملاقى بالفتح هو النجس الواقعي المعلوم بالاجمال بان كان النجس الواقعي المعلوم بالاجمال هو الطرف للملاقى بالفتح، فلا ريب في انه يكون ( (قد شك في وجوده)) أي في وجود الفرد

ص: 130

و منه ظهر أنه لا مجال لتوهم أن قضية تنجز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا، ضرورة أن العلم به إنما يوجب تنجز الاجتناب عنه، لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه و إن احتمل (1).

______________________________

الآخر من النجس، و يكون الملاقي بالكسر ( (كشي ء آخر شك في نجاسته بسبب آخر)) في كونه محكوما بالطهارة و لا يجب الاجتناب عنه.

(1) بعد ما عرفت من ان الملاقي بالكسر لا تسري النجاسة فيه من الملاقى بالفتح، و ان توهّم السّراية باطل، كما كون الملاقي بالكسر من شئون الملاقى بالفتح باطل ايضا لان الملاقي بالكسر فرد آخر من النجس، و كون نجاسة الملاقي بالكسر واقعا فرعا لنجاسة الملاقى بالفتح لا تقتضي الفرعيّة في مقام التنجز، فالاصالة و الفرعية في مقام الواقع لا تقتضي الفرعية في مقام التنجز .. يتضح انه لا مجال لتوهّم نجاسة الملاقي بالكسر المذكور، و هو فيما اذا تقدّم تنجز العلم الاجمالي فاوجب اجتناب الملاقى بالفتح اولا، ثم حدثت الملاقاة و ان تنجز العلم الاجمالي في وجوب الاجتناب عن اطرافه المخصوصة لا يقتضي ان يكون منجزا ايضا في اجتناب الملاقي لاحد اطرافه، فيما اذا حدثت الملاقاة بعد تنجز العلم الاجمالي في اطرافه، لان الملاقي بالكسر ليس طرفا للعلم الاجمالي في حال تنجزه، و هو فرد آخر من النجس يحتاج الى تنجز آخر و لذا قال: (قدس سره): انه لا مجال لتوهم ان قضية تنجز الاجتناب عن المعلوم)) اجمالا في الملاقى بالفتح ( (هو الاجتناب عنه)) أي عن الملاقي بالكسر ( (ضرورة ان العلم به)) أي العلم بالنجس الذي كان مرددا بين الملاقى بالفتح و طرفه ( (انما يوجب تنجز الاجتناب عنه)) أي عن الملاقى بالفتح لانه طرف له في حال تنجزه ( (لا)) يقتضي ( (تنجز الاجتناب عن فرد آخر)) و هو الملاقي بالكسر مع انه ( (لم يعلم حدوثه و ان احتمل)) أي لم يعلم حدوث الفرد الآخر من النجس بواسطة الملاقاة، لاحتمال كون الملاقى بالفتح هو النجس واقعا، و صرف الاحتمال يقتضي كونه مجرى للاصل، لا انه طرف للعلم الاجمالي المنجّز.

ص: 131

و أخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه، فيما لو علم إجمالا نجاسته أو نجاسة شي ء آخر، ثم حدث العلم بالملاقاة و العلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشي ء أيضا، فإن حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الاجمالي، و أنه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلا، لا إجمالا و لا تفصيلا (1)،

______________________________

(1) لا يخفى ان هذا الفرع هو وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح ... و قد ذكر له مثالين:

الاول: ان يعلم أولا اجمالا بنجاسة اما الملاقي- بالكسر- لا بعنوان انه ملاقي بالكسر او نجاسة اناء آخر، من دون علم له بان نجاسة الملاقي- بالكسر- المردّدة بينه و بين طرفه هي سبب الملاقاة، ثم بعد تنجّز هذا العلم الاجمالي يحدث له علمان:

العلم بالملاقاة و ان الملاقي بالكسر اذا كان نجسا فنجاسته بواسطة ملاقاته، و العلم الآخر هو العلم الاجمالي بانه اما الملاقى بالفتح نجس او الطرف الآخر الذي كان هو الطرف للملاقى بالكسر في العلم الاجمالي الاوّلي. و القاعدة تقتضي في هذا الفرض نجاسة الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح، لانه بعد ان علم اجمالا أولا بنجس مردّد بين الملاقي بالكسر و بين الطرف الآخر، و قد فرضنا ان هذا العلم الاجمالي كان من دون علم بان نجاسة الملاقى بالكسر على فرضها فهي بسبب ملاقاته للملاقى بالفتح.

و من الواضح: ان هذا العلم الاجمالي يوجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر و الطرف الآخر، لانه علم اجمالي بالنجاسة يقتضي تنجّزه وجوب الاجتناب عن اطرافه و هي الملاقى بالكسر و طرفه، و بع تنجّز هذا العلم الاجمالي حصل العلم بملاقاة هذا الملاقى بالكسر للملاقي بالفتح، و ان نجاسته لو كانت فهي بسبب الملاقاة و العلم الاجمالي الآخر بنجاسة اما الملاقي بالفتح او الطرف الاول للملاقي بالكسر، و بعد تنجز العلم الاجمالي الاول في الملاقي بالكسر و طرفه لا مجال لتنجز العلم الاجمالي الثاني، لما عرفت من ان العلم الاجمالي انما يتنجّز حيث يكون تنجزه ممكنا في جميع

ص: 132

.....

______________________________

اطرافه، و ليس بممكن هنا تنجّز العلم الاجمالي الثاني في جميع اطرافه، لكون طرفه هو الطرف للعلم الاجمالي الاول الذي كان بينه و بين الملاقي بالكسر، و المنجّز لا يقبل تنجز آخر، و اذا لم يكن العلم الاجمالي الثاني منجزا في احد اطرافه لا يكون منجزا ايضا في الطرف الثاني، فالملاقى بالفتح لا يوجب هذا العلم الاجمالي الثاني تنجّزا فيه لعدم امكان ان يكون منجزا في الطرف الملاقى بالفتح لتنجز العلم الاجمالي الاول فيه، و حيث لا يكون العلم الاجمالي منجزا في الملاقى بالفتح فهو مجرى للاصل لانه مشكوك النجاسة، و كون نجاسة الملاقي بالكسر فرعا عنه لو كان هو النجس الواقعي لا تضر، لما عرفت من ان المدار ليس على الفرعية و الاصالة في التنجيس، بل المدار على الاصالة و الفرعية في التنجز. و حيث ان كلا من الملاقي بالكسر و الملاقى بالفتح بعد تقدم التنجيز في احدهما يكون الآخر فردا آخر من النجس يحتاج الى تنجيز آخر، و المفروض في هذا الفرع تقدّم التنجز في الملاقي بالكسر، فلا وجه لنجاسة الملاقى بالفتح و كونه هو الاصل في النجاسة لو كانت لا توجب كونه اصلا في مقام التنجز، كما ان فرعيّة الملاقي بالكسر في الفرع السابق لا توجب الفرعية في مقام التنجّز.

و قد اشار الى هذا المثال الاول في كون القاعدة فيه تقتضي الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح بقوله: ( (و اخرى يجب الاجتناب عما لاقاه)) و هو الملاقى بالكسر ( (دونه)) أي دون الملاقى بالفتح و ذلك ( (فيما لو علم)) اولا ( (اجمالا نجاسته)) أي نجاسة الملاقى بالكسر من دون التفات الى ان سبب النجاسة فيه لو كانت ملاقاته للملاقى بالفتح ( (او نجاسة شي ء آخر)) و هو الطرف الثالث الذي هو الطرف فعلا للملاقى بالكسر في هذا العلم الاجمالي الاول و هو الطرف ايضا للملاقى بالفتح في العلم الاجمالي الثاني ( (ثم حدث)) بعد هذا العلم الاجمالي الاول ( (العلم بالملاقاة)) أي العلم بملاقاة الملاقي بالكسر للملاقى بالفتح و العلم الاجمالي الثاني ( (و)) هو ( (العلم)) الاجمالي اما ( (بنجاسة الملاقى)) بالفتح ( (او ذاك الشي ء

ص: 133

و كذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الاجمالي، و لكن كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه و صار مبتلى به بعده (1).

______________________________

ايضا)) و هو الذي كان طرفا للملاقي بالكسر في العلم الاجمالي الاول ( (فان حال الملاقى)) بالفتح ( (في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه)) أي حال الملاقي بالكسر ( (في الصورة السابقة في عدم كونه)) أي الملاقى بالفتح في هذه الصورة ليس ( (طرفا للعلم الاجمالي)) الاول المنجز، لان طرفيه هو الملاقي بالكسر و الطرف الآخر ( (و انه)) أي و ان الملاقى بالفتح في هذه الصورة ( (فرد آخر)) من النجس ( (على تقدير نجاسته واقعا)) و هو ( (غير معلوم النجاسة اصلا لا اجمالا)) لانه لم يكن طرفا للعلم الاجمالي الاول، و العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة الطرف الآخر ليس بمؤثر لما عرفت من لزوم كون العلم الاجمالي منجزا في كلا طرفيه، و المفروض تنجز التكليف في الطرف الآخر بسبب العلم الاجمالي الاول، و المنجز لا يقبل تنجزا آخر ( (و لا تفصيلا)) و هو واضح لعدم العلم التفصيلي بنجاسة الملاقى بالفتح.

فاتضح: ان الملاقى بالفتح في هذه الصورة بعد ان كان ليس بطرف للعلم الاجمالي الاول المنجز، و العلم الاجمالي الثاني ليس بمنجز فيه، فلا اثر له في وجوب الاحتياط بالاجتناب عنه، فيكون مجرى للاصل و هو اصالة الطهارة كما كان الملاقي بالكسر في الصورة السابقة مجرى لاصالة الطهارة.

(1) هذا هو المثال الثاني لنجاسة الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح، و ذلك فيما لو علم بملاقاة الملاقي بالكسر للملاقى بالفتح، و بعد العلم بالملاقاة حدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح او الطرف الآخر، و لكنه كان حين حدوث هذا العلم الاجمالي قد خرج الملاقى بالفتح عن محل الابتلاء و بقى في محل الابتلاء الطرف الآخر و الملاقي بالكسر، و من الواضح ان في هذا الفرض يحصل علم اجمالي بنجاسة اما الملاقي بالكسر او الطرف الآخر، و لما لم يكن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح و طرفه منجزا بالفعل لفرض خروج الملاقى بالفتح عن محل الابتلاء

ص: 134

و ثالثة يجب الاجتناب عنهما، فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم بالملاقاة، ضرورة أنه حينئذ نعلم إجمالا: إما بنجاسة الملاقي و الملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، و هو الواحد أو الاثنان (1).

______________________________

وجوب الاجتناب عن الملاقي و الملاقى معا

حين حدوث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح او طرفه فلا يكون منجزا، و يكون المؤثر فعلا هو العلم الاجمالي بوجود النجس المردد بين الملاقي بالكسر و الطرف الآخر و لا مانع عن تنجيزه فيتنجّز، و بعد تنجّزه يدخل الملاقى بالفتح في محل الابتلاء، و القاعدة تقتضي ايضا كونه مجرى لاصالة الطهارة كما كان الملاقي بالكسر مجرى لها في الصورة الاولى. و الى هذا اشار بقوله: ( (و كذا)) أي و مثل المثال الاول في الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح ما ( (لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الاجمالي)) بنجاسة اما الملاقى بالفتح او الطرف الآخر ( (و لكن كان الملاقى)) بالفتح ( (خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه)) أي في حال حدوث هذا العلم الاجمالي ( (و)) لكنه ( (صار)) الملاقى بالفتح ( (مبتلى به بعده)) أي بعد تنجز العلم الاجمالي المؤثر في وجوب اجتناب الملاقي بالكسر و الطرف الآخر، و قد عرفت انه لا اثر لدخوله في محل الابتلاء بعد تنجز العلم الاجمالي الموجب للاجتناب عن الملاقي بالكسر و الطرف الآخر.

(1) هذا هو الفرع الثالث الموجب للاجتناب عن الملاقى بالفتح و الملاقي بالكسر معا، و هو فيما اذا حصلت الملاقاة اولا ثم حصل العلم الاجمالي بنجاسة اما الملاقى بالفتح او الطرف الآخر، فان هذا العلم الاجمالي يكون له طرفان الطرف الآخر و هو غير الملاقى بالفتح الذي هو الطرف للملاقى بالفتح، و طرفه الآخر الملاقى بالفتح و الملاقي بالكسر، و الملاقي بالكسر و ان كان فردا آخر من النجس الّا انه حيث لم يكن العلم الاجمالي قد سبق تنجزه في الملاقى بالفتح و كان الملاقي بالكسر مما يحتمل نجاسته ايضا

ص: 135

المقام الثاني: في دوران الامر بين الاقل و الاكثر الارتباطيين (1) و الحق أن العلم الاجمالي بثبوت التكليف بينهما- أيضا- يوجب الاحتياط عقلا

______________________________

المقام الثاني: في الأقل و الأكثر الارتباطيين

اشارة

و قد تنجز وجوب الاجتناب عن النجس، و كما ان ترك الملاقى بالفتح من مقدمات امتثاله كذلك ترك الملاقي بالكسر من مقدمات امتثاله ايضا.

(1) لا يخفى ان الاقل و الاكثر: تارة يكونان استقلاليين كما لو دار الامر بين وجوب قضاء صوم ثلاثة ايام من رمضان قد فاتته او اربعة.

و اخرى يكونان ارتباطيين كما لو دار الامر بين كون اجزاء الصلاة الواجبة تسعة او عشرة، لاحتمال كون السورة- مثلا- جزءا مستحبا او واجبا.

و الفرق بين الاستقلاليين و الارتباطيين: هو انه في الاستقلاليين يكون الاقل له وجوب يخصّه على أي تقدير: اي سواء كان الاكثر واجبا او لم يكن واجبا، فان وجوب قضاء ثلاثة ايام من رمضان واجب فان لكل يوم منها وجوبا يختص به يترتب على الاتيان به الثواب و على تركه العقاب، فالثلاثة ايام لها وجوب يختص بها سواء كان الواجب هي لا غير، او كان الواجب عليه واقعا صوم اربعة ايام منه، و ليس الثواب و العقاب في الثلاثة ايام منوطا بوجوب صوم اليوم الرابع ..

بخلاف الاقل و الاكثر الارتباطيين فانه على فرض كون الواجب واقعا هو العشرة اجزاء و هو الاكثر لا يكون للتسعة اجزاء وجوب يختص بها سواء وجب الجزء العاشر او لم يجب، بل وجوب التسعة على فرض كون الواجب هو الاكثر يكون في ضمن وجوب الاكثر و هو الكل، فلا يكون للبعض بما هو بعض وجوب على أي تقدير.

و الحاصل: ان الاقل ان كان الواجب كان له وجوب يخصّه و ان كان الاكثر هو الواجب لم يكن للاقل وجوب يخصه بل كان وجوبه في ضمن وجوب الكل، و لا يترتب الثواب و لا الصحة على اتيان الاقل على كل تقدير، لوضوح انه لو كان الاكثر هو الواجب فالثواب و الصحة انما يترتبان على اتيان الاكثر، و الاقتصار على

ص: 136

بإتيان الاكثر (1)، لتنجزه به حيث تعلق بثبوته فعلا (2).

______________________________

الاقوال في دوران الأمر بين الاقل و الاكثر الارتباطيين

اتيان الاقل لا يترتب عليه الصحة و لا الثواب، لانه لا يكون هو المامور به واقعا الذي يترتب عليه الاثر، لان معنى الارتباطية هو عدم حصول المامور به و لو بفقد بعض جزء واحد من اجزائه فضلا عن فقد الجزء الواحد.

و قد اتضح مما ذكرنا: ان العلم الاجمالي في الاقل و الاكثر الاستقلاليين منحلّ الى علم تفصيلي بالاقل و شك بدوي في الزائد عليه، فيكون الزائد الذي هو منشأ انتزاع عنوان الاكثر مجرى للبراءة و لا خلاف فيه و ليس هو محل الكلام بين الاعلام، و لذلك خصّ البحث في المقام الثاني بالاقل و الاكثر الارتباطيين لانه هو محل الكلام بين الاعلام في جريان البراءة في الزائد و عدم جريانها فيه.

(1) توضيحه: ان الاقوال في دوران الامر بين الاقل و الاكثر الارتباطيين ثلاثة:

- جريان البراءة العقلية و النقلية في الزائد.

- و عدم جريانهما لا عقلا و لا نقلا.

- و التفصيل بعدم جريان البراءة العقلية و جريان البراءة النقلية فيه، و هو مختار المصنف في الكتاب .. و لذا جعل الكلام في موردين:

الاول البراءة العقلية، و مختاره عدم جريانها فيه، بل يجب الاحتياط عقلا بلزوم الاتيان بالاكثر، و لذا قال (قدس سره): ( (الحق ان العلم الاجمالي بثبوت التكليف بينهما)) أي بين الاقل و الاكثر الارتباطيين ( (ايضا)) أي كما في العلم الاجمالي بالمتباينين ( (يوجب الاحتياط عقلا باتيان الاكثر)).

(2) أي انما وجب الاحتياط عقلا باتيان الاكثر لانه علم اجمالي بثبوت تكليف فعلي منجز مردد بين كونه هو الاقل او انه هو الاكثر مع كونه من الارتباطي، و لم يكن هذا العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي المنجز منحلا الى علم تفصيلي و شك بدوي، فلا بد من الاحتياط، لانه حيث لا ينحل العلم اجمالي و قد كان فعليا منجزا فاشتغال الذمة به يقينا يستلزم الفراغ اليقيني عنه، و لا يكون ذلك إلّا باتيان الاكثر فيجب

ص: 137

و توهم انحلاله إلى العلم بوجوب الاقل تفصيلا و الشك في وجوب الاكثر بدوا- ضرورة لزوم الاتيان بالاقل لنفسه شرعا، أو لغيره كذلك أو عقلا، و معه لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالاكثر (1)- فاسد قطعا،

______________________________

فساد توهم انحلال العلم الاجمالي

عقلا اتيان الاكثر، و قد اشار الى ذلك بقوله: ( (لتنجزه به)) أي لتنجز التكليف بالعلم الاجمالي ( (حيث)) ان المفروض ان العلم الاجمالي قد ( (تعلق بثبوته فعلا)) أي بثبوت التكليف الفعلي المنجز و لم ينحل الى علم تفصيلي بالاقل و شك بدوي في الزائد عليه، فلا بد من اليقين بالفراغ عنه، و انما يكون ذلك باتيان الاكثر، و لا مجرى للبراءة العقلية بعد تمامية البيان بالتكليف لفرض العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي المنجز.

(1) حاصل هذا التوهّم: ان العلم الاجمالي بالوجوب المردد بين الاقل و الاكثر الارتباطي منحل الى علم تفصيلي بوجوب الاقل و شك بدوي في الزائد عليه و هو مجرى البراءة، و ذلك لان الاقل واجب على أي تقدير لانه اما ان يكون هو الكل المطلوب بالوجوب النفسي فيما اذا كان الاقل هو تمام المطلوب، او ان الاقل هو المطلوب بالطلب الغيري المقدمي فيما اذا كان المطلوب و الواجب النفسي هو الاكثر، لوضوح مقدمية الاجزاء للكل كما مرّ بيانه في بحث مقدمة الواجب، فالاقل مقطوع الوجوب إمّا نفسيا او غيريا، و الزائد عليه مشكوك بدوا فهو مجرى البراءة العقلية، لفرض عدم وصول البيان فيه بخصوصه، و مع الانحلال الى العلم التفصيلي بالاقل و الشك في الاكثر لا يكون العلم الاجمالي منجزا، لأوله الى علم تفصيلي منجز و شك بدوي لا تنجز له، و ما لم يكن العلم الاجمالي على حد سواء في التنجز بالنسبة الى اطرافه لا يكون له اثر، فلا يجب الاحتياط في اطرافه، بل يجب اتيان المقطوع به من اطرافه فقط و الباقي ينفى بالبراءة.

و لا يخفى ان وجوب الاقل على كل تقدير اما لنفسيّته او غيريّته و مقدميّته لا يختلف الحال فيه، سواء قلنا بوجوب مقدمة الواجب شرعا لان من يريد شيئا

ص: 138

لاستلزام الانحلال المحال، بداهة توقف لزوم الاقل فعلا إما لنفسه أو لغيره على تنجز التكليف مطلقا، و لو كان متعلقا بالاكثر، فلو كان

______________________________

يريد مقدمته، او قلنا بوجوب مقدمة الواجب عقلا فقط لارشاد العقل الى لزوم الاتيان بالمقدمة لتوقف الواجب النفسي عليها، و مع حكم العقل بلزوم اتيانها لا داعي الى طلبها شرعا، فانه على كل حال يلزم الاتيان بالمقدمة لمقدميتها اما شرعا او عقلا، فللأقل وجوب على كل حال اما نفسي او غيري بحكم الشرع او بحكم العقل، و مع تنجّز الحكم الفعلي في الاقل قطعا ينحل العلم الاجمالي به فلا يكون منجزا في الزائد، و على هذا لا يجب الاحتياط عقلا باتيان الاكثر، لشغل الذمة اليقيني بالاقل و الشك البدوي في الاكثر، فليس لنا شغل ذمة يقيني مردد بين الاقل و الاكثر يستدعي الفراغ اليقيني باتيان الاكثر. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (و توهم انحلاله)) أي انحلال العلم الاجمالي ( (الى العلم)) التفصيلي ( (بوجوب الاقل تفصيلا و الشك في وجوب الاكثر بدوا)) و الوجه في دعوى هذا الانحلال ما اشار بقوله: ( (ضرورة لزوم الاتيان بالاقل)) اما ( (لنفسه شرعا)) فيما اذا كان في الواقع هو تمام المطلوب ( (او)) يلزم الاتيان به ( (لغيره كذلك)) أي شرعا فيما اذا قلنا بوجوب المقدمة شرعا فيما اذا كان المطلوب في الواقع هو الاكثر، فان الاقل يكون مقدمة له فيجب شرعا بالوجوب الغيري ( (او)) كان الاقل واجبا ( (عقلا)) فقط فيما اذا قلنا بالوجوب العقلي في مقدمة الواجب دون الوجوب الشرعي ( (و معه)) أي و مع وجوب الاقل تفصيلا و لزوم الاتيان به اما لنفسه او لغيره ينحل العلم الاجمالي و ( (لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالاكثر)) أي لا يكون لنا علم اجمالي منجزا في الاكثر لو كان الاكثر هو تمام المطلوب، لما عرفت من ان العلم الاجمالي المنجز في جميع اطرافه لا بد و ان يكون نسبته الى جميع اطرافه على حد سواء، و مع رجوعه الى علم تفصيلي بالاقل و شك بدوي في الاكثر لا يكون لنا علم متساوي النسبة الى جميع اطرافه.

ص: 139

لزومه كذلك مستلزما لعدم تنجزه إلا إذا كان متعلقا بالاقل كان خلفا (1)، مع أنه يلزم من وجوده عدمه، لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل

______________________________

(1) لا يخفى ان قوله: ( (فاسد)) هو خبر المبتدأ المتقدم و هو ( (توهم انحلاله)).

و حاصله: ان توهم انحلال العلم الاجمالي المردد بين الاقل و الاكثر بالوجه الذي ذكروه لانحلاله فاسد قطعا.

و توضيح فساد هذا الانحلال- مضافا الى انه مستلزم للمحال المشار اليه في الكتاب-: ان المقدمة الداخلية و هي اجزاء الكل و ان كانت واجدة لملاك المقدمية إلّا انها غير واجبة لا شرعا و لا عقلا، لما مر في مقدمة الواجب من استلزام وجوبها شرعا لاجتماع المثلين الوجوب الغيري و الوجوب النفسي المنبسط عليها و هو وجوب الكل، و لان الغرض من وجوب المقدمة شرعا او عقلا هو جعل الداعي الى اتيانها اما من الشرع او العقل لتوقف الواجب عليها، و مع وجود الداعي الى اتيان الاجزاء من نفس الوجوب النفسي المتعلق بالكل لا وجه لجعل الداعي اليها لا من الشرع و لا من العقل، و عليه فلا يكون الاقل مما قطع بوجوبه اما نفسيا او غيريا، بل ليس لنا إلّا وجوب واحد نفسي مردد بين الاقل و الاكثر، و حيث لا قطع بوجوب الاقل على كل تقدير فلا يكون العلم الاجمالي منحلا الى علم تفصيلي و شك بدوي.

و اما ما اشار اليه في الكتاب من استلزام هذا الانحلال للمحال ... فتوضيحه: ان الانحلال بالوجه المذكور مستلزم للخلف اولا، و انه يلزم من وجوده عدمه ثانيا.

اما الخلف فلأن الانحلال انما هو لكون الاقل مقطوع الوجوب فعلا اما لوجوبه النفسي او لوجوبه الغيري، و من الواضح ان الوجوب المقدمي الغيري تابع في فعليته فعلية وجوب ذي المقدمة، ففرض كون الاقل واجبا بالوجوب الفعلي اما لنفسه او لغيره لا يكون إلّا بفرض كون الاكثر واجبا فعليا، و لازم الانحلال المذكور عدم فعلية الاكثر، فيلزم من هذا الانحلال فرض فعلية الاكثر و عدم فعليته، و هو الخلف.

ص: 140

حال المستلزم لعدم لزوم الاقل مطلقا، المستلزم لعدم الانحلال، و ما يلزم من وجوده عدمه محال (1).

______________________________

و الحاصل: انه يتوقف القطع بفعلية وجوب الاقل على كل حال اما لوجوبه النفسي او لوجوبه الغيري على كون التكليف بالاكثر فعليا، لانه لو لم يكن التكليف بالاكثر فعليا لا يكون الوجوب الغيري للاقل فعليا، لان فعلية الوجوب الغيري في الاقل تابعة لفعلية الوجوب النفسي بالاكثر، فالقطع بفعلية وجوب الاقل على كل حال يتوقف على فعلية التكليف في الاكثر، ففرض الفعلية في الاقل على كل حال يستلزم فرض فعلية التكليف بالاكثر، و لازم فعلية الاقل على ما ذكروه وجها للانحلال هو عدم فعلية التكليف في الاكثر، فيلزم من هذا الوجه في الانحلال فرض فعلية التكليف بالاكثر و فرض عدم فعليته و هو الخلف الواضح، و لذا قال (قدس سره): ( (بداهة توقف لزوم الاقل فعلا)) على أي تقدير ( (اما لنفسه او لغيره على تنجز التكليف مطلقا و لو كان متعلقا بالاكثر)) اذ لو لم يكن التكليف بالاكثر فعليا لم يحصل القطع بوجوب الاقل على أي تقدير، و لازم الانحلال لاجل القطع بفعلية الاقل على أي تقدير انحصار التكليف الفعلي المنجز بالاقل لا غير و عدم فعلية التكليف بالاكثر، و لازم ذلك كون التكليف بالاكثر فعليا، لتوقف فعلية التكليف في الاقل على أي تقدير عليه و عدم كونه فعليا، لان لازم الانحلال و هو القطع بفعلية التكليف في الاقل على أي تقدير عدم فعلية التكليف في الاكثر، و لذا قال: ( (فلو كان لزومه كذلك)) أي فلو كان لزوم الانحلال الذي هو بواسطة فعلية الاقل على أي تقدير المتوقف على فعلية الاكثر ( (مستلزما لعدم تنجزه إلّا اذا كان متعلقا بالاقل)) أي مستلزما لانحصار فعلية التكليف في الاقل و عدم فعليته في الاكثر ( (كان)) ذلك ( (خلفا)) لرجوعه الى كون التكليف بالاكثر فعليا و غير فعلي.

(1) هذا هو المحال الثاني الذي يستلزمه الانحلال على الوجه المذكور.

ص: 141

.....

______________________________

و حاصله: انه يلزم من وجود هذا الانحلال عدمه، لان المناط فيه هو كون وجوب الاقل فعليا على أي تقدير اما لنفسه او لغيره و بعد كون فعليته لغيره تابعة لفعلية الاكثر، فاذا استوجب الانحلال عدم فعلية الاكثر فلا بد و ان تستوجب عدم فعلية الاكثر عدم فعلية الاقل على أي تقدير، لكون فعليته على تقدير كون وجوبه غيريا تابعة للاكثر، فلما استوجب الانحلال عدم فعلية الاكثر فلا بد و ان يستوجب عدم فعلية الاقل على أي تقدير، فيلزم من وجود الانحلال عدم الانحلال.

و الحاصل: ان الانحلال لازمه القطع بفعلية الاقل، و لازم فعلية الاقل على أي تقدير عدم فعلية الاكثر، و لازم عدم فعلية الاكثر عدم القطع بفعلية الاقل على أي تقدير، فيلزم من وجوده عدمه.

و بعبارة اخرى: إن لازم الانحلال عدم تنجز التكليف المعلوم بالاجمال في جميع اطرافه الاقل و الاكثر، فلا يكون التكليف المعلوم بالاجمال منجزا على كل حال في جميع اطرافه، لان لازم الانحلال انحصار تنجز التكليف بخصوص الاقل، و يستلزم عدم تنجز التكليف في جميع اطرافه عدم لزوم الاقل مطلقا و على أي تقدير، و لازم عدم تنجز التكليف في الاقل على أي تقدير عدم الانحلال، و لذا قال (قدس سره):

( (مع انه يلزم من وجوده عدمه)) أي يلزم من وجود الانحلال عدم الانحلال ( (لاستلزامه)) أي لاستلزام الانحلال ( (عدم تنجز التكليف)) المعلوم بالاجمال ( (على كل حال)) أي في الاقل و الاكثر، لوضوح ان لازمه هو انحصار تنجز التكليف بالاقل، و عليه فعدم تنجز التكليف المعلوم بالاجمال على كل حال هو ( (المستلزم لعدم لزوم الاقل مطلقا)) لما عرفت من انه حيث لا يكون التكليف بالاكثر فعليا لا يكون الوجوب الغيري بالاقل فعليا فلا يكون الاقل لازم الاتيان مطلقا، و لازم كون الاقل غير لازم الاتيان مطلقا هو ( (المستلزم لعدم الانحلال)) فيلزم من وجود الانحلال عدمه ( (و ما يلزم من وجوده عدمه محال)).

ص: 142

نعم إنما ينحل إذا كان الاقل ذا مصلحة ملزمة، فإن وجوبه حينئذ يكون معلوما له، و إنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الاكثر ذا مصلحتين، أو مصلحة أقوى من مصلحة الاقل، فالعقل في مثله و إن استقل بالبراءة بلا كلام، إلا أنه خارج عما هو محل النقض و الابرام في المقام (1).

______________________________

(1) توضيحه: ان الكلام في المقام في فرض ان هناك مصلحة واحدة ملزمة، اما ان يكون تمام المحصل لها هو الاقل، او يكون هو الاكثر، و على فرض كونه هو الاكثر فلا تكون تلك المصلحة الملزمة بحاصلة لفرض الارتباطية.

ففيما اذا فرضنا كون الاقل بنفسه ذا مصلحة ملزمة مقطوع بها. و الترديد تارة يكون لاحتمال ان يكون هناك مصلحة اخرى تقوم بالاكثر ايضا، فيكون الاتيان بالاكثر على هذا مشتملا على مصلحتين مستقلتين احدهما تقوم بالاقل فقط و الاخرى تقوم بالاكثر. و اخرى يكون الترديد لاجل احتمال ان المصلحة الواحدة ذات مراتب من حيث الشدة و الضعف، فتكون مرتبة منها موجودة في الاقل قطعا، و يحتمل ان تكون للمصلحة مرتبة اقوى تقوم بالاكثر. ففي هذا الفرض سواء كان الترديد لاجل احتمال مصلحتين مستقلتين او كان لاجل احتمال مصلحة واحدة ذات مرتبتين، فلا شبهة في الانحلال للعلم القطعي بكون الاقل واجبا بالوجوب النفسي على أي تقدير، سواء كان الشك لاحتمال وجود مصلحة اخرى غير مصلحة الاقل أو كان لاجل مرتبة اخرى من المصلحة غير المرتبة المتحققة في الاقل، فانه في كلا المقامين الاقل واجب تفصيلا بوجوب نفسي يخصه، و الاكثر مشكوك الوجوب بدوا فهو مجرى البراءة، إلّا ان هذا الفرض خارج عما هو محل الكلام، لما عرفت من ان محل الكلام هو العلم الاجمالي بوجوب واحد عن مصلحة واحدة مرددا بين الاقل و الاكثر، ففرض مصلحتين او مصلحة واحدة ذات مراتب لكل مرتبة منها اقتضاء الوجوب خارج عما هو محل الكلام، فان مرجعه الى الاستقلالية و الكلام في فرض

ص: 143

هذا مع أن الغرض الداعي إلى الامر لا يكاد يحرز إلا بالاكثر، بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الاوامر و النواهي للمصالح و المفاسد في المأمور به و المنهي عنه (1)، و كون الواجبات الشرعية

______________________________

مانع عدم الانحلال من ناحية الغرض

الارتباطية، و لعله يشير بهذا الى ما عن بعض الاعلام في وجه الانحلال في المقام، و هو كون الاجزاء واجبة بوجوب استقلالي.

و لا يخفى ان دعوى كون الاجزاء واجبة بوجوب استقلالي غير ارتباطي و ان كان لازمها الانحلال إلّا انها بعيدة الصدور عن الاعلام، لانه مع كون لازمها الخروج بما هو محل الكلام و هو الوجوب الارتباطي ان كونها اجزاء ينافي فرض الاستقلالية التامة، لوضوح تضايف عنوان الجزئية و عنوان الكلية، ففرض كونها اجزاء فرض كون لها كل و كونها واجبة بوجوب يخصها، غاية الامر ان سقوط كل جزء يكون مراعى باتيان الاجزاء الأخر لازمه كون الاجزاء الأخر دخلية في حصول الغرض منه و تمامية امتثاله و هو يرجع الى الارتباطية و يعود الاشكال.

و ما ذكره في الكتاب من دعوى المصلحة و المصلحتين او المصلحة الواحدة ذات المراتب فقد عرفت ان لازمه الخروج عما هو محل الكلام ايضا، فلا يكون وجها للانحلال في فرض الارتباطية و ان هناك وجوبا واحدا عن مصلحة واحدة اما ان يكون قائما بالاقل او بالاكثر.

(1) حاصله: انه لو سلمنا الانحلال من ناحية الامر الوجوبي لما ذكر في وجهه من العلم التفصيلي بالاقل اما لنفسه او لغيره، و لازمه كون الاقل مقطوع الوجوب و الاكثر مشكوكا بدوا فيكون مجرى البراءة، إلّا انه هناك مانع عن هذا الانحلال و هو ان الانحلال من ناحية الوجوب لا يفيد مع عدم الانحلال من ناحية الغرض.

و توضيح ذلك: ان مشهور العدلية ذهبوا الى ان الامر و النهي تابعان للمصالح و المفاسد في المأمور به و المنهي عنه، فالداعي الى امر المولى بشي ء هو المصلحة المترتبة على الاتيان بذلك الشي ء المأمور به، و بعد ان علمنا ان الداعي للامر هو المصلحة

ص: 144

.....

______________________________

فالعقل يحكم بلزوم اتيان ما به يحصل العلم بتحقق تلك المصلحة، لان الامر بذلك الشي ء انما هو كطريق الى حصول تلك المصلحة الداعية اليه و ان الواجب الحقيقي واقعا هو تلك المصلحة، و لذلك يحكم العقل بلزوم العلم باتيان ما تتحقق به تلك المصلحة الداعية الى الامر. و على هذا المبنى فلازم العلم الاجمالي بامر مردد بين الاقل و الاكثر هو العلم بمصلحة مرددة بين ان يكون المحقق لها هو الاقل او هو الاكثر، فلنا علم اجمالي ايضا بغرض مردد بينهما، و كما ان العلم الاجمالي بالامر موجب لتنجزه كذلك العلم الاجمالي بالغرض موجب لحكم العقل بلزوم تحصيله، و هذا العلم الاجمالي بالغرض المردد بين الاقل و الاكثر لا علم تفصيلي في مورده يوجب انحلاله، لوضوح عدم العلم التفصيلي بحصول الغرض في الاقل على أي تقدير حتى يكون موجبا للانحلال في الغرض كما كان العلم التفصيلي بالوجوب في الاقل اما لنفسه او لغيره موجبا لانحلال العلم الاجمالي بالامر الوجوبي، لان الانحلال المتقدم المدعى انما هو للعلم بوجوب الاقل اما لنفسه او لغيره، و لا يتأتى هذا في الغرض اذ ليس فيه مجال للوجوب المقدمي، اذ ليس الغرض مقدمة لغرض آخر، بل ليس في الغرض الا الوجوب النفسي المردد بين كون محصله هو الاقل أو الاكثر. و حيث لم يكن هذا العلم الاجمالي بالغرض منحلا فالعقل يحكم بلزوم اتيان ما به يحصل العلم بتحقق الغرض، و لا يكون ذلك إلّا باتيان الاكثر، فلا فائدة في انحلال الامر الوجوبي بما ذكر بعد ان كان الانحلال في ناحية الغرض و العقل حاكم بلزوم تحصيله احتياطا باتيان الاكثر، اذ الغرض من الانحلال رفع تبعة العقاب بعدم اتيان الاكثر، و مع حكم العقل بلزوم اتيانه من ناحية الغرض المعلوم بالاجمال لا ترتفع تبعة العقاب عن عدم اتيانه فيما اذا كان الغرض واقعا لا يحصل إلّا بالاكثر.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (هذا)) أي لو اغمضنا النظر عما ذكرناه من المحاذير على الانحلال المذكور من ناحية الامر الوجوبي و سلمنا الانحلال من ناحيته و لكنه لا يفيد ( (مع)) عدم الانحلال من ناحية الغرض، و من الواضح ( (ان الغرض الداعي

ص: 145

ألطافا في الواجبات العقلية، و قد مر اعتبار موافقة الغرض و حصوله عقلا في إطاعة الامر و سقوطه، فلا بد من إحرازه في إحرازها، كما لا يخفى (1).

______________________________

الى الامر)) النفسي المردد بين حصوله بالاقل او بالاكثر ( (لا يكاد يحرز)) ذلك الغرض ( (الا ب)) إتيان ( (الاكثر بناء على ما ذهب اليه المشهور من العدلية من تبعية الاوامر و النواهي للمصالح و المفاسد في المأمور به و المنهي عنه)).

نعم بناء على ما ذهب اليه الاشاعرة من عدم تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد في المأمور به و المنهي عنه، و امكان ان يكون الاوامر و النواهي لا لمصلحة و لا لمفسدة اصلا، و انه لا مانع عن صدور الجزاف منه تعالى، لا يكون لنا علم اجمالي بغرض مردد بينهما، فيكون للانحلال المذكور من جهة الامر الوجوبي اثر.

او بناء على عدم لزوم تبعية الاوامر و النواهي للمصالح و المفاسد في المأمور به، بل اللازم تبعيتها للمصالح و لو في نفس الامر و النهي كما عن بعض العدلية فانه ايضا لا يكون علم اجمالي بغرض لازم التحصيل، لوضوح انه مع كفاية كون الغرض الداعي الى الامر في نفس الامر لا علم لنا اجمالي بغرض يلزم علينا تحصيله فيكون ايضا للانحلال المذكور اثر.

(1) توضيح المراد من هذه العبارة يتوقف على بيان امور:

الاول: ان الظاهر من كون شي ء لطفا في شي ء آخر- في عرف المتكلمين و الاصوليين- هو كون شي ء مقربا للشي ء الآخر، و من الواضح ان الشي ء المقرب الى شي ء هو غير ذلك الشي ء المقرب اليه، فكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية لازمه كون الواجبات الشرعية- أي الاحكام الشرعية الواجبة- ألطافا في الواجبات العقلية هو كونها غير الواجبات العقلية، و انما كانت غيرها لبداهة ان الحكم و الامر بفعل على نحو الوجوب هو غير المصلحة الملزمة المترتبة على فعل ذلك الواجب شرعا، و مرجعه الى ان الفعل المأمور به غير المصلحة المترتبة على ذلك

ص: 146

.....

______________________________

الفعل، و لما كان الامر بفعل ما فيه المصلحة هو الداعي للمكلف الى اتيان ما فيه المصلحة كان مقربا الى تحقق المصلحة المترتبة على الفعل.

الثاني: انه لما كانت العلة الغائية هي من العلل الاربع للمركبات من الصورة و المادة: و هي العلة الصورية و العلة المادية و العلة الفاعلية و العلة الغائية. اما العلة الصورية و المادية فهما علتان للموجود لانه مركب منهما، و اما العلة الفاعلية فلأنها تحتاج الى فاعل و هو علة الصدور و الى غاية و هي العلة الغائية لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح و التخصيص بلا مخصص، لوضوح ان الاشياء بالنسبة الى الفاعل القادر على ايجادها على حد سواء، فكون احد الممكنات متعلقا للإرادة دون غيره من دون ان يكون فيه غاية اوجبت ترجيحه على غيره لازمه ان يكون ذلك الممكن قد ترجح من غير مرجح، و هو يساوق تحقق المعلول من دون علة.

لا يقال: من ان نفس الارادة المتعلقة به هي المرجح و المخصص له دون غيره مدفوع بان نفس الارادة المتعلقة به دون غيره ايضا موجود من الموجودات، فما لم يكن هناك مرجح و مخصص موجب لتخصصها و ترجحها لان تتعلق بهذا الممكن دون غيره يستلزم كون وجود نفس الارادة بما هي متعلقة بهذا دون غيره ان تكون من دون مرجح و مخصص، و لازم ذلك كون نفس الارادة معلولا وجد بلا علة تامة و هو من المحالات الواضحة، و تفصيل الكلام في هذا موكول الى محله.

الثالث: انه لما كان الحكم الشرعي هو حكم من اللّه على عباده، و من البديهي انه تعالى هو فوق التمامية في الاستغناء عن افعال عباده، و بعد ان كان لا بد ان يكون لفعله تعالى غاية، فلا بد ان تكون الغاية هي المصلحة العائدة لسعادة عباده، و من الواضح ان المصلحة العائدة لصالح العباد الموجبة لامر الشارع لهم بالفعل انما تكون في نفس افعالهم، و لذلك ذهب المشهور من العدلية الى القول بتبعية الاوامر و النواهي للمصالح و المفاسد في نفس المأمور به و المنهي عنه.

ص: 147

.....

______________________________

الرابع: ان الاحكام الشرعية: تارة تكون مما ادرك العقل المصلحة الداعية اليها، كحكم الشارع بحرمة التعدي على الغير في نفسه و ماله و عرضه، و كوجوب حفظ النفوس عن الهلاك، لانها من مصاديق ما اطبقت آراء العقلاء على قبحه و على حسنه، لوضوح تطابق آراء العقلاء على حسن العدل و قبح الظلم. و اخرى لا تكون المصالح و المفاسد في الافعال مما يصل العقل الى ادراكها. و لكن بعد ما ذكرنا في طي المقدمات المتقدمة من لزوم كون الاحكام تابعة للمصالح و المفاسد في افعال العباد لما يعود الى مصالحهم المترتبة على افعالهم و المفاسد المترتبة على افعالهم- يتضح ان العقل لو اطلع على تلك المصالح و المفاسد لرآها مصالح تقتضي الامر و مفاسد تقتضي النهي.

الخامس: ان قاعدة الحسن و القبح العقليين هي ما اشرنا اليها من تطابق آراء العقلاء على حسن العدل و قبح الظلم: أي ان القاعدة التي تطابقت عليها آراء العقلاء هي عنوان حسن العدل و عنوان قبح الظلم.

و اما الافعال بالنسبة الى هذه القاعدة و انطباق هذه القاعدة عليها فهي على انحاء:

لانها تارة تكون بحيث لو خلي الفعل و طبعه لكان حسنا، كالصدق فانه لو خلي و طبعه لكان حسنا ما لم يكن هناك مانع عنه، كما لو استلزم الصدق قتل مؤمن- مثلا- فانه يكون قبيحا.

و اخرى يكون بحيث لو خلي و طبعه لكان قبيحا، كضرب اليتيم فانه لو خلي و طبعه لكان قبيحا ما لم يتوقف عليه التأديب له، و مع توقف تأديبه عليه يكون حسنا لان مصلحة تأديبه اهم من مفسدة إيذائه، و مثل الكذب فانه لو خلي و طبعه لكان قبيحا، إلّا انه لو توقف عليه لخلاص نفس المؤمن- مثلا- فانه يكون حسنا لا قبيحا.

و ثالثة: لا يكون للفعل لو خلي و طبعه اقتضاء لان يكون حسنا و لا قبيحا، كالاكل و الشرب- مثلا- غير المتوقف عليهما حفظ النفس من التلف، بل كانا بداعي اللذة مثلا.

ص: 148

.....

______________________________

فاذا عرفت هذا ... نقول: ان الحكم الشرعي اذا تعلق بما يدرك العقل مصلحته الداعية لحسنه او مفسدته الداعية لقبحه كان الحكم الشرعي حكما عقليا ايضا، و اذا تعلق بما لا يدرك العقل مصلحته او مفسدته، او تعلق الحكم الشرعي بوجوب ما لو خلي و طبعه لكان ممنوعا عنه عند العقل، او تعلق بحرمة ما لو خلي و طبعه لكان حسنا و مأمورا به عند العقل و لم يطلع العقل على العنوان الغالب على مصلحة الفعل و لا على العنوان الغالب على مفسدته- لا يكون ذلك الحكم الوجوبي او التحريمي حكما عقليا بل حكما شرعيا محضا، و ان كان لو اطلع العقل على ذلك الامر الغالب لحكم بوجوب ما اوجبه الشارع و بحرمة ما حرمه الشارع، إلّا انه حيث لم يطلع فلا حكم له فيه كما له حكمه في الموارد المنكشفة له.

و مما ذكرنا يتّضح: انه لا يجب ان يكون الحكم الشرعي ملازما لما حكم به العقل و يدركه، فانه ربما ادرك مصلحة في شي ء و لم يطلع على مفسدة فيه اهم من مصلحته، او ادرك مفسدة في شي ء و لم يطلع على مصلحة فيه اهم من مفسدته.

و منه يتضح ان الاحكام الشرعية التي لم يصل العقل الى مصالحها و مفاسدها هي الاحكام المولوية، و لكنها هي بحيث لو اطلع عليها العقل لرآها لازمة ايضا.

و قد اتضح- مما ذكرنا كله- المراد من قولهم الواجبات الشرعية الطاف في الواجبات العقلية، و ان المراد منها انها تابعة لمصالح و مفاسد لو اطلع عليها العقل لرآها لازمة، و ليس المراد ان الواجبات الشرعية داخلة في قاعدة الحسن القبح العقلي.

و قد عرفت ايضا ان الاحكام الشرعية مقربات الى المصالح و المفاسد المترتبة على المأمور به و المنهي عنه، و الى ذلك تشير جملة مما ورد في علل الاحكام كقوله تعالى:

إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ(1) و قوله عليه السّلام: الصوم جنة من النار، و الزكاة نمو في المال، و الصدقة تطيل العمر، و عقوق الوالدين منقصة فيه .. و امثال ذلك.

ص: 149


1- 12. ( 1) العنكبوت: الآية 45.

و لا وجه للتفصي عنه: تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة و الاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدلية، و جريانها على ما ذهب إليه الاشاعرة

______________________________

فاذا عرفت ان الاحكام الشرعية تابعة لمصالح و مفاسد في المأمور به و المنهي عنه- تعرف ان لازم العلم الاجمالي بالحكم المردد بين الاقل و الاكثر العلم الاجمالي بغرض مردد بينهما ايضا، فلو انحل العلم الاجمالي من ناحية الحكم فلا ينحل من ناحية الغرض عقلا.

و قد اتضح مما ذكرنا ايضا: ان الغرض حيث كان هو العلة للامر و النهي فالعقل يلزم بحصوله و استيفائه، و لا بد في مقام الامتثال من الاتيان بما به يحصل الغرض عقلا.

و بعبارة اخرى: ان العقل كما يحكم في تحقق الاطاعة باتيان ما تعلق به الامر، كذلك يحكم بلزوم تحصيله الغرض و لزوم موافقته باتيان ما به يحصل العلم بتحقق الغرض و انه لا يسقط الامر إلّا بذلك، فلا بد من احراز حصول الغرض في مقام اطاعة الامر، لانه بعد ان كان معلولا للغرض فلا يسقط الامر عقلا إلّا باتيان ما هو سببه و علته.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (و كون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية)) أي ان الوجه لما ذهب اليه مشهور العدلية من تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد هو كون الاحكام الشرعية مقربات للواجبات التي لو اطلع عليها العقل لرآها لازمة الاستيفاء و واجبة التحصيل، و اشار الى حكم العقل في مقام الاطاعة بلزوم تحصيل الغرض بقوله: ( (و قد مر اعتبار موافقة الغرض و حصوله عقلا في مقام اطاعة الامر و سقوطه)) بالاطاعة و حيث كان كذلك ( (فلا بد من احرازه)) أي لا بد من احراز حصول الغرض ( (في احرازها)) أي في احراز الاطاعة، و لا يحرز حصول الغرض في العلم الاجمالي المردد بين الاقل و الاكثر إلّا باتيان الاكثر ( (كما لا يخفى)).

ص: 150

المنكرين لذلك، أو بعض العدلية المكتفين بكون المصلحة في نفس الامر دون المأمور به (1).

______________________________

الجواب عنه بوجوه ثلاثة

(1) توضيحه: انه بعد ما عرفت من ان الانحلال المذكور للعلم الاجمالي بالحكم المردد بين الاقل و الاكثر بما ذكروه من العلم التفصيلي بوجوب الاقل اما لنفسه او لغيره و الشك البدوي في الزائد- بعد الغض عما يرد عليه من المحاذير المذكورة- لا يكون مقيدا لحكم العقل في مقام الاطاعة بلزوم تحصيل الغرض، و لما كان مرددا بين الاقل و الاكثر فلا بد من اتيان الاكثر بحكم العقل للزوم تحصيل الغرض عقلا.

و قد اجيب عن هذا بوجوه ثلاثة اشار اليها في الكتاب.

الاول، و توضيحه: ان الاشاعرة حيث قالوا بامكان الارادة الجزافية و انه لا داعي الى الغاية في تحقق الارادة، و انكروا تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد في المأمور به و المنهي عنه. و من الواضح ان الكلام في مسألة البراءة و الاحتياط في المقام و في غيره من المقامات لا يبتني على مذهب مشهور العدلية، بل الاشاعرة المنكرين للتبعية، فانهم مع الانحلال يقولون بالبراءة، و مع عدم الانحلال يقولون بالاحتياط ..

فيظهر من هذا ان الكلام في الانحلال و عدمه انما هو الانحلال في مقام الامر لا في مقام الغرض، و قد عرفت وجه الانحلال في مقام الامر بالعلم التفصيلي بوجوب الاقل و الشك البدوي في الزائد عليه، فلا وجه للاشكال بعدم الانحلال في ناحية الغرض بعد ان كان الكلام في المسألة هو الانحلال من ناحية الامر و عدمه.

و الحاصل: ان الكلام بين العلماء في المقام انما هو في الانحلال في مقام الامر لا في الانحلال في مقام الغرض فانه ليس من محل الكلام في الاقل و الاكثر الارتباطيين، و الى هذا اشار بقوله: ( (تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة و الاحتياط على ما ذهب اليه مشهور العدلية)) من تبعية الاحكام للمصالح و المفاسد و انها هي الاغراض لها بل الكلام في مسألة البراءة و الاحتياط لا يختص بمشهور العدلية ( (و)) من الواضح ( (جريانها)) أي جريان مسألة البراءة و الاحتياط ( (على ما ذهب اليه الاشاعرة

ص: 151

و أخرى بأن حصول المصلحة و اللطف في العبادات لا يكاد يكون إلا بإتيانها على وجه الامتثال، و حينئذ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا- ليؤتى بها مع قصد الوجه- مجال، و معه لا يكاد يقطع بحصول اللطف و المصلحة الداعية إلى الامر، فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به، فإنه واجب عقلا و إن لم يكن في المأمور به مصلحة و لطف رأسا، لتنجزه بالعلم به إجمالا.

______________________________

المنكرين لذلك)) أي المنكرين للتبعية، و لازم ذلك هو كون المدار في الانحلال و عدمه على الانحلال في ناحية الامر دون الغرض.

الثاني: من وجوه التفصي عن عدم الانحلال في الغرض هو ان بعض العدلية القائلين بلزوم الغاية في الارادة لم يلتزموا بلزوم كون الغاية للامر و الارادة المتعلقة بالحكم الشرعي هي المصالح و المفاسد في المأمور به و المنهي عنه، بل اكتفوا بالمصلحة في نفس الامر و النهي، و من الواضح ان الكلام في البراءة و الاحتياط مما يعم هؤلاء البعض من العدلية و لا يختص بخصوص المشهور من العدلية، و من البديهي ايضا انه على القول بكفاية المصلحة في نفس الامر و النهي لا ياتي الاشكال في عدم الانحلال من ناحية الغرض في المأمور به و المنهي عنه، لعدم حكم العقل على هذا باناطة سقوط الامر بتحصيل الغرض في المأمور به، لفرض عدم الغرض فيه حتى يلزم تحصيله في مقام اطاعة الامر عقلا، و لازم هذا كون المهم هو الانحلال في ناحية الامر دون الغرض، و الى هذا اشار بقوله: ( (او بعض العدلية)) أي بناء على ما ذهب اليه هذا البعض من العدلية ( (المكتفين)) هؤلاء ( (بكون المصلحة في نفس الامر دون المأمور به)) لا يبقى مجال للاشكال من ناحية عدم الانحلال في ناحية الغرض كما عرفت.

ص: 152

و أما الزائد عليه لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته، فإن العقوبة عليه بلا بيان (1).

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثالث من وجوه التفصي، و حاصله: ان العقل لا يحكم في مقام الاقل و الاكثر الارتباطيين في العبادات بلزوم تحصيل الغرض حتى يكون عدم الانحلال فيه مانعا عن الانحلال في ناحية الامر، و الوجه في عدم حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض في المقام في العبادات هو انه مما يحتمل دخالة قصد الوجه في اجزائها في حصول الغرض، و من الواضح ان اتيان اجزائها بداعي الوجه يتوقف على معرفتها بما هي اجزاء الواجب، و هو مما يتوقف على معرفة الواجب تفصيلا، و المفروض عدم معرفة الواجب تفصيلا لتردده بين الاقل و الاكثر.

و الحاصل: ان قصد الوجه هو اتيان الشي ء بداعي وجوبه، و اتيان الاجزاء بداعي وجوبها بما هي اجزاء للواجب يتوقف على معرفة الواجب تفصيلا و هو غير موجود في المقام، لان المفروض كون الواجب معلوما بالاجمال بنحو الترديد و ليس بمعلوم تفصيلا، و لازم ذلك سقوط حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض لتوقفه على غير المقدور في المقام، و مع سقوط حكم العقل في المقام بلزوم تحصيل الغرض لا يبقى في المقام الا حكم العقل بلزوم اطاعة الامر و التخلص من تبعة العقاب على مخالفته، و مع الانحلال المذكور و جريان البراءة في الزائد على الاقل المشكوك بدوا لا تبعة للعقاب من ناحيته، و لا يكون عدم الانحلال من ناحية الغرض بمانع لعدم لزوم تحصيل الغرض حتى يكون عدم الانحلال من ناحيته مانعا.

و الى هذا اشار بقوله: ( (و اخرى بان حصول المصلحة و اللطف في العبادات)) الذي هو الغرض ( (لا يكاد يكون)) محرزا ( (إلّا باتيانها)) أي إلّا باتيان العبادات ( (على وجه الامتثال)) المقطوع به ( (و حينئذ)) حيث ( (كان لاحتمال اعتبار معرفة اجزائها تفصيلا ليؤتى بها)) أي ليمكن ان يؤتى باجزاء العبادات ( (مع قصد الوجه مجال)) أي لاحتمال دخالة قصد الوجه في اجزائها في حصول الامتثال المحصل

ص: 153

و ذلك ضرورة أن حكم العقل بالبراءة- على مذهب الاشعري- لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية (1)، بل من ذهب إلى

______________________________

تعريض المصنف (قده) بالوجوه الثلاثة

للغرض مجال ( (و)) لما كان لهذا الاحتمال مجال و من الواضح انه ( (معه)) أي مع احتمال دخالة قصد الوجه المتوقف على معرفة اجزاء العبادة تفصيلا غير المقدور في فرض العلم الاجمالي و دورانه بين الاقل و الاكثر ( (لا يكاد يقطع بحصول اللطف)) العقلي ( (و)) هو ( (المصلحة الداعية الى الامر)) و مع عدم امكان تحقق ما يتوقف عليه حصول الغرض فلا بد من سقوط حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض ( (فلم يبق الا التخلص عن تبعة مخالفته)) أي مخالفة الامر، و يحصل التخلص عن تبعة مخالفته لاجل الانحلال المذكور ( (باتيان ما علم تعلقه به فانه واجب عقلا و ان لم يكن في المأمور به مصلحة و لطف)) عقلي ( (رأسا)) و ذلك هو الاقل ( (لتنجزه بالعلم به اجمالا)) لانه إما واجب لنفسه او لغيره، فيكون الاقل هو القدر المتيقن الواجب قطعا في المقام ( (و اما الزائد عليه لو كان)) هو الواجب واقعا ( (فلا تبعة على مخالفته من جهته)) أي من جهة العلم الاجمالي ( (فان العقوبة عليه بلا بيان)) لانه مشكوك بدوا.

(1) هذا هو الجواب عن التفصيات المذكورة، و حاصله: انه لا وجه للتفصي عن اشكال الغرض بهذه الوجوه الثلاثة:

اما عن الاول: فبأن الانحلال من ناحية الامر و ان كان يتم على مذهب الاشعري القائل بامكان الارادة الجزافية و تحقق الامر من المولى من دون غرض و مصلحة اصلا، لكنه لا يمكن ان يكون الانحلال من ناحية الامر مع عدم الانحلال من ناحية الغرض نافعا لمشهور العدلية و من يرى رأيهم.

و الحاصل: ان جريان البراءة في الاكثر على مذهب الاشعري لا يجدي لمن ذهب الى ما عليه مشهور العدلية من كون الاحكام تابعة للمصالح و المفاسد في المأمور به و المنهي عنه، لوضوح عدم جريانها عنده من ناحية الغرض الذي قد حكم العقل

ص: 154

ما عليه غير المشهور، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الامر و مصلحته- على هذا المذهب أيضا- هو ما في الواجبات من المصلحة و كونها ألطافا (1)،

______________________________

بلزوم تحصيله المتوقف على اتيان الاكثر ليأمن من تبعة العقاب على الغرض. و الى هذا اشار بقوله: ( (ضرورة ان حكم العقل بالبراءة على مذهب الاشعري لا يجدي ..

الى آخر الجملة)).

(1) يشير بهذا الى الجواب عن الوجه الثاني في التفصي، و الجواب عنه، اولا:

ان غير المشهور من العدلية القائلين بكفاية الغرض و المصلحة في نفس الامر لا يقولون بلزوم كون الغرض و المصلحة دائما في نفس الامر، بل يقولون بامكان كون المصلحة و الغرض في بعض الاوامر في نفس الامر، و لا يسعهم القول بان جميع الاغراض قائمة بالامر دون المكلف به، لوضوح انه لو كانت المصالح دائما قائمة بنفس الامر فلا وجه لتكليف العبد باتيان المكلف به، لفرض حصول الغرض بنفس الامر، فاي موجب لان يكلف المولى عبده باتيان ما لا غرض له به و هو أشبه بالجزاف، ففيما لو علمنا بان المصلحة في نفس المأمور به كما في الصلاة المنصوص على كون الغرض و المصلحة فيها في نفسها لا في نفس الامر بها، فان كون الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر نص في ان المصلحة و الغرض هو في نفس الصلاة المأمور بها لا في الامر بها، و في مثلها فيما لو دار امرها بين الاقل و الاكثر لا يستطيع من ذهب الى غير المشهور عند العدلية ان تجري البراءة في الاكثر من ناحية الامر مع علمه بان الغرض و المصلحة في نفس المامور به، و المفروض حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض و المصلحة المتوقف ذلك على اتيان الاكثر.

و ثانيا: ان الغرض تارة يكون معلوما كونه في نفس الامر. و اخرى: يكون معلوما كونه في المأمور به. و ثالثة: يكون محتملا لان يكون في نفس الامر و لان يكون في المأمور به.

ص: 155

فافهم (1).

______________________________

و من الواضح ندرة معلومية كون الغرض في نفس الامر، و إلّا فالغالب ان يكون الغرض في نفس المامور به و لا اقل من احتمال ذلك.

و اذا كان الغرض في نفس المأمور به او كان محتملا لان يكون في المأمور به، فلا بد من لزوم تحصيله بعد العلم به على وجه الاجمال و لا يحصل اليقين من تبعته إلّا باتيان الاكثر.

و الحاصل: ان الغرض ان كان في المأمور به فلزوم تحصيله باتيان الاكثر مما لا ريب فيه.

و اما اذا كان محتملا لان يكون في المأمور به فتحصيله- ايضا- لازم بحكم العقل لانه بعد العلم بان هناك غرضا فالعقل يلزم بتحصيله، و لا يحصل اليقين بتحصيله إلّا باتيان الاكثر. و الى هذا اشار بقوله: ( (بل من ذهب)) من العدلية ( (الى ما عليه غير المشهور)) منهم لا يستطيع ان يجري البراءة في الاكثر ( (لاحتمال ان يكون الداعي الى الامر)) ليست المصلحة التي في نفس الامر ( (و)) ان مصلحته على هذا المذهب ايضا هو ما في)) نفس ( (الواجبات من المصلحة و كونها ألطافا)) أي كون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية التي هي المصالح في نفس المامور به فيها، لما عرفت من ان القائلين بكفاية المصلحة في نفس الامر لا يقولون بالانحصار و انه لا بد دائما ان يكون مصلحة الامر في نفسه لا في المامور به، ففي مقام احتملنا كون المصلحة في المامور به فلا بد عقلا من لزوم تحصيلها بعد العلم بان هناك مصلحة.

(1) يحتمل ان يكون اشارة الى انه فيما لو قلنا بكفاية المصلحة في نفس الامر: فتارة نعلم بكونها في نفس الامر فلا يجب تحصيلها لفرض حصولها بنفس الامر. و اخرى نعلم بكونها في نفس المامور به لا في الامر، و هذه هي التي يحكم العقل بلزوم تحصيلها. و ثالثة: نحتمل كونها في نفس الامر و نحتمل كونها في المأمور به، و هذه

ص: 156

و حصول اللطف و المصلحة في العبادة، و إن كان يتوقف على الاتيان بها على وجه الامتثال، إلا أنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الاجزاء و إتيانها على وجهها، كيف؟ و لا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا كما في المتباينين، و لا يكاد يمكن مع اعتباره (1).

______________________________

كالاولى لا يجب على المكلف تحصيلها عقلا، للشك في ارادة تحصيلها من المكلف لاحتمال حصولها بنفس الامر.

و بعبارة اخرى: ان العقل انما يحكم بوجوب تحصيل غرض المولى فيما اذا علم بان تحصيل غرضه منوط بفعل المكلف، و مع احتمال كونها في نفس الامر لا يعلم بمصلحة تحصيلها منوط بالمكلف.

(1) هذه اشارة الى الجواب عن التفصي الثالث. و قد اجاب عنه في الكتاب بوجوه خمسة:

الاول: و توضيحه، ان قصد الوجه في العبادة هو الاتيان بها على وجه الامتثال بمعنى ان يقصد اتيانها بما للامر بها من خصوصية الوجوب. و قصد التمييز هو معرفة المأمور به باجزائه مفصلا و الاتيان باجزائه بما هي اجزاء الواجب. و من الواضح في المقام- و هو كون الامر دائرا بين الاقل و الاكثر- مسلمية امكان الاحتياط فيه باتيان الاكثر، غايته ان من يقول بالبراءة لا يرى الاحتياط واجبا، و من يقول بالاحتياط يرى اتيان الاكثر لازما. و لازم توقف الامتثال على معرفة الاجزاء تفصيلا و تمييزها و انها اجزاء الواجب بما هي كذلك عدم امكان الاحتياط، لوضوح ان المفروض عدم معرفة الواجب تفصيلا و انه مردد بين الاقل و الاكثر، و لو كان معرفة الاجزاء بما هي اجزاء لازمة لما امكن ان يتأتى الاحتياط باتيان الاكثر. و حيث كان امكان الاحتياط باتيان الاكثر مسلما فلا بد و ان يكون معرفة اجزاء الواجب و تمييزها تفصيلا غير لازمة.

ص: 157

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: ان المفروض في المقام ان الحال فيه من ناحية امكان الاحتياط حال المتباينين، و لو كان معرفة اجزاء الواجب تفصيلا لازمة لما امكن الاحتياط في المتباينين لفرض عدم معرفة الواجب بعينه. و لا فرق بين مقامنا و المتباينين إلّا ان الاحتياط هنا باتيان الاكثر و هناك باتيان كلا الطرفين.

فتحصل مما ذكرنا: ان مفروض الكلام في المقام يقتضي عدم قصد الوجه في الاجزاء نفسها، و انه لا يراد من المكلف في مورد العلم الاجمالي هنا و في المتباينين اتيان اجزاء الواجب بقصد الوجه فيها لتوقفه على معرفتها تفصيلا و هو مفروض العدم، و لا بد و ان يكون اللازم كفاية قصد الاتيان بقصد الوجه على وجه الاجمال بان يقصد اتيان هذه الاجزاء بداعي الوجوب المعلوم اجمالا، و لا يلزم اتيان كل جزء من هذه الاجزاء بداعي وجوبه المتعلق به.

و حاصل هذا الجواب: ان مسلمية امكان الاحتياط في المقام باتيان الاكثر لازمه عدم وجوب قصد الوجه في الاجزاء تفصيلا و إلّا لكان الاحتياط باتيان الاكثر غير ممكن، لانه بالاتيان بالاكثر من باب الاحتياط يعلم باتيان الواجب المردد بين الاقل و الاكثر و لكن لا يعلم اجزاؤه على التفصيل، فمسلمية الاحتياط في المقام ينفي لزوم قصد الوجه في الاجزاء، و اللازم قصد الوجه في الواجب أي الكل، و يكفي قصد الوجه في الواجب الذي هو الكل قصد الوجوب المعلوم بالاجمال المردد بين الاقل و الاكثر. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (و حصول اللطف و المصلحة في العبادات و ان كان يتوقف على الاتيان بها على وجه الامتثال إلّا انه)) لا بد و ان يكون هو قصد اتيانها بداعي الوجوب المعلوم اجمالا لبداهة انه ( (لا مجال)) في المقام ( (لاحتمال اعتبار معرفة الاجزاء)) تفصيلا ( (و اتيانها على وجهها)) بان ياتى بنفس الاجزاء بقصد وجوبها المتعلق بها و ( (كيف)) يمكن ان يكون ذلك معتبرا في المقام مع ان المفروض في المقام تأتي الاحتياط من المكلف ( (و)) انه ( (لا اشكال في امكان

ص: 158

هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك، و المراد بالوجه في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه و وجوب اقترانه به، هو وجه نفسه من وجوبه النفسي، لا وجه أجزائه (1) من

______________________________

الاحتياط هاهنا كما)) هو الحال ( (في المتباينين و)) قد عرفت انه مع لزوم اتيان نفس الاجزاء بقصد وجهها المتعلق بها ( (لا يكاد يمكن)) الاحتياط هنا و لا في المتباينين.

فاتضح انه لا يعتبر هنا و لا في المتباينين في مقام الاحتياط قصد الوجه في الاجزاء نفسها لعدم تأتي الاحتياط ( (مع اعتباره)).

(1) هذا هو الوجه الثاني في الاشكال على التفصي الثالث، و حاصله: ان قصد الوجه اللازم- بناء على اعتباره- هو قصد اتيان المأمور به المركب بداعي الوجوب النفسي المتعلق بذلك المركب، و اما قصد الوجه في اجزاء المركب بان يؤتى بكل جزء جزء بداعي الوجوب المتعلق به فهو واضح البطلان.

و بيان ذلك: ان اعتبار قصد الوجه يرجع الى ان الواجب شرعا حيث كان لمصلحة قائمة به صار بها حسنا عقلا واقعا بحيث لو اطلع العقل عليها لرآه حسنا و لازما و حيث ان ما يدرك العقل حسنه لا بد و ان يؤتى به بما هو حسن، فالامور الحسنة العقلية لا بد في مقام اتيانها من لزوم قصد حسنها ليكون المأتي به موجها بوجهه الحسن، و مثله الواجبات الشرعية فانها حيث كانت المصالح حسنة واقعا قائمة بالمأمور به فلا بد من اتيان المامور به بما هو معنون بعنوان الوجوب، و من الواضح ان المصلحة القائمة بالمركب بما هو مركب مصلحة واحدة قائمة به بما هو مركب، فهناك مصلحة واحدة و لها وجوب واحد و هو الوجوب النفسي المتعلق بالمركب، و من الواضح ان كل جزء من اجزاء المركب ليس له مصلحة على حدة حتى يجب اتيانه بداعي وجوبه المختص به، و إلّا لكان واجبا نفسيا بذاته و هو خلاف المفروض، فان المفروض ان الواجب النفسي واحد و هو المركب من هذه الاجزاء، لا أن هذه الاجزاء كل واحد منها واجب بوجوب نفسي يخصه.

ص: 159

وجوبها الغيري أو وجوبها العرضي (1)، و إتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية و وصفا بإتيان الاكثر بمكان من الامكان، لانطباق الواجب عليه و لو كان هو الاقل، فيتأتى من المكلف معه قصد الوجه، و احتمال

______________________________

و الحاصل: ان فرض كونها اجزاء الواجب هو فرض كون الواجب هو المركب لا كل جزء جزء، فالمأمور به العبادي هو المركب من الأجزاء و هو العبادة التي يلزم قصد الوجه فيه، و ليس كل جزء منه عبادة حتى يلزم قصد الوجه في نفس الاجزاء.

و الى هذا اشار بقوله: ( (هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار الوجه كذلك)) أي قصد الوجه في الاجزاء نفسها حتى يكون ذلك متوقفا على معرفتها تفصيلا، لما عرفت من السبب للقول بقصد الوجه هو قصد اتيان المامور به لما فيه من المصلحة الداعية لحسنه، و لا ريب ان هنا مصلحة واحدة هي الحسن المتعنون به الواجب و هو المركب لا أجزاؤه، و ليست اجزاء العبادة بعبادة ( (و)) من الواضح ان ( (المراد بالوجه في كلام من صرح بوجوب ايقاع الواجب على وجهه و وجوب اقترانه)) أي اقران الواجب ( (به)) أي بقصد الوجه ( (هو وجه نفسه من وجوبه النفسي)) أي قصد وجوبه النفسي المتعلق بالمركب ( (لا)) قصد ( (وجه اجزائه)).

(1) اما وجوب الاجزاء الغيري- بناء على ان للاجزاء وجوبا غيريا- فلا يجب عقلا قصده لانه وجوب توصلي لا عبادي، و من الواضح ان قصد الوجه انما يجب في المطلوب العبادي دون التوصلي، و اما الوجوب العرضي- بناء على ان للاجزاء وجوبا عرضيا- فهو ايضا لا يجب عقلا قصده، لانه لم يكن عن مصلحة هي الوجه الحسن الذي يجب عند العقل قصده، لان الوجوب العرضي اما هو نفس الوجوب النفسي المتعلق بالكل ينسب ثانيا و بالعرض الى الاجزاء، فهو من النسب المجازية للاجزاء لا الحقيقية حتى يلزم قصده فيها، او انه الوجوب الغيري المترشح منه و تسميته عرضيا باعتبار انه لم يكن وجوبا لذاته، بل كان امرا عارضا اقتضاه الوجوب النفسي و هو توصلي لا عبادي كما عرفت.

ص: 160

اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس بضائر، إذا قصد وجوب المأتي على إجماله، بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه، لا سيما إذا دار الزائد (1) بين كونه جزءا لماهيته و جزءا لفرده، حيث ينطبق

______________________________

(1) توضيحه يتوقف على بيان امرين: الاول: ان قصد الوجه- بناء عليه- يمكن ان يكون بنحو الغاية و يمكن ان يكون بنحو التوصيف. و معنى كونه بنحو الغاية هو ان يكون الداعي لاتيان العبادة قصد الامر بما هو واجب.

و بعبارة اخرى: انه يأتي بالعبادة المطلوبة بداعي الوجوب المتعلق بها فيكون قصد وجوبها هو الغاية الداعية لاتيانها. و معنى كونه بنحو التوصيف هو ان يأتي بالعبادة الموصوفة بكونها هي الواجب واقعا.

الثاني: انه لما كان الداعي للاتيان بالاكثر هو احتمال كونه هو الواجب واقعا فيتأتى من المكلف اتيان الاكثر بداعي الوجوب الواقعي المحتمل، او بداعي كون الواجب الواقعي هو المتصف بالوجوب، فان كان الواجب الواقعي هو الاكثر فقد انطبق الواجب الواقعي المقصود وجهه على المأتي به تماما، و ان كان الواجب الواقعي هو الاقل فقد انطبق ايضا على الاقل المأتي به في ضمن الاكثر انطباقا تاما.

و لا يضر في انطباق الواجب الواقعي على الاقل تماما وجود اشياء أخر معه و هي الزائد المحتمل وجوبه، لان المقصود للمكلف هو امتثال الواجب الواقعي بنحو الاجمال بما هو عليه بداعي وجوبه او بوصف كونه واجبا. و من الواضح ان اشتمال الواجب الواقعي- حيث يكون هو الاقل واقعا- على اشياء زائدة على ما هو الواجب الواقعي فيما اذا اتى بالاكثر لا يمنع من انطباق ما هو الواجب الواقعي على المأتي به.

و الحاصل: ان ضم ما ليس بواجب من المأتي به و هو الزائد الى ما هو الواجب واقعا فيما اذا كان الواجب الواقعي هو الاقل لا يضر بانطباق الواجب الواقعي تماما على المأتي به، لان قصد الوجه الدخيل في الغرض العبادي هو قصد الوجه للواجب

ص: 161

الواجب على المأتي حينئذ بتمامه و كماله، لان الطبيعي يصدق على الفرد بمشخصاته (1). نعم، لو دار بين كونه جزءا أو مقارنا لما كان منطبقا

______________________________

النفسي، و المفروض في المقام ان الداعي الى الاتيان هو امتثال الامر الواقعي بما هو واجب واقعا بنحو الاجمال اما بنحو الغاية او بنحو التوصيف، و هو ينطبق على المأتي به الاكثر على كل حال، سواء كان الواجب الواقعي هو الاكثر او كان هو الاقل. نعم، لو كان الدخيل في الغرض هو قصد التمييز لأخل في تحقق الامتثال لتوقفه على معرفة الاجزاء تفصيلا، إلّا أنّك قد عرفت عدم احتمال دخالة قصد التمييز في ما هو لازم قصده عند العقل بناء على اعتباره، و انما اللازم هو قصد اتيان ما هو الحسن بداعي حسنه، و حيث كان الحسن في المركب هو اشتماله على المصلحة الحسنة، و هي مصلحة واحدة و لها وجوب، فقصد الاتيان بداعي ذلك الوجوب الواحد هو قصد الوجه المعتبر عند العقل و هو الوجوب النفسي للمركب دون الوجوب الغيري او العرضي لنفس الاجزاء. و قد اشار الى ان لازم الاتيان بالاكثر هو انطباق الواجب الواقعي عليه المأتي به بقصد وجهه بنحو الغاية او التوصيف على كل حال سواء كان الواجب واقعا هو الاكثر او الاقل بقوله: ( (و اتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية او وصفا باتيان الاكثر بمكان من الامكان .. الى آخر الجملة)) و اشار الى ان ضم ما ليس بواجب الى ما هو الواجب لا يضر في انطباقه و ان قلنا بلزوم قصد الوجه بقوله: ( (و احتمال اشتماله .. الى آخر الجملة)) و اشار الى ان المضر هو قصد التمييز لو كان دخيلا و لكنه غير محتمل دخالته عند العقل بقوله:

( (بلا تمييز ما له دخل في الواجب من اجزائه)).

(1) الظاهر ان المراد من هذا الترقي بقوله: ( (لا سيما اذا دار الزائد بين كونه جزءا لماهيته و جزءا لفرده)) هو ان الدوران بين الاقل و الاكثر اذا كان لاجل احتمال كون الزائد جزءا للماهية او جزءا للفرد مما يمكن فيه قصد الوجه تفصيلا، بمعنى انه يمكن ان يؤتى باجزاء المركب بقصد الوجه فيها بما هي مصداق للواجب الواقعي، لانه اذا

ص: 162

عليه بتمامه لو لم يكن جزءا، لكنه غير ضائر لانطباقه عليه أيضا فيما لم يكن ذاك الزائد جزء غايته، لا بتمامه بل بسائر أجزائه (1).

______________________________

دار الامر في الاكثر بين كونه جزءا لماهية الواجب او كونه جزءا لفرد الواجب فان الزائد على كل حال يكون مصداق الواجب الواقعي، لانه اذا كان جزءا لماهيته فمن الواضح ان ما هو جزء لماهية الواجب فهو جزء من الواجب، و اذا كان جزءا لفرده فهو و ان لم يكن جزءا لماهية الواجب إلّا انه كان جزءا لفرده، و كان الطبيعي مما يصدق على الفرد بمشخصاته الفردية، كان مما يصح ان يؤتى بجزء الفرد بما هو مصداق الطبيعي الواجب. و ينبغي ان لا يخفى ان الفرق بين الطبيعي و الفرد هو ان الفرد حصة متشخصة من الطبيعي، و من الواضح صدق الطبيعي على الحصة المتشخصة منه اذ لا تزيد عليه الا بمحض التشخص. و الى ما ذكرنا اشار بقوله:

( (حيث ينطبق الواجب)) المردد بين الاقل و الاكثر المردد ذلك الزائد في الاكثر بين كونه جزءا للماهية أو للفرد ( (على المأتي)) به ( (حينئذ بتمامه و كماله)) لبداهة انطباق الواجب على الزائد تماما و كمالا فيما كان جزءا للماهية و اذا كان الزائد جزءا للفرد فهو ايضا مما ينطبق عليه الواجب واقعا ( (لان الطبيعي يصدق على الفرد بمشخصاته)).

و ينبغي ان لا يخفى ان هذا مبنى على كون التشخص بلوازم الوجود لا بنفس الوجود، فانه لو كان التشخص بنفس الوجود لما صح ان يدور امر الزائد بين كونه جزءا للماهية او جزءا للفرد، لوضوح ان التشخص اذا كان بالوجود لا باللوازم فلا فرق بين الفرد و الماهية في مقام الوجود اصلا، و ليس الفرد الا نفس الماهية المتشخصة بالوجود، و حينئذ فالفرق بين الماهية و الفرد هو ان الماهية غير مقيدة بالوجود و الفرد هو المتقيد بكونه متشخصا بالوجود.

(1) توضيح الحال: ان المركب تارة: يكون مركبا حقيقيا و هو المركب من الصورة و المادة و في هذا يصدق الطبيعي على فرده المتشخص صدقا حقيقيا، و ان كان ما به

ص: 163

.....

______________________________

بتشخص الفرد محل الكلام في انه هل هو الوجود على التحقيق في فنه، او العوارض اللازمة ككيفه و كمه و مكانه و زمانه و غيرها من المقولات اللازمة للوجود على المشهور.

و اخرى: يكون المركب مركبا اعتباريا و هو المركب من مقولات متعددة، فان مثل هذا المركب من المركبات الاعتبارية لعدم امكان التركيب الحقيقي من المقولات المتعددة، و إلّا لما انحصرت المقولات الحقيقية في عشر، و لما كانت منحصرة في عشر و هي الجوهر و الاعراض التسعة استحال التركيب الحقيقي من المقولات المتعددة، فمثل الصلاة مركب اعتباري لانها عبارة عن مقولة الكيف و الوضع لانها اذكار و هيئات و هي عبارة عن موجودات متعددة لكل فرد موجود منها طبيعي يخصه و انما كانت امرا واحدا و مركبا واحدا باعتبار كونها مطلوبة بطلب واحد قد صارت باعتبار ذلك الطلب الواحد امرا واحدا و مركبا واحدا.

فاذا عرفت هذا ... نقول: ان الزائد على الاقل كالقنوت يحتمل ان يكون جزءا من ماهية الصلاة الواجبة المطلوبة بطلب واحد، و يحتمل ان يكون جزءا من الصلاة مستحبا فيها موجبا لكمالها و مزيد فضيلتها، و يحتمل ان يكون مطلوبا ظرفه الصلاة فلا يكون جزءا من الصلاة لا من ماهيتها و لا من كمالها.

و من الوضح انه اذا كان مستحبا ظرفه الصلاة لا يكون من اصل طبيعتها و لا من مشخصات الفرد فيها بل يكون من مقارناتها، و اذا كان جزءا مستحبا فيها من مكملاتها و موجبا لمزيد فضيلتها فانه يكون مشخصا، و ذلك لكون كمال الشي ء من شئون الشي ء و اطواره فبهذا الاعتبار يكون من المشخصات فيها، فاذا كان الزائد دائرا بين كونه جزءا من الواجب او كان مستحبا موجبا لمزيد فضيلتها و كمالها فهو مما دار الامر فيه بين كونه جزءا للماهية الواجبة او للفرد الكامل، و اذا كان دائرا بين كونه جزءا من الواجب او مستحبا ظرفه الصلاة فانه يكون مقارنا لها فيكون من دوران الامر بين الجزء للماهية او المقارن لها، و من الواضح خروج المقارن للماهية

ص: 164

.....

______________________________

عن الماهية تماما، لانه ليس بجزء منها و لا جزء من فردها لخروجه عنه ايضا، فلا يكون المركب الاعتباري منطبقا على المأتي به على كل حال فيما اذا دار الامر في الاكثر بين كونه جزءا او مقارنا لاحتمال كونه مقارنا، و المقارن خارج عما ينطبق عليه المركب الواجب تماما، فانه اذا كان الواجب الواقعي هو ما عدا القنوت من اجزاء الصلاة فالصلاة المأتي به مع القنوت لا يكون الواجب الواقعي منطبقا على الاجزاء مع القنوت، بل يكون منطبقا على الاجزاء ما عدا القنوت إلّا انه لما عرفت ان ضم ما ليس بواجب الى ما هو الواجب لا يضر في انطباق الواجب على ما هو الواجب الواقعي، و انه يمكن ان يتأتى قصد الوجه للواجب النفسي المعلوم اجمالا بنحو الاجمال على كل حال، فلا يضر احتمال كون الزائد من المقارنات لا من الاجزاء او المشخصات للفرد في امكان قصد الوجه في الامر النفسي الدائر بين الاقل و الاكثر، و هو المعتبر عقلا دخالته في الغرض دون قصد الوجه تفصيلا. على نحو التمييز المتوقف على معرفة الاجزاء تفصيلا و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (نعم لو دار الامر بين كونه جزءا او مقارنا)) كالقنوت المحتمل كونه جزءا من الصلاة او مقارنا لها بان يكون مندوبا ظرفه الصلاة ( (لما كان منطبقا عليه بتمامه لو لم يكن جزء)) أي ان الواجب الواقعي لو كان هو الصلاة ما عدا القنوت المقارن لها لما كانت منطبقة تماما على الصلاة مع القنوت، بل كان منطبقها هو الصلاة ما عدا القنوت ( (لكنه)) قد عرفت ان ضم ما ليس بجزء من الواجب الى اجزاء الواجب ( (غير ضائر لانطباقه عليه فيما لم يكن ذاك الزائد جزءا)) من الواجب ( (غايته انه)) ينطبق على المأتي به الاكثر ( (لا بتمامه بل)) بل ينطبق عليه ( (بسائر اجزائه)) ما عدا الزائد على اجزائه، لوضوح انطباق الصلاة على الصلاة المأتي بها ما عدا القنوت، و لا يضر القنوت في الصلاة في انطباق الواجب على الصلاة ما عدا القنوت.

ص: 165

هذا مضافا إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس مما يقطع بخلافه (1)، مع أن الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لا بد أن يؤتى به على وجه

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثالث من وجوه الاشكال على التفصي الثالث، و حاصله: انه قد مر في مبحث التعبدي و التوصلي عدم اعتبار قصد الوجه لا عقلا و لا نقلا.

اما عقلا فلان العقل انما يحكم في العبادة بكفاية قصد التقرب فيها، و ليس قصد الوجه مما يحتمل دخالته عقلا في تحقق الغرض المترتب على العبادة المأمور بها، لان غاية ما يمكن ان يقال في اعتبار قصد الوجه عقلا هو انه لا يحكم العقل بصدور الفعل حسنا إلّا اذا قصد اتيان الفعل بداعي حسنه، و من الواضح ان حكم العقل بذلك انما هو في الواجبات العقلية التي ملاكها التحسين و التقبيح العقلي، كضرب اليتيم فانه لا يكون الضرب معنونا بعنوان الحسن عقلا إلّا اذا صدر بداعي التأديب، و ليس الملاك في الواجبات الشرعية المولوية هو التحسين و التقبيح العقلي، بل الملاك فيه انه لا بد و ان يكون ذا مصلحة لو اطلع عليها العقل لرآها لازمة التحصيل، فالمدار في الدخالة في الغرض في الواجبات الشرعية يدور مدار بيان الشارع، و سيأتي ان احتمال دخالة قصد الوجه في الغرض منفي بالاطلاق.

و بعبارة اخرى: ان المصلحة التي هي الغاية للوجوب بالنسبة الى الواجبات العقلية من الحيثيات التقييدية للفعل المأتي به، فلا يكون محكوما عند العقل بصدوره حسنا إلّا اذا اتى به بداعي تلك الغاية، و في الواجبات الشرعية المولوية من الحيثيات التعليلية، فان كانت المصلحة عبادية لزم اتيان الفعل بقصد القربة، و يكفي في كون الفعل قريبا اتيانه بداعي الامر من دون قيد الوجه و هو جهة وجوبه او ندبه، و ان كانت المصلحة غير عبادية فطاعته المنوطة بترتب الثواب منوطة بقصد القربة فيه ايضا و طاعته المؤمنة من العقاب يكفي فيها صدور الفعل باي داع كان .. فاتضح عدم حكم العقل بدخالة قصد الوجه في عبادية العبادة.

ص: 166

الامتثال من العبادات (1)، مع أنه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردد و الاحتمال، فلا وجه معه للزوم مراعاة الامر المعلوم أصلا، و لو بإتيان الاقل لو لم يحصل الغرض، و للزم الاحتياط بإتيان الاكثر مع حصوله، ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال، لاحتمال بقائه مع الاقل بسبب بقاء غرضه (2)،

______________________________

و اما النقل فان قلنا بامكان اخذ ما يتأتى من قبل الامر في الامر، فالاطلاق اللفظي يكفي في عدم لزوم قصد الوجه، و ان قلنا بعدم امكان اخذه في متعلق الامر، فالاطلاق المقامي يكفي في عدمه لان قصد الوجه مما يغفل عنه العامة، فلو كان دخيلا في تحقق الغرض العبادي لكان على الشارع بيانه، و تفصيل الكلام موكول الى مبحث التعبدي و التوصلي، و إلى هذا اشار بقوله: ( (هذا مضافا الى ان اعتبار قصد الوجه من رأس مما يقطع بخلافه)) عقلا و نقلا.

(1) هذا هو الوجه الرابع من وجوه الاشكال على التفصي الثالث، و حاصله: ان الكلام في هذه المسألة هي في الواجب المردد بين الاقل و الاكثر الارتباطي، سواء كان ذلك الواجب عباديا كالصلاة او توصليا كالغسلات المتعددة في تطهير بعض النجاسات. و ما ذكر من احتمال دخالة قصد الوجه في الاجزاء المتوقف على معرفة الاجزاء تفصيلا في مقام تحقق الغرض انما هو في الواجبات العبادية دون الواجبات التوصلية، و هو واضح و عبارة المتن واضحة.

(2) هذا هو الوجه الخامس من وجوه الاشكال على التفصي الثالث، و توضيحه:

ان قصد الوجه في الاجزاء المتوقف على معرفة الاجزاء تفصيلا- المعبر عنه في لسان القوم بقصد التمييز- اذا كان دخيلا في العبادة بحيث كان صدور الفعل عباديا يتوقف على ذلك لانحصرت العباديات الواجبة في المعلومة اجزائها تفصيلا- و لخرج العبادات المرددة بين الاقل و الاكثر عن كونها واجبة، لان دخل قصد الوجه تفصيلا في الغرض و عدم التمكن منه لفرض التردد لو كان هذا مانعا عن ايجاب الاحتياط بفعل

ص: 167

.....

______________________________

الاكثر لكان ذلك مانعا ايضا عن وجوب الاقل لفرض دخل قصد الوجه تفصيلا، و انما يتأتى هذا فيما علم به تفصيلا، و المفروض ان الاقل لم يعلم وجوبه تفصيلا، فلازم دخالة قصد الوجه عدم وجوب الاقل كما لا يجب الاحتياط بالاكثر، و لازم عدم وجوب الاقل جواز المخالفة التفصيلية و عدم الاتيان لا بالاقل و لا بالاكثر و هذا لا يقول به احد، بل من المسلم عند الكل ان الواجب العبادي بما هو عبادي يكون مرددا بين الاقل و الاكثر، فذهب البعض الى لزوم الاحتياط فيه باتيان الاكثر، و ذهب آخرون الى كفاية الاقتصار على اتيان الاقل و اجراء البراءة في الزائد.

و الوجه في ذلك انه من الواضح ان لازم التردد بين الاقل و الاكثر هو عدم معرفة الاجزاء الواجبة على التفصيل، و اذا لم تكن معروفة على التفصيل فلا يمكن ان يتأتى قصد الوجه فيها على التفصيل و التمييز لها، و كما لا يتأتى ذلك في مقام الاحتياط و الاتيان بالاكثر لعدم معرفة اجزائه تفصيلا، كذلك ال يمكن ان يتأتى قصد التمييز في الاجزاء في مقام الاقتصار على اتيان الاقل لفرض عدم معرفة اجزاء الواجب تفصيلا ايضا.

و بعبارة اخرى: ان لازم الترديد في الواجب بين كونه هو الاكثر أو الاقل عدم معرفة اجزاء الواجب تفصيلا و حيث يحتمل دخالة قصد التمييز في تحقق الغرض العبادي فلازم ذلك سقوط الواجب من رأس، و عدم لزوم اتيانه لا الاقل منه و لا الاكثر، و هذا مما لا يلتزم به احد لما عرفت من تسالم الفقهاء على عدم سقوط الواجب العبادي المردد بين الاقل و الاكثر، و لزوم امتثاله اما باتيان الاقل بناء على الانحلال و جريان البراءة في الاكثر، و اما باتيان الاكثر بناء على عدم الانحلال.

لا يقال: انه يمكن اتيان اجزاء الواجب الاقل بقصد التمييز للقطع بانها اجزاء الواجب، سواء كان الاقل هو الواجب بتمامه او كان هو الاكثر، و احتمال لزوم اتيان الاجزاء بوصف كونها تمام الواجب مقطوع لعدمه.

ص: 168

.....

______________________________

فانه يقال: لما كان المطلوب عباديا ارتباطيا و كان قصد التمييز على الفرض لازما في تحقق العبادة، فلا بد من لزوم اتيان جميع اجزاء الواجب بقصد التمييز، و حيث لا يتأتى قصد التمييز في الاجزاء الزائدة على الاقل فلا ينفع قصد التمييز في بعض اجزاء الواجب العبادي الارتباطي.

فاذا عرفت هذا ... نقول: انه لما كان من الواضح- كما عرفت سابقا- تبعية الاحكام على رأي مشهور العدلية للمصالح التي هي الاغراض المترتبة على الواجب، فحيث كان الوجوب مفروغا عنه، فلا بد ان يكون الغرض الذي هو الملاك له مفروغا عنه ايضا، و قد عرفت انه لما كان الغرض مرددا بين ترتبه على الاقل او على الاكثر، فبعد العلم الاجمالي به لا بد من لزوم تحصيله و هو يتوقف على اتيان الاكثر. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (مع انه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردد و الاحتمال)) و ذلك بان يكون الدخيل في تحقق العبادة هو قصد الوجه في الاجزاء المتوقف على التمييز لها و معرفتها تفصيلا، فلازم ذلك انه في مقام تردد الواجب بين الاقل و الاكثر سقوط الوجوب من رأس، لما عرفت من عدم معرفة اجزاء الواجب تفصيلا لا في الاقل و لا في الاكثر ( (فلا وجه معه)) أي فلا وجه مع دخالة قصد التمييز في تحقق عبادية العبادة مع كون الواجب مرددا بين الاقل و الاكثر ( (لل)) قول ب ( (لزوم مراعاة الامر المعلوم)) اجمالا ( (اصلا)) و لكان اللازم سقوطه من رأس و ان لا يلزم امتثاله ( (و لو باتيان الاقل لو لم يحصل الغرض و ل)) ما فرض عدم سقوط الواجب المعلوم بالاجمال المفروض تبعيته للغرض ( (لزم الاحتياط باتيان الاكثر مع حصوله)) به قطعا ( (ليحصل القطع بالفراغ)) من لزوم امتثال الواجب التابع للغرض ( (بعد القطع باشتغال)) الذمة به ( (ل)) وضوح ( (احتمال بقائه)) أي احتمال بقاء الواجب التابع للغرض ( (مع)) الاقتصار على ( (الاقل بسبب)) احتمال ( (بقاء غرضه)) المفروض تبعيته له.

ص: 169

فافهم (1).

هذا بحسب حكم العقل.

و أما النقل فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته، فبمثله يرتفع الاجمال و التردد عما تردد أمره بين الاقل و الاكثر، و يعينه في الاول (2).

______________________________

انحلال العلم الاجمالي بالاقل و الاكثر الارتباطيين بالبراءة الشرعية

(1) لعله يشير الى عدم ورود هذا الوجه الخامس على التفصي المذكور، لان مدعى الشيخ (قدس سره) انه مع تردد الواجب بين الاقل و الاكثر و دخالة قصد التمييز في تحقق الغرض غير المتأتى من المكلف يسقط لزوم تحصيل الغرض على وجه لزوم الفراغ اليقيني عنه، لان عدم سقوط الوجوب مما لا إشكال فيه في المقام، فلا بد و ان لا يقول الذاهبون الى تبعية الاحكام للاغراض المستلزم لوجوب تحصيل الاغراض بوجوب تحصيل الغرض في المقام، فلا يبقى الا الوجوب من ناحية الامر و قد فرض انحلاله الى معلوم تفصيلا و مشكوك بدوا، و اللّه العالم.

(2) كان الكلام المتقدم في البراءة العقلية و هي قبح العقاب بلا بيان، و قد عرفت ان القاعدة تقتضي الاشتغال و لزوم الاتيان بالاكثر عقلا، لان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، و اما الانحلال المذكور فقد عرفت بطلانه.

و اما البراءة النقلية مثل حديث الرفع فتوضيح الحال فيها يتوقف على بيان امور:

الاول: انه حيث لا يجري الاصل في السبب لمانع فلا مانع من جريانه في المسبب، لان السبب و المسبب اثنان و ليسا شيئا واحدا حتى يكون عدم جريان الاصل في السبب معناه عدم جريان الاصل في المسبب، و كذلك في الامر الانتزاعي و المنتزع منه فانهما اثنان، و اذا لم يجر الاصل في منشأ الانتزاع لمانع من الموانع فلا مانع من جريانه في الامر الانتزاعي.

الثاني: ان الجزئية للجزء تنتزع من مقامين: احدهما: دخالة الجزء في تحقق المصلحة المترتبة على المركب و هذه دخالة واقعية تكوينية، فان منشأ انتزاع الجزئية من

ص: 170

.....

______________________________

ابعاض المركب في هذا المقام هو دخالة الابعاض واقعا في تحقق المصلحة المترتبة على الكل واقعا، و منشأ انتزاع هذه الجزئية امر تكويني واقعي لا جعلي شرعي.

ثانيهما: انتزاع الجزئية للجزء من مقام تعلق الطلب بالكل، و منشأ الانتزاع لعنوان الجزئية في هذا المقام هو كون الامر المتعلق بمركب ينتزع من تعلق الامر بالمجموع عنوان الكلية للمجموع، و من ابعاض هذا المركب ينتزع عنوان الجزئية للابعاض، و من الواضح ان هذه الجزئية باعتبار كونها تنتزع من مقام الطلب فهي امر جعلي شرعي للشارع رفعه و وضعه.

الثالث: انه قد عرفت ان الوجوب كما لا مجرى للبراءة العقلية فيه كذلك لا مجرى للبراءة الشرعية فيه ايضا، لعدم انحلال الوجوب المعلوم بالاجمال المردد بين الاقل و الاكثر الى معلوم تفصيلي و مشكوك بدوي، و كل من الاقل و الاكثر و ان كان مشكوكا إلّا ان الاصل في كل واحد منهما معارض بالاصل في الآخر، فالبراءة اما لا تجري في اطراف المعلوم بالاجمال، او تجري و تتساقط بالمعارضة.

ثم لا يخفى ان الوجوب بالنسبة الى عنوان الكلية المنتزعة من مجموع الاجزاء المتعلق بها الطلب، و الى عنوان الجزئية المنتزعة من ابعاض المركب المتعلق للطلب له، نسبة السبب الى المسبب او الامر الانتزاعي و المنتزع منه، فهما اثنان. و اذا لم يجر الاصل بالنسبة الى السبب او في منشأ الانتزاع فلا مانع من جريانه بالنسبة الى المسبب و الامر الانتزاعي و هو عنوان الجزئية، و من الواضح ان جزئية الزائد مشكوكة و جزئية الابعاض ما عدا الزائد معلومة تفصيلا، فتكون جزئية الزائد مجرى لحديث الرفع، و اذا جرى حديث الرفع بالنسبة الى الزائد فيكون محددا للاجزاء في هذا المركب، و من الواضح ايضا ان تحديد هذا المركب بجريان حديث الرفع في الجزء المشكوك مرجعه الى كون الاجزاء المطلوبة في هذا المركب و هي الاجزاء ما عدا الاكثر و هو الاقل.

ص: 171

لا يقال: إن جزئية السورة المجهولة- مثلا- ليست بمجعولة و ليس لها أثر مجعول، و المرفوع بحديث الرفع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره، و وجوب الاعادة إنما هو أثر بقاء الامر بعد العلم مع أنه عقلي، و ليس إلا من باب وجوب الاطاعة عقلا (1).

______________________________

فاتضح: ان لازم جريان البراءة النقلية في نفي الجزء المشكوك هي انحلال المعلوم بالاجمال الى كون المطلوب الفعلي هو الاقل دون الاكثر، و بهذه الواسطة يرتفع الاجمال المردد بين كونه هو الاقل او الاكثر، بل يكون الاقل هو الواجب الفعلي دون الاكثر، و لذا قال (قدس سره): ( (و اما النقل فالظاهر ان عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته)) و هو الزائد المشكوك جزئيته، و لا مانع من جريان حديث الرفع في الجزئية و ان كان لا مجرى لها بالنسبة الى نفس الوجوب، و قد عرفت ان لازم جريان حديث الرفع في رفع الجزئية المشكوكة هو انحصار الوجوب الفعلي بالاقل و به يرتفع اجمال الوجوب المردد بين الاقل و الاكثر، و لذا قال (قدس سره): ( (فبمثله يرتفع الاجمال و التردد عما تردد امره بين الاقل و الاكثر و يعينه في الاول)) و هو الاقل كما عرفت.

(1) لا يخفى ان في النسخة المصححة المجهولة دون المنسية، لوضوح ان الكلام في الدوران بين الاقل و الاكثر، ففرض هذا فرض كون الزائد مجهولا و كونه جزءا في الواقع ام لا، و ليس فرض الكلام في الجزء المعلوم و لكن يدور امره بين كونه جزءا ذكريا او جزءا مطلقا سواء في حال الذكر او النسيان، و سيأتي الكلام فيه.

و على كل فحاصل لا يقال: ان حديث الرفع و سائر الاصول يشترط في مجراها ان يكون اما بنفسه مجعولا شرعيا كالاحكام التكليفية او الوضعية، او يكون له اثر مجعول كالخمر المشكوكة فانها و ان لم تكن بنفسها مجعولا شرعيا إلّا انها لها اثر مجعول شرعي و هو الحرمة.

ص: 172

.....

______________________________

و الوجه في هذا الاشتراط واضح، لان ما ليس بمجعول شرعي ليس له رفع شرعي، لان رفع الشارع بما هو شارع انما هو لما بيده جعله بما هو شارع، فما كان بنفسه مجعولا شرعيا للشارع رفعه بما هو شارع ايضا، و ما كان له اثر مجعول فرفعه انما هو رفع اثره المجعول. و لما كان فرض الكلام هو الرفع لجزئية الجزء المشكوك لا لوجوبه لما عرفت من ان الوجوب المعلوم بالاجمال غير منحل و القاعدة فيه تقتضي الاحتياط دون البراءة، و نفس جزئية الجزء غير مجعولة بنفسها ككلية الكل، و انما المجعول شرعا هو الوجوب، و قد عرفت انه لا مجرى فيه للبراءة و ليس لها اثر مجعول، لان الاثر المتوهم جعله مترتبا على الجزء هو وجوب الاعادة بعد العلم و انكشاف كون الاكثر هو الواجب، بتوهم انه انما وجبت الاعادة لعدم الاتيان بالجزء لو اقتصر في مقام الاتيان على الاقل و هو توهم باطل لأمرين:

- الاول: ان وجوب الاعادة انما هو اثر بقاء الامر لفرض كونه متعلقا بالاكثر الارتباطي، و هو لا يسقط إلّا باتيان المركب المتعلق به بتمامه، و اذا لم يأت متعلقه بتمامه فلا يسقط، و اثر بقائه و عدم سقوطه هو وجوب الاعادة بعد العلم و انكشاف الواقع، و ليس وجوب الاعادة اثرا مجعولا لنفس جزئية الجزء.

- الثاني: انه لو سلمنا كونه اثرا لجزئية الجزء إلّا انه اثر عقلي لا شرعي، لوضوح ان الجزء بعد انكشاف كونه جزءا من المركب و المركب الارتباطي ينتفي عقلا بانتفاء جزئه، فيحكم العقل بلزوم اتيان المركب مرة اخرى مع الجزء تحصيلا للاطاعة و الحاكم بوجوبها هو العقل، فوجوب الاعادة اثر عقلي يحكم العقل به تحصيلا للاطاعة اللازمة عقلا. و قد عرفت ان المرفوع لا بد و ان يكون مجعولا شرعيا، و الآثار العقلية ليست من المجعولات الشرعية، و قد اشار (قدس سره) الى ان جزئية السورة ليست بمجعولة و ليس لها اثر مجعول، و الى انه يشترط في المرفوع ان يكون مجعولا شرعيا اما بنفسه او انه اثر له مجعول شرعي بقوله: ( (ان جزئية السورة المجهولة مثلا ليست بمجعولة و ليس لها اثر مجعول، و المرفوع بحديث الرفع انما هو المجعول بنفسه

ص: 173

لانه يقال: إن الجزئية و إن كانت غير مجعولة بنفسها، إلا أنها مجعولة بمنشإ انتزاعها، و هذا كاف في صحة رفعها (1).

______________________________

جريان البراءة في الجزئية بلحاظ منشأ الانتزاع

او)) بان يكون المجعول ( (اثره)) و اشار الى الجواب الاول عن توهم كون وجوب الاعادة هو الاثر المجعول لجزئية الجزء كمثل السورة بقوله: ( (و وجوب الاعادة)) ليس باثر لجزئية السورة و ( (انما هو اثر لبقاء الامر بعد العلم)) و اشار الى الجواب الثاني بقوله: ( (مع انه عقلي)) أي ان وجوب الاعادة لو سلمنا انها اثر لجزئية الجزء فهو اثر عقلي لا شرعي ( (و)) ذلك لما عرفت من ان وجوب الاعادة ( (ليس إلّا من باب وجوب الاطاعة عقلا)).

(1) توضيحه: ان الامر المجعول، تارة يكون مجعولا بنفسه لاقتضاء ما يدعو الى جعله بنفسه مستقلا كجعل الوجوب لذي المقدمة. و اخرى يكون مجعولا لاقتضاء المصلحة في غيره كجعل وجوب المقدمة، فان وجوبها كان عارضا عليها للمصلحة في ذي المقدمة، و وجوبها وجوب مترشح من وجوب ذي المقدمة، و هو جعل كالجعل الاول لذي المقدمة من جهة كونه وجوبا مثل وجوبه إلّا انه مترشح منه. و ثالثة يكون جعلا واحدا ينسب الى شي ء اولا و بالذات و الى غيره ثانيا و بالعرض، و هو مثل الجعل المنسوب الى اجزاء المركب بتبع جعلها متعلقا للوجوب، فانه بعد جعل المركب متعلقا للوجوب يتحقق منشأ الانتزاع لانتزاع الكلية للكل و الجزئية للجزء، فهنا جعل واحد ينسب الى منشأ الانتزاع اولا و بالذات، و الى العنوان المنتزع منه و هو جزئية الجزء و كلية الكل ثانيا و بالعرض، و هذا هو المسمى بالجعل بالتبع.

فاتضح: ان الجزئية مجعولة بنفسها لكنه بالجعل التبعي لا بالجعل الاستقلالي.

و منه يظهر ان نفس عنوان الجزئية للسورة- مثلا- مجعول بالجعل الشرعي، إلّا انه جعل تبعي لا استقلالي، و هذا المقدار من الجعل كاف لجريان حديث الرفع و ساير الاصول، لرجوع الحال فيه الى الشارع لانه بيد الشارع وضعه بتبع وضع منشأ انتزاعه، و ما كان بيد الشارع وضعه كان بيده رفعه، فنفس جزئية الجزء مجعول

ص: 174

لا يقال: إنما يكون ارتفاع الامر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه، و هو الامر الاول، و لا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه (1).

______________________________

شرعي قابل للرفع و الوضع، و إلى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (ان الجزئية و ان كانت غير مجعولة بنفسها إلّا انها مجعولة ب)) جعل ( (منشأ انتزاعها و هذا)) المقدار من الجعل التبعي ( (كاف في صحة رفعها)).

(1) توضيحه: انه قد مر ان متعلق العلم الاجمالي هو الوجوب المردد بين الاقل و الاكثر، و لا مجرى فيه للبراءة مطلقا، و مجرى البراءة النقلية بالخصوص هو جزئية الجزء، و لازم ذلك انحصار فعلية الوجوب المعلوم بالاجمال في الاقل، و بها ينحل العلم الاجمالي الى معلوم الوجوب فعلا و هو الاقل، و الى مشكوك بدوا و هو الزائد عليه.

فاذا عرفت هذا .. نقول: ان هذا الانحلال بواسطة جريان البراءة في عنوان الجزئية من الاصل المثبت المسلم عدم حجية الاصول فيه.

و توضيح ذلك: ان البراءة بجريانها في الجزء المشكوك غايته انها تدل على رفعه، و لا تدل على كون الواجب هو الاقل قطعا حتى يستلزم ذلك الانحلال للعلم الاجمالي إلّا اذا قلنا بان مثبتات الاصول حجة، لان كون الواجب هو بقية الاجزاء ما عدا الجزء المشكوك ملازم لرفع جزئية الجزء المشكوك، و هو لا يثبت بالبراءة الجارية في رفع الجزء المشكوك إلّا بناء على حجية الاصل المثبت، فما تدل عليه البراءة و هو رفع جزئية الجزء المشكوك لا يحل العلم الاجمالي، و ما يحل العلم الاجمالي لا يثبت بدليل البراءة الذي هو ليس بحجة في اثبات ملازمه. بل يمكن ان يقال: ان كون الاقل هو الواجب من مقارنات رفع دليل الرفع لجزئية الجزء المشكوك لا من ملازماته، لان عدم جزئية الزائد ليس ملزوما للوجوب المتعلق بما عداه و هو واضح. نعم رفع الجزئية المشكوكة بدليل الرفع كاشف إنا عن عدم كون الامر بالاكثر فعليا، و رفع الامر الانتزاعي لا يكون إلّا برفع منشأ انتزاعه، فما دل على

ص: 175

لانه يقال: نعم، و إن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه، إلا أن نسبة حديث الرفع- الناظر إلى الادلة الدالة على بيان الاجزاء- إليها نسبة الاستثناء، و هو معها يكون دالة على جزئيتها إلا مع الجهل بها، كما لا يخفى، فتدبر جيدا (1).

______________________________

رفع الامر الانتزاعي يكون دالا على رفع منشأ انتزاعه، فدليل البراءة الجاري في رفع الجزئية المشكوكة التي هي الامر الانتزاعي يدل على رفع منشأ انتزاعه و هو الامر بالاكثر، إلّا ان هذا المقدار لا يجدي في الانحلال، بل الانحلال منوط بكون الامر بالاقل مقطوع الفعلية و لا يثبت ذلك إلّا اذا كانت مثبتات الاصول حجة. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (لا يقال)) ان جريان دليل البراءة في الجزء المشكوك لا يكون موجبا للانحلال لانه ( (انما يكون)) موجبا ل ( (ارتفاع الامر الانتزاعي)) المنوط ( (برفع منشأ انتزاعه و)) من الواضح ان منشأ انتزاعه ( (هو الامر الاول)) و هو الامر بالاكثر ( (و لا دليل)) لنا ( (آخر على أمر آخر)) و هو الاقل المتعلق ( (بالخالي عنه)) أي بالخالي عن الجزء المرفوع بدليل البراءة إلّا اذا قلنا بحجية الاصل المثبت.

(1) و حاصل الجواب: ان دليل البراءة الجاري في رفع الجزء المشكوك لا يستفاد منه الا رفع منشأ الانتزاع للجزء المشكوك و هو الامر بالاكثر، إلّا ان ضم دليل الرفع الرافع للامر بالاكثر مع ادلة الاجزاء الخاصة كقوله: اركع و اسجد و أقرأ .. الى آخره، مع الدليل المجمل الدال على اصل المركب كاقيموا الصلاة- يدل على استثناء الجزء المشكوك في حال الجهل، و لو لا دليل البراءة لكان العلم الاجمالي موجبا لاتيان الجزء المشكوك في حال الجهل بجزئيته الواقعية.

و بعبارة اخرى: ان ادلة الاجزاء و الشرائط: منها ما هو ظاهر في كون المأمور به شرطا او جزءا واقعا من الصلاة المأمور بها، كقوله لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب، و لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة، و لا تعاد الصلاة الا من خمس، و امثال ذلك.

ص: 176

.....

______________________________

و منها: ما يدل على ان المأمور به مما يؤتى به في الصلاة، و لا ظهور له في كونه جزءا منها، بل يحتمل ان يكون جزءا من الصلاة الواجبة، و يحتمل ان يكون جزءا لكمالها و فضيلتها، و يحتمل ان يكون مستحبا ظرفه الصلاة. و هو الموجب للشك في جزئيته و لكون العلم الاجمالي بالصلاة الواجبة مرددا بين الاقل و الاكثر، و جريان البراءة في رفع جزئية هذا الجزء المشكوك في جزئيته للواجب الدال ايضا على رفع الامر الفعلي بالاكثر موجب لانحلال العلم الاجمالي لما هو المعلوم قطعا، لأن اجزاء الواجب اما هي هذه الاجزاء المعلوم جزئيتها فقط او هي مع الاجزاء المشكوك جزئيتها، فلولا جريان البراءة في رفع الجزء المشكوك لكان العلم الاجمالي موجبا لاتيان الجزء المشكوك، و لكنه بعد جريان البراءة فيه فالعلم الاجمالي ينحل بها، بمعنى ان العلم الاجمالي لا يوجب الاتيان بالجزء المشكوك في حال الجهل، و حيث لم يكن موجبا لاتيان الجزء المشكوك فلا بد و ان تكون فعليته و منجزيته منحصرة في الاجزاء الظاهرة في كونها جزءا واقعا للواجب، و يكون دليل البراءة موجبا لاستثناء الجزء المشكوك عن اجزاء الواجب، فمقتضى الجمع بين الدليل المجمل الدال على المركب المردد بين الاقل و الاكثر و دليل البراءة و ادلة الاجزاء يقتضي الانحلال و اقتصار فعلية المعلوم بالاجمال في خصوص الاقل. و الى ما ذكرنا اشار بقوله:

( (نعم و ان كان ارتفاعه)) أي الجزء المشكوك ( (بارتفاع منشأ انتزاعه)) و هو خصوص الامر الاول و هو الامر بالاكثر، و لا يدل دليل الرفع بنفسه على امر آخر متعلق بالاقل ( (إلّا ان)) الامر بالاقل يحصل من امور و هي ( (نسبة حديث الرفع الناظر الى الادلة)) الخاصة البيانية ( (الدالة على بيان الاجزاء)) كقوله اقرأ في صلاتك و اركع، و مثل قوله لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب و امثالها ( (اليها)) أي نسبة حديث الرفع الى هذه الادلة الخاصة مع ضم العلم الاجمالي يكون ( (نسبة الاستثناء و هو معها)) أي الامر الاول و هو الامر الحاصل بالعلم الاجمالي مع ادلة الاجزاء الخاصة التي بعضها ظاهر في الجزئية و بعضها غير ظاهر ( (يكون دالا على جزئيتها))

ص: 177

.....

______________________________

أي على جزئية الاجزاء المشكوكة لانه يقتضي الاتيان بالاكثر ( (الا مع الجهل بها)) لاقتضاء البراءة استثناء الجزء المشكوك في حال الجهل.

و المتحصل من جميع ما ذكر هو انه لا يدل دليل الرفع على الامر بالاقل بنفسه حتى يقال انه من المثبت، بل الذي يدل على الامر بالاقل هو الجمع بين الدليل الدال على المركب المجمل المردد بين الاقل و الاكثر و ادلة الاجزاء- التي هي على نحوين، منها ما هو ظاهر في الجزئية، و منها ما هو غير ظاهر في ذلك بل يكون محتملا ان يكون متعلقها جزءا من ماهية الصلاة أو انه جزء مستحب لفردها داخلا في كمالها، او انه مقارن لها خارجا عن ماهيتها و عن فردها- مع ضميمة حديث الرفع الدال على رفع جزئية المشكوك.

فالمتحصل من هذه الامور الثلاثة هو الاقل بالاقتصار على اوامر الاجزاء الظاهرة في جزئية الجزء باستثناء الجزء المشكوك بواسطة حديث الرفع.

ثم لا يخفى ان المتحصل مما في الكتاب هو عدم جريان البراءة العقلية و جريان البراءة النقلية في رفع الجزء المشكوك و لكنه ذكر في هامش الكتاب ما يدل على عدم جريان البراءة النقلية ايضا. و الظاهر انه (قدس سره) عدل عما في الكتاب 13] في الدورة الاخيرة. و توضيح ما في الهامش: انه لا يعقل جريان البراءة النقلية في الجزء المشكوك بعد كون العلم الاجمالي بالحكم الفعلي المردد بين الاقل و الاكثر منجزا، فان لازم منجزيته فعلية وجوب الاكثر لو كان هو الواجب واقعا، و من الواضح انه مع جريان البراءة النقلية في الجزء المشكوك المقتضية لرفع وجوب الاكثر يلزم اجتماع المتناقضين، لاقتضاء العلم الاجمالي المنجز فعلية وجوب الاكثر لو كان هو الواجب واقعا، و اقتضاء جريان البراءة رفع جزئية الجزء المشكوك المستلزم لعدم وجوب الاكثر و عدم فعليته، و احتمال اجتماع المتناقضين كالعلم بهما. و حيث عرفت فيما مر انه يشترط

ص: 178

و ينبغي التنبيه على أمور:

الاول: إنه ظهر مما مر حال دوران الامر بين المشروط بشي ء و مطلقه، و بين الخاص كالانسان و عامه كالحيوان، و أنه لا مجال هاهنا للبراءة عقلا، بل كان الامر فيهما أظهر، فإن الانحلال المتوهم في الاقل و الاكثر لا يكاد يتوهم هاهنا، بداهة أن الاجزاء التحليلية لا يكاد يتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا، فالصلاة- مثلا- في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين وجودها (1)، و في ضمن صلاة أخرى فاقدة

______________________________

تنبيهات
الاول: الدوران بين المطلق و المقيد و العام و الخاص
اشارة

في جريان الاصول ان لا يستلزم جريانها محالا، فلا بد من الالتزام بعدم جريان البراءة النقلية، لان جريانها يستلزم احتمال المحال و هو كالمحال المعلوم.

(1) توضيح هذا التنبيه انه لو قلنا بجريان البراءة العقلية في المركب من اجزاء خارجية لكل جزء منها وجود مستقل، و قد دار امر ذلك المركب بين ان يكون الواجب منه هو الاقل أو الاكثر، كالصلاة المركبة من اجزاء موجودة مستقلة كالتكبير و القراءة و الركوع و السجود، و شككنا في كون الاستعاذة جزءا منها اولا، لكننا لا نقول بالبراءة العقلية فيما اذا كان الاقل و الاكثر من قبيل المشروط و شرطه، كما لو شككنا في كون الاقامة هل هي شرط لصحة الصلاة او انها مستحب او واجب آخر مع الصلاة؟ او كان من قبيل الخاص و العام كما لو شككنا في كون الواجب في ذكر الركوع هو خصوص التسبيحة الخاصة او مطلق الذكر.

و تمهيدا لبيان الحال في المقام نذكر ما اشار اليه المصنف في حاشيته على الرسائل في الفرق بين هذه الصور، و محصله: ان مشكوك الجزئية اما ان يكون له وجود مستقل في الخارج في قبال وجود الاجزاء الأخر كالسورة المشكوكة او كالاستعاذة المشكوك كونهما جزءا من الواجب.

و اما ان يكون له وجود في الخارج و لكنه غير مستقل، و ذلك كالفصل بالنسبة الى الجنس، فانهما موجودان بوجود واحد ينحل عقلا الى جزءين و هما الجنس

ص: 179

.....

______________________________

و الفصل، فالفصل و ان كان موجودا في الخارج لكنه لا يوجد مستقل في قبال وجود الجنس، بل هو و الفصل لهما وجود واحد، و مثله النوع و فرده فان النوع و فرده موجودان بوجود واحد خارجا، و مثال ذلك ما لو كان المطلوب دائرا بين كونه مطلق طبيعي الصلاة او صلاة خاصة كالجمعة، و يسمى هذا بدوران الامر بين العام و الخاص و هو من الاقل و الاكثر، لان المطلوب لو كان هو النوع كان التشخص الفردي خارجا عن المطلوب، و ان كان هو الفرد كان داخلا في المطلوب.

و اما ان يكون المشكوك امرا انتزاعيا لا وجود له في الخارج الّا لمنشا انتزاعه كالرقية و الزوجية، و مثله ما يسمى بالشك في الشرطية كعنوان المؤمن فيما لو دار الامر بين كون المطلوب عتق مطلق الرقبة أو خصوص الرقبة المؤمنة، فان المشكوك هو عنوان المؤمن و لا وجود له في الخارج، و انما الموجود منشأ انتزاعه و هو اتصاف العبد بالايمان، و الايمان بنفسه و ان كان موجودا خارجيا من عوارض النفس إلّا ان المطلوب ليس نفس ايمان العبد، بل كون العبد ذا ايمان الراجع الى تقييد العبد بالايمان المنتزع منه عنوان المؤمن، و من الواضح ان عنوان المؤمن لا وجود له في الخارج بل الموجود منشأ انتزاعه.

اذا عرفت هذا ... فنقول: ان الانحلال المذكور فيما كان المشكوك جزءا له وجود مستقل انما هو لكون الجزء له وجوب غيري هو الموجب لكون وجوب الاقل مقطوعا به اما لنفسيته او لغيريته، و ليس لهذا مجال فيما كان الجزء المشكوك من قبيل العام و الخاص او من قبيل الامر الانتزاعي الموجود بوجود منشأ انتزاعه خارجا لا بوجوده بنفسه خارجا، و لا مجال فيما اذا كان المطلوب هو الخاص او المشروط بشرط لاحتمال ان يكون للعام و لذات المشروط طلب غيري غير الطلب النفسي المتعلق به، لوضوح ان المناط في المطلوب الغيري هو توقف وجود المطلوب النفسي على وجوده، و بعد ان كان وجود العام في الخارج و وجود المشروط في الخارج بعين وجود الخاص و بعين وجود المشروط بما هو مشروط، و لا تعدد لهما في الوجود خارجا

ص: 180

.....

______________________________

حتى يكون وجود الواجب النفسي مما يتوقف على وجودهما ليكون مجال لاحتمال طلبها بطلب غيري، لما عرفت من ان العام موجود في الخارج بنفس وجود الخاص، و ليس لهما وجودان في الخارج مستقلان حتى يكون الخاص كالمركب من اجزاء مستقلة في الوجود، و مثله ذات وجود المطلق مع المشروط فانه ليس لذات المشروط الذي هو المطلق و لتقيّده وجودان في الخارج حتى يجري فيه ما يجري في المركب من اجزاء مستقلة في الوجود، فلو قلنا بالانحلال في الاقل و الاكثر المركب من اجزاء مستقلة لمناط الوجوب الغيري، لا نقول به في ما لو دار الامر بين العام و الخاص و المطلق و المشروط لعدم مناط الوجوب الغيري فيه.

و بعبارة اخرى: انه لا نريد ان ننكر اصل مناط المقدميّة فيهما، فان مناط المقدميّة موجود في كل مركب سواء كانت اجزاؤه موجودة بوجود مستقل او كانت موجودة بوجود واحد لسبق اجزاء المركب على المركب بنحو التجوهر، و لكن ليس مطلق السبق و التقدم مناطا للوجوب الغيري المقدمي، بل المناط فيه توقف وجود الواجب النفسي على وجوده، و هذا المناط مفقود في المقام. هذا كله اذا قلنا بالانحلال في المركب من اجزاء مستقلة. و اما اذا لم نقل بالانحلال فيه فبطريق اولى ان لا نقول به هنا لما عرفت من الفارق بين المركب من اجزاء مستقلة في الوجود و بين العام و الخاص و المطلق و المشروط.

و الحاصل: انه اذا قلنا بان العلم الاجمالي في الاقل و الاكثر الارتباطي لا ينحل الى معلوم تفصيلي و مشكوك بدوي، فلا ينحل تنجزه بما هو علم اجمالي، و يكون الاكثر منجزا واقعا لو كان هو الواجب الواقعي، و يكون العلم الاجمالي موجبا للاحتياط عقلا بلزوم اتيان الاكثر، فلا فرق في ذلك بين كونه مرددا بين اجزاء مستقلة في الوجود او كان مرددا بين اجزاء موجودة بوجود واحد او كان مرددا بين ذات المقيد و تقيّده، و لا جريان للبراءة العقلية لتمامية البيان بالعلم الاجمالي المنجز، و لا للبراءة الشرعية في نفس الوجوب ايضا لاحتمال اجتماع المتناقضين، لاحتمال

ص: 181

.....

______________________________

كون الواجب الواقعي المنجز هو الاكثر، بل لو قلنا بجريان البراءة العقلية في المركب من اجزاء مستقلة في الوجود لا نقول به في المردد بين العام و الخاص و في المطلق و المشروط، لما عرفت من الفارق بينهما. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (انه ظهر مما مر)) من عدم الانحلال في المركب من اجزاء مستقلة في الوجود ( (حال)) المركب من اجزاء غير مستقلة في الوجود كما في مقام ( (دوران الامر بين المشروط بشي ء و مطلقه)) كما لو دار الامر بين الواجب عتق مطلق الرقبة او الرقبة المؤمنة ( (و)) كما لو دار الامر ( (بين)) كون الواجب هو ( (الخاص كالانسان و)) كون الواجب هو ( (عامه كالحيوان و)) قد اتضح ( (انه لا مجال هاهنا للبراءة عقلا بل كان الامر فيهما اظهر)) في عدم الانحلال بحيث لو قلنا في المركب من اجزاء مستقلة الوجود بالانحلال لا نقول به هاهنا ( (فان الانحلال المتوهم في الاقل و الاكثر)) في المركب من اجزاء مستقلة الوجود ( (لا يكاد يتوهم هاهنا)) ثم اشار الى الفارق بينهما بقوله: ( (بداهة ان الاجزاء)) في المطلق و المشروط و العام و الخاص من الاجزاء ( (التحليلية)) و هي الموجودة بوجود واحد و هي ( (لا تكاد تتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا)) و انما سميت اجزاء المركب الموجودة بوجود واحد تحليلية لانها بعد ان كانت موجودة بوجود واحد فلا تكون هذه الاجزاء موجودات مستقلة خارجية، بل العقل يحلل هذا الموجود الواحد الى اجزاء عنده، فان الانسان منحل عقلا الى حيوان و ناطق، لا ان الحيوان و الناطق موجود كل منهما بوجود مستقل في الخارج يخصه، بل هما موجودان في الخارج بوجود واحد. و قد اشار الى مثال ذلك بقوله: ( (فالصلاة مثلا)) المطلقة ( (في ضمن الصلاة المشروطة)) بالاستقبال مثلا موجودة بوجود واحد، لان حيثية تقيد الصلاة بالاستقبال ليس موجودا خارجيا ( (او)) الصلاة العامة الموجودة في ضمن الصلاة ( (الخاصة)) كمثل طبيعي الصلاة في ضمن صلاة الجمعة مثلا ( (موجودة بعين وجودها)) أي الصلاة العامة التي هي طبيعي الصلاة

ص: 182

لشرطها و خصوصيتها تكون متباينة للمأمور بها، كما لا يخفى (1).

______________________________

متحدة الوجود في الخارج مع وجود الصلاة الخاصة، لان وجود الفرد هو بعينه وجود الطبيعي و ليس للطبيعي وجود مستقل في الخارج عن وجود فرده و هو واضح.

(1) توضيحه: ان الطبيعي بما هو كلي- لا يأبى عن الصدق على كثيرين- غير موجود في الخارج، لوضوح ان ما يوجد في الخارج متعين جزئي يأبى الصدق، و انما الموجود في الخارج هو حصص الطبيعي، و كلما وجد في الخارج فهو حصة من الطبيعي، و الحصة هي الطبيعي المتقيد باضافته الى التشخص و الفرد هو الحصة و التشخص، و لازم ما ذكرنا من ان الموجود من الطبيعي خارجا هو حصصه هو تباين حصصه الموجودة خارجا، و ان كل حصة منه غير الحصة الاخرى، لما عرفت من ان الطبيعي- بما هو غير آب عن الصدق على الكثرين- غير موجود في الخارج، و الموجود في الخارج هو الطبيعي المقيد بالاضافة الى التشخص، و من الواضح ان كل حصة منه مضافة الى تشخص خاص غير الحصة الاخرى المضافة الى تشخص خاص آخر، فحصص الطبيعي الموجودة خارجا متباينات و لا وجود للطبيعي خارجا غير وجود حصصه، فالصلاة الموجودة في ضمن الصلاة المشروطة بالاستقبال هي حصة من طبيعي الصلاة غير الحصة للصلاة الموجود في ضمن صلاة لا استقبال فيها، و الحصة من الصلاة الموجود في ضمن الصلاة الخاصة كالجمعة غير الحصة الموجودة في صلاة الظهر.

فاتضح مما ذكرنا: انه اذا كان المأمور به هو الصلاة المشروطة او الصلاة الخاصة فالآتي بصلاة غير مشروطة كالصلاة من غير استقبال و الآتي بصلاة غير صلاة الجمعة قد اتى في الخارج بما هو المباين للمامور به، بخلاف الاقل و الاكثر المركب من اجزاء مستقلة في الوجود، فان الاجزاء التي هي الاقل هي بعينها الاجزاء في الاكثر فيما عدا الزائد.

ص: 183

نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الامر بين المشروط و غيره، دون دوران الامر بين الخاص و غيره، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته، و ليس كذلك خصوصية الخاص، فإنها إنما تكون منتزعة عن نفس الخاص، فيكون الدوران بينه و بين غيره من قبيل الدوران بين المتباينين، فتأمل جدا (1).

______________________________

جريان البراءة الشرعية في المطلق و المشروط دون الخاص و العام

فاتضح: ان القول بالانحلال فيه لا يتأتى في المركب من اجزاء موجودة بوجود واحد، لمباينة الماتي به للمامور به لو كان هو المشروط أو الخاص، بخلاف الاجزاء المستقلة في الوجود فانه لا مباينة بين المأتي به الاقل للمامور به لو كان هو الاكثر، و انما يكون المأتي به ناقصا لعدم انضمام الزائد اليه. و اتضح مما ذكرنا ان المراد من المباينة هاهنا هو عدم وفاء الحصة من المطلق بالحصة المشروطة، و عدم وفاء الحصة من العام بالحصة الخاصة، لا أن الامتثال في المطلق و المشروط و العام و الخاص هو كالامتثال في المتباينين من وجوب الاتيان بهما معا، فلا يجب في مقام دوران الامر بين المطلق و المشروط و العام و الخاص الاتيان بالمطلق و المشروط معا و بالعام و الخاص كذلك، كما هو الحال في المتباينين، بل يكفي الاحتياط في المقام باتيان المشروط و الخاص، لوضوح انه لو كان المطلق هو المطلوب لكان مأتيا به في ضمن المشروط، و اذا كان العام مطلوبا لكان مأتيا به في ضمن الخاص. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله:

( (و في ضمن صلاة اخرى)) أي الطبيعي الموجود في ضمن صلاة اخرى ( (فاقدة لشرطها و)) الطبيعي الموجود في ضمن صلاة اخرى فاقدة ل ( (خصوصيتها تكون)) حصة من الطبيعي اخرى ( (متباينة لل)) حصة ال ( (مأمور بها كما لا يخفى)).

(1) توضيحه: انه قد عرفت مما مر من المصنف في الكتاب في دوران الامر بين الاقل و الاكثر المركب من اجزاء مستقلة عدم جريان البراءة العقلية فيه، و عدم جريان البراءة النقلية في خصوص الوجوب المردد بين الاقل و الاكثر، و تجري البراءة النقلية في الجزء المشكوك بعنوان الجزئية المشكوكة، و لازمها رفع فعلية الوجوب بالاكثر.

ص: 184

.....

______________________________

و في المقام ايضا تجري البراءة النقلية في خصوص دوران الامر بين المطلق و المشروط دون العام و الخاص بالنحو الذي مر هناك، و هو جريان البراءة في خصوص عنوان الشرطية لا في الوجوب المردد بين المطلق و المشروط، لان عنوان الشرطية مجعولة بالتبع، فالشرطية المشكوكة مرفوعة بحديث الرفع، و لازم ذلك انحصار فعلية الامر بخصوص المطلق.

و الحاصل: ان هنا أمرين: الاول: ان البراءة النقلية لا تجري في الوجوب المشكوك، لما مر من عدم انحلال الوجوب المردد بين الاقل و الاكثر الى القطع بوجوب الاقل و الشك في الزائد، و ما لم ينحل الوجوب المعلوم بالاجمال الى مقطوع و مشكوك لا تجري البراءة في المشكوك، و قد عرفت عدم انحلال الوجوب المردد الى معلوم و مشكوك. و اما عنوان الجزئية المنتزع من ابعاض الواجب المركب فهو منحل الى معلوم الجزئية و هو الاقل و مشكوك الجزئية و هو الزائد، فتجري البراءة في عنوان الجزئية المشكوكة و ترفع بحديث الرفع و امثاله، و يكون لازمه انحصار فعلية الوجوب بالاقل كما مر تفصيله.

الثاني: ان البراءة النقلية في المقام انما تجري في خصوص ما لو دار الامر بين المطلق و المشروط، لان عنوان الشرطية كعنوان الجزئية من المجعول بالتبع، لا فيما اذا دار الامر بين العام و الخاص فانه لا مجرى فيه للبراءة، لما مر من ان العام و الخاص وجود واحد في الخارج، و ليس للعام الموجود في ضمن الخاص جعل بالتبع حتى يكون مرفوعا بحديث الرفع، فانه لو كان الواجب الواقعي هو الخاص لكان الواجب شيئا واحدا خارجا و حصة من حصص العام، و ليس هناك امران مطلوبان العام و الخصوصية حتى يكون حاله حال الجزئية و الشرطية مما يشمله حديث الرفع، لما عرفت من ان الجنس و العام الذي هو الطبيعي لا يوجد في الخارج و الموجود في الخارج حصصه، و قد عرفت ايضا ان حصص الطبيعي في الخارج من المتباينات،

ص: 185

.....

______________________________

فلا يكون العام و الطبيعي مقطوعا و الخصوصية مشكوكة ليكون مجال لجريان البراءة في خصوصية الخاص.

لا يقال: انه ليس المدار في جريان البراءة تعدد الوجود خارجا، بل المدار فيها كون المتعلق في مقام تعلق الطلب واحدا او متعددا، و من الواضح ان الخاص المتعلق للطلب متعدد في مقام تعلق الطلب لان متعلقه ذات العام و الخصوصية، بخلاف العام فان متعلق الطلب فيه واحد و هو نفس العام من دون الخصوصية، فيكون حال المردد بين العام و الخاص في التعدد حال المركب من اجزاء مستقلة في الوجود في مقام تعلق الطلب الذي هو المدار في جريان البراءة، فان كلا منهما متعدد في مقام تعلق الطلب، و كما تجري البراءة في رفع جزئية الجزء المشكوك المستقل في الوجود كذلك تجري في رفع الخصوصية المشكوكة، و يكون نتيجة ذلك حصر الامر بالعام.

فانه يقال: انه لا تعدد في مقام تعلق الطلب في مقام دوران الامر بين العام و الخاص، و هذا هو الفارق بين الاجزاء المستقلة و العام و الخاص، بل متعلق الطلب في الخاص هو امر واحد في مقام تعلق الطلب، و تحليله الى العام و الخصوصية انما هو بتعمل من العقل، فان المتعلق للطلب المتعلق بالخاص حصة واحدة خاصة من العام، و ليس في مقام تعلق الطلب قد لحظ امران عام و خصوصية، بل لم يلحظ الا شي ء واحد و هو الخاص، و لكن العقل يحلله الى امرين، فان من الواضح ان الامر المتعلق بالانسان لم يلحظ في مقام تعلق الطلب الا شي ء واحد خاص و هو ذات الانسان، و لم يلحظ في مقام تعلق الطلب الحيوان بما هو جنس و الناطق بما هو فصل له، بل الملحوظ ذات الانسان و هو شي ء واحد خاص يحلله العقل الى حيوان ناطق. و لهذا الفرق الفارق بين المطلق و المشروط و العام و الخاص كان لجريان البراءة النقلية مجال في مقام دوران الامر بين المطلق و المشروط، دون دوران الامر بين العام و الخاص. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الامر بين المشروط و غيره)) أي المطلق ( (دون دوران الامر بين الخاص و غيره)) أي العام

ص: 186

الثاني: إنه لا يخفى أن الاصل فيما إذا شك في جزئية شي ء أو شرطيته في حال نسيانه عقلا و نقلا، ما ذكر في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية، فلولا مثل حديث الرفع مطلقا و لا تعاد في الصلاة يحكم عقلا بلزوم إعادة ما أخل بجزئه أو شرطه نسيانا، كما هو الحال فيما ثبت شرعا جزئيته أو شرطيته مطلقا نصا أو إجماعا (1).(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 7 ؛ ص187

______________________________

الثاني: الشك في اطلاق الجزء أو الشرط لحال النسيان
اشارة

فان البراءة النقلية لا تجري في الثاني و تجري في الاول ( (لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته)) لان للشرطية جعلا بالتبع ( (و ليس كذلك خصوصية الخاص)) فانه ليس لها جعل بالتبع ( (فانها)) من الواضح أن خصوصية الخاص ( (انما تكون منتزعة عن نفس الخاص)) الذي هو شي ء واحد، و كون العام و الخصوصية اثنين انما هو بتعمّل و تحليل من العقل لا في الخارج، فان الانسان في الخارج شي ء واحد يحلله العقل الى الجنس و الفصل، و لذلك ( (فيكون الدوران بينه)) أي بين الخاص ( (و غيره)) أي العام ( (من قبيل الدوران بين المتباينين)) كما عرفته مفصّلا.

(1) هذا التنبيه الثاني لبيان جريان البراءة في ما لو شك في جزئيته او شرطيته في حال النسيان. و توضيح الكلام في ذلك يتوقف على بيان امور:

الاول: ان الناسي تارة ينسى جزئية الجزء بان نسى كون السورة جزءا- مثلا- مع التفاته الى نفس السورة. و اخرى ينسى الاتيان بذات الجزء بان كان عالما بان نفس السورة جزء و لكنه في مقام الاتيان بالصلاة نسى السورة و انتقل من الفاتحة الى الركوع مثلا، و لا يخفى ان لازم نسيان الاتيان بالسورة هو عدم الالتفات الى جزئية السورة في الوقت الذي نسى فيه الاتيان بالسورة، بخلاف نسيان نفس جزئية السورة فانه لا يلازمه لزوم نسيان السورة ايضا، بل مع الالتفات الى نفس السورة يكون ناسيا لجزئيتها و هو واضح.

ص: 187


1- 14. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

.....

______________________________

الثاني: ان المراد من الاصل العقلي هو البراءة العقلية و هي قبح العقاب بلا بيان، و اما الاصل النقلي و هو البراءة الشرعية، فهل المراد منه في المقام هو خصوص فقرة (رفع ما لا يعلمون) باعتبار ان الناسي جاهل ايضا، أو فقرة (رفع النسيان)؟ ..

و صرّح بعضهم ان المراد من الاصل الشرعي في المقام هو خصوص فقرة (ما لا يعلمون) لان الاصل وظيفة الشاك، و هو ما يدل على رفع فعلية ما هو الواقع، لا ما يدل على رفع واقعيته، لوضوح انه لو دلت فقرة (ما لا يعلمون) على رفع المشكوك واقعا للزم اختصاص الاحكام الواقعية بخصوص العالم، و لا يكون الحكم الواقعي مشتركا بين العالم و الجاهل و هو واضح الفساد، لصريح الاجماع و الاخبار بان هناك حكما واقعيا اصابه من أصابه و أخطأه من أخطأه، و هو مشترك بين العالم و الجاهل، ففقرة (ما لا يعلمون) هي الاصل الدال على رفع فعلية الجزء المشكوك لا رفع واقعيته، و اما فقرة (رفع النسيان) فان المستفاد منها هو رفع جزئية الجزء واقعا فتدخل في الادلة الاجتهادية الدالة على رفع الجزء المنسي واقعا او رفع جزئيته واقعا.

و الظاهر من آخرين كون المراد بالاصل هو فقرة (رفع النسيان) و لعله لقيام الاجماع ايضا على اشتراك الحكم الواقعي بين الذاكر و الناسي، و على هذا فيكون دليل رفع النسيان مما يدل على رفع فعلية الحكم الواقعي من رأس، فلا تكون الفقرة مخصصة للحكم الواقعي و دالة على اختصاصه بما عدا الناسي، بل تكون دالة على اختصاص فعلية الحكم الواقعي بغير الناسي، لكون النسيان مانعا عن الفعلية لا رافعا واقعا لجزئية الجزء ليلزم تخصيص الحكم الواقعي بغير الناسي، فلا يكون داخلا في الاشكال الآتي على الدليل الاجتهادي الدال على رفع الجزء واقعا في حال النسيان، المستلزم لتنويع الحكم واقعا الى نوعين حكم يختص بالملتفت و حكم يختص بالناسي، لصحة الالتزام- بناء على كون رفع النسيان اصلا رافعا للفعلية- بكون الموضوع للحكم الواقعي هو المكلف، غايته ان فعلية الحكم الواقعي في المكلّف

ص: 188

.....

______________________________

مختصّة بالذاكر دون الناسي، لان النسيان مانع عن فعليته فلا يكون الاصل مبتليا بالاشكال الآتي.

الثالث: ان الدليل الدّال على جزئية الجزء، تارة يكون دالا على جزئيته مطلقا و لو في حال النسيان، و ليس هذا هو محل الكلام في جريان البراءة، لوضوح انه مع قيام الدليل على الجزئية في حال النسيان لا يكون شك في جزئيته في حال النسيان حتى يقال بجريان البراءة في نفي الجزئية في حال النسيان. و اخرى لا يكون للدليل الدال على الجزئية دلالة على الجزئية في حال النسيان، بل كان مجملا، و حينئذ يشك في كون الجزء هل هو جزء مطلقا او جزء لخصوص الذاكر دون الناسي، و هذا هو محل الكلام في جريان البراءة فيه و عدم جريانها.

الرابع: ان الظاهر من الشيخ (قدس سره) عدم جريان الاصل في رفع الجزء المنسي او جزئيته مطلقا أي عدم جريان البراءة العقلية و الشرعية معا.

و صريح المصنف هو التفصيل بين البراءة العقلية و البراءة الشرعية بعدم جريان الاول و جريان الثانية، لعين ما مرّ في الشك في جزئية شي ء او شرطيته. و الى مختارة اشار بقوله: ( (انه لا يخفى ان الاصل فيما اذا شك في جزئية شي ء او شرطيته)) كما لو صلى المكلف ناسيا للسورة او صلى ناسيا للغصبية في مكان مغصوب، ثم تذكر انه صلى من دون سورة أو تذكر انه صلى في مكان مغصوب، و حينئذ يشك في كون السورة هل هي جزء مطلقا او انها جزء لغير الناسي؟ و مثله الحال في اباحة المكان هل هي شرط مطلقا او انها شرط لغير الناسي؟ و المختار هو ان الاصل ( (في حال نسيانه عقلا)) أي في البراءة العقلية ( (و نقلا)) أي في البراءة النقلية هو ( (ما ذكر في الشك في اصل الجزئية او الشرطية)) و هو عدم جريان البراءة العقلية و جريان البراءة النقلية ( (فلولا مثل حديث الرفع مطلقا)) الجاري في الصلاة و غيرها ( (و)) حديث ( (لا تعاد)) الصلاة الا من خمس.

- تنبيه: انه بين اصل البراءة في المقام و بين حديث لا تعاد فرق من جهتين:

ص: 189

ثم لا يذهب عليك أنه كما يمكن رفع الجزئية أو الشرطية في هذا الحال بمثل حديث الرفع، كذلك يمكن تخصيصهما بهذا الحال بحسب الادلة الاجتهادية، كما إذا وجه الخطاب على نحو يعم الذاكر و الناسي بالخالي عما شك في دخله مطلقا، و قد دلّ دليل آخر على دخله في حق الذاكر، أو وجه إلى الناسي خطاب يخصه بوجوب الخالي بعنوان آخر عام أو خاص، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه

______________________________

الاولى: ان الاصل لا يجري فيما كان لدليل الاجزاء اطلاق يشمل حال النسيان، اذ لا مجرى للاصل مع وجود الدليل اللفظي، بخلاف حديث لا تعاد فانه له مجال حتى لو كان لدليل الاجزاء اطلاق شامل لحال النسيان.

الثانية: ما عرفت من ان الاصل رافع للفعليّة و ليس برافع لجزئية الجزء المنسي واقعا، بخلاف حديث لا تعاد فانه رافع لجزئية الجزء المنسي واقعا، و هو مبتل باشكال الشيخ الاعظم الآتي في امكان رفع جزئية الجزء المنسي واقعا و رفع شرطية الشرط المنسي واقعا، كما سيأتي الاشارة اليه و إلى دفعه ان شاء اللّه تعالى، الّا ان يقال انه بضم رفع الجزء المنسي الى ادلة الاجزاء المجملة لازمه ارتفاع الاعادة بعد التذكر و لازمه تنويع التكليف، و حينئذ يبتلى بالاشكال الآتي. و ظاهر المصنف ذلك لانه فرع على جريان دليل الرفع في المقام عدم لزوم الاعادة بعد التذكر الجاري ( (في)) خصوص ( (الصلاة)) و إلّا لكان اللازم الاعادة عقلا حال التذكر لعدم جريان البراءة العقلية كما مر بيانه هناك مفصلا، فلولا جريان البراءة النقلية و هو حديث الرفع لكان ( (يحكم عقلا بلزوم اعادة ما اخل بجزئه او شرطه نسيانا)) و لكان الحال في مقام اجمال الدليل ( (كما هو الحال فيما ثبت شرعا)) بالدليل المبين الدال على ( (جزئيته او شرطيته مطلقا)) و لو في حال النسيان سواء كان الدليل ( (نصا)) كحديث لا تعاد الدال على لزوم الاعادة في الخمسة و هي الركوع و السجود و الطهارة و القبلة و الوقت ( (او اجماعا)) كالاجماع القائم على ركنية تكبيرة الاحرام او القيام المتصل بالركوع.

ص: 190

بهذا العنوان، لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة، كما توهم لذلك استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر و إيجاب العمل الخالي عن المنسي على الناسي، فلا تغفل (1).

______________________________

اشكال الشيخ الاعظم (قده) في امكان رفع الجزئية او الشرطية واقعا في خصوص الناسي، و جواب المصنف (قده) عنه

(1) لا يخفى ان الشيخ الاعظم في رسائله ذكر اشكالا في امكان رفع الجزئية او الشرطية واقعا في خصوص الناسي، بان يرد دليل اجتهادي على تخصيص الناسي بالتكليف بما عدا المنسي و يكون مخصصا لما دل باطلاقه على ثبوت الجزئية و الشرطية مطلقا حتى في الناسي و محصل الاشكال ان ورود التخصيص في المقام لازمه تنويع التكليف الى نوعين، لان بقاء التكليف الموجه الى المكلف بعنوان يشمل الناسي و غيره على حاله بعد ورود التخصص الدال على توجه التكليف لخصوص الناسي بما عدا المنسي لازمه توجه بعثين فعليين الى الناسي: احدهما بالعنوان الشامل للناسي و غيره، و ثانيهما التكليف الموجه اليه بعنوان الناسي، و حيث لا يعقل ذلك لان لازمه توجه التكليف بالجزء المنسي و عدم توجه التكليف به، فلا بد من الالتزام بان التكليف الشامل للناسي و غيره- بعد ورود التخصيص عليه بتكليف يختص بالناسي- لازمه تنويعه الى نوعين عنوان: الملتفت، و عنوان الناسي. و توجيه التكليف الى الناسي بعنوان الناسي محال، لوضوح ان الغرض من التكليف هو جعل الداعي الى المخاطب، و من الواضح ايضا ان التكليف المتعلق بموضوع لا يكون فعليا الا بفعلية موضوعه و التفات المكلف الى ذلك الموضوع الذي هو موضوع التكليف، فالتكليف المتوجه الى المكلف بعنوان الناسي اما ان لا يكون فعليا اصلا و هو محال من الحكيم ان ينشأ تكليفا لا يكون فعليا ابدا، و اما ان يكون فعليا و معنى فعليته هو التفات المكلف الى كونه ناسيا و مع التفاته الى كونه ناسيا ينقلب نسيانه الى التذكر، فيلزم من فعليته بعنوان كونه ناسيا عدم فعليته، لفرض انقلاب النسيان بمجرد الالتفات الى كونه ناسيا الى التذكر الموجب لفعلية التكليف بعنوان الذاكر دون الناسي.

ص: 191

.....

______________________________

فاتضح: ان الناسي في حال نسيانه اما ان يكون تكليفه الواقعي هو الاتيان بتمام الاجزاء، غايته انه يكون معذورا في حال نسيانه، و لكنه بعد تذكره يلزمه الاتيان بتمام الاجزاء، و لازمه عدم كونه مكلفا بما عدا الجزء المنسي، و اما ان يكون مكلفا في حال نسيانه بما عدا الجزء المنسي و لازمه المحال، و هو ان تكليفه اما ان لا يكون فعليا ابدا، و يلزم من فعليته عدم فعليته.

و اما كون الناسي لا تكليف له اصلا لا بالتمام و لا بما عدا الجزء المنسي فهو مما قام الاجماع و الضرورة على عدمه، لبداهة كون الناسي في حال نسيانه مكلفا اما بالتمام و لازمه الاعادة بعد التذكر، او بما عدا الجزء المنسي- لو امكن- و لازمه عدم الاعادة بعد التذكر .. و قد اجاب المصنف عن هذا الاشكال في المتن بوجهين:

الاول: ان يتوجه التكليف الذي يعم الذاكر و الناسي بالاجزاء الثابتة مطلقا في حال الذكر و في حال النسيان كالاجزاء الركنية، و في خصوص الاجزاء التي يشك في كونها جزءا مطلقا او جزءا في حال التذكر بالخصوص يرد الدليل فيها بعنوان الذاكر، فالناسي في حال نسيانه لها يتوجه له التكليف بغير الاجزاء المنسية و هو الخطاب بالاجزاء الثابتة مطلقا و بالاجزاء الملتفت اليها، و اما الجزء الناسي له فلم يتوجه له خطاب به حتى يلزم المحال المذكور.

و بعبارة اخرى: ان الاشكال المذكور انما يرد حيث يكون الخطاب بتمام الاجزاء متوجها الى الناسي و الذاكر ثم يرد التخصيص لخصوص الناسي بخطاب يخصه، و اما اذا كان الخطاب الشامل للذاكر و الناسي قد اختص بخصوص الاجزاء الثابتة مطلقا، و في خصوص الملتفت قد ورد الخطاب بالاجزاء التي هي تكون اجزاء في حال التذكر فلا يرد الاشكال المذكور. و الى هذا اشار بقوله: ( (انه كما يمكن رفع الجزئية او الشرطية في هذا الحال)) و هو حال النسيان ( (بمثل حديث الرفع)) الرافع لفعلية الحكم بالنسبة الى الجزئية المنسية او الشرطية المنسية، و لا يرد الاشكال لعدم لزوم خطاب يخص الناسي، بل الخطاب يعم الذاكر و الناسي و لكن النسيان كان

ص: 192

.....

______________________________

مانعا عن الفعلية بالنسبة الى الجزئية المنسية او الشرطية المنسية مع ثبوتهما واقعا ( (كذلك يمكن)) الالتزام بالتخصيص و انه في حال النسيان لا جزئية و لا شرطية واقعا و لا مانع من ( (تخصيصها بهذا الحال)) و هو حال النسيان ( (بحسب دلالة الادلة الاجتهادية)) و لكنه لا بنحو ان يكون الخطاب الشامل للذاكر و الناسي مشتملا على تمام الاجزاء ثم يرد التخصيص عليه بخطاب يخص الناسي بما عدا الجزء المنسي، بل بنحو آخر و ذلك ( (كما اذا وجه الخطاب على نحو يعم الذاكر و الناسي)) و لكنه كان ( (بالخالي عما شك في دخله مطلقا)) في حال النسيان و التذكر، بأن كان الخطاب الشامل للذاكر و الناسي هو في خصوص الاجزاء الثابتة مطلقا في حال الذكر و النسيان، و بالنسبة الى الاجزاء المشكوكة في دخلها مطلقا يرد الدليل الآخر الدال على جزئيتها او شرطيتها في خصوص حال التذكر. و الى هذا اشار بقوله: ( (و قد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر)).

الوجه الثاني في الجواب عن الاشكال هو: انه انما يلزم الانقلاب فيما اذا توجه الخطاب بما عدا المنسي الى الناسي بعنوان الناسي، لانه حينئذ يرد ان الخطاب لا يكون فعليا الا بالالتفات الى موضوعه، و حيث كان موضوعه هو الناسي فالالتفات اليه موجب لئلا يكون ناسيا، فيلزم من فعليته عدم فعليته، فالخطاب بعنوان الناسي إما ان لا يكون فعليا او يلزم من فعليته عدم فعليته. هذا كله اذا كان الخطاب متوجها بعنوان الناسي، و اما اذا كان الخطاب متوجها الى الناسي بما عدا المنسي بعنوان يلازم كونه ناسيا فلا يكون الالتفات اليه موجبا للانقلاب، كما لو وجه الخطاب بالخالي عن المنسي بعنوان كثرة رطوبة رأسه، فان هذا عنوان عام يلازم الناسي، لملازمة كثرة رطوبة الرأس للنسيان، او ان المولى حال نسيان العبد يوجه اليه الخطاب باسمه بما عدا المنسي، فيقول له يا فلان افعل كذا و يذكر الاجزاء ما عدا المنسي، و على هذا ايضا لا يلزم الاشكال المذكور و هو واضح. و الى هذا اشار بقوله: ( (او وجه الى الناسي خطاب يخصه)) دون الملتفت ( (بوجوب الخالي)) عن

ص: 193

الثالث: إنه ظهر- مما مر- حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها شرطا أو شطرا في الواجب- مع عدم اعتباره في جزئيته، و إلا لم يكن من زيادته بل من نقصانه (1)- و ذلك لاندراجه في

______________________________

الثالث: الشك في اشتراط عدم الزيادة
اشارة

الجزء المنسي و لم يكن ذلك بعنوان الناسي بل كان ( (بعنوان آخر عام)) كمثل مر كثرت رطوبة رأسه ( (او)) كان بعنوان ( (خاص لا بعنوان الناسي)) كمثل ان يقول له يا فلان افعل كذا كما مر بيانه و لا يرد الاشكال المذكور لا بعنوان الناسي ( (كي يلزم استحالة ايجاب ذلك عليه بهذا العنوان)) و هو عنوان الناسي لان فعلية هذا العنوان بالتفات المكلف الى كونه ناسيا و هي مستلزمة ( (لخروجه عنه)) أي عن عنوان الناسي ( (بتوجيه الخطاب اليه لا محالة كما توهم لذلك استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر و ايجاب العمل الخالي عن المنسي على الناسي)) أي ان المتوهم توهم ان التخصيص مستلزم للتنويع في الخطاب: الى خطاب يكون بعنوان الذاكر و خطاب آخر يكون بعنوان الناسي- فيرد الاشكال المذكور، و قد عرفت انه لا موجب للالتزام بان الخطاب الذي يخص الناسي لا بد ان يكون بعنوان الناسي ليرد الاشكال، بل يمكن ان يكون بعنوان ملازم له اما عام او خاص، إلّا انه لا بد و ان يكون المخاطب الناسي غير ملتفت الى ملازمة العنوان العام او الخاص لعنوان الناسي، و إلّا يعود المحذور.

(1) توضيحه: بحيث يتضح صحة كون الزيادة زيادة في الواجب المركب دون كونه زيادة في جزء الواجب المركب يتوقف على بيان اعتبارات الجزء.

فنقول: ان للجزء اعتبارات: الاول: ان يعتبر الجزء لا بشرط من حيث الوحدة و التعدد، و مرجعه الى التخيير بين الاقل و الاكثر كما في التسبيحات بناء على التخيير فيها بين الواحدة و الثلاث، و مثل هذا الاعتبار في الجزء لا يتحقق فيه الزيادة لا في نفس الجزء و لا في المركب.

ص: 194

.....

______________________________

الثاني: ان يعتبر الجزء لا بشرط لا من ناحية الوحدة و التعدّد، بل من ناحية انه يلحظ الجزء لا مقترنا بلحوق مثله و لا مقترنا بعدم لحوق مثله، فاذا لحق الجزء مثله لا يكون ذلك اللاحق دخيلا في جزئية السابق و لا يكون لحوقه مانعا عن تحقق جزئيته، و على هذا فالجزء السابق به تتمّ الجزئية للمركب، و لا يكون لهذا اللاحق دخالة في تحقق جزئية السابق اصلا، فلا يكون لحوقه زيادة في جزئيته و لا نقصانا فيها.

و اما بالنسبة الى نفس المركب فيمكن ان يكون عدم المثل للجزء جزءا من المركب او شرطا في المركب، بمعنى كون وجوده مانعا عن ترتب الاثر على المركب و ان كان في كون العدم جزءا اشكال من ناحية عدم معقولية كون العدم مما له التأثير في شي ء، و ان المعقول هو كونه شرطا بمعنى عدم المانع، لصحة كون الوجود مانعا عن التأثير، فيكون عدمه بهذا اللحاظ شرطا في تأثير المركب اثره.

الثالث: لحاظ الجزء بشرط لا، بمعنى اعتبار الجزء بما هو ملحوظ فيه عدم لحوقه بمثله، فهو جزء من المركب بما هو ملحوظ بشرط عدم لحوق مثله به، و من الواضح ان لازم لحاظ الجزء كذلك هو انه اذا التحق به مثله يخرج عن كونه جزءا من المركب، و لحوق الجزء بمثله في الملحوظ بشرط لا و ان كان زيادة عرفا- لان الزيادة عند العرف هي تكرار الشي ء- الّا انه مع فرض كون الجزء جزءا بما هو بشرط لا لا يكون لهذه الزيادة العرفية حكم بما هي زيادة، بل الحكم فيها يكون من حيث كونها موجبة لخروج الجزء عن كونه جزءا، و هو من النقصان بحسب ما له من الحكم الشرعي الذي هو عنوان الجزئية لا من الزيادة.

فاتضح مما ذكرنا: ان الزيادة في الجزء بما هي زيادة في الجزء لا مجال لها، لان الجزء الملحوظ بالنحو الاول لا مجال فيه لتحقق الزيادة في نفس الجزء. و الجزء الملحوظ باللحاظ الثاني لا يعقل تحقق الزيادة فيه بما هو جزء لتمامية جزئيته بالوجود الاول السابق، و بعد تمامية جزئيته لا يعقل اعتبار عدم الزيادة الّا في المركب لا في

ص: 195

.....

______________________________

نفس الجزء. و الجزء الملحوظ بالنحو الثالث تكون من النقصان في الجزء لا من الزيادة في نفس الجزء.

و ظهر مما ذكرنا: ان الزيادة الملحوظ عدمها بما هي زيادة تكون في المركب حيث يكون الجزء ملحوظا بالنحو الثاني، و هو لحاظه بنحو اللابشرط القسمي بان يلحظ الجزء جزء من المركب لا مقترنا بلحوق مثله و لا مقترنا بعدم لحوق مثله، و على هذا فتتمّ جزئية الجزء للمركب بأول وجود منه، و لا يكون لحوق مثله به له دخل في عدم تمامية جزئية الجزء بالوجود الاول، لوضوح انه بوجوده الاول يتمّ كل ما هو معتبر في جزئيته للمركب، و لا مانع ان يكون عدم لحوقه بمثله معتبرا في المركب اما جزء بان يكون المركب مركبا من اجزاء وجودية و اجزاء عدميّة، فيما اذا تعقلنا امكان ان يكون العدم مؤثرا، و اذا لم يمكن كون العدم جزءا له الاثر فلا مانع من ان يكون العدم لحاظه في المركب بنحو الشرطية لتأثير المركب، لكون الوجود الناقص لذلك العدم مانعا عن التأثير، و من الواضح كون عدم المانع من الشروط.

لا يقال: انه كما لا يمكن الزيادة بما هي زيادة في الجزء كذلك لا يمكن تعقّل الزيادة- بما هي زيادة- في المركب ايضا، لان ذلك العدم المعتبر في المركب ان كان جزءا منه فهو و ان كان زيادة عرفا إلّا انه لا حكم له بما هو زيادة، بل الحكم فيه من حيث النقصان في المركب، لعدم تمامية المركب بفقدانه لاحد اجزائه و هو العدم المفروض جزء منه.

و ان كان العدم شرطا في المركب فهو ايضا من النقصان لا من الزيادة، لان المركب التام هو مجموع المقتضي للتأثير و الشرط للتأثير، و وجود المانع يكون موجبا لنقصان المركب من حيث فقد شرطه، و الحال في الشرط كالحال في الجزء، فلا يعقل تحقق الزيادة بما هي زيادة في المركب ايضا.

فانه يقال: ان الصحيح من اخذ العدم في المركب هو اخذه بنحو الشرطية، لمعقولية كون عدم المانع من الشروط، و اما اعتباره بنحو الجزئية فغير معقول لعدم

ص: 196

.....

______________________________

امكان تأثير العدم اثرا وجوديا، و لا يؤثر في الوجود الا الوجود، و اذا كان اخذ العدم في المركب بنحو الشرط و انه عدم المانع، فوجود المانع هو الذي له التأثير في المانعية و المزاحمة، فيكون للزيادة اثر شرعي و هي المانعية، فلذلك صحّ ان يكون للجزء الزائد بما هو زيادة اثر شرعي لان المانع هو وجوده. و قد عرفت انه زيادة عرفا و لهذا الزائد اثر شرعي و هو المانعية، فصحّ لذلك ان يكون الجزء اللاحق زيادة في المركب.

و الحاصل: انه بوجود المانع يتحقق امران: عدم تحقق الشرط في المركب و هو عدم المانع، و حصول المزاحمة المانعة عن التأثير. و بلحاظ عدم تحقق الشرط و ان كان مرجعه الى النقصان إلّا انه بلحاظ تأثير وجود المانع في المزاحمة و المانعية كان هذا المانع وجودا زائدا في المركب.

لا يقال: انه بالنسبة الى الجزء حيث يكون ملحوظا بشرط لا- ايضا- في المركب الخالي كذلك.

فانه يقال: ان تأثير المانع بالنسبة الى الجزء الملحوظ بشرط لا هو انتفاء الجزئية و عدم صحة انتزاعها منه، و ليس هناك اثر للجزء غير هذا، و انتفاء الجزئية من النقصان لا الزيادة.

فاذا عرفت هذا و هو صحة ان يكون الجزء زيادة في المركب دون الجزء .. نقول:

اذا شككنا في كون زيادة الجزء هل اعتبر في المركب عدمها ام لا؟ فالمتعيّن فيه جريان البراءة لفرض الشك في اعتبار هذا العدم في المركب و عدم اعتباره، فيكون من موارد الشك في الاقل و الاكثر، و قد عرفت جريان البراءة الشرعية فيه و لذا قال (قدس سره): ( (انه)) قد ( (ظهر مما مرّ)) في الاقل و الاكثر ( (حال زيادة الجزء اذا شك في اعتبار عدمها)) أي في اعتبار عدم الزيادة في المركب الواجب ( (شرطا او شطرا)) و لكنه قد عرفت ان الصحيح اعتبار عدم الزيادة بنحو ان يكون شرطا لا شطرا ( (في الواجب)) و اشار الى عدم معقولية الزيادة في الجزء نفسه بقوله: ( (مع عدم اعتباره

ص: 197

الشك في دخل شي ء فيه جزءا أو شرطا (1)، فيصح لو أتى به مع

______________________________

في جزئيته)) أي ان الجزء الملحوظ لا بشرط من حيث الزيادة لا تتحقق فيه الزيادة، و كذلك الملحوظ لا بشرط من حيث اقترانه بالزيادة و عدم اقترانه بها، فانه ايضا تتمّ جزئيته بالوجود الاول و لا تتحقق الزيادة فيه، و الملحوظ بشرط لا تكون الزيادة موجبة لنقصانه و عدم كونه جزءا من المركب. و اليه اشار بقوله ( (و الّا)) أي و ان لحظ اعتبار عدم الزيادة في الجزء: أي كان الجزء ملحوظا بشرط لا ( (لم يكن)) لحوقه بمثله ( (من زيادته بل)) يكون ( (من نقصانه)) كما مرّ بيان ذلك مفصّلا.

(1) هذا تعليل لقوله انه ظهر مما مرّ، و بيان ذلك: انه بعد ما عرفت ان اعتبار عدم الزيادة انما يكون في المركب لا في الجزء يظهر انه اذا شك في كون شي ء من الاجزاء اعتبر عدم زيادته في المركب، ام لم تعتبر زيادته فيه بان احتملنا كون الزيادة قادحة و قد اعتبر عدمها في المركب، او انها غير قادحة و لم يعتبر عدمها في المركب، و هو معنى الشك في اعتبار عدمها و عدم اعتباره، و مرجع هذا الشك الى كون المركب هل هو مركب من الاجزاء الوجودية و من اعتبار عدم لحوق احدها فيه، او انه مركب من نفس الاجزاء من دون اعتبار عدم الزيادة فيكون من مصاديق الشك في الاقل و الاكثر؟ و قد عرفت انه مجرى للبراءة الشرعية، و الى ما ذكرنا اشار بقوله:

( (و ذلك)) أي انه ظهر حكم الزيادة المشكوك اعتبار عدمها و عدم اعتباره في المركب مما ذكرناه في الاقل و الاكثر ( (لاندراجه)) انما ظهر حكمه لاندراجه ( (في الشك في دخل شي ء فيه)) أي في المركب اما ( (جزءا او شرطا)) و لكن قد عرفت ان الصحيح احتمال اعتبار دخله شرطا لا شطرا او جزءا. و على كل فاذا رجع الى الشك في احتمال دخل شي ء في المركب و عدم دخله فهو مجرى للبراءة الشرعية، فلا مانع من اتيان هذا المشكوك باي نحو كان اتيانه بعد ان جرت البراءة و دلت على عدم فعليته لو كان عدمه معتبرا واقعا و لا مؤاخذة على اتيانه.

ص: 198

الزيادة (1) عمدا تشريعا أو جهلا قصورا أو تقصيرا أو سهوا، و إن استقل العقل لو لا النقل بلزوم الاحتياط، لقاعدة الاشتغال (2).

______________________________

(1) توضيحه: انه بعد ما عرفت من قيام الاصل على عدم دخل الزيادة المشكوكة في المأمور به، و ان المامور به ببركة الاصل لم يؤخذ فيه عدم الزيادة فلا مانع من اتيان الزائد باي نحو كان اتيانه. اما اذا كان المأمور به توصليا فهو واضح، لقيام فراغ الذمة في التوصلي باتيان ذات المأمور به باي نحو اتفق، سواء لم يقصد به الامتثال او قصد الامتثال بنحو التشريع، لان سقوط الامر في التوصلي يحصل باتيان ذات المأمور به و المفروض انه قد اتى به، و لا دخل للقصد في سقوط الامر التوصلي.

و اما اذا كان المأمور به عباديا فالاتيان بالزائد لا يضر بالعبادة من حيث كونه زيادة، لتمامية العبادة بقصد اتيانها بداعي الامتثال، و قصد اتيان الزائد فيها لا يضر بعد ان كانت واجدة لتمام ما اعتبر في امتثالها من الاتيان باجزائها و شرائطها كاملا و انضمام شي ء زائد اليها. نعم في بعض الصور التي يأتي بيانها تكون باطلة من ناحية قصد الامر لا من ناحية ذات الزيادة.

(2) ان صور الاتيان بالزيادة اذا كانت عن جهل ثلاث: الاتيان بالزيادة عن جهل قصورا، كما اذا كان معتقدا للزوم الاتيان بها لاعتقاد كونها من العبادة و كان معذورا في اعتقاده. او عن جهل تقصيرا، كما اذا كان معتقدا كذلك و لكنه لم يكن معذورا في اعتقاده لعدم فحصه مثلا. او كان عن نسيان و هو من الجهل، لبداهة كون الناسي في حال نسيانه جاهلا. و اما العمد فصورتان: العمد لا بقصد الامر، و العمد بقصد الامر و هو العمد عن تشريع.

و لا يخفى انه اذا كان الامر توصليا لا يضر الاتيان بالزيادة في هذه الاقسام كلها كما عرفت لفرض كون المأمور به هو ما عدا الزيادة بواسطة الاصل النقلي و قد اتى به، و لا نحتاج في سقوط الامر التوصلي الا الى اتيان المأمور به باي نحو كان، و كذلك في الامر العبادي في غير الصورة التي يأتي الاشارة اليها بقوله: ( (نعم)) و قد

ص: 199

نعم لو كان عبادة و أتى به كذلك، على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه، لكان باطلا مطلقا أو في صورة عدم دخله فيه، لعدم قصد الامتثال في هذه الصورة (1)، مع استقلال العقل بلزوم الاعادة

______________________________

اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (فيصح لو اتى به)) أي بالمأمور به ( (مع الزيادة عمدا)) من غير تشريع او عمدا ( (تشريعا او جهلا قصورا او تقصيرا او سهوا)) كما عرفت و اشار الى ان ذلك لجريان البراءة النقلية دون العقلية بقوله: ( (و ان استقل العقل لو لا النقل بلزوم الاحتياط)) بترك الزيادة ( (لقاعدة الاشتغال)) لاحتمال تقيد المركب بعدم هذه الزيادة.

(1) لا يخفى ان فرض هذا التنبيه الثالث هو فرض الشك في اشتراط عدم الزيادة في الواجب المركب و عدم اشتراط عدم الزيادة فيه، و فرض الكلام في قوله نعم لازمه احتمال كون وجود الزيادة دخيلا في المركب، و هو غير مفروض الكلام في هذا التنبيه. و على كل فانّ الصورة المفروضة في كلامه (قدس سره) هو ما اذا كان المأمور به عباديا و كان المكلف قد اتى بالزائد بقصد كونه جزءا و كان بنحو لو لم يكن هذا الزائد جزءا لم يكن للمكلف قصد امتثاله. و الى هذا اشار بقوله: ( (نعم لو كان)) الماتي به ( (عبادة و اتى به كذلك)) أي قاصدا بالزائد الجزئية و ( (على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو اليه وجوبه)) بان كان المكلف قاصدا امتثال هذه العبادة بما ان الزائد داخل فيها، بحيث لو لم يكن هذا الزائد داخلا فيها لا يكون للمكلف قصد امتثالها.

و الحاصل: ان المفروض في هذه الصورة امران: الاول: قصد كون الزائد جزءا من العبادة. الثاني: انه على نحو لو لم يكن هذا الزائد جزءا لما قصد المكلف الامتثال لهذه العبادة. و على هذا الفرض ان قلنا بانه يشترط في صحة العبادة قصد امتثال الامر الذي قامت عليه الحجة شرعا فلا بد من الالتزام ببطلان العبادة المأتي بها كذلك

ص: 200

.....

______________________________

مطلقا و ان كان الزائد جزءا واقعا من العبادة، لان الامر الذي قامت عليه الحجة في هذه العبادة هو الامر بما عدا الزائد فلم يات المكلف بقصد الامر الذي قامت عليه الحجة.

و اما اذا قلنا بانه لا يشترط في صحة العبادة قصد الامر الذي قامت عليه، بل تصح العبادة بقصد الامر سواء كان الامر المقصود امتثاله هو الذي قامت عليه الحجة او كان هو الامر الواقعي، فاذا فرضنا كون هذا الجزء المقصود اتيانه بقصد الجزئية كان جزءا واقعا و ان قامت الحجة على عدم جزئيته فالامر المقصود امتثاله في المقام كان هو الامر الواقعي و لذلك تقع العبادة بقصده صحيحة.

لا يقال: انه بعد ان قامت الحجة على عدم دخله فقصد الاتيان بالزائد بنحو الجزئية لازمه قصد التشريع برأي المكلّف، و قصد التشريع في العبادة مبطل لها.

فانه يقال: انه قصد تشريع تخيّلي لا حقيقي، و المضرّ في العبادية هو التشريع الحقيقي دون التخيّلي، فلا يكون مضرا في عبادية العبادة بعد ان كان الامر المقصود تشريعا تخيّلا هو الامر الواقعي حقيقة. هذا اذا كان الجزء المأتي به بقصد الجزئية جزءا واقعا و ان قامت الحجة على عدمه.

و اما اذا لم يكن الجزء المقصود اتيانه- بما هو جزء- من العبادة و ليس جزءا منها واقعا فالعبادة المأتي بها- بنحو اذا لم يكن هذا الجزء منها لا يكون مقصودا امتثالها- تقع باطلة، لوضوح ان الامر الذي قصد امتثاله لم يكن هو الامر الذي قامت عليه الحجة و لا الامر الواقعي، لان فرض كون الجزء المقصود إتيانه ليس من العبادة واقعا هو فرض كون الامر الذي قامت عليه الحجة هو الامر الواقعي، و قد فرض كون الامر الذي قصد امتثاله هو المقيد بكون هذا الجزء جزءا من المأمور به فيه، بحيث لو لم يكن جزءا من المأمور به لا يكون المكلف قاصدا لامتثال الامر، و لازم ذلك وقوع العبادة المأمور بها غير مقصود بها امتثال امرها، و حيث انها عبادة لا تقع صحيحة إلّا بقصد امتثال امرها، فلا بد من وقوعها غير صحيحة لعدم اتيانها بقصد القربة، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (لكان المأتي به باطلا مطلقا)) أي و ان كان الزائد جزءا

ص: 201

مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال (1).

______________________________

من العبادة واقعا بناء على اشتراط صحة العبادة بقصد الامر الذي قامت عليه الحجة. و اما بناء على عدم هذا الشرط فان العبادة تقع صحيحة كما عرفت ( (او)) يقع المأتي به باطلا ( (في صورة عدم دخله فيه)) أي بناء على عدم هذا الشرط فبطلان العبادة يكون في خصوص ما اذا لم يكن الجزء المقصود جزئيته من العبادة واقعا، و كان قصد الامتثال من المكلف مقيدا بكون هذا الزائد جزءا، بحيث لو لم يكن جزءا لما كان للمكلف قصد الامتثال، فان المأتي به حينئذ يكون باطلا ( (لعدم قصور الامتثال في هذه الصورة)) لما عرفت من ان صحة الامتثال في العبادة لا بد فيه من قصد امتثال الامر، و لم يقصد امتثال الامر في هذه الصورة، لان المفروض ان الامر الواقعي المتعلق بما عدا الزائد لم يقصد امتثاله، و الامر المقيد بكون هذا الزائد جزءا من العبادة ليس هو الامر الواقعي، فما قصد امتثاله ليس هو الامر الواقعي، و الامر الواقعي المنوط بقصده صحة العبادة لم يقصد امتثاله.

(1) توضيحه: ان فرض المسألة فرض الشك في دخل الزائد و عدمه، و بواسطة جريان البراءة في نفي الزائد يكون المطلوب فعلا بحسب الظاهر هو ما عدا الزائد، و اما البراءة العقلية فغير جارية في الاقل و الاكثر، و القاعدة فيه بحسب العقل هو الاشتغال، فاذا قصد امتثال الامر المقيد بكونه- الجزء الزائد- جزءا من العبادة تشريعا، ففي مقام الشك في دخله واقعا و عدم دخله نحتمل عدم دخله و اذا لم يكن داخلا كانت العبادة باطلة كما عرفت، فالعبادة في مقام الشك لا بد من الالتزام باعادتها لعدم احراز وقوعها قربيّة لا بالبراءة النقلية، لوضوح انه عليها لا بد من قصد امتثال الامر بما عدا الزائد، و لا بالبراءة العقلية لعدم جريانها، بل القاعدة بحسب العقل هو الاشتغال و تحصيل ما به يقطع بالبراءة للذمة، فالعقل في حال التشريع المذكور يلزم باعادتها مقصودا بها امتثال الامر بما عدا الزائد. و الى هذا

ص: 202

و أما لو أتى به على نحو يدعوه إليه على أي حال كان صحيحا، و لو كان مشرعا في دخله الزائد فيه بنحو، مع عدم علمه بدخله، فإن تشريعه في تطبيق المأتى مع المأمور به، و هو لا ينافي قصده الامتثال و التقرب به على كل حال (1).

______________________________

اشار بقوله: ( (مع استقلال العقل بلزوم الاعادة)) على النحو المذكور ( (مع)) فرض ( (اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال)).

(1) لا يخفى ان هذه الصورة الثانية و هي ان يكون الامر الواقعي هو الداعي اليه الى الامتثال، و لكن المكلف بنى على ان الامر الواقعي مشتمل على الجزء الزائد، فالمكلف و ان قصد الجزئية في الجزء الزائد إلّا انه لاجل انه بنى على ان الامر الواقعي مشتمل عليه، بحيث لو علم ان الامر الواقعي لم يشتمل عليه لما كان آتيا بهذا الزائد، فهو و ان كان قد شرّع 15] في جعل الزائد جزءا إلّا ان الداعي له الى الامتثال هو الامر الواقعي، و قد شرّع لاجل اعتقاده في تطبيق الامر الواقعي على ما يشمل هذا الزائد، و لما كان الداعي له الى الامتثال هو الامر الواقعي و الزيادة انما قصد جزئيتها بناء منه على ان الامر الواقعي يشملها و لم يقيد امتثاله بها، لان المفروض انه لو علم بعدم الاشتمال لكان غير آت بهذه الزيادة، لان المفروض ان الداعي له هو الامر الواقعي بما هو عليه، لا مقيدا بانه لو لم يشتمل عليه لما كان قاصدا امتثاله كما في الصورة الاولى.

فالعبادة تقع صحيحة على كل حال لانها قد اتى بها بقصد امرها، لان الداعي للاجزاء ما عدا الزائد هو الامر الواقعي، و اما الزائد فهو و ان اتى به بداعي الامر الا

ص: 203

.....

______________________________

انه امر تخيّلي ليس ماخوذا بنحو القيد، و المكلف و ان شرع في تطبيق الامر الواقعي على ما يشمل الزائد إلّا ان المفروض ان الداعي له هو الامر الواقعي، فالاجزاء ما عدا الزائد قد وقعت بداعي الامر الواقعي و هذا كل ما تحتاج اليه العبادة في وقوعها قربيّة، و تشريعه في التطبيق لا يضر بوقوعها قربية بداعي امرها الواقعي، و لم يعمل التشريع في التطبيق الا في قصد اتيان الزائد بنحو القربة و هو قصد يختص بالزائد و لا يضر في الاجزاء الأخر، فتقع العبادة صحيحة متقربا بها مشتملة على تمام المقصود في وقوعها قربيّة. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (و اما لو اتى به)) أي بالمأتي به العبادي المشتمل على الزائد لا بنحو التقيد كما في الصورة الاولى، بل كان ( (على نحو يدعوه)) الامر ( (اليه على أي حال)) من دون تقييد، و لازم هذا كون الداعي اليه هو الامر الواقعي، و لذلك ( (كان)) المأتى به من العبادة ( (صحيحا و لو كان)) المكلف ( (مشرعا في دخله الزائد فيه)) أي في ما هو عبادة واقعا ( (بنحو)) من انحاء التشريع، لان المفروض قد قصد جزئية الزائد ( (مع عدم علمه)) واقعا ( (بدخله)).

و اشار الى ان هذا التشريع منه لا يضر في وقوع ما عدا الزائد عبادة لانه تشريع في التطبيق، و لازم ذلك كون الامر الواقعي هو الداعي الى الامتثال بقوله: ( (فان تشريعه)) انما هو ( (في تطبيق المأتى)) به ( (مع المأمور به)) الواقعي ( (و هو لا ينافي قصده الامتثال و التقرب به)) أي بالماتى به ( (على كل حال)) لان الاجزاء ما عدا الزائد قد وقعت بداعي الامر الواقعي على كل حال في هذه الصورة، و المفروض فيها كون الداعي له هو الامر الواقعي و ان شرع لاجل اعتقاده بكون الامر الواقعي مشتملا على الزائد.

ثم لا يخفى ان القدح في الاتيان بالزائد بقصد الجزئية كما في الصورة الاولى و عدم القدح كما في الصورة الثانية انما هو من ناحية وقوع العبادة قربية و عدم وقوعها قريبة، لا من ناحية المانعية و كون الزيادة مانعا كما هو المفروض في صدر هذا التنبيه.

ص: 204

ثم إنه ربما تمسك لصحة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحة، و هو لا يخلو من كلام و نقض و إبرام خارج عما هو المهم في المقام، و يأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب، إن شاء اللّه تعالى (1).

______________________________

اثبات صحة العبادة مع الزيادة باستصحاب الصحة

و قد ظهر من مجموع ما ذكرنا: انه بعد جريان البراءة الشرعية في عدم المانعية لا يكون قصد الجزئية في الزائد مبطلا من ناحية المانعية، لانه في مقام قدحه في العبادة من ناحية نفسه و كونه مانعا، لا من جهة كون العبادة فاقدة لقصد الامر فانه قدح من جهة فقد القربة. هذا فيما اذا كان المكلف بحيث اذا لم يكن الزائد جزءا لا يكون له قصد الامتثال، و هذه هي الصورة الاولى الموجبة لفساد العبادة من ناحية فقد قصد القربة لا من ناحية المانعية. و في مقام عدم القدح و هي الصورة الثانية بان لا يكون المكلف على نحو اذا لم يكن هذا الجزء جزءا واقعا لا يكون له قصد الامتثال، بل كان بحيث اذا لم يكن هذا الجزء جزءا واقعا يكون قصد الامتثال و انما شرع في تطبيق ما يراه انه جزء منه على ما ليس بجزء منه، فالعبادة صحيحة من ناحية قصد القربة و من ناحية احتمال المانعية، فالبراءة النقلية رافعة لاحتمال القدح من ناحية المانعيّة.

(1) و حيث انه لم يتعرض له في مبحث الاستصحاب فلا بد من التعرّض له هنا.

و توضيحه: انه قد مرّ ان عدم الزيادة المشكوك اعتبارها شرطا للمركب الجاري في رفعه هو البراءة النقليّة كما مرّ بيانه. و قد تمسك بعضهم لعدم تأثير الزيادة باستصحاب الصحة في الاجزاء المأتى بها السابقة في الوجود على وجود الزائد، كما انه قد تمسكوا بهذا الاستصحاب و هو استصحاب صحة الاجزاء المأتي بها في ما لو شك في حدوث الناقض كالحدث مثلا.

و توضيح هذا الاستصحاب يتوقف على بيان الفرق بين المانع و القاطع، ليعرف ان المراد من استصحاب صحة الاجزاء السابقة هل هو استصحاب عدم المانع عن صحة الاجزاء، او استصحاب الجزء الصوري للمركب و هو الهيئة الاتصالية التي ترتفع بوجود القاطع لهذه الهيئة الاتصاليّة؟ .. فنقول: ان كون الحادث مانعا عن

ص: 205

.....

______________________________

صحة الجزء السابق يتصور: اما بتصور كون الجزء له استعداد في ان يؤثر مع بقية الاجزاء بعد تمامها في ترتب الغرض عليها فيكون الحادث ناقضا و رافعا لهذا الاستعداد في الاجزاء السابقة. و امّا بتصور كون لكل جزء تحقق اثر ناقص ثم يستكمل بما يتلاحق من الاجزاء حتى يحصل الاثر التام من مجموع هذه الآثار عند تمام كل الاجزاء، فيكون الحادث ناقضا و رافعا للاثر الناقص المتحقق للجزء السابق.

و مما ذكرنا يتضح الجواب عمّا يقال من انه لا وجه لاستصحاب الصحة في الاجزاء السابقة، لان الصحة اما بمعنى موافقة الامر و هي متيقنة لا يلحقها الشك بحدوث الحادث لوضوح كونها قد اتى بها موافقا لامرها الغيري او النفسي المنبسط عليها، و اما بمعنى ان الصحة هي كون الاجزاء السابقة بحيث لو انضمت اليها الاجزاء لحصل الاثر، و هذا المعنى من الصحة ايضا متيقن لا يلحقه الشك في حدوث الحادث، فان هذه الشرطية صادقة على الاجزاء السابقة مع حدوث الحادث، و عدم امكان الاتيان بالاجزاء اللاحقة لان صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق طرفيها.

فاتضح صدق هذه القضية الشرطية و هي قولنا ان الاجزاء السابقة لو انضمت اليها الاجزاء اللاحقة لحصل الاثر.

و قد ظهر الجواب عنه بما ذكرنا، فان الصحة المستصحبة في الاجزاء ليس بمعنى موافقة الامر و لا بمعنى كون الاجزاء لو انضم اليها الاجزاء اللاحقة لحصل الاثر و الغرض، بل المراد من استصحاب الصحة في الاجزاء هو استصحاب الاستعداد فيها، او استصحاب اثرها الناقص المحتمل ارتفاعهما بوجود هذا الحادث الزائد كالمذي، أو المحتمل ارتفاعهما لاحتمال وجود ما هو الرافع لهما كمثل الحدث الاصغر او الاكبر.

و اما القاطع فهو ما يرفع الجزء الصوري للمركب. و توضيحه: ان المراد من الجزء الصوري هو الوحدة الاتصالية التدريجية، و الوحدة الاتصالية التدريجية في المركبات الحقيقية كالمركب من الصورة و المادة هو وحدة الاتصال بين المادة و الصور

ص: 206

.....

______________________________

المتعاقبة عليها، ككون المادة علقة ثم مضغة الى ان تكون انسانا، و كون الكلب لحما و دما ثم ملحا، و كون الماء ماء ثم بخارا و امثال هذه الصورة المتعاقبة على المواد هذه هي الوحدة الاتصالية التدريجية في المركب الجوهري.

و اما العرض فحيث ان الاعراض غير مركبة من الصورة و المادة، بل هي بسائط خارجيّة، فالوحدة الاتصالية الحقيقية التدريجية انما تكون في بعض الاعراض، و هي التي يكون فيها الحركة و الاشتداد كالكيف- مثلا- و ذلك كحركة البياض من مرتبته الضعيفة الى المراتب الشديدة، فان هناك وحدة اتصالية في هذا الكيف المتحرك في هذه المراتب، و حيث ان المركب في المقام مركب اعتباري كالصلاة- مثلا- فانها عبادة عن مجموعة من الاعراض من الوضع الخاص و الكيف المسموع، فليس لها وحدة اتصالية حقيقيّة تدريجيّة، فلم يبق الّا الوحدة الاتصالية الاعتبارية، و لا نرى للصلاة وحدة اتصالية قد اعتبرها الشارع فيها غير المولاة في الاجزاء بان لا يفصل بينها بالفصل الطويل، و من الواضح انه ليس المراد من القاطع هو عدم المولاة بين الاجزاء، بل المراد منه شي ء يرفعه الحادث في الصلاة كزيادة الجزء أو الحدث الاصغر مثلا، فلا نتعقل معنى للقاطع يكون غير المانع، و لا بد من رجوع القاطع الى المانع باعتبار ان المانع ان وقع بعد المركب يكون رافعا له و ناقضا كوقوع الحدث بعد تمام الوضوء، و ان وقع في الاثناء يكون رافعا للاستعداد أو لاثر الاجزاء السابقة فيكون قاطعا بينها و بين اجزاء المركب اللاحقة، و ان وقع قبل الاجزاء فانه يكون دافعا لها عن الاثر أو الاستعداد لا رافعا لاستعدادها أو اثرها، فيرجع القاطع الى تسمية المانع الواقع في اثناء المركب باسم القاطع. فاذا عرفت عدم الفرق بين المانع و القاطع و انه لا فرق بينهما و انه ليس هناك جزء صوري و وحدة اتصالية للمركب، فالمراد من استصحاب الصحة في الاجزاء بمعنى استصحاب بقاء الاجزاء السابقة على ما هي عليه من الاستعداد أو الاثر الناقص و ان كان صحيحا، الّا ان الاثر المترتب

ص: 207

الرابع: إنه لو علم بجزئية شي ء أو شرطيته في الجملة، و دار الامر بين أن يكون جزءا أو شرطا مطلقا و لو في حال العجز عنه، و بين أن يكون جزءا أو شرطا في خصوص حال التمكن منه، فيسقط الامر بالعجز عنه

______________________________

امران: الاول: عدم وجوب استيناف الاجزاء السابقة. و الثاني: حصول المركب بانضمام الاجزاء اللاحقة للاجزاء السابقة.

و استصحاب الصحة في الاجزاء لترتيب الاثر الاول انما يصح حيث يكون ذلك الاثر من آثار صحة نفس الاجزاء، و اما اذا كان ذلك الاثر من آثار بقاء الامر و تأثيره في الدعوة الى الاتيان بالاجزاء، فان الامر حيث انه متعلق بمركب من اجزاء تدريجيّة فهو يدعو الى اتيان تلك الاجزاء تدريجا الى ان تتمّ اجزاؤه، فاذا عرض ما يوجب سقوطه عن الدعوة في الاثناء فاستيناف الاجزاء السابقة من آثار سقوط الامر عن الدعوة، و عدم استينافها من آثار بقاء الامر على ما هو عليه من اقتضائه للدعوة، فالاستئناف و عدم الاستيناف من آثار عدم بقاء الامر و بقائه لا من آثار صحة الاجزاء السابقة و عدم صحتها. هذا اذا لم تقل بان الاستيناف و عدمه ليس من الآثار الشرعية، بل هو من الآثار العقلية، و ان عدم استيناف الاجزاء السابقة لازم عقلي لبقاء الامر على تأثيره التدريجي، و استينافها لازم عقلي لسقوطه عن الدعوة التدريجيّة، و حيث لم يحصل المركب المأمور به فلا بد من استيناف الامر في مقام الدعوة من رأس.

و اما الاثر الثاني و هو حصول المركب بانضمام الاجزاء اللاحقة الى السابقة فهو اثر عقلي لصحة الاجزاء السابقة، و ليس اثرا شرعيا لصحة الاجزاء السابقة، و هو واضح لبداهة انه لم يترتب شرعا على الاجزاء السابقة حصول المركب بانضمام الاجزاء اللاحقة، و انما العقل حيث كان المركب له اجزاء ارتباطية سابقة و لا حقة فهو يدرك ان الاثر لوقوع الاجزاء السابقة صحيحة هو حصول المركب بانضمام الاجزاء اللاحقة و هو اثر عقلي لا شرعي.

ص: 208

على الاول، لعدم القدرة حينئذ على المأمور به، لا على الثاني فيبقى متعلقا بالباقي، و لم يكن هناك ما يعيّن أحد الامرين، من إطلاق دليل اعتباره جزءا أو شرطا، أو إطلاق دليل المأمور به مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله، لاستقل العقل بالبراءة عن الباقي، فإن العقاب على تركه بلا بيان و المؤاخذة عليه بلا برهان (1).

______________________________

الرابع: الشك في اطلاق الجزء أو الشرط لحال العجز
اشارة

(1) هذا التنبيه الرابع لبيان ما اذا كان الشك في جزئية شي ء او شرطيته من ناحية انه هل هو جزء او شرط مطلقا للمركب و لو في حال العجز عن اتيانه، او انه كان جزءا او شرطا في خصوص حال التمكن منه و القدرة عليه؟ و لازم كونه جزءا او شرطا مطلقا و لو في حال العجز هو سقوط الامر بالمركب في حال العجز عن بعض اجزائه او بعض شرائطه، لانتفاء المركب بانتفاء بعضه، و لازم كونه جزءا او شرطا في حال التمكن منه هو عدم سقوط الامر و بقاؤه متعلقا بالباقي من الاجزاء و الشرائط المقدورة، لوضوح كون المركب انما يكون مركبا منهما في حال القدرة عليهما، و اما في حال العجز عنهما فهو مركب من غيرهما.

و توضيح الحال يقتضي بيان امور: الاول: انه تارة يكون للامر المتعلّق بالمركب اطلاق اما بناء على وضع الفاظ العبادات- مثلا- للأعمّي، او بناء على انها موضوعة للصحيح و كان هناك اطلاق مقامي، بان علمنا ان المولى في مقام بيان كل ما له دخل في صحة متعلق الامر، و شككنا في ان بعض الاجزاء دخالتها في المركب هل هي مطلقة في حالتي التمكن و العجز او كانت دخالتها مختصّة بصورة التمكن؟

.. و على كل انه اذا كان لدليل الامر المتعلق بالمركب اطلاق فالاطلاق يقتضي نفي الجزء عن كونه جزءا في حال عدم القدرة عليه، لان الامر حيث انه لداعي جعل الداعي و لا يعقل جعل الداعي في حال عدم القدرة، و قد فرض ان للامر اطلاقا يقتضي كونه داعيا مطلقا، فلا بد و ان يكون الجزء غير المقدور عليه ليس بجزء في هذه

ص: 209

.....

______________________________

الحالة ليكون للامر اطلاق الدعوة على كل حال. فاتضح: ان اطلاق الامر يقتضي نفي الجزء عن كونه جزءا للمركب في حال العجز عنه.

و اخرى لا يكون للامر المتعلق بالمركب اطلاق فيما اذا لم يحرز كون المولى في مقام البيان و لو بالاصل بان كان المولى في مقام الاجمال، بان كان له غرض قد تعلق بان يجمل، او كان في مقام الاهمال من ناحية كون الجزء جزءا في حال العجز و القدرة، بل كان في مقام بيان ان متعلق الامر هذه الامور فقط، و لا يكون في مقام البيان من ناحية كونها دخيلة في المركب مطلقا او في خصوص حالة القدرة عليها.

الثاني: ان الأوامر المتعلقة بذوات الاجزاء و الشرائط، تارة تكون في مقام بيان دخالتها في المركب الذي هو متعلق للامر، و حال هذه الاوامر حال الامر المتعلق بالمركب، فان الاطلاق فيها ينفي الدخالة في حال العجز، لوضوح انها على الفرض لبيان الدخالة في حال تعلق الامر الذي هو بداعي جعل الداعي المختص بصورة القدرة دون صورة العجز.

و اخرى تكون اوامر الاجزاء أو الشرائط لبيان دخالتهما في الغرض المترتّب على المركب، فتكون للارشاد الى كونها دخيلة في الغرض، و الاطلاق فيها يقتضي كونها دخيلة مطلقا في حالتي العجز و القدرة، فالاطلاق فيها يقتضي كونها جزءا او شرطا مطلقا و لو في حالة العجز.

و قد ظهر مما ذكرنا: ان اطلاق ادلة الاجزاء و الشرائط- بناء على كونها في مقام بيان الدخالة في الغرض- يدل على خلاف ما دل عليه الاطلاق في الامر المتعلّق بالمركب. فقد عرفت ان اطلاق الامر المتعلق بالمركب يدلّ باطلاقه على نفي الدخالة في حال العجز، و دليل اطلاق الجزء أو الشرط الدخيل في الغرض يدل على ثبوت الجزئية و الشرطية في حال العجز.

و ثالثة: لا يكون لادلة الاجزاء و الشرائط اطلاق بان كانت في مقام بيان ان المركب يتالف منها فقط من دون ان تكون في مقام بيان كونها جزءا في حالة القدرة او

ص: 210

.....

______________________________

جزءا مطلقا و من دون ان تكون لبيان كونها دخيلة في الغرض و المصلحة المترتبة على المركب مطلقا في حالتي العجز و القدرة.

ثم لا يخفى انه اذا كان لدليل الاجزاء اطلاق يثبت دخالتها مطلقا حتى في حال العجز يكون مقدما على اطلاق دليل الامر المتعلق بالمركب، لان كون الامر في المركب لا يكون داعيا في حال العجز لا ينافي كون الجزء جزءا مطلقا، فيكون اطلاق دليل الجزء مفسرا لما يتألف منه هذا المركب و انه متألف من اجزاء دخيلة في ترتب الغرض سواء كانت مقدورة او غير مقدورة.

الثالث: انه اذا كان لدليل الامر بالمركب اطلاق و لم يكن لادلة الاجزاء و الشرائط اطلاق فالمرجع اطلاق دليل الامر بالمركب، و قد عرفت انه ينفي جزئية الجزء غير المقدور و يقتضي الاتيان بالباقي في حال العجز عن ما له دخالة فيه في حال القدرة، و اذا كان لدليل الاجزاء اطلاق يثبت الدخالة مطلقا ففي حالة العجز لازمه سقوط الامر بالمركب لانتفاء المركب بانتفاء ما له الدخالة فيه.

و اذا لم يكن هناك اطلاق اصلا لا لدليل الامر بالمركب و لا لادلة الاجزاء و الشرائط، و المفروض انه شككنا في كون دخالة الجزء أو الشرط هل هي مطلقة او في حالة القدرة بالخصوص؟ فلا بد و ان يكون المرجع هو الاصل في انه يقتضي اتيان الباقي من الاجزاء و الشرائط المقدورة او يقتضي سقوط الامر بالمركب في حال العجز عن بعض اجزائه او شرائطه. و حيث نحتمل كون الاجزاء او الشرائط دخيلة مطلقا حتى في حال العجز الذي لازمه سقوط الامر بالمركب مطلقا في حال العجز عن بعض اجزائه او شرائطه، فلازم ذلك هو الشك في الامر بباقي الاجزاء و الشرائط في حال العجز عن بعضها، و على هذا فهو مجرى للبراءة العقلية و هي قبح العقاب بلا بيان لفرض الشك في الامر مع عدم البيان.

و قد اشار الى سقوط الامر في ما اذا كان الجزء أو الشرط دخيلا مطلقا في حالتي العجز و القدرة بقوله: ( (فيسقط الامر)) بالمركب ( (بالعجز عنه)) أي بالعجز

ص: 211

.....

______________________________

عن الجزء أو الشرط ( (على الاول)) و هو فيما اذا كان الجزء او الشرط جزءا مطلقا و شرطا مطلقا و لو في حالة العجز عنهما. و اشار الى السبب في ذلك بقوله: ( (لعدم القدرة حينئذ)) أي حين العجز عن بعض ما له دخالة في المركب لا يقدر المكلف ( (على)) الاتيان ب ( (المامور به))، و حيث دخالة الجزء او الشرط مطلقة فالمركب المامور به ينتفي بانتفاء بعض ما له دخالة فيه. و اشار الى عدم سقوط الامر بالباقي فيما اذا كان الجزء أو الشرط دخيلا في حال القدرة لا مطلقا بقوله: ( (لا على الثاني)) و هو ان يكون الجزء أو الشرط دخيلا في خصوص حال التمكن منه لا مطلقا، فان لازمه ان لا يكون الجزء او الشرط غير المقدور عليها جزءا او شرطا من المركب في حال عدم القدرة عليها، و يكون الامر بالمركب متعلقا بالمقدور، و لذا قال: ( (فيبقى متعلقا بالباقي)) أي في حال العجز عن الجزء او الشرط يكون الامر المتعلق بالمركب متعلقا بالباقي من الاجزاء و الشرائط المقدورة. و قد اشار الى انه حيث لا اطلاق للامر المتعلق بالمركب و لا لدليل الاجزاء فالمرجع هي البراءة العقلية، و ان اطلاق ادلة الاجزاء يقتضي سقوط الامر بالمركب في حال العجز عن الجزء و الشرط، لانها تدل على كون الجزء و الشرط دخيلا مطلقا حتى في حال العجز، و ان اطلاق دليل الامر المتعلق بالمركب المأمور يقتضي نفي الجزئية أو الشرطية في حال العجز و تعلق الامر بالباقي من الاجزاء و الشرائط بقوله: ( (و لم يكن هناك ما يعيّن احد الامرين)) لا يخفى ان هذا معطوف على قوله في صدر الكلام و دار الامر، و التقدير انه ( (لو علم بجزئية شي ء او شرطيته في الجملة و دار الامر بين ان يكون جزءا او شرطا مطلقا و لو في حال العجز عنه و بين ان يكون جزءا او شرطا في خصوص حال التمكن منه و لم يكن هناك ما يعيّن احد الامرين)) و جواب هذه الشرطية هو قوله الآتي لاستقل العقل.

و لا يخفى ان الامر الاول هو السقوط في حال العجز ( (من)) اجل ( (اطلاق دليل اعتباره جزءا او شرطا)) مطلقا بواسطة اطلاق ادلة الاجزاء. و الامر الثاني هو

ص: 212

لا يقال: نعم و لكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكن منه (1).

______________________________

عدم سقوط الامر في حال العجز و تعلقه بالباقي من الاجزاء و الشرائط بسبب اطلاق دليل الامر المتعلق بالمركب، و اليه اشار بقوله: ( (او اطلاق دليل المأمور به)). ثم اشار الى ان سبب عدم الاطلاق هو اما الاجمال او الاهمال بقوله: ( (مع اجمال دليل اعتباره او اهماله)) ثم اشار الى ان المرجع حيث لا اطلاق للامر و لا لاوامر الاجزاء و الشرط هو البراءة العقلية عن الامر بالباقي في تلك الحال بقوله: ( (لاستقل العقل بالبراءة عن الباقي)) لانه حيث يحتمل الدخالة مطلقا و عدم الدخالة كذلك و لازمه الشك في الخطاب بالباقي في تلك الحالة و لا بيان له حيث لا بيان ( (فان العقاب)) حينئذ ( (على تركه)) أي على ترك امتثال الامر بالباقي من العقاب ( (بلا بيان و المؤاخذة عليه)) من المؤاخذة ( (بلا برهان)).

(1) حاصله: انه لما كان المشكوك هو كون الجزء او الشرط في حالة العجز جزءا و شرطا فالبراءة العقلية و ان جرت في الامر بالباقي، الّا ان البراءة الشرعية و هي فقرة (ما لا يعلمون) نقتضي نفيه في حال العجز، لان المفروض الشك في كون الجزء او الشرط هل هما جزء مطلقا و شرط مطلقا او في خصوص حال التمكن؟ و حيث لم يعلم الحال فالجاري فيه رفع ما لا يعلمون، فدليل الرفع يقتضي رفع جزئية الجزء و رفع شرطية الشرط في حال العجز، و لازم ذلك ثبوت الامر بالباقي، كما ان دليل الرفع في مقام الشك في الاقل و الاكثر يقتضي رفع الزائد و ثبوت الامر بالاقل.

و الحاصل: ان فقرة (ما لا يعلمون) تقتضي كون الجزء و الشرط جزءا و شرطا في حال التمكن لا مطلقا، و لازمه ثبوت الامر في تلك الحال بالباقي من الاجزاء و الشرائط. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (نعم)) ان البراءة العقلية و ان كانت تقتضي سقوط الامر بالباقي ( (و لكن قضية مثل حديث الرفع)) تقتضي ( (عدم الجزئية

ص: 213

فإنه يقال: إنه لا مجال هاهنا لمثله، بداهة أنه ورد في مقام الامتنان، فيختص بما يوجب نفي التكليف لا إثباته (1).

نعم ربما يقال: بأن قضية الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي في حال التعذر أيضا. و لكنه لا يكاد يصح إلا بناء على صحة القسم الثالث من استصحاب الكلي (2)، أو على المسامحة في تعيين الموضوع في

______________________________

استصحاب وجوب الباقي الفاقد للجزء المتعذر

و الشرطية الا في حال التمكن منه)) أي من الجزء او الشرط، و لازم ذلك ثبوت الامر بالباقي.

(1) حاصله: انه لا مجال لحديث الرفع هنا، لان حديث الرفع وارد مورد المنّة، و لازم كونه في مورد المنّة هو عدم ثبوت تكليف بواسطته، و ثبوت التكليف خلاف المنّة، و انما كان جاريا في الاقل و الاكثر لان ثبوت اصل التكليف في مقام الدوران بين الاقل و الاكثر كان بواسطة العلم الاجمالي، و بواسطة حديث الرفع يرتفع التكليف بالزائد و هو من المنّة و ليس ثبوت التكليف بالاقل بواسطة دليل الرفع. و كذلك جريان حديث الرفع في رفع الجزء المنسي، فان الاتيان بما عدا المنسي متحقق على كل حال، لفرض كون الناسي غير ملتفت الى نسيانه و يرى نفسه ذاكرا، و بعد التذكّر يجري حديث الرفع في رفع جزئية المنسي، و لازمه عدم الاعادة، فيكون في جريانه منّة، بخلاف المقام فان المفروض انه لا دليل على ثبوت الامر بالباقي في حال العجز، فثبوت التكليف به في حال العجز يكون بواسطة جريان حديث الرفع و هو خلاف الامتنان كما عرفت، و لذا قال (قدس سره): ( (لا مجال هاهنا لمثله، بداهة انه ورد في مقام الامتنان .. الى آخر الجملة)).

(2) لا يخفى ان المصنف يشير في عبارته الى وجهين من وجوه الاستصحاب، و سيأتي ان الوجه الأول لا يجري فيما اذا كان العجز عن الشرط عند المصنف، و الوجه الثاني لا يجري فيما كان العجز عن معظم الاجزاء، و لذلك قيد الاستصحاب ببعض الصور.

ص: 214

.....

______________________________

اما الوجهان اللذان اشار اليهما: فالاول: و قبل الشروع في بيان الاستصحاب لا بد من تقديم مقدمة، و هو ان الاستصحاب متقوم بامرين: اليقين السابق بالحدوث و الشك في ارتفاع ذلك الحادث الذي كان هو متعلق اليقين السابق. فالاستصحاب المدعى ان كان هو استصحاب الوجوب الغيري للباقي او الوجوب التبعي فهما غير مشكوكي البقاء، لوضوح ان الوجوب النفسي الذي منه يترشح الوجوب الغيري و يتبعه الوجوب التبعي لا شك في بقائهما بعد ارتفاع الوجوب النفسي المتعلق بالكلّ، و من الواضح ارتفاع الوجوب النفسي المتعلق بالكل بالعجز عن بعض اجزائه، و مع القطع بارتفاع هذا الوجوب النفسي فالوجوب الغيري و التبعي مقطوعا الارتفاع و غير مشكوكين حتى يجري الاستصحاب فيهما، فالاستصحاب فاقد للركن الثاني و هو الشك في الارتفاع للقطع بالارتفاع، و واجد للركن الأول و هو اليقين بالحدوث، لما عرفت من كون الوجوب الغيري و التبعي مقطوعي الحدوث بحدوث الوجوب النفسي المتعلق بالكلّ، و لكنهما مقطوعا الارتفاع بارتفاعه لا مشكوكا الارتفاع. و اذا كان المراد هو استصحاب الوجوب النفسي بالباقي من الاجزاء فهو غير متيقن الحدوث، فالركن الأول للاستصحاب مفقود، بل يمكن ان يقال: انه ان كان هذا الوجوب النفسي للباقي من الاجزاء هو الوجوب النفسي الذي كان قبل العجز فقد ارتفع لارتفاع الوجوب المتعلق بالكل فهو مقطوع الارتفاع، و ان كان هو الوجوب لها بعد ارتفاع الوجوب المتعلق بالكل فهو مشكوك الحدوث، لوضوح ان الوجوب النفسي المتعلق بالكلّ قد ارتفع قطعا بالعجز عن بعض الاجزاء و لا يقين بحدوث وجوب نفسي آخر متعلق بالباقي، و لذلك كانت دعوى الاستصحاب في المقام مما تحتاج الى تأويل.

فالتأويل الأول: هو ان يكون المراد من استصحاب وجوب الباقي هو استصحاب الوجوب الكلي، بان نقول- قبل عروض العجز عن بعض اجزاء المركب- كان لنا وجوبان: وجوب نفسي متعلق بالكل، و وجوب غيري متعلق

ص: 215

.....

______________________________

بالاجزاء، فالباقي قبل عروض العجز كان له وجوب غيري، و بعد عروض العجز يحتمل ان يكون واجبا بالوجوب النفسي لاحتمال كون ما عرض له العجز ليس جزءا مطلقا، بل هو جزء في حال التمكن، فالوجوب الكلي المعنون بعنوان خاص من كونه غيريا او نفسيا بالنسبة الى الباقي مقطوع الحدوث قبل عروض العجز و مشكوك الارتفاع بعد عروض العجز، لاحتمال بقائه في ضمن فرده و هو الوجوب النفسي المحتمل الحدوث للباقي بعد عروض العجز، فالوجوب الكلي للباقي بما هو وجوب كلي مقطوع الحدوث مشكوك الارتفاع، فاركان الاستصحاب في الباقي تامة فيستصحب الوجوب فيها بعد عروض العجز.

و الجواب عنه اولا: ان هذا الاستصحاب للكلي لا يتأتى فيما كان العجز عن الشرط، فان المشروط بشرط و ان انحل الى ذات المشروط و تقيّده بالشرط إلّا انهما جزءان تحليليان، و الواجب هو الشي ء الخاص، فليس لذات المشروط قبل عروض العجز وجوب غيري حتى يتأتى استصحاب الوجوب الكلي المردد بين الوجوب الغيري و النفسي في ذات المشروط بعد عروض العجز عن الشرط.

و ثانيا: ان هذا الاستصحاب انما يجري بناء على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من استصحاب الكلي، فان استصحاب الكلي كما سيأتي بيانه في مبحث الاستصحاب على اقسام ثلاثة:

- الأول: استصحاب الكلي الموجود في ضمن الفرد كما لو كان للانسان الموجود في ضمن زيد اثر فعند الشك في موت زيد- مثلا- يستصحب وجود الحصة من الانسان الكلي الموجود في ضمن زيد.

- الثاني: استصحاب الكلي المردّد بين فردين احدهما مقطوع الارتفاع و الثاني مقطوع البقاء، ككلي الحيوان المردّد بين البق و الفيل بعد مرور زمان يقطع بموت البق فيه، فانّا لو علمنا بوجود الحيوان و لم نعلم انه بق او فيل فان كان بقا فقد ارتفع

ص: 216

.....

______________________________

قطعا، و ان كان فيلا فهو باق قطعا، فيكون المستصحب كلي الحيوان من دون تعنونه بعنوان البقيّة او الفيليّة و هو مقطوع الحدوث مشكوك الارتفاع.

- الثالث: استصحاب الكلي المردّد بين فرد مقطوع الارتفاع و بين فرد مشكوك الحدوث و هذا على قسمين:

الأول: ان يكون الفرد المقطوع الارتفاع و الفرد المشكوك الحدوث هما فردان متباينان عند العرف، و استصحاب الكلي في هذا القسم غير صحيح للقطع بارتفاع الكلي الموجود في ضمن فرده المقطوع الارتفاع، و الشك في حدوثه في ضمن فرده الآخر، كما لو كان المحلّ متنجسا بالبول- مثلا- و غسلنا المحلّ مرتين و شككنا في تنجس المحل بعد ارتفاع نجاسة البول بنجاسة اخرى كالدم- مثلا- فان النجاسة البولية و النجاسة الدموية فردان من النجاسة متباينان عند العرف، و في هذا القسم لا يصح استصحاب كلي النجاسة المردّدة بين هذين الفردين.

الثاني: ان يكون الفردان عند العرف ليسا فردين متباينين، بل هما عند العرف شي ء واحد، كما في مراتب البياض المتفاوتة بالشدة و الضعف، فانه لو قطعنا بارتفاع المرتبة الشديدة من البياض و شككنا في بقاء البياض في ضمن المرتبة الضعيفة منه او ارتفاعه مطلقا فانه لا مانع من الاستصحاب الكلي فيه، و ان تردّد بين مقطوع الارتفاع و مشكوك الحدوث عند الدقة، لكنه عند العرف حيث كان الفرد اللاحق هو عين الفرد السابق فلذلك يصح استصحاب كلي البياض المردّد بين المرتبة الشديدة المقطوعة الارتفاع و المرتبة الضعيفة اللاحقة. و من هذا القسم الوجوب المردّد بين الغيري و النفسي، فان نفس الوجوب شي ء واحد عند العرف و ان اختلف في صنفيّة الغيري و النفسي دقة و عقلا، و لما كان كلي الوجوب في الباقي متيقن الحدوث مشكوك الارتفاع لاحتمال بقائه بالوجوب النفسي المتعلق بالباقي كان لاستصحابه مجال. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (نعم ربما يقال بان قضية الاستصحاب في بعض الصور)) و هي ما اذا كان العجز ليس عن معظم الاجزاء و لم يكن العجز عن

ص: 217

الاستصحاب، و كان ما تعذر مما يسامح به عرفا، بحيث يصدق مع تعذره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي، و ارتفاعه لو قيل بعدم وجوبه، و يأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام (1) كما أن وجوب الباقي في

______________________________

الشرط، و ذلك فيما كان العجز عن بعض اجزاء المركب لا عن معظمه و لا عن الشرط كما عرفت تقتضي ( (وجوب الباقي في حال التعذر)) عن الكلّ فيكون الباقي واجبا ( (ايضا)) في حال التعذر ( (و لكنه لا يكاد يصح)) هذا الاستصحاب ( (الّا بناء على صحة القسم)) الثاني من القسم ( (الثالث من استصحاب الكلي)) كما عرفت مفصّلا. و لا يخفى ايضا ان صحة هذا الاستصحاب مبني على ان تكون الاجزاء واجبة بالوجوب الغيري، اما اذا لم نقل بان للاجزاء وجوبا غيريا و ان كان فيها ملاك المقدمية فلا يتم هذا الاستصحاب.

(1) يشير بهذا الى الوجه الثاني لتأويل هذا الاستصحاب المدعى في المقام. و حاصله ان نقول: ان المستصحب هو الوجوب النفسي للباقي بدعوى ان المتعذر من الاجزاء فيما اذا كان قليلا بالنسبة الى الباقي من الاجزاء يعدّ بنظر العرف انه من حالات المتعلق للوجوب النفسي.

و بعبارة اخرى: انه اذا تعلّق الحكم بموضوع مركب من اجزاء كثيرة و كان المتعذّر قليلا منها فوجوب الباقي من الاجزاء ما عدا المتعذر و ان كان دقة و عقلا هو وجوب آخر غير الوجوب المتعلق بها و بالجزء المتعذر، الّا انه عند العرف ليس هو وجوبا آخر حتى يكون مشكوك الحدوث، بل هو عندهم نفس الوجوب النفسي الأول، حيث انهم لا يرون وجوب التالف من اجزاء كثيرة لو تعذر جزء واحد منها و بقى الوجوب متعلقا بالباقي انه وجوب آخر هو غير الوجوب الأول، بل هو عندهم عين الوجوب الأول كما في استصحاب كريّة الماء فيما اذا نقص منه جزء قليل فانه بنظر العرف كون الباقي متحدا مع الأول، و النقصان الجزئي و ان اوجب الشك

ص: 218

الجملة ربما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله: صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم، و قوله: الميسور لا يسقط بالمعسور، و قوله:

ما لا يدرك كله لا يترك كله و دلالة الاول مبنية على كون كلمة (من) تبعيضية، لا بيانية، و لا بمعنى الباء، ظهورها في التبعيض و إن كان مما لا يكاد يخفى، إلا أن كونه بحسب الاجزاء غير واضح، لاحتمال أن يكون بلحاظ الافراد، و لو سلم فلا محيص عن أنه- هاهنا- بهذا اللحاظ يراد، حيث ورد جوابا عن السؤال عن تكرار الحج بعد أمره به (1)، فقد روى

______________________________

الاخبار التي ادعي دلالتها على وجوب الباقي بعد التعذر

في بقاء الحكم الأول إلّا ان الموضوع للحكم الأول بنظر العرف هو الباقي و انه بالاستصحاب يثبت بقاء الحكم الأول.

و لا يخفى ان هذا الاستصحاب من الاستصحاب الشخصي و هو استصحاب الحكم النفسي الأول لا من استصحاب الكلي كما في الوجه السابق، و اليه اشار بقوله: ( (او على المسامحة)) أي ان قضية الاستصحاب لوجوب الباقي اما ان يكون لاستصحاب الكلي كما في الوجه السابق، او تكون لاجل المسامحة عند العرف ( (في تعيين)) ما هو ( (الموضوع في الاستصحاب)) فان نظر العرف حيث انه مبني على المسامحة، و لما كان الباقي في معظم الاجزاء ( (و كان ما تعذر)) من الاجزاء لا يضر العرف في بقاء الموضوع للحكم لانه ( (مما يسامح به عرفا بحيث يصدق مع تعذره)) أي بحيث يصدق مع تعذر هذا القليل ( (بقاء الوجوب)) الأول لموضوعه ( (لو قيل بوجوب الباقي و ارتفاعه)) أي و ارتفاع الوجوب الأول عن موضوعه ( (لو قيل بعدم وجوبه)) أي بعدم وجوب الباقي، ففي مثل هذه الصورة يصح الاستصحاب، و قد ظهر انه من الاستصحاب الشخصي دون الكلي.

(1) لما تعرّض لحكم الباقي بعد العجز عن بعض الاجزاء و تعذره من حيث الاطلاق في الامر في ادلة الاجزاء و من حيث اصل البراءة و الاستصحاب .. تعرض لحكم

ص: 219

.....

______________________________

الباقي من ناحية الدليل الخارجي، و هو الاخبار التي ادعى دلالتها على وجوب الباقي بعد التعذر، و قد اشار الى اخبار ثلاثة:

الأول: قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: (اذ امرتكم بشي ء فاتوا منه ما استطعتم)(1) و قبل الشروع في بيان كيفية الاستدلال به ينبغي ان لا يخفى ان قوله في الجملة اشارة الى ان الاخبار الثلاثة لا تدل على الاتيان بالباقي مطلقا، بل هذا الأول لا يدل على الاتيان بالمشروط عند العجز عن الشرط، لان دلالته على الاتيان بالباقي- كما سيأتي- متوقفة على ان يكون المراد من (من) في قوله: (فاتوا منه) هو التبعيض في المركب، و قد تقدم ان المشروط و شرطه ليسا اثنين حتى يكون المشروط بعضا من المركب، بل الواجب هو الشي ء الخاص المنحلّ عقلا الى ذات المشروط و تقيده بالشرط، و ليس المشروط- بما هو مشروط- كلّا له ابعاض حتى يكون مما يدل على الاتيان بالبعض منه ما دلّ على الاتيان ببعض المركب عند العجز عن كلّ المركب.

الثاني: و هو دليل الميسور انما يدل على فرض دلالته على الاتيان بما يصدق عليه ان الميسور للمركب، ففيما اذا كان المركب- مثلا- مركبا من عشرة اجزاء فوقع العجز عن تسعة منها لا يكون الواحد من الميسور للعشرة.

و اما الثالث و هو قوله عليه السّلام: (ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه)(2) فهو انما يدل على لزوم الاتيان بالباقي- بناء على دلالته على لزوم ذلك في خصوص الكل و اجزائه- لظهور قوله: (كلّه) في ذلك، فلا يدلّ على الاتيان بالمشروط عند تعذّر شرطه، لانه ليس المشروط- بما هو مشروط- كلّا مركبا من ذات المشروط و تقيّده، بل هو كما عرفت ان الواجب فيه امر واحد و هو الخاص، و ان انحلّ عقلا و دقة الى ذات المشروط و تقيّده بالشرط إلّا ان الواجب خارجا واحد و هو الخاص.

ص: 220


1- 16. ( 1) عوالي اللآلي: ج 4، ص 58.
2- 17. ( 2) عوالي اللآلي: ج 4، ص 58.

.....

______________________________

فاتضح ان قوله: ( (في الجملة)) لبيان ان الاخبار الثلاثة لو تمت دلالتها لكانت دالة على الاتيان بالباقي عند العجز في الجملة لا مطلقا ..

الأول: من الاخبار قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: (اذا امرتكم بشي ء فاتوا منه ما استطعتم) و كيفية الاستدلال به ان قوله اذا امرتكم يدل على الامر الوجوبي اما لان مادة الامر تدل على الوجوب، او في خصوص المقام بقرينة قوله ذلك بعد ان خطب صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

ان اللّه كتب عليكم الحج، ثم بعد ان سأله عكاشة او سراقة عن انه مرة او متكرر في كل عام؟ قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم اذا امرتكم .. الخ، فقرينة المقام تدلّ على ان المراد من الامر هو الامر الوجوبي، ثم ان المراد من الشي ء هو الواحد اما واحدا جنسيا او نوعيا او صنفيا، و يكون المراد منه هو المركب، و لا بد و ان يكون المراد منه هو المركب بقرينة قوله منه، لان (من) اما ان تكون بمعنى الباء و هو بعيد لندرة استعمال (من) بمعنى الباء، فانه لم يرد في القرآن الكريم استعمالها بمعنى الباء، نعم في قوله تعالى:

يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ 18] ادعى يونس انها بمعنى الباء: أي ينظرون اليك بطرف خفي، و انكر عليه القوم غيره، و قالوا: انها في الآية بمعنى الابتداء، و المعنى انهم ينظرون اليك مبتدءين من الخفاء في مقام النظر، و اذا لم تكن (من) بمعنى الباء فلا بد اما ان تكون بيانيّة كما وردت في قوله تعالى: أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ 19] فان المراد أن الاساور هي الذهب لا ان الاساور من بعض الذهب. او تكون تبعيضيّة كما في قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ 20] و في قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ(1).

ص: 221


1- 21. ( 4) الاحزاب: الآية 23.

.....

______________________________

و حيث كان حملها على البيانية بعيدا ايضا، لان مورد السؤال و الجواب من حيث توهّم لزوم التكرار و الجواب بقوله فاتوا منه ما استطعتم لعدم التكرار مما يأبى حملها على البيانية، مضافا الى ان البيان ينبغي ان يكون بالاوضح و الضمير مبهم لا يصح ان يكون بيانا، فيتعين ان تكون (من) للتبعيض، و اذا كانت (من) للتبعيض تعيّن ان يكون المراد من الشي ء هو المركب دون العام و الكلي، لان مصداق العام و مصداق الكلي ليس بعضا منهما، بل مصداقهما هو عينهما، فان فرد العام هو العام لا بعضه و مصداق الكلي هو الكلي لا بعضه، لوضوح انه اذا كان المأمور به العام على نحو البدل فحيث انه يحصل امتثاله بمحض وجود الطبيعة فلا يتصور فيه العجز عن فرد و القدرة على فرد آخر، بل العجز عنه هو العجز عن الطبيعة باسرها، و لا يتأتى فيه العجز عن بعض فرد المطلوب و القدرة على الفرد الآخر، هذا مضافا الى ان العام البدلي كلّ فرد من افراده الخاصة و ان كان هو العام مع الخصوصية، الّا ان المطلوب هو العام، و الامتثال بالفرد انما هو لاجل ما في ضمنه من العام، و اما خصوصيات الافراد فهي غير مطلوبة قطعا.

و اما العام الاستغراقي فانه حيث ينحلّ الى مطلوبات متعددة فكل فرد هو مطلوب غير المطلوب الآخر، فلا يكون المأتى به بعضا من مطلوب واحد.

مضافا الى ان المراد بالجواب في مورد الرواية ليس العام الاستغراقي، فينحصر التبعيض في كون المراد من الشي ء هو المركب، و حينئذ يتم المطلوب، لان المراد من الرواية على هذا هو انه اذا امرتكم بمركب فاتوا منه ما تستطيعونه.

ثم لا يخفى ان (ما) و ان كانت تأتي بمعنى الذي، و موصوفة، و مصدرية، الّا انه اذا تعيّن ارادة التبعيض من (منه) و ان المطلوب هو المركب ينتفي احتمال كونها مصدرية، لان المناسب للتبعيض هو اما كونها بمعنى الذي: أي فاتوا منه الذي تستطيعونه، او موصوفة: أي فاتوا منه ما هو المستطاع.

ص: 222

.....

______________________________

و الجواب عنه اولا: ان كلمة (من) و ان كانت للتبعيض إلّا انها ليست موضوعة للتبعيض بعنوانه: أي ليست موضوعة لمفهوم التبعيض بحيث يكون لفظ التبعيض و لفظ (من) من المترادفات، بل هي موضوعة لمجرد اقتطاع مدخولها عن متعلقه، و هذا المعنى يلائم كون المتعلق كليا و من لاقتطاع بعض افراده عنه: أي ان (من) تدل على اقتطاع مدخولها الذي هو الفرد غير المستطاع من الكلي الشامل للمستطاع و غير المستطاع، فيكون المراد من الرواية انه اذا امرتكم بشي ء الذي هو الكلي الشامل للمستطاع و غير المستطاع فاتوا منه الفرد المستطاع.

و الحاصل: ان لفظ (من) موضوعة للاقتطاع من المتعلق الشامل لاقتطاع الاجزاء و الافراد، و هي و ان كان يصح ان يراد منها التبعيض في المركب، و يصح ان يراد منها الاقتطاع من الكلي، و لكن بملاحظة المورد يكون المراد منها الاقتطاع من حيث الافراد لا الاجزاء.

و ثانيا: لو سلّمنا انها موضوعة لخصوص التبعيض في الاجزاء، إلّا ان المراد منها هنا هو التبعيض في الافراد، بملاحظة مورد الرواية و ذلك لما خطب صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قال كتب عليكم الحج سأله السائل ان الحج قد كتب علينا في كل عام، فأجابه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ان اعرض عن جوابه ثلاث مرات و السائل يكرر السؤال، فأنّبه- اولا- رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بما حاصله: انه لو قلت في كل عام لكان يجب عليكم في كل عام و انتم لا تستطيعون ذلك، و المراد من عدم استطاعتهم انهم يصعب عليهم الاتيان بالحج في كل عام، فيلزمه عادة ان لا يمتثلوا، و اذا لم يمتثلوا للحج يكفرون .. الى آخر ما اشتملت عليه الرواية من التأنيب، ثم قال له صلى اللّه عليه و آله و سلّم: اذا امرتكم بشي ء فاتوا منه ما استطعتم، و من الواضح ان مورد الرواية- سؤالا و جوابا- هو الكلي ذو الافراد، لان السائل قد سأل عن لزوم تكرير الحج و عدمه، و جواب النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم انه اذا امرتكم بشي ء بذلك الكلي فاتوا منه: أي فاتوا من افراده ما استطعتم.

ص: 223

.....

______________________________

و قد اشار المصنف (قدس سره) الى ان الاستدلال بهذه الرواية متوقف على ان يكون المراد من (من) التبعيض، فانها لو كانت بمعنى الباء فلا دلالة لها لما عرفت من ان المتحصّل منها حينئذ انه اذا امرتكم بشي ء فاتوا به ما استطعتم، فانها تكون مساوقة للقدرة على المركب كلّه: أي يكون المراد منها اذا كانت بمعنى الباء انه ان استطعتم اتيانه فاتوا به، و ان لم تستطيعوا اتيانه فلا يجب عليكم الاتيان، و حيث ان المفروض العجز عن بعض اجزاء المركب و المركب ينتفي بانتفاء بعضه، فتكون دالة على عدم وجوب الاتيان بالمركب الذي يعجز عن بعض اجزائه، فتكون على خلاف المطلوب ادلّ. و لو كانت بيانيّة لكان المراد منها- ايضا- انه اذا امرتكم بشي ء فأتوه ما استطعتم و لا وجه لهذين المضمونين في الدلالة على التبعيض في الاجزاء، فان المتحصّل منه كالمتحصّل منها بمعنى الباء، فاذا كانت (من) بمعنى الباء او بيانيّة فلا دلالة لها على التبعيض في الاجزاء ان لم تكن على خلافه ادل بقوله: ( (و دلالة الأول)) أي دلالة قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم اذا امرتكم .. الخ على الاتيان بالباقي عند العجز ( (مبنية على كون كلمة من تبعيضية لا بيانية و لا بمعنى الباء)) لما عرفت من عدم وجه لدلالتها على ذلك حيث تكون (من) بمعنى الباء او بيانيه. و قد اشار الى الجواب الأول بقوله:

( (و ظهورها)) أي و ظهور (من) ( (في التبعيض و ان كان مما لا يكاد يخفى)) لما عرفت من ندرة ورودها بمعنى الباء، بل انكره غير يونس، و لا وجه لكونها بيانية لان مدخولها الضمير و هو مبهم، و لا وجه لان يكون المبهم بيانا إلّا ان كونها للتبعيض لا يقتضي دلالتها على المطلوب، لان التبعيض كما يكون في الاجزاء يكون في الافراد ايضا، و لذا قال (قدس سره): ( (إلّا ان كونه)) أي التبعيض ( (بحسب الاجزاء غير واضح)) لعدم اختصاصها بالتبعيض في الاجزاء، بل هناك مجال ( (لاحتمال ان يكون)) التبعيض ( (بلحاظ الافراد)). و اشار الى الجواب الثاني بقوله: ( (و لو سلّم)) أي لو سلّمنا ان (من) موضوعة للتبعيض في الاجزاء ( (فلا محيص عن انه)) يراد بها ( (هاهنا)) التبعيض ( (بهذا اللحاظ يراد)) أي بلحاظ الافراد لا الاجزاء

ص: 224

انه خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ان اللّه كتب عليكم الحج فقام عكاشة و يروى سراقة بن مالك فقال: في كل عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه حتى أعاد مرتين او ثلاثا، فقال: ويحك و ما يؤمنك ان اقول نعم، و اللّه لو قلت نعم لوجب و لو وجب ما استطعتم و لو تركتم لكفرتم، و انما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم الى انبيائهم، فاذا امرتكم بشي ء

______________________________

للقرينة القائمة في المقام على ارادة التبعيض من حيث الافراد، و ذلك ( (حيث ورد جوابا عن السؤال عن تكرار الحج .. الى آخر كلامه)) و من الواضح دلالة مساق الرواية على التبعيض في الافراد دون الاجزاء.

و ما تقدم في استدلال المدعي بانه لا معنى للتبعيض في الافراد لان كل فرد مطلوب غير المطلوب الآخر فلا تبعيض .. فالجواب عنه: ان المراد من الوحدة التي بلحاظها التبعيض هو الوحدة في مقام الطلب، و لا اشكال ان الطلب المتعلق بالكلي متعلق بواحد في مقام الطلب و ان انحلّ عقلا الى اوامر متعددة، و بلحاظ هذه الوحدة في مقام الطلب يصح الاقتطاع و التبعيض. هذان الجوابان بناء على كون (من) في المقام للتبعيض. إلّا انه يمكن ان يقال ان قرينة المقام تقتضي كون (من) بيانية و كون مدخولها الضمير و هو مبهم لا يصلح للبيان .. مدفوع بانه انما لا يصلح للبيانية حيث يكون المبيّن امرا مبهما، و اما اذا كان امرا معلوما كمتعلق الامر و ان الامر باتيان المستطاع دون غيره من باب المنّة، اما بان يكون المراد من غير المستطاع ما فيه شدة و حرج، او يكون من باب المنّة و عدم وجوب رفع عدم القدرة و الاستطاعة، او يكون ارشادا الى حكم العقل. و على كل فقرينة المقام تقتضي عدم التكرار، و اذا كان المراد هو التبعيض فاللازم التكرار في الفرد المستطاع و هو خلاف الظاهر من مساق كلامه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، فيتعيّن ان تكون (من) بيانية و يكون المتحصّل من الرواية: انه اذا امرتكم بشي ء فاتوا ذلك الشي ء حيث تستطيعون، و حيث لا تستطيعون فلا يجب عليكم الاتيان. و اللّه العالم.

ص: 225

فاتوا منه ما استطعتم و اذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه.

و من ذلك ظهر الاشكال في دلالة الثاني أيضا، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الاجزاء بمعسورها، لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها.

هذا مضافا إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما، لعدم اختصاصه بالواجب، و لا مجال معه لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم (1)، إلا أن يكون المراد عدم سقوطه بما له من الحكم وجوبا كان

______________________________

(1) الثاني هو الخبر المروي عن علي امير المؤمنين عليه السّلام و هو قوله عليه السّلام: (الميسور لا يسقط بالمعسور)(1) و توضيحه: ان دلالته على لزوم الاتيان بالباقي من اجزاء المركب بعد العجز عن بعض اجزائه الأخر متوقفة على امرين: الأول: ان يكون المراد من الميسور هو الميسور من اجزاء المركب لا خصوص الميسور من افراد العام:

بمعنى ان يكون الميسور اما شاملا لكلا الامرين فيكون دالا على وجوب الاتيان بالباقي من اجزاء المركب و بالباقي من افراد العام، او يكون ظاهرا في خصوص الميسور من اجزاء المركب. اما لو كان ظاهرا في خصوص الميسور من افراد العام او يكون مجملا لا ظهور له في خصوص ميسور اجزاء المركب و لا في ما يعمها لما صحّ الاستدلال به على المطلوب في المقام من عدم سقوط الحكم في الباقي من اجزاء المركب الواجب عند العجز عن بعض اجزائه. و من هذا يتبيّن المراد من قوله (قدس سره) و من ذلك ظهر الاشكال: أي انه من الاشكال على الرواية السابقة في انها انما تدل على المطلوب حيث تكون (من) ظاهرة في التبعيض من الاجزاء او في التبعيض الشامل لها و للافراد من العام، اما لو كانت مختصّة بخصوص التبعيض في

ص: 226


1- 22. ( 1) عوالي اللآلي: ج 4، ص 58.

.....

______________________________

افراد العام فلا تدل على ما هو المطلوب في المقام، و كذا لو كانت بمعنى الباء او بيانية ظهر الاشكال في هذه الرواية في ان دلالتها منوطة بظهور الميسور اما في خصوص الميسور من الاجزاء او فيما يعمها و الميسور من الافراد.

و الظاهر من المصنف دعوى الاجمال في ظهور هذه الرواية و انها لا ظهور لها في الميسور من الاجزاء للمركب و لو بنحو الشمول لها و للميسور من الافراد للعام، لاحتمال ان يكون المراد بها خصوص الميسور من افراد العام، لان قوله: ( (لاحتمال ارادة عدم سقوط الميسور من افراد العام بالمعسور منها)) معناه انه يحتمل ان يراد بالرواية خصوص عدم سقوط افراد العام الميسورة بالمعسور منها، لوضوح أن ظهورها في الشمول لها و لا جزاء المركب لا يمنع من دلالتها على المطلوب في المقام، و انما المانع اجمالها و عدم ظهورها لا في خصوص ميسور اجزاء المركب و لا فيما يعمها و ميسور افراد العام.

الامر الثاني: دلالة الرواية على وجوب الاتيان بالباقي من الاجزاء عند تعذّر البعض، و دلالته على اللزوم باحد نحوين: الأول: ان اسناد عدم السقوط الى الباقي من الاجزاء انما يصح باعتبار ما له من الحكم، لوضوح انه لا معنى لسقوط نفس الباقي من الاجزاء، فاسناد عدم السقوط الى الباقي اسناد الى غير ما هو له باعتبار كون الباقي باقيا على عهدة المكلف باعتبار بقاء حكمه من الوجوب على حاله بعد التعذّر، فيكون المتحصّل من قوله الميسور لا يسقط هو الاخبار عن عدم سقوطه و بقائه على العهدة، و لازم ذلك بقاء حكمه الواجب، لان المناسب للكون على العهدة هو الحكم الوجوبي دون غيره من الاحكام.

لا يقال: ان الحكم الوجوبي المتعلق بالمجموع لا اشكال في سقوطه بتعذر بعض الاجزاء، و على فرض كون الباقي واجبا بعد التعذّر فلا بد ان يكون هذا الوجوب للباقي وجوبا آخر غير الوجوب الأول المتعلق بالمجموع من الباقي و الاجزاء المتعذرة فلا يكون الباقي باقيا على العهدة التي كانت قبل التعذر.

ص: 227

أو ندبا، بسبب سقوطه عن المعسور، بأن يكون قضية الميسور كناية

______________________________

فانا نقول: هذا مبني على المسامحة فانه لما كان الباقي واجبا بعد التعذّر فهو كأنه لم يسقط حكمه الوجوبي الأول.

النحو الثاني: ان تكون الجملة جملة خبرية بداعي البعث الوجوبي، كقوله:

يعيد و يغتسل ..، و قد تقدم في مباحث الالفاظ ان دلالة الجملة الخبرية المسوقة بداعي البعث على الوجوب اقوى من دلالة صيغة افعل على الوجوب. و بعد تمامية هذين الامرين من دلالة الميسور على الميسور من الاجزاء، و دلالة لا يسقط على الوجوب تتم دلالة الرواية على وجوب الاتيان بالباقي عند التعذر. و قد عرفت اشكال المصنف على دلالة الميسور من الاجزاء بعدم الظهور و الاجمال من هذه الناحية.

و اما على دلالتها على الوجوب لو سلّمنا دلالتها على الميسور من الاجزاء فحاصله انه لا اشكال في شمول الرواية للمندوب المركب المتعذر بعض اجزائه و شمولها للمندوب يستلزم ان يكون المراد منها هو مطلق الرجحان دون الوجوب، لوضوح عدم معقولية وجوب الاتيان بالباقي من المركب المندوب المتعذر بعض اجزائه.

و الحاصل: ان هنا ظهورين: ظهور في الوجوب، و ظهور في الشمول للمندوب، و ظهورها في الشمول اقوى من ظهورها في الوجوب، لان سوقها آب عن تخصيصها بخصوص المركب الوجوبي، لانها في مقام بيان أن المعسور من اجزاء المركب لا يقتضي سقوط الميسور من اجزائه. و الى هذا اشار بقوله: ( (هذا مضافا الى عدم دلالته)) أي مضافا الى المناقشة الاولى من اجمال الميسور ان لا دلالة للخبر ( (على)) الوجوب و ( (عدم السقوط لزوما ل)) ظهور الخبر في ( (عدم اختصاصه بالواجب)) المركب المتعذر بعض اجزائه بل هو شامل للمركب المندوب المتعذر بعض اجزائه ( (و لا مجال معه)) أي لا مجال مع شمول الخبر للمندوب ( (لتوهم دلالته على انه بنحو اللزوم)) و قد عرفت ان المطلوب اثبات وجوب الاتيان بالباقي من اجزاء المركب الواجب بعد تعذر بعض اجزائه.

ص: 228

عن عدم سقوطه بحكمه، حيث إن الظاهر من مثله هو ذلك، كما أن الظاهر من مثل (لا ضرر و لا ضرار) هو نفي ما له من تكليف أو وضع، لا أنها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه و بقائه على عهدة المكلف كي لا يكون له دلالة على جريان القاعدة في المستحبات على وجه، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر (1)،

______________________________

(1) حاصل هذا الاستدراك هو الاشكال على جوابه الثاني الذي عرفت انه منع دلالة الخبر على لزوم الاتيان بالباقي، و انه انما يدل على رجحان الاتيان بالباقي الشامل للباقي المندوب. و توضيحه: ان عدم السقوط منسوب الى الباقي بما هو له و لا مجاز في المقام، فان المراد من بقاء الباقي بقاؤه على ما هو عليه من الموضوعية الثابتة له في مقام التشريع و جعله موضوعا للحكم، فالمراد من عدم سقوطه بقاؤه على موضوعيته للحكم الذي له، فان كان حكمه الوجوب فهو باق له و ان كان هو الندب فهو باق له.

و الحاصل: ان الظاهر منه ان الميسور لا يسقط عما له من موضوعيته للحكم الذي له بعد تعذر المعسور، فتكون هذه القضية شاملة للواجب و المندوب، و دالة على وجوب الباقي في المركب الواجب، و على استحباب الباقي في المركب المندوب، لان الظاهر من هذه القضية هو بقاء هذا الموضوع على موضوعيته بما له من الحكم، كما ان الظاهر من لا ضرر رفع الموضوع بما له من الحكم سواء كان وضعيا او تكليفيا، و ليس الظاهر من هذه القضية عدم سقوط الباقي و بقاءه على العهدة حتى يكون المتحصل منها هو الوجوب لمناسبة بقائه على العهدة للوجوب، و ليس الظاهر منها هو مطلق الطلب الرجحاني حتى لا يكون دالا على وجوب الباقي في المركب الواجب. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (إلّا ان يكون المراد عدم سقوطه)) أي الباقي عن موضوعيته ( (بما له من الحكم وجوبا كان او ندبا بسبب سقوطه)) أي بسبب سقوط الحكم ( (عن المعسور)) لا يسقط الحكم عن الميسور و هو باق على

ص: 229

.....

______________________________

موضوعيته لحكمه الذي هو له ( (بان يكون قضية الميسور)) قضية خبرية ( (كناية عن عدم سقوطه)) عما هو فيه و هو باق على حاله ( (بحكمه)) الذي كان له ( (حيث ان الظاهر من مثله ذلك)) لوضوح ان مساق هذه القضية لبيان رفع توهم ان تعذر بعض اجزاء المركب يوجب ارتفاع الباقي عما له من الحكم، بل لا يوجب تعذر بعض الاجزاء ارتفاع الباقي عما هو فيه، بل هو باق على حاله و موضوعيته لحكمه، و هذا المساق يشمل الواجب و المندوب، و القضية باقية على خبريتها و لازمها بقاء الحكم ببقاء موضوعه.

و الحاصل: ان مساق هذه القضية بقاء الحكم ببقاء موضوعه، كما ( (ان الظاهر من مثل لا ضرر)) عكس ذلك و ( (هو نفي)) الحكم بنفي موضوعه و هو شامل ل ( (ما له من)) حكم مطلقا من ( (تكليف او وضع)) ثم اشار الى انه ليس الظاهر منها هو الحكم الوجوبي حتى يختص بالباقي من المركب الواجب دون المندوب، بدعوى ان عدم السقوط كناية عن بقاء العهدة المناسب للوجوب بقوله: ( (لا انها عبارة عن عدم سقوطه)) أي الباقي ( (بنفسه)) باسناد عدم السقوط اليه، و حيث لا معنى لسقوط ذات الباقي بنفسه ( (و)) و عليه فلا بد من ان يكون كناية عن ( (بقائه على عهدة المكلف كي لا يكون)) على هذا ( (له دلالة على جريان القاعدة في المستحبات على وجه)) و هو كونه كناية عن العهدة، لما عرفت من ان العهدة لا تناسب المستحب اذ لا عهدة للمستحب، ثم اشار ايضا الى انه ليس الظاهر منها هو الرجحان المطلق و ان الباقي راجح الاتيان فقط، فلا يكون نافعا في ما هو المهم في المقام من اثبات لزوم الاتيان بالباقي بعد التعذر بقوله: ( (او لا يكون له دلالة على الوجوب الميسور في الواجبات على آخر)) مما ذكره و هو ما ذكر اولا بقوله: ( (مضافا ... الخ)) موردا به على من استدل بهذا الخبر على لزوم الاتيان بالباقي بعد التعذر.

ص: 230

فافهم (1).

______________________________

(1) يمكن ان يكون اشارة الى انه بعد ان تمت دلالة (الميسور لا يسقط بالمعسور) على لزوم الاتيان بالباقي في المركب الواجب عند تعذر بعضه، فالمناقشة الاولى من احتمال الاجمال فيها من ناحية شمولها للمركب لا وجه لها، لدعوى ظهورها في الاطلاق الشامل للمركب، لان المفرد المحلى باللام له ظهور في الشمول و الميسور مفرد محلى باللام فله ظهور يشمل كل ميسور سواء كان ميسورا للمركب او للعام.

هذا اذا لم نقل باختصاصها بالمركب بدعوى ان العام اما بدلي او استغراقي، و لا وجه للعام البدلي لان العجز فيه لا يكون إلّا بالعجز عن الطبيعة بجميع افرادها، و اما العام الاستغراقي فلوضوح انه لا مجال لان يتوهم احد ان العجز عن بعض افراده موجب لسقوط الافراد الأخر المتيسرة بعد ان كان ينحل الى مطلوبات متعددة بمقدار ما له من الافراد، فيتعين ان التوهم انما يكون له مجال معقول في خصوص المركب المتعذر بعض اجزائه.

لا يقال: انه اذا كان لا مجال لتوهم كون العجز عن بعض افراد العام الاستغراقي موجبا لسقوط الافراد الأخر المتيسرة، فكذلك ايضا لا مجال للتبعيض في افراد العام الاستغراقي لانحلاله الى اوامر متعددة فليس هناك شي ء واحد يصح التبعيض فيه.

فانه يقال: فرق بين الدلالة على التبعيض كما في النبوي المتقدم و بين هذا الخبر، و وجه الفرق ان هذا الخبر انما يدل على التبعيض باعتبار كون الباقي ميسورا لذلك المعسور، و العام الاستغراقي المنحل الى اوامر لا يتوهم فيه ان الافراد غير المتعذرة فيه هي ميسور الافراد المتعذرة، بخلاف التبعيض المستفاد من لفظ (من) فانه باعتبار الوحدة في مقام الطلب يصح التبعيض فيه و ان كان عمومه استغراقيا، و لا سيما حيث يكون الاستغراق فيه بتكرير نفس الفعل ... فاتضح الفرق بينهما و ان التبعيض في النبوي له مجال، بخلاف التبعيض في هذا الخبر.

ص: 231

و اما الثالث: فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي لا الافرادي، لا دلالة له إلا على رجحان الاتيان بباقي الفعل المأمور به- واجبا كان أو مستحبا- عند تعذر بعض أجزائه، لظهور الموصول فيما يعمهما، و ليس ظهور (لا يترك) في الوجوب- لو سلم- موجبا لتخصيصه بالواجب، لو لم يكن ظهوره في الاعم قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية من النفي، و كيف كان فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا، و لو قيل بظهوره فيه في غير المقام (1).

______________________________

فتحصل من جميع ما ذكرنا: انه لا مانع من دلالة هذا الخبر على لزوم الاتيان بالباقي من المركب، و ضعف سنده منجبر بعمل المشهور به في استنادهم اليه و استدلالهم به.

(1) هذا الخبر الثالث مروي ايضا عن امير المؤمنين عليه السّلام و هو قوله عليه السّلام: (ما لا يدرك كله لا يترك كله)(1) و دلالته على وجوب الاتيان بالباقي من المركب الواجب بعد تعذر بعض اجزائه تتوقف على ان يكون المراد من (كل) في قوله ما لا يدرك كله لا يترك كله هو الكل المجموعي و لو بنحو الشمول له و للكل الافرادي، لوضوح انه لو كان المراد منه هو خصوص الكل الافرادي لما صح ان يكون دليلا للاتيان بالباقي من الكل المجموعي، و تتوقف ايضا على ان يكون قوله (لا يترك) دالا على الوجوب، اذ لو دل على الرجحان لما نقع في المقام .. و اذا تم الامران بان كان (كل) كلا مجموعيا، و كان (لا يترك) دالا على الوجوب يتم الاستدلال بهذا الخبر على وجوب الاتيان بالباقي من المركب الواجب عند التعذر، لان المتحصل من الخبر هو ان الكل المجموعي حيث لا يدرك مجموعه لتعذر بعض اجزائه لا يجوز ترك ما يدرك منه و هو الباقي من اجزائه.

ص: 232


1- 23. ( 1) عوالي اللآلي: ج 4، ص 58.

.....

______________________________

و يظهر من المصنف المناقشة في كلا الامرين فقد اشار الى عدم ظهور لفظة (كل) في الكل المجموعي بقوله: ( (بعد تسليم ظهور كون الكل في)) الخبر هو الكل ( (المجموعي لا الافرادي)) و من الواضح ان لفظة كل كما تصدق على الكل المجموعي تصدق على الكل الافرادي ايضا، فلا مانع من دعوى الاطلاق فيها و شمولها للكل المجموعي اذا لم نقل بظهورها في المجموعي، لان هذا الخبر مثل ما تقدمه من الخبرين انما هو لرفع احتمال ارتفاع الحكم عما يدرك بواسطة ما لا يدرك، و انما يصح هذا الاحتمال حيث يكون الكل مجموعيا، فانه اذا كان افراديا فلا وجه لهذا الاحتمال بعد ان كان لكل فرد من الافراد حكم يخصه غير الحكم في الفرد الآخر، فلا ينبغي ان يحتمل احد سقوط حكم فرد بتعذر فرد آخر.

اما اذا كان الكل مجموعيا فلهذا الاحتمال مجال واضح، لبداهة ان مجموع الافراد اذا كان لها طلب واحد فعند تعذر بعضها يحتمل كل احد سقوط الطلب المتعلق بالمجموع عن الباقي فهذا التسليم مما لا بد منه.

و اما المناقشة في الامر الثاني فحاصلها: ان قوله لا يترك لو لا وجود ما يعارضها لكانت دالة على عدم جواز ترك الباقي الراجع الى وجوب الاتيان به، إلّا ان (ما) الموصولة في قوله ما لا يدرك لها ظهور في شمولها للباقي من المندوب ايضا، و هذا الظهور ان لم يكن اقوى من ظهور لا يترك في الوجوب، فيكون قرينة على ان المراد منه الطلب الراجح دون الطلب الواجب، فلا اقل من كونه مساويا له، و على فرض التساوي لا يكون لا يترك ظاهرا في اللزوم بل يكون مجملا.

نعم لو كان ظهور لا يترك في اللزوم اقوى من ظهور (ما) الموصولة في الشمول للمندوب لوجب رفع اليه عن ظهورها في الشمول للمندوب و تخصيصها بخصوص الواجب، و لكن هذه الدعوى غير صحيحة لان لا يترك حكم موضوعه ما لا يدرك، و لا وجه لترجيح ظهور حكم الموضوع على ظهور الموضوع. هذا اولا.

ص: 233

.....

______________________________

و ثانيا: ان هذا الخبر لبيان رفع احتمال سقوط الباقي فسوقه لبيان عدم سقوطه، و من الواضح انه كما يكون المركب الواجب له باق، كذلك للمركب المندوب باق ايضا، و الاحتمال فيهما على حد سواء، فعدم السقوط فيهما على حد سواء.

و لا يتأتى هنا ما سبق في قضية الميسور لا يسقط بالمعسور، فان لا يسقط هناك قضية خبرية تدل على عدم سقوط الباقي و بقائه على موضوعيته فيلحقه حكمه وجوبيا كان او ندبيا، اما لا يترك فهي و ان كانت قضية خبرية ايضا إلّا انها بداعي البعث و الطلب، فلا بد و ان يكون المراد منها اما الطلب الوجوبي او مطلق الطلب، و حيث انه لا مجال لدلالته على الطلب الوجوبي لشموله للمندوب فيتعين ان يراد به مطلق الطلب و هو مساوق للرجحان. و قد اشار الى هذا المناقشة الثانية بقوله: ( (لا دلالة له)) أي لا دلالة للخبر في قوله لا يترك ( (إلّا على رجحان الاتيان بباقي الفعل المأمور به واجبا كان او مستحبا عند تعذر بعض اجزائه ل)) اجل ( (ظهور الموصول)) فيما لا يدرك ( (فيما يعمهما)) معا ( (و ليس ظهور لا يترك في الوجوب لو سلم)) ظهور الجملة الخبرية في الوجوب ( (موجبا لتخصيصه بالواجب)) أي ظهورها في الوجوب لا يكون موجبا لتخصيص الموصول بالواجب لانه ليس باقوى من ظهور الموصول في الشمول، و حيث لا يكون ظهور لا يترك في الوجوب اقوى من ظهور الموصول في الشمول فيتعارضان و يتساقطان و يعود الحال مجملا هذا ( (لو لم يكن)) الترجيح لظهور الموصول على ظهور لا يترك لما عرفت فيكون ( (ظهوره)) أي يكون ظهور الموصول ( (في الاعم)) الشامل للمندوب ( (قرينة على ارادة خصوص الكراهة)) من قوله لا يترك، فلا يكون المراد من قوله لا يترك لا يجوز ترك الباقي بعد التعذر، بل يكون المراد منه يكره ترك الباقي بعد التعذر ( (او)) يكون المراد ( (مطلق المرجوحية من النفي)) التي هي اعم من الكراهة الاصطلاحية، لوضوح ان العبادة تكون مرجوحة بالنسبة الى غيرها و لا تكون مكروهة بالكراهة الاصطلاحية كما تقدم بيان ذلك في مباحث اجتماع الامر و النهي من الجزء الأول

ص: 234

ثم إنه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفا، كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط أيضا، لصدقه حقيقة عليه مع تعذره عرفا، كصدقه عليه كذلك مع تعذر الجزء في الجملة، و إن كان فاقد الشرط مباينا للواجد عقلا (1)، و لاجل ذلك ربما لا يكون

______________________________

قاعدة الميسور

( (و كيف كان فليس)) لا يترك ( (ظاهرا في اللزوم هاهنا)) أي في هذا الخبر ( (و لو قيل بظهوره فيه)) أي في اللزوم ( (في غير المقام)).

(1) توضيحه: انه قد عرفت فيما تقدم ان الخبر الأول و هو قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: (فاتوا منه ما استطعتم) و الخبر الثالث و هو قوله عليه السّلام: (ما لا يدرك كله لا يترك كله) لا يشملان المشروط المتعذر شرطه .. اما في الأول فلظهور لفظة (من) في التبعيض و لازم التبعيض هو التركيب، و ليس المشروط و شرطه من قبيل المركب و ان انحلّ عقلا الى ذات المشروط و تقيّده بالشرط، إلّا ان الواجب المشروط في الحقيقة هو الواجب الخاص.

و اما الثاني فلظهور لفظة (كلّ) في ذلك ايضا، فان الكلّ المجموعي هو المركب من الاجزاء، لوضوح ان الكلّ مجموع الاجزاء و الجزء بعضها بلحاظ نسبته الى المجموع، فمعنى الكلّ هو المركب من اجزاء، و قد عرفت ان المشروط و شرطه ليس من المركب. و اما الخبر الثاني و هو قوله عليه السّلام: (الميسور لا يسقط بالمعسور) فهو شامل للمشروط عند تعذر شرطه لوضوح كون ذات المشروط من الميسور عرفا للمشروط بما هو مشروط.

ثم لا يخفى ان الغرض من هذا الكلام امران: الأول: كون المشروط المتعذر شرطه مما يشمله خبر قاعدة الميسور بالخصوص.

الثاني: انه لا بد في صدق قاعدة الميسور من كون الباقي مما يعدّ عرفا انه ميسور بالنسبة الى الكلّ، فانه لو كان المركب مشتملا على عشرة اجزاء و تعذرت تسعة منها و بقى واحد لا يكون الواحد من مصاديق قاعدة الميسور، لان الواحد عرفا ليس

ص: 235

.....

______________________________

ميسور العشرة، بخلاف ما اذا كان المتعذر واحدا من العشرة فان التسعة لا ريب في كونها ميسور العشرة .. و الوجه في الامر الأول هو ان المتعذر سواء كان جزءا من الكلّ او شرطا للمشروط فالباقي من الاجزاء و ذات المشروط هو امر مباين عقلا للكلّ و للمشروط بما هو مشروط، لوضوح كون الاجزاء الباقية غير المركب منها و من المتعذر من الاجزاء و ذات المشروط غير المشروط بما هو مشروط، و لازم ذلك كونهما واجبين آخرين غير الكلّ الواجب و غير المشروط الواجب، الّا انهما لما كان وجوبهما بشرط التعذر اما وافيا بالواجب غير المتعذر بجميع مصلحته و غرضه، او وافيا بالمهم من مصلحته و غرضه كان هذا الوجوب بنظر العرف هو ميسور ذلك الوجوب، فلا فرق بين الشرط المتعذر و الجزء المتعذر في كون الباقي من الاجزاء و ذات المشروط ميسورا لذلك الوجوب المتعلق بالكل و بالمشروط بما هو مشروط، فلا فرق في صدق قاعدة الميسور على الباقي من الاجزاء و على ذات المشروط.

و ينبغي ان لا يخفى ان مباينة الباقي للمامور به المتعذر عند العقل من ناحية كون الباقي غير المأمور به بحدّه، و اما من ناحية الغرض و المصلحة فانه اذا كان الباقي وافيا بتمام المصلحة في حال التعذر لا يكون مباينا للمأمور به عقلا لفرض كونه واجدا لتمام مصلحته و غرضه. هذا كله بالنسبة الى مرحلة الثبوت، و انه لما ذا امر باتيان الميسور عند تعذر المعسور.

و اما في مرحلة الاثبات و الدلالة، فالرواية تدل على ان الميسور للمركب الذي تعذر بعض اجزائه او شرطه الامر فيه باق، و لا بد من اتيانه ان كان واجبا و يستحب اتيانه ان كان مستحبا.

الامر الثاني: ان المتحصّل من القاعدة هو انه لا يسقط ميسور المامور به بتعذر المعسور منه، و عليه فلا بد و ان يكون الباقي مما هو ميسور عند العرف لذلك المأمور به، لوضوح انه لا بد من تحقق ما هو موضوع الحكم، و لما كان عنوان الميسور هو الموضوع فلا محالة يلزم ان يكون الباقي مما يعد ميسورا للمركب في حال التعذر. و قد

ص: 236

الباقي- الفاقد لمعظم الاجزاء أو لركنها- موردا لها فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا، و إن، و إن كان غير مباين للواجد عقلا (1).

______________________________

اشار الى هذا الامر الثاني بقوله: ( (ثم انه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفا)) لتقوّم موضوعها بعنوان كون الباقي ميسورا للمأمور به عند العرف. و اشار الى الامر الأول و هو صدق قاعدة الميسور على المشروط الفاقد لشرطه: أي صدقه على ذات المشروط بقوله: ( (كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط ايضا لصدقه)) أي لصدق عنوان الميسور ( (حقيقة عليه)) أي على ذات المشروط ( (مع تعذره)) أي مع تعذر الشرط فانه يصدق عليه حقيقة ( (عرفا)) أي عند العرف يصدق صدق حقيقيا على ذات المشروط انه ميسور للمشروط بما هو مشروط ( (كصدقه عليه كذلك)) أي كما يصدق عند العرف حقيقة عنوان الميسور على الباقي من الاجزاء ( (مع تعذر الجزء في الجملة)) من دون فرق في الجملة لما سيأتي من ان صدق الميسور على الباقي من الاجزاء منوط بكون الباقي معظم الاجزاء. ثم اشار الى المباينة العقلية بين ذات المشروط و المشروط بما هو مشروط بقوله: ( (و ان كان فاقد الشرط)) أي ذات المشروط ( (مباينا للواجد عقلا)) و هو المشروط بما هو مشروط، و انما نبّه على خصوص المشروط لوضوح المباينة بين باقي الاجزاء و بين الكلّ فهو في غنى عن التنبيه.

(1) هذا تفريع على الامر الثاني، و حاصله: انه لما كان حكم عدم السقوط في القاعدة موضوعه كون الباقي ميسورا عند العرف للمامور به المتعذر بعضه، كان اللازم كون الباقي مما يعدّ ميسورا عندهم، فلا بد و ان يكون الباقي في معظم الاجزاء، و اذا كان الباقي فاقدا لمعظم الاجزاء فلا يكون عند العرف من الميسور للمأمور به المتعذر، و مثله ما اذا قام الدليل على ان في المركب اركانا يفوت المركب بفوتها عمدا و سهوا، فان الفاقد لها بعد قيام الدليل على ذلك لا يكون ميسورا للمأمور به، و لذا قال (قدس سره): ( (و لاجل ذلك)) أي و لاجل كون المدار على

ص: 237

نعم ربما يلحق به شرعا ما لا يعد بميسور عرفا بتخطئته للعرف، و إن عدم العد كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد، من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد، أو بمعظمه في غير الحال، و إلا عد أنه ميسوره، كما ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي لذلك- أي للتخطئة- و أنه لا يقوم بشي ء من ذلك.

و بالجملة: ما لم يكن دليل على الاخراج أو الالحاق كان المرجع هو الاطلاق، و يستكشف منه أن الباقي قائم بما يكون المأمور به قائما بتمامه، أو بمقدار يوجب إيجابه في الواجب و استحبابه في المستحب (1)،

______________________________

صدق عنوان الميسور على الباقي ( (ربما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الاجزاء او لركنها موردا لها)) أي لقاعدة الميسور لعدم صدق الميسور عند العرف على الباقي اذا كان فاقدا لمعظم الاجزاء أو لأركان المركب. ثم اشار الى الوجه في ذلك بقوله:

( (فيما اذا لم يصدق عليه)) أي فيما اذا لم يصدق على الباقي انه ( (الميسور عرفا)) لما هو المامور به ( (و ان كان)) ذلك الباقي الفاقد للمعظم او للاركان ( (غير مباين للواجد عقلا)) من ناحية المصلحة و الغرض.

(1) توضيحه: انه بعد ما عرفت في ان الموضوع لقاعدة الميسور ما هو الميسور عند العرف، ففيما اذا ألحق الشارع ما ليس بميسور عند العرف من حيث الحكم، كما حكم بكفاية التسبيحات الاربع في مقام العجز عن ساير اجزاء الصلاة، و من الواضح ان التسبيحات الاربع ليس ميسور الصلاة عند العرف، او فيما اذا اخرج الشارع بعض افراد ما هو الميسور عند العرف عن حكم الميسور، كما حكم للارمد بالانتقال من الغسل او من الوضوء الى التيمم، و من الواضح ايضا ان غسل الوجه ما عدا العينين و غسل اليدين و مسح الرأس و الرجلين من ميسور الوضوء عند العرف ... فهل ان ادراج ما ليس بميسور عند العرف في حكم الميسور و اخراج ما هو الميسور عند العرف عن حكم الميسور هو من باب التخطئة، او ان ادراج ما ليس في

ص: 238

.....

______________________________

الميسور من باب التشريك في الحكم تعبدا و اخراج ما هو الميسور عند العرف عن حكم الميسور من باب التخصيص شرعا؟ ... ذهب المصنف الى انه من باب التخطئة. و ذهب جملة من المحققين الى التشريك و التخصيص.

و الوجه في كون الادراج و الاخراج من باب التخطئة، و ليس الادراج من باب التشريك في الحكم تعبدا و الاخراج من باب التخصيص شرعا كما اشار اليه في طي كلامه، هو ان حكم الشارع بعدم سقوط الميسور عند تعذر المعسور لا يعقل ان يكون جزافا، و انما هو لان الباقي بشرط حال التعذر واف بتمام الغرض المترتب على الواجد لجميع الاجزاء في غير حال التعذر، أو لان الباقي واف بمعظم الاثر، و لكن كونه بحد الالزام يكون مشروطا بحال التعذر، و إلّا لوقع التخيير بينه و بين الواجد لجميع الاجزاء في حال التيسر. و على كل فلما كان الباقي الميسور انما كان محكوما شرعا بعدم السقوط من حيث وفائه بالغرض كان المراد من الميسور هو الميسور في مقام الغرض واقعا، و على هذا لا يكون الميسور لما هو المامور به هو المحكوم بعدم السقوط، لامكان ان لا يكون الميسور للمامور به هو الميسور المترتب عليه الغرض.

و بعبارة اخرى: ان الميسور في القاعدة هو الميسور الواقعي لا ميسور المامور به.

لا يقال: انه اذا كان المراد من الميسور في القاعدة هو الميسور الواقعي لا وجه لما سبق من ان الميسور في القاعدة هو الميسور عند العرف، لعدم امكان معرفة العرف ما هو الميسور في مقام الغرض، فلا وجه لان يكون الميسور في القاعدة هو الميسور عند العرف.

فانه يقال: لما كان ما هو الميسور عند العرف لمتعلق الامر في الغالب هو الميسور واقعا في مقام ترتب الغرض صح ان يجعل ما هو الميسور عند العرف موضوعا للحكم من باب الطريقية، و على هذا فلا منافاة بين القول بالتخطئة و بين كون الميسور عند العرف هو الموضوع في القاعدة، و لذلك فيما لم يقم الدليل على

ص: 239

.....

______________________________

الادراج او الاخراج فالمرجع في الميسور ما هو الميسور عند العرف، و يتمسك بالاطلاق في القاعدة في اثبات الحكم له و في نفيه عن غير ما هو الميسور عند العرف كما سيشير اليه (قدس سره) .. و على كل فقد اتضح ان الحاق الشارع ما يراه العرف ليس من الميسور بالميسور في الحكم انما هو لكونه ميسورا واقعا، و ليس هو من باب تشريك غير الميسور للميسور في الحكم تعبدا، و كذلك اخراج ما يراه العرف من الميسور عن حكم الميسور انما هو لانه ليس من الميسور واقعا لا من باب التخصيص شرعا و انه مع كونه ميسورا خارج عن حكم الميسور، بل هو لانه ليس من الميسور واقعا. و قد أشار الى ان الإلحاق من باب التخطئة بقوله: ( (نعم ربما يلحق به شرعا ما لا يعد بميسور عرفا)) بحكم الميسور لانه من الميسور واقعا فيكون الالحاق ( (ب)) سبب ( (تخطئته)) أي تخطئة الشرع ( (للعرف و ان عدم العد)) من العرف ( (كان لعدم الاطلاع)) منهم ( (على ما هو عليه)) من الوفاء بالغرض، فان هذا الملحق ( (الفاقد)) لبعض الاجزاء هو من الميسور واقعا و هو كالميسور في نظرهم ( (من)) حيث ( (قيامه في هذا الحال)) و هو حال التعذر ( (بتمام ما قام عليه الواجد)) في حال غير التعذر، فظهر ان المدار على الوفاء بالغرض اما بتمامه بشرط حال التعذر ( (او بمعظمه في غير الحال)) أي في غير حال التعذر، فالجار و المجرور متعلق بمعظمه و ليس متعلقا بقيامه، و المراد قيام هذا الميسور في حال التعذر بما للمعظم من الاثر في حال القدرة و عدم التعذر، و كان لزوم عدم سقوطه و الاتيان به مشروطا بحال التعذر كما عرفت ( (و إلّا عد انه ميسوره)) أي ان عدم العد كان لعدم الاطلاع من العرف على انه من الميسور، و إلّا فلو علموا بوفائه بالغرض لكان قد عد عندهم انه من الميسور.

ثم اشار الى ان اخراج ما هو الميسور عند العرف عن حكم الميسور ايضا من التخطئة و ليس من التخصيص بقوله: ( (كما ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي)) عن حكم الميسور ( (لذلك أي للتخطئة)) لا للتخصيص ( (و)) ان السبب في اخراجه عن الميسور ل ( (انه لا يقوم بشي ء من ذلك)) أي من الغرض، و ايضا لو اطلع العرف

ص: 240

.....

______________________________

على عدم وفائه بالغرض لكان عندهم ايضا انه ليس من الميسور، فهو خارج عن الميسور لانه ليس من الميسور، لا لانه ميسور قد خرج من باب التخصيص. و قد اشار الى انه لما كان الموضوع هو الميسور عند العرف بما هو طريق الى الواقع كان المرجع للتمسك باطلاق القاعدة فيما لم يقم دليل على الالحاق او على الاخراج هو الميسور عند العرف، فاذا احتملنا ان ما هو الميسور عند العرف غير واف بالغرض فالمرجع هو التمسك باطلاق القاعدة بقوله: ( (و بالجملة ما لم يكن دليل على الاخراج او الالحاق)) و احتملنا ما هو الميسور عند العرف ليس بميسور واقعا في مقام الغرض او ما ليس بميسور عند العرف كان من الميسور واقعا ( (كان المرجع هو الاطلاق و يستكشف منه ان الباقي)) حيث يكون ميسورا عند العرف فهو ( (قائم بما يكون المامور به)) التام ( (قائما بتمامه او)) يكون الباقي وافيا بالمعظم ( (بمقدار يوجب ايجابه في الواجب و استحبابه في المستحب)) و قد اشار الى هذا في اول كلامه هنا بقوله: ( (لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد)) أي الباقي الذي هو من الميسور واقعا و لم يطلع عليه العرف فهو كالميسور في نظر العرف ( (من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد او بمعظمه في غير الحال)).

ثم الظاهر ان المراد من الاطلاق في المقام في هذه القاعدة هو الاطلاق المقامي دون الكلامي، لان المراد من الميسور فيها- عند المصنف- كما عرفت هو الميسور الواقعي، فالظاهر ان مراد المصنف من الاطلاق هو الاطلاق المقامي، و ذلك حيث يكون المولى في مقام بيان ما هو الميسور الوافي بتمام الاثر و بمعظمه و اخراج ما ليس بميسور، و لم يبين مورد الشك فان كان ميسورا عند العرف يستكشف انه من الميسور واقعا، و ان كان ليس من الميسور عند العرف يستكشف انه ليس من الميسور واقعا، و إلّا لزم الاخلال بالغرض.

إلّا انه يمكن ان يقال: انه بعد ان كان الميسور العرفي موضوعا بنحو الطريقية شرعا فالاطلاق كلامي، لاعتبار الشارع للميسور العرفي و لو بنحو الطريقية، و يكون

ص: 241

و إذا قام دليل على أحدهما فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصا في الاول، و تشريكا في الحكم، من دون الاندراج في الموضوع في الثاني (1)، فافهم (2).

______________________________

المرجع ما هو الميسور عند العرف و ما ليس بميسور عندهم و به يستكشف الواقع، لا ان الاطلاق مقامي. و اللّه العالم.

(1) لما ذكر مختاره في المقام و هو التخطئة في الادراج و الاخراج اراد ان يشير الى القول الآخر المبني على كون الموضوع هو الميسور العرفي بنحو الموضوعية لا بنحو الطريقية، و ان المدار على ما كان ميسورا للمأمور به المتعلق به الامر: أي ان المراد من الميسور في هذه القاعدة على هذا القول هو ميسور المركب باجزائه التي تعلق به الامر لا الميسور الواقعي، لان الميسور الواقعي لا طريق للعرف اليه، و حيث قد اخذ الميسور موضوعا في القضية فلا بد و ان يكون هو الميسور بنظرهم دون الميسور الواقعي في مقام الغرض و المصلحة، و على هذا فالادراج يكون من باب التشريك تعبدا، لفرض كون المدرج ليس من الميسور عند العرف، و الاخراج يكون من التخصيص لفرض كون الخارج من الميسور عند العرف. و على كل فقد اشار المصنف الى كلا القولين بقوله: ( (و اذا قام دليل على احدهما)) من الادراج و الاخراج ( (ف)) يكون ما ( (يخرج او يدرج تخطئة)) على مختارة ( (او تخصيصا في الاول)) أي في الاخراج ( (و تشريكا في الحكم)) تعبدا ( (من دون الاندراج)) واقعا ( (في الموضوع في الثاني)) أي في الادراج و الالحاق لغير الميسور عند العرف بالميسور عند العرف بناء على القول الآخر.

(2) لعله اشارة الى ما اشار اليه: من ان البرهان يقتضي كونهما من التخطئة لا التشريك و لا التخصيص. و يمكن ان يكون اشارة الى ان الادراج بعد ان كان هو الحاق ما ليس بميسور عرفا بالميسور عرفا فدليل الالحاق ان ظهر منه ان الالحاق لاجل انه من الميسور واقعا كان من التخطئة، و إلّا فيكون الادراج تشريكا في الحكم تعبدا لأن الشارع قد اعتبر الميسور العرفي طريقا الى الميسور الواقعي، و حيث لم يظهر منه

ص: 242

تذنيب: لا يخفى أنه إذا دار الامر بين جزئية شي ء أو شرطيته، و بين مانعيته أو قاطعيته، لكان من قبيل المتباينين، و لا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين، لامكان الاحتياط بإتيان العمل مرتين، مع ذاك الشي ء مرة و بدونه أخرى، كما هو أوضح من أن يخفى (1).

______________________________

تذنيب: دوران الأمر بين الجزئية و المانعية و نحوهما

أن الالحاق لكونه ميسورا واقعا فنظر العرف في تعيين ما هو الميسور من غير الميسور باق على حاله، و حيث لم يكن الملحق بنظر العرف ميسورا فلا بد و ان يكون الالحاق من باب التشريك في الحكم. و اللّه العالم.

(1) توضيحه: انه اذا دار امر شي ء بين ان يكون جزءا للمركب او شرطا فيه او مانعا عنه او قاطعا له. و الفرق بين المانع و القاطع بناء على تعقّل الهيئة الاتصالية واضح فان المانع ما منع عن تأثير المركب، و القاطع ما رفع الهيئة الاتصالية، و اما بناء على عدم تعقّل الهيئة الاتصالية فالقاطع هو المانع حيث يقع في الاثناء، كما تقدم بيانه فيما تقدم في ذيل التنبيه الثالث من تنبيهات مسألة الاقل و الاكثر الارتباطيين.

و على كل فاذا دار الامر بين كون الشي ء جزءا او شرطا او مانعا او قاطعا فهو من قبيل دوران الامر بين المتباينين، و ليس من قبيل دوران الامر بين المحذورين. اما كونه من المتباينين فلوضوح وجود العلم الاجمالي بخطاب منجز يدور فرده و امتثاله بين الواجد لذلك المشكوك و الفاقد له، و لا مجرى للبراءة في اطراف العلم الاجمالي و ان لم يلزم منها مخالفة عملية، لان العلم الاجمالي علّة تامة للتنجيز، فجعل الترخيص في اطرافه مناف لارادة الواقع. و أما كونه ليس من دوران الامر بين المحذورين فلان القطع بالامتثال هنا ممكن بالاتيان مرتين: مرة بالواجد للمشكوك، و مرة بالفاقد له. و الدوران بين المحذورين هو ما لا يتمكن فيه من القطع بالامتثال، و اتيانه مرتين لا يوجب القطع بالامتثال، لوضوح ان كل مرة منهما له تكليف غير التكليف في الاولى، مثلا اذا دار امر الجمعة في زمان الغيبة بين الوجوب و الحرمة ففي كل يوم جمعة تكليف غير التكليف في الجمعة، فلا يعقل ان يتحقق القطع

ص: 243

.....

______________________________

بالامتثال للتكليف، نعم ترك صلاة الجمعة في جمعة، و الاتيان بها في جمعة اخرى يوجب العلم الاجمالي بفعل واجب او ارتكاب محرّم، فان الجمعة لو كانت واجبة كان فاعلا للواجب، و اذا كانت محرمة كان مرتكبا للمحرم، و هذا مما يؤكّد ما قلنا من ان لكل فعل تكليفا غير التكليف للفعل الآخر، فلذلك لا يمكن الاحتياط فيه، و يمكن الاحتياط في المقام لانه باتيان الفعل مرتين يحصل القطع بالامتثال لتكليف واحد لا لتكليفين حتى لا يمكن ان يحصل القطع بالامتثال.

و الحاصل: ان الامر في المتباينين هو ان يكون هناك تكليف واحد مردد بينهما، و لازم ذلك ان يكون فعل احدهما موجبا للامتثال، و فعل الثاني لا يكون موجبا للامتثال، و لا يكون فيه احتمال المخالفة لتكليف آخر، بخلاف دوران الامر بين المحذورين فانه في الفعل مانع لا يحصل به الامتثال، و لذا وجب الفعل مرتين ليعلم بالامتثال.

لا يقال: انه اذا كان ابطال العمل محرما فيدور الامر في المقام بين الواجب و المحرم.

فانه يقال أولا: انه لو قلنا بحرمة الابطال فالمقدار المتعيّن منها غير موارد العلم الاجمالي.

و ثانيا: ان دوران الامر بين المحذورين بالنسبة الى الامر و النهي المفروض تعلقهما بذات الفعل بما هو مأمور به او منهي عنه لا من جهة تعلق النهي بحرمة الابطال، فتأمل. و لذا قال (قدس سره): ( (لكان من قبيل المتباينين)) أي دوران الامر بين الجزئية و الشرطية و المانعية و القاطعية من الدوران بين المتباينين ( (و لا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين)) لما عرفت من الفرق بينهما و قد اشار اليه بقوله: ( (لامكان الاحتياط ... الى آخر الجملة)).

ص: 244

خاتمة: في شرائط الاصول (1)

أما الاحتياط:

فلا يعتبر في حسنه شي ء أصلا، بل يحسن على كل حال، إلا إذا كان موجبا لاختلال النظام، و لا تفاوت فيه بين المعاملات و العبادات مطلقا و لو كان موجبا للتكرار فيها (2)، و توهّم كون التكرار عبثا و لعبا بأمر المولى- و هو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة- فاسد، لوضوح أن التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي، مع أنه لو لم يكن بهذا الداعي و كان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه لما ينافي قصد الامتثال، و إن كان لاغيا في كيفية امتثاله (3)،

______________________________

خاتمة: شرائط الاصول العملية

اشارة

(1) لا يخفى ان الاصول التي يتعرّض لشرائطها في المتن اربعة: الاحتياط، و البراءة العقلية، و البراءة النقلية، و التخيير. و اما الاستصحاب فلا يتعرّض لشرائطه و لكنه يعلم حاله من البراءة النقلية، لان الدليل على الشرط في البراءة النقلية سواء كان الاجماع او العقل او الاخبار فهو مما يعمّ الاستصحاب كما لا يخفى ...

حسن الاحتياط المستلزم للتكرار

(2) لا اشكال عند الكلّ في حسن الاحتياط فيما لا يلزم منه الاخلال بالنظام في المعاملات مطلقا و لو لزم التكرار، و في العبادات فيما اذا لم يستلزم التكرار لان فيه المحافظة التامة على غرض المولى أو لأداء المراسم العبودية و الرقية الكاملة. و اما وجه الاطلاق في المعاملات و ان استلزم التكرار فلان ما ذكروه من الموانع في العبادة غير موجود فيها. و لما كان مختاره (قدس سره) حسن الاحتياط في العبادة و ان استلزم التكرار حكم بحسن الاحتياط مطلقا في المعاملات و العبادات و ان استلزم التكرار، بعد استثنائه ما يوجب اختلال النظام، و لذا قال (قدس سره): ( (اما الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شي ء اصلا ... الى آخر الجملة)).

(3) لا يخفى ان الاحتياط في العبادة حيث لا يستلزم التكرار لا كلام في حسنه كما مرّ في الحاشية السابقة بيانه، و محل الكلام في حسن الاحتياط في العبادة هو ما اذا استلزم التكرار و كان بحيث يتمكن من معرفة المامور به مفصّلا. و قد ذكروا وجوها للمنع عنه.

ص: 245

.....

______________________________

منها: لزوم قصد التمييز، و قد مرّ انه لا دليل على اعتباره في العبادة لا عقلا و لا شرعا.

و منها: اخبار مرّ التعرّض لها و لعدم دلالتها في مباحث العلم الاجمالي من القطع.

و منها: ما اشار اليه في المتن هنا و هناك: من استلزام التكرار للعبث و اللعب بامر المولى و هو مناف لقصد الامتثال المعتبر في العبادة، لوضوح ان الداعي للعب و العبث داع شيطاني و هو غير داعي الامتثال و العبودية للمولى، فلا يعقل ان يجتمع مع قصد القربة المعتبر في العبادة. و اليه اشار بقوله: ( (و توهّم كون التكرار عبثا بامر المولى ...

الى آخر الجملة)) و اشار الى الجواب عنه بقوله: ( (فاسد)) أي ان هذا التوهّم فاسد، و توضيح فساده: ان فرض الكلام ان الداعي للعبد هو الامتثال و قصد القربة، فان كان التكرار للعمل صادرا عن داعي العبث و اللعب وحده فهو خلاف الفرض، لان المفروض كون العبد يعمل بداعي الامتثال. و ان كان التكرار صادرا عن داعيين فهو خلف ايضا، لان العمل التكراري انما يكون باطلا لاجل التشريك مع قصد القربة، لا من حيث كون التكرار لعبا و عبثا، ففي فرض كون الداعي للعبد هو الامتثال لا يعقل قصد العبث و اللعب في نفس العمل التكراري، و انما يكون اللعب و العبث في كيفية تحصيل اليقين بالامتثال، فان تحصيل اليقين بالامتثال امر يتولد من الفعل الماتي به، فهناك قصدان: قصد للفعل لاجل الامتثال به، و قصد لتحصيل اليقين بالامتثال، و لما كان اليقين بالامتثال من الامور التوليدية للفعل الممتثل به كان قصد اللعب و العبث فيه لا في الفعل لفرض قصد المكلف الامتثال له، و مع فرض قصد الامتثال له لا يعقل الّا و ان يكون نفس الفعل صادرا عن قصد الامتثال لا غير. هذا كلّه حيث يكون هناك قصد اللعب و العبث ... مع انه كثيرا ما يكون التكرار بداع عقلائي صحيح كما اذا كان الغرض من التكرار تطويل زمان العبادة، او كان الغرض منه لانه اسهل على المكلف من الفحص لان يعرف المامور به تفصيلا. و قد

ص: 246

فافهم (1).

بل يحسن أيضا فيما قامت الحجة على البراءة عن التكليف لئلا يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته، من المفسدة و فوت المصلحة (2).

______________________________

اشار الى هذا بقوله: ( (لوضوح ان التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي)) و اشار الى الاول بقوله: ( (مع انه لو لم يكن بهذا الداعي)) بل كان هناك داع للعب و العبث ( (و)) لكنه حيث ( (كان اصل اتيانه بداعي امر مولاه)) كما هو المفروض لما عرفت ان المفروض ان الداعي له هو قصد الامتثال ( (بلا داع له سواه)) و إلّا لزم الخلف لو كان للمكلف داع غير قصد الامتثال و لو بنحو التشريك ( (لما)) كان داعي اللعب و العبث ( (ينافي قصد الامتثال)) لانه في كيفية تحصيل اليقين لا في نفس العمل و هو ( (و ان كان لا غيا)) و عابثا ( (في كيفية)) تحصيل اليقين في ( (امتثاله)) إلّا انه لا يكون عابثا و لا غيا في نفس العمل حتى يكون منافيا لقصد القربة في نفس عمله.

(1) لعله اشارة الى انه لا بد ان لا يكون قصد اللعب و العبث بنحو التشريك لقصد الامتثال، و الّا كان العمل باطلا لاجل التشريك مع قصد القربة لا للعبث و اللعب، و قد عرفت انه لا بد و ان يكون قصد اللعب و العبث في كيفية تحصيل اليقين في الامتثال لا في نفس العمل.

(2) توضيحه: ان الاحتياط تارة يكون لاجل الفرار عن تبعة العقاب، ففيما اذا قامت الحجة على عدم العقاب فان الاحتياط لا يكون حسنا بداعي التأمين من العقاب، اذ بعد قيام المؤمن لا وجه للاحتياط لتحصيل الأمان، و ان كان بداعي ما للتكليف من اثر وضعي و هو المصلحة المترتبة على الفعل أو المفسدة المترتبة عليه فيحتاط بالفعل لاحتمال المصلحة و يتركه لاحتمال المفسدة فانه احتياط بداع حسن عقلا، و لذا قال (قدس سره): ( (بل يحسن)) الاحتياط ( (ايضا فيما قامت الحجة على البراءة عن التكليف)) لا لاجل التامين من العقاب بل ( (لئلا يقع فيما كان)) يحتمل

ص: 247

و أما البراءة العقلية:

اشارة

فلا يجوز إجراؤها إلا بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالحجة على التكليف، لما مرت الاشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلا بعدهما (1).

______________________________

اشتراط البراءة العقلية بالفحص

( (في)) الفعل من الاثر عند ( (مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة)) في فعله ( (و فوت المصلحة)) في تركه.

(1) لما كانت البراءة العقلية هي قبح العقاب بلا بيان فلا محيص من اشتراط جريانها بتحقق موضوعها و هو عدم البيان، و لا يتحقق عدم البيان إلّا بالفحص، فلذلك كان من شرط جريانها الفحص و اليأس عن الظفر بالبيان الذي هو اعم من العلم و من الحجة على التكليف.

اما كون عدم البيان موضوعا لقبح العقاب عند العقل، فلان ارتكاب المبغوض واقعا من دون قيام حجة من المولى عليه ليس من الطغيان على المولى و لا من الهتك لحرمته. و اما كون عدم البيان و احرازه منوطا بالفحص و الياس فلوضوح ان اللازم على المولى بيان ما لو تفحص العبد عنه لوصل اليه، و ليس اللازم عليه ان يوصله اليه و ان لم يفحص عنه و لا يتطلبه من مظانه و هو واضح. فاتضح ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان و استقلاله بذلك انما يكون بعد تحقق اللابيان المنوط بالفحص و اليأس عن الظفر بالحجة. و قد اشار الى اشتراط البراءة العقلية بالفحص و اليأس بقوله: ( (فلا يجوز اجراؤها)) أي لا يجوز اجراء البراءة العقلية التي هي عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ( (الا بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالحجة على التكليف)) سواء كان علما او علميا. و اشار الى السبب في اشتراط البراءة العقلية بذلك بقوله: ( (لما مرت الاشارة اليه)) فيما سبق من حكم العقل بالاستقلال بعدم العقاب حيث تحرز عدم الحجة من المولى على التكليف، و لا يحصل احراز عدم البيان إلّا بالفحص و اليأس عن الظفر بها، و من الواضح انه اذا لم يحرز عدم البيان فلا يستقل العقل بقبح العقاب، و انما يستقل بالقبح بعد احراز عدم البيان المنوط

ص: 248

و أما البراءة النقلية:

اشارة

فقضية إطلاق أدلتها و إن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها، كما هو حالها في الشبهات الموضوعية، إلا أنه استدل على اعتباره بالاجماع و بالعقل، فإنه لا مجال لها بدونه، حيث

______________________________

بالفحص و اليأس، و لذا قال (قدس سره): ( (من عدم استقلال العقل بها)) أي بالبراءة العقلية ( (الا بعدهما)) أي بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالحجة، لما عرفت من ان اللازم على المولى بيان ما لو تفحص المكلف عنه لوصل اليه، و ليس اللازم على المولى ايصال الحجة الى المكلف و ان لم يفحص عنها و لم يتطلبها من مظانها.

و لا اشكال في كون مورد البراءة العقلية الشبهة الحكمية .. و هل تشمل الشبهة الموضوعية ام لا؟

و مجمل القول فيها: ان المراد من اللابيان ان كان هو عدم بيان الحكم فلا تشمل الشبهة الموضوعية، لفرض صدور البيان للحكم على فرضه و انما الاشتباه ينشأ من الامور الخارجية. و ان كان المراد من اللابيان عدم وصول الحجة فعدم وصول الحجة كما يكون بعدم بيان الحكم كذلك يكون بعدم وصول موضوع الحكم.

و هل يحكم العقل في الشبهة الموضوعية بوجوب الفحص فيها كما هو الحال في الشبهة الحكمية لو لا قيام الدليل الشرعي على لزوم الفحص فيها، ام لا يحكم فيها بوجوب الفحص و انما يجب الفحص في خصوص الشبهة الحكمية؟

و يمكن ان يقال: انه حيث كانت الاحكام معلقة على موضوعاتها فلا وصول لها الا بعد وصول موضوعاتها، و لا ملزم من العقل بلزوم ايصال الحكم بالبحث عن موضوعه إلّا ان يعلم اهميته عند الشارع بحيث يلزم البحث عن موضوعه اذا احتمل تحققه، كما فيمن شك في الاستطاعة و كان يمكنه بحيث لو فحص لعرف انه مستطيع او غير مستطيع فلا اشكال حينئذ في وجوب الفحص. و اللّه العالم.

ص: 249

يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات، بحيث لو تفحص عنه لظفر به (1).

______________________________

الاستدلال بالاجماع و العقل بوجوب الفحص بالبراءة النقلية

(1) المراد من البراءة النقلية هي رفع ما لا يعلمون و امثالها، كقوله الناس في سعة ما لا يعلمون، و ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو مرفوع منهم. و قد تقدم شمولها للشبهة الحكمية و الموضوعية، كما ان هناك ما يدل على الرفع في خصوص الشبهة الموضوعية كقاعدة الحل، و من الواضح ان دليل الرفع موضوعه عدم العلم و محموله رفع تبعة العقاب عنه و هو شامل لما قبل الفحص باطلاقه، و لا اشكال في جريانها حتى قبل الفحص في الشبهة الموضوعية.

و اما في الشبهة الحكمية فقد استدل على وجوب الفحص فيها بوجوه:

الاول: دعوى الاجماع على وجوب الفحص فيها.

الثاني: العقل بدعوى ان لنا علما اجماليا بثبوت التكاليف في موارد الشبهات الحكمية بحيث لو تفحص عنها لظفر بها، و من الواضح انه مع حصول هذا العلم الاجمالي بالتكاليف التي بحيث لو تفحص عنها لظفر بها فلا يجوز ترك الفحص عنها، فان الوقوع في مخالفة تلك التكاليف مما لا معذر لها عند العقل.

و الحاصل: انه مع كون احتمال التكليف منجزا عقلا للتكليف- لو كان- لا مجرى للبراءة، لوضوح ان موضوعها عدم العلم بالحجة على التكليف، و مع كون احتمال التكليف منجزا عقلا يكون هناك حجة معلومة، فلا مجرى لما كان موضوعه عدم العلم بالحجة.

و اما كون احتمال التكليف منجزا عقلا في المقام فلفرض العلم بانه لو تفحص عن التكليف لظفر به، و من الواضح انه لا يجب على اللّه ايصال التكليف الى المكلفين بالوحي لكل مكلف، بل طريق ايصال تكاليفه اما نبيه و أوصيائه عليهم الصلاة و السلام في حال الحضور او الرواة و كتبهم في حال الغيبة، فلو كان التكليف المشكوك موجودا في كتب الرواة بحيث لو رجع المكلف اليها لوجده لكان للّه الحجة

ص: 250

و لا يخفى أن الاجماع هاهنا غير حاصل، و نقله لوهنه بلا طائل، فان تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب لو لم يكن عادة بمستحيل، لقوة احتمال أن يكون المستند للجل- لو لا الكل- هو ما ذكر من حكم العقل (1)، و أن الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم

______________________________

على المكلف فيه فيما لو خالفه و هذا معنى كون احتمال التكليف في المقام منجزا.

و قد اشار الى الوجه الاول بقوله: ( (إلّا انه استدل على اعتباره)) أي على اعتبار الفحص ( (بالاجماع)) و اشار الى الثاني بقوله: ( (و بالعقل فانه)) بدعوى انه ( (لا مجال لها)) أي لا مجال للبراءة النقلية ( (بدونه)) أي بدون الفحص، و السبب في حكم العقل بالفحص في البراءة النقلية مع شمول الاطلاق فيها لما قبل الفحص لان الموضوع فيها عدم العلم هو انه ( (حيث يعلم اجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث لو تفحص عنه لظفر به)) و مع هذا العلم الاجمالي بهذا النحو لا مجرى لحديث الرفع لمنجزية هذا العلم الاجمالي، و مع منجزيته لا مجرى للبراءة في اطرافه.

و بعبارة اخرى: ان البراءة النقلية انما تجري حيث لا يكون نفس احتمال التكليف منجزا و في المقام احتمال التكليف منجز عقلا، لحكم العقل بعدم معذورية مخالفة التكليف الذي لو فحص عنه لظفر به، مثل النظر في معجزة مدعي النبوة.

(1) حاصله: ان الاستدلال على وجب الفحص في مورد البراءة النقلية- بعد ان كان لها اطلاق يشمل ما قبل الفحص- بالاجماع غير صحيح، لان الاجماع المحصل غير حاصل، و الاجماع المنقول غير حجة كما تقدم في مبحث الاجماع، مضافا الى وهنه في خصوص المقام لاحتمال كون مستند المفتين- التي كانت فتواهم سببا للاجماع المنقول- هو الدليل العقلي او الاخبار الآتية.

و الحاصل: ان الاجماع المنقول على فرض تسليم حجيته فهو فيما اذا لم يكن محتمل المدرك، بان لا يكون هناك ما يحتمل كونه مدركا لفتواهم، و اما مع وجود ما

ص: 251

موجب للتنجز، إما لانحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال، أو لعدم الابتلاء إلا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات، و لو لعدم الالتفات إليها (1).

______________________________

يمكن ان يكون هو المدرك للفتوى فلا يكون ذلك من الاجماع كما سبق بيان ذلك مرارا. و قد اشار الى ذلك بقوله: ( (و لا يخفى ان الاجماع هاهنا غير حاصل)) أي الاجماع المحصل هاهنا غير حاصل ( (و نقله)) مضافا الى عدم حجيته نقله في المقام ( (لوهنه بلا طائل فان تحصيله)) عند ناقله ( (في مثل هذه المسألة مما للعقل اليه سبيل صعب)) لاحتمال كون مستند المفتين هو العقل، فان تحصيل الاجماع بما هو اجماع مع وجود دليل العقل صعب دعواه ( (لو لم يكن عادة بمستحيل لقوة احتمال ان يكون المستند للجل)) في الفتوى ( (لو لا الكل هو ما ذكرنا من حكم العقل)).

(1) يشير بهذا الى الجواب عن دليل العقل على وجوب الفحص في البراءة النقلية و توضيحه: ان العلم الاجمالي على ثلاثة انحاء:

- الاول: ان أعلم اجمالا بتكليف بعنوان خاص و لكنه كان مرددا بين الظهر و الجمعة مثلا، و هذا العلم الاجمالي يكون بعد الفحص و هو مورد الاحتياط و ليس مورد الكلام، لما علمت من انه يكون بعد الفحص.

- الثاني: العلم الاجمالي بوجود تكاليف لا يعلم بعناوينها و لكنه يعلم انه لو تفحص عنها لظفر بها، كما هو الحال لكل مكلف قبل اطلاعه على التكاليف الشرعية بعناوينها، و لا اشكال في لزوم الفحص عقلا في هذا النحو مقدمة لتحصيل الامتثال.

- الثالث: ان يكون له علم اجمالي ثم يظفر من التكاليف بمقدار المعلوم بالاجمال و يبقى له صرف احتمال ان يكون هناك حكم لو تفحص لظفر به. و هذا هو محل الكلام في وجوب الفحص، و ليس في هذا النحو الثالث حكم من العقل بلزوم الفحص، و احتمال التكليف انما يكون منجزا حيث يكون هناك علم اجمالي

ص: 252

فالاولى الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات و الاخبار على وجوب التفقه و التعلم، و المؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم، بقوله تعالى كما في الخبر هلا تعلمت فيقيد بها أخبار البراءة، لقوة ظهورها في أن المؤاخذة و الاحتجاج بترك التعلم

______________________________

بالتكاليف لم ينحل و كان المشكوك مما يحتمل ان يكون منها، إلّا ان يكون التكليف المشكوك له اهمية عظمى بحيث نشك في شمول اطلاق ما لا يعلمون له.

و الحاصل: ان الكلام فيما اذا كان العلم الاجمالي بالتكاليف منحلا، اما بالظفر بمقدار المعلوم بالاجمال فلا يكون لنا إلّا احتمال التكليف، او كان العلم الاجمالي غير منجز لخروج بعض اطرافه عن محل الابتلاء فلا يكون لنا- ايضا- إلّا احتمال التكليف. و في مثل هذين الفرضين لا حكم للعقل بوجوب الفحص اذ لا علم اجمالي بوجود التكليف، و التكليف بوجوده الواقعي غير قابل للتنجيز، و احتماله غير موجب لتنجيزه عقلا فلا حكم للعقل بوجوب الفحص. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (و ان الكلام في)) جريان ( (البراءة فيما لم يكن هناك علم)) اجمالي ( (موجب للتنجز)) و هو النحو الثالث الذي عرفته ( (اما لانحلال العلم الاجمالي بالظفر)) من التكاليف ( (بالمقدار المعلوم بالاجمال)) فينحل العلم الاجمالي الى معلوم تفصيلي و شك بدوي فلا يكون هناك سوى احتمال التكليف ( (او)) لعدم تنجز العلم الاجمالي ( (لعدم الابتلاء إلّا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات)) فلا يكون هناك علم اجمالي منجز ( (و لو)) كان ذلك ( (لعدم الالتفات اليها)) أي لعدم الالتفات الى العلم الاجمالي بالتكاليف في مورد الشبهات، فانه لا فرق في عدم تنجز العلم الاجمالي للخروج عن محل الابتلاء في بعض اطرافه، او لعدم الالتفات الى وجوده لاجل الغفلة و عدم الالتفات المعذور فيهما عقلا.

ص: 253

فيما لم يعلم، لا بترك العمل فيما علم وجوبه و لو إجمالا، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الاخبار على ما إذا علم إجمالا (1)،

______________________________

استدلال المصنف (قده) بالكتاب و السنة على اعتبار الفحص

(1) الادلة التي يشير اليها في دلالتها على وجوب الفحص من الآيات و الاخبار نحوان، الاول: ما دل على وجوب اصل التعلم و التفقه كآية النفر الآمرة بوجوب النفر لاجل التفقه فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ 24] فانها تأمر بالنفر للتفقه في الدين لان ينذروا بما تفقهوا به قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون. و الامر بالنفر يدل على وجوب النفر حيث كان طريقا للانذار الموجب للحذر، و لا حذر الا على الواجب و الحرام، فالنفر لاجل التفقه في الوجوب و الحرمة واجب، لان الانذار للقوم ينحصر به، و حيث لا فرق بين التفقه في الوجوب و الحرمة و ساير الاحكام فالتفقه لاجل الدين الذي يعم الاحكام جميعا واجب لعدم الفصل. و كآية السؤال الآمرة بوجوب السؤال و هي قوله فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 25] فانها تدل على وجوب السؤال عند عدم العلم لاجل ان تعلموا، و من الواضح ان الامر بالسؤال انما هو لمن يحتمل التكليف، اما من يعلم التكليف و من يعلم بعدم التكليف فلا وجه لان يؤمر بالسؤال و لو كان حكم المحتمل البراءة قبل الفحص لما امر بالسؤال.

إلّا انه يمكن ان يقال: ان ظاهر آية النفر و السؤال بدء الشرع، و لازمه العلم الاجمالي بالتكاليف لا بعناوينها الخاصة، فموردهما مورد العلم الاجمالي قبل الانحلال، و هو مما لا اشكال في وجوب الفحص و عدم جريان البراءة فيه قبل

ص: 254

.....

______________________________

الفحص، و الكلام في وجوب الفحص بعد الانحلال و ان لا يكون هناك صرف احتمال التكليف. إلّا ان الانصاف ان لها اطلاقا يشمل مورد الانحلال و صرف الاحتمال بحيث لو فحص لظفر.

الثاني: الروايات الدالة على مؤاخذة الجهال بفعل المعاصي المجهولة التي لو فحصوا عنها لظفروا بها، مثل ما ورد في تفسير قوله تعالى: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ(1) من انه يقال للعبد يوم القيامة: هل علمت، فان قال نعم، قيل: فهلا عملت، و ان قال: لا، قيل له: فهلا تعلمت. و لا يخفى دلالة هذا النحو الثاني على وجوب الفحص و ان كانت النسبة بينه و بين اخبار البراءة العموم من وجه، لجريان ادلة البراءة فيما بعد الفحص دون هذه الاخبار، لوضوح انه لا امر بلزوم التعلم بعد الفحص و معرفة عدم وجود الحكم في مظانه، و عدم جريان البراءة في مورد العلم الاجمالي بالتكاليف لا بعناوينها الخاصة، و جريان ادلة وجوب التعلم و الفحص فيها، و يتعارضان في غير مورد العلم الاجمالي قبل الفحص، فان اخبار البراءة تقتضي رفع المؤاخذة و هذه تثبت المؤاخذة على مخالفة الحكم لو كان، و ذلك لظهور هذه الاخبار في كون احتمال الحكم في مورد امكان الظفر به لو كان يكون منجزا يقتضي المؤاخذة. و غاية ما تدل عليه اخبار البراءة كون عدم العلم معذرا، و عدم العلم يكون في مورد يمكن التعلم و يكون في مورد لا يمكن التعلم، فاخبار المؤاخذة على ما يمكن فيه التعلم تكون كمفسرة لادلة البراءة، فهي اما حاكمة عليها او انها اقوى ظهورا منها في مورد التعارض و هو ما قبل الفحص.

و قد ظهر مما ذكرنا: ان اخبار التعلم اذا كانت اظهر من اخبار البراءة في لزوم الفحص في مقام احتمال الحكم الذي لو فحص عنه لظفر به لو كان لا يبقى مجال للتوفيق بين اخبار البراءة و اخبار التعلم، بحمل اخبار التعلم على مورد العلم

ص: 255


1- 26. ( 1) الانعام: الآية 149.

.....

______________________________

الاجمالي بالتكاليف لا بعناوينها الخاصة، و حمل اخبار البراءة على عدم الاحتمال للحكم الذي لو فحص عنه لظفر به، فتكون النسبة بينهما التباين، لوضوح شمول ادلة البراءة لمورد احتمال الحكم قبل الفحص، و عدم اختصاص هذه الاخبار بالتعلم في خصوص مورد العلم الاجمالي بالتكاليف لا بعناوينها الخاصة، فالنسبة بينها عموم من وجه، و لكن هذه الاخبار تقدم على ادلة البراءة، لما عرفت من قوة ظهور اخبار التعلم في ان الملاك للاحتجاج من المولى على عبده هو ترك التعلم- بما هو ترك للتعلم- في مقام يمكن التعلم و الوصول الى قول اللّه و حكمه، و هو ظاهر في كون نفس ترك التعلم مما تصح المؤاخذة عليه بما هو، و ليس ذلك إلّا لان احتمال كون الحكم- بحيث لو تفحص عنه لظفر به- منجزا عقلا. و قد اشار (قدس سره) الى النحو الاول بقوله: ( (بما دل من الآيات و الاخبار على وجوب التفقه و التعلم)) كآية النفر و آية السؤال و الاخبار الدالة على ذلك و اشار الى النحو الثاني بقوله: ( (و المؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله تعالى)) و المراد من قوله تعالى هو عدم العلم بحكمه و أمره ( (كما في الخبر)) الوارد في تفسير قوله تعالى: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ كما مر بيانه، و فيه يقول بعد اعتذار العبد بعدم العلم انه يقال له ( (هلا تعلمت)) ثم اشار الى تقدم هذه الاخبار على اخبار البراءة و لزوم تقييد اخبار البراءة بها لا انها اظهر منها ان لم تكن مفسرة و حاكمة عليها بقوله:

( (فيقيد بها اخبار البراءة لقوة ظهورها)) أي لقوة ظهور هذه الاخبار الآمرة بالتعلم- حيث يحتمل الظفر بما يوجب العلم- على اخبار البراءة، و ان الملاك فيها هو لزوم التعلم حيث يمكن التعلم، فهي اقوى من اخبار البراءة لقوة الظهور فيها ( (في ان)) الملاك التام لصحة ( (المؤاخذة و الاحتجاج)) للّه على المكلف انما هو ( (بترك التعلم فيما لم يعلم)) فالمؤاخذة للمكلف على ترك العمل في مقام لم يعلم حيث يمكنه ان يعلم ( (لا)) ان المؤاخذة ( (بترك العمل فيما علم وجوبه و لو اجمالا)) و حيث كان لهذه الاخبار ظهور في كون الاحتمال في مقام امكان التعلم منجزا و يصح المؤاخذة

ص: 256

فافهم (1).

و لا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة، فلا تغفل (2).

______________________________

اعتبار الفحص بالتخيير العقلي

عليه ( (فلا مجال للتوفيق)) بين هذه الاخبار و اخبار البراءة ( (بحمل هذه الاخبار على ما اذا علم اجمالا)) و حمل اخبار البراءة على صورة عدم احتمال الحكم الذي لو فحص عنه لظفر به، فانه لا وجه له كما عرفت لشمول اخبار البراءة لاحتمال الحكم، و عدم اختصاص اخبار التعلم بالعلم الاجمالي، و لكن السبب في تقدم اخبار التعلم هو ما عرفت من قوة ظهورها في كون الملاك فيها هو ترك التعلم- بما هو ترك التعلم- لا للعلم الاجمالي، بل لان احتمال الحكم الذي لو فحص عنه لظفر به منجز عقلا و غير معذور في مخالفته فيجب التعلم مقدمة له.

(1) لعله اشارة الى انه لا وجه لهذا التوفيق و ان لم تكن هذه الاخبار اظهر، لانه اخذ باحد المتعارضين من دون مرجح. أو انه اشارة الى انه لو تكافئا فتساقطا لكان اللازم الفحص، اذ لا بد من المؤمن عند الاقدام على ما يحتمل فيه المخالفة. او انه اشارة الى انه لو تكافئا فتساقطا فالعقل يحكم بلزوم الفحص لما عرفت من ان احتمال الحكم الذي لو تفحص عنه لظفر به منجز عقلا.

(2) هذا رابع الاصول التي تعرض لشرط جريانها و هو التخيير العقلي، لوضوح كون التخيير الشرعي ليس من الاصول، و مورد التخيير العقلي الواجبان المتزاحمان اللذان لا يمكن الجمع بينهما كما في الواجبات الموقتة التي لا يسع الوقت إلّا احدهما، او الدوران بين المحذورين، و من الواضح ان حكم العقل بالتخيير في ذلك انما هو حيث يتكافئان و لا يترجح احدهما على الآخر و لا يحرز ذلك إلّا بالفحص و عدم الظفر بما يوجب ترجيح احدهما. و الظاهر ان مراده من قوله بعين ما ذكر في البراءة هي البراءة العقلية التي موضوعها عدم البيان الذي لا يتحقق إلّا بعد الفحص، فان

ص: 257

و لا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة و الاحكام.

أما التبعة، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم و الفحص مؤديا إليها (1)، فإنها و إن كانت مغفولة حينها و بلا

______________________________

في تبعة ترك الفحص و ترك التعلم

الموضوع في المقام و هو التكافؤ في التخيير مثله ايضا لا يتحقق إلّا بالفحص و عدم الظفر عما يقتضي الترجيح.

(1) لا يخفى ان الكلام في مقامين: المقام الاول: في تبعة ترك الفحص، و المقام الثاني: في احكام ترك الفحص ... و الكلام في المقام الاول في موارد ثلاثة:

الأول: ان العقاب فيما لو ترك الفحص هل هو على ترك الفحص او على مخالفة الحكم لو ادى ترك الفحص الى مخالفته. و الفرق بينهما واضح فانه لو كان على نفس ترك الفحص فلو ترك الفحص لاستحق العقاب و ان لم يكن هناك حكم فضلا عن المخالفة له، بخلاف ما اذا قلنا بان العقاب على مخالفة الحكم فانه لو ترك الفحص و لم يكن هناك حكم لا يستحق العقاب على الحكم لان المفروض انه لا حكم. نعم، بناء على استحقاق المتجري للعقاب يكون تارك الفحص مستحقا العقاب للتجري لا للعصيان المصطلح.

و اما الوجه لكل منهما فالوجه لكون العقاب على نفس ترك الفحص، بان يقال: ان نفس ترك الفحص عن تكليف المولى الذي لا يعرف عادة إلّا بالفحص ظلم و طغيان عليه، فنفس ترك الفحص عن التكليف في مظانه هتك للمولى و خروج عن زي الرقية و رسم العبودية له فيستحق العقاب على نفس ترك الفحص و ان لم يكن هناك حكم، و هذا انما يتم حيث يكون وجوب الفحص حكما مولويا بذاته لا طريقيا الى معرفة الحكم ... و اما ان نفس ترك الفحص عن التكليف في مظانه هتك للمولى و خروج عن زي الرقية فممنوع، لانه ليس ذلك لنفس ترك الفحص، بل لأدائه الى مخالفة المولى لاوامره التي لو تفحص عنها لظفر بها. نعم بناء على صحة عقاب

ص: 258

اختيار، إلا أنها منتهية إلى الاختيار، و هو كاف في صحة العقوبة، بل مجرد تركهما كاف في صحتها، و إن لم يكن مؤديا إلى المخالفة، مع احتماله، لاجل التجري و عدم المبالاة بها (1).

______________________________

المتجري فيستحق تارك الفحص عقاب التجري، و لذا جعل المصنف التبعة في استحقاق العقوبة على المخالفة للحكم فيما اذا كان ترك الفحص مؤديا اليها مع انه يقول بصحة العقاب على التجري، و يشير اليه في المورد الثاني. إلّا ان الكلام ليس فيه بل في العقاب على نفس المخالفة.

و الوجه في كون العقاب على مخالفة الحكم- لو كان- هوان الفحص لما كان كطريق الى حكم المولى لو كان، و لا وجه للعقاب على الطريق حيث لا يؤدي الى مخالفة ذي الطريق، و الطغيان و الخروج عن رسم العبودية انما هو في مخالفة ذي الطريق، و انما يحكم العقل باستحقاق العقاب في المقام مع عدم وصول الحكم و مع عدم العلم به و بصرف احتماله لاجل ان الحجة على حكم المولى اذا كانت بحيث لو تفحص عنها لظفر بها كان ذلك الحكم منجزا بمنجزية حجته، فاحتمال وجود الحجة التي لو تفحص عنها لظفر بها منجز لها، و الحكم الذي كان طريقه منجزا فهو منجز بطريقه، فيرجع الامر الى استحقاق العقاب على الحكم المنجز لو كان، و لهذا كان استحقاق العقاب دائرا مدار كون ترك الفحص مؤديا الى مخالفة الحكم و عدمه. و قد اشار الى هذا الثاني و هو كون العقاب على المخالفة بقوله: ( (و اما التبعة فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة)) للواقع ( (فيما اذا كان ترك التعلم و)) ترك ( (الفحص مؤديا اليها)) أي الى المخالفة للواقع.

(1) هذا هو المورد الثاني للكلام في التبعة على ترك الفحص، و توضيحه: ان التارك للفحص تارة: في حال ارتكابه يكون محتملا لمخالفة التكليف، و لا ريب في هذا الفرض في استحقاقه للعقاب عند المخالفة كما عرفت.

ص: 259

نعم يشكل في الواجب المشروط و المؤقت، لو أدى تركهما قبل الشرط و الوقت إلى المخالفة بعدهما (1)، فضلا عما إذا لم يؤد إليها،

______________________________

و اخرى يكون التارك للفحص في حال ارتكابه غافلا عن احتمال التكليف، و لا ينبغي الاشكال ايضا في استحقاقه للعقاب و ان كان غافلا، لان السبب في غفلته في حال الارتكاب هو ترك الفحص باختباره و علمه، فهو في حال الارتكاب و ان لم يكن مخالفا للمولى عن علم و اختيار، لفرض كونه غافلا في ذلك الوقت عن كون ارتكابه مخالفة لمولاه، و مع فرض غفلته لا علم له و لا اختيار في ان ارتكابه مخالفة للمولى، و لكنه لما كان ترك الفحص باختياره و علمه كان عدم اختياره في حال الارتكاب منتهيا الى الاختيار، و قد تقدم مرارا ان المدار في صحة العقاب على ان يكون الفعل و لو ببعض مقدماته اختياريا فانه من احد افراد المختار بالواسطة و هو كالمختار بلا واسطة، و لذا قال (قدس سره): ( (فانها)) أي المخالفة ( (و ان كانت مغفولة حينها و)) صادرة ( (بلا اختيار إلّا انها منتهية الى الاختيار)) و هو ترك الفحص و ترك التعلم، فان المفروض انه ترك عن اختيار ( (و هو كاف في صحة العقوبة)). و لما كان مختاره صحة عقاب المتجري على التجري .. اشار الى صحة العقاب على نفس ترك الفحص و التعلم لاجل التجري بقوله: ( (بل مجرد تركهما)) أي مجرد ترك الفحص و ترك التعلم ( (كاف في صحتها)) أي في صحة العقوبة ( (و ان لم يكن مؤديا الى المخالفة مع احتماله)) أي مع احتمال التكليف الذي لو تفحص عنه لظفر به ( (لاجل التجري و عدم المبالاة بها)) أي بالمخالفة.

(1) هذا هو المورد الثالث للكلام في تبعة ترك الفحص و ترك التعلم، و توضيحه: ان التكليف المحتمل، تارة يكون مطلقا و غير مشروط و موسعا غير موقت و هذا هو الذي تقدم الكلام في ترك الفحص و ترك التعلم بالنسبة اليه، و انه لا اشكال في وجوبهما عقلا و شرعا، و العقاب على مخالفة التكليف فيهما. و اما العقاب على نفس ترك الفحص و ترك التعلم فهو مبني على التجري.

ص: 260

.....

______________________________

و اخرى يكون التكليف مشروطا او موقتا و هو على ثلاثة انحاء:

- الأول: ان يكون بعد حلول الشرط و الوقت يسع الزمان للفحص و للتعلم و الامتثال، و يكون المكلف في ذلك الوقت محتملا للتكليف، و لا اشكال ان الحال في هذا هو الحال في الواجب المطلق و الموسع من حيث وجوب الفحص و وجوب التعلم، و عدم الاشكال في تبعة ترك الفحص و ترك التعلم من العقاب فيهما على مخالفة التكليف.

- الثاني: ان يكون المشروط و الموقت بعد حلول الشرط و الوقت لا يتسع المجال فيهما للفحص و التعلم و للامتثال.

- الثالث: ان يكون المجال بعد حلول الشرط و الوقت متسعا للفحص و التعلم، و لكن المكلف يكون غافلا في ذلك الوقت ... و الثاني و الثالث هما محل الاشكال.

و وجه الاشكال في الثاني: انه لا وجه لوجوب الفحص و وجوب التعلم قبل زمان الشرط و قبل حلول الوقت في المشروط و الموقت لان وجوبهما مقدمي، و قبل حلول الشرط و الوقت لا وجوب للواجب نفسه حتى تجب مقدمته.

و بعد حلول الشرط و الوقت- ايضا- لا وجه لوجوب الفحص و التعلم، لان المفروض ان الزمان لا يسع للفحص و للامتثال، و لا للتعلم و للامتثال، و حيث لا يمكن ان يترتب على المقدمة التمكن من اتيان ذي المقدمة فلا يعقل ان تجب بالوجوب المقدمي، فالفحص لا يجب لا قبل زمان الشرط و لا بعده، و لا قبل حلول الوقت و لا بعده، و كذلك التعلم. و حيث لا يجب الفحص و لا التعلم فلا تبعة في مخالفة التكليف من جهتهما، لوضوح انه اذا كان التكليف متوقفا على الفحص او التعلم و هما لا يجبان قبل الشرط و قبل الوقت، و بعد حلول الشرط و الوقت لا يسع المجال فلا قدرة على الامتثال حتى يكون هناك مخالفة للتكليف يصح العقاب عليها.

و بعبارة اخرى: لا تكليف قبل الوقت فلا مخالفة و هو واضح. و بعد الوقت و ان كانت مخالفة إلّا انه لا يصح العقاب عليها، لان القدرة و التمكن من الامتثال شرط في

ص: 261

حيث لا يكون حينئذ تكليف فعلي أصلا، لا قبلهما و هو واضح، و لا بعدهما و هو كذلك، لعدم التمكن منه بسبب الغفلة (1)، و لذا التجأ

______________________________

صحة العقاب على مخالفة التكليف، و حيث ان المفروض عدم سعة الوقت لذلك فلا يكون التكليف بعد الوقت مما يصح العقاب على مخالفته ايضا، و حيث لا يكون هناك مخالفة للتكليف يصح العقاب عليها فلا تبعة في ترك الفحص و ترك التعلم من جهة أدائها الى مخالفة التكليف. و قد اشار الى الثاني بقوله: ( (نعم يشكل)) تحقق تبعة ترك الفحص و ترك التعلم ( (في الواجب المشروط و الموقت)) اللذين لا يسع الزمان فيهما للفحص و التعلم و الامتثال، فلا تبعة في هذا القسم من الواجب المشروط و الموقت في ترك الفحص و التعلم ( (و لو ادى تركهما قبل)) زمان ( (الشرط و)) قبل حلول ( (الوقت الى المخالفة)) و عدم الامتثال ( (بعدهما)) أي بعد زمان الشرط و بعد حلول الوقت كما عرفت.

(1) يشير بهذا الى الفرض الثالث في الواجب المؤقت و المشروط، و هو ما اذا ترك الفحص و التعلم، و كان الوقت بعد حلول زمان الشرط و الوقت متسعا للفحص و التعلم و لكن المكلف كان غافلا.

و وجه الاشكال فيه هو انه قبل الوقت و الشرط لا يجب الفحص و التعلم لعدم وجوب نفس الواجب المشروط و المؤقت المتوقفين عليهما، و قد عرفت ان وجوب الفحص و التعلم مقدمي، و لا يعقل وجوب المقدمة قبل وجوب ذي المقدمة، و بعد حلول الوقت و الشرط لا فعلية للتكليف لفرض غفلة المكلف عن كل شي ء، و مع الغفلة لا فعلية للتكليف اصلا حتى يكون له مخالفة، لان فعلية التكليف انما هي حيث يمكن الانبعاث عنه، و مع فرض الغفلة لا يعقل الانبعاث فلا تكون له فعلية و مع عدم الفعلية لا مخالفة له.

و مما ذكرنا يظهر الفرق بين الغفلة هنا و بين الغفلة في الموسع، لتنجز التكليف في الموسع بالالتفات و انما الغفلة في حال العمل، بخلافه في المشروط فانه في حال

ص: 262

المحقق الاردبيلي و صاحب المدارك (قدس سرهما) إلى الالتزام بوجوب التفقه و التعلم نفسيا تهيئيا، فتكون العقوبة على ترك التعلم نفسه لا على ما أدى اليه من المخالفة (1).

______________________________

الالتفات لا تكليف، و في حال التكليف في وقت حصول الشرط فالمفروض تحقق الغفلة، فلا يقاس المشروط بالموسع لوضوح الفرق بينهما.

و لا يخفى- ايضا- ان الفرق بين الثاني و الثالث مع انه في كل منهما لا يعقل فعلية التكليف، غايته انه في الثاني عدم الفعلية لعدم اتساع الوقت للامتثال و الفحص أو التعلم، و في الثالث عدم الفعلية لاجل الغفلة، هو انه في الثاني المكلف ملتفت الى المخالفة، و في الثالث لا التفات له الى المخالفة لفرض الغفلة، و لذا ترقى بقوله:

( (فضلا)) في الثالث. و على كل فقد اشار الى الثالث بقوله: ( (فضلا عما اذا لم يؤد)) ترك الفحص او التعلم ( (اليها)) أي الى المخالفة الملتفت اليها ( (حيث لا يكون حينئذ)) أي حين الغفلة ( (تكليف فعلي اصلا لا قبلهما)) أي لا قبل الشرط و لا قبل الوقت ( (و هو واضح)) لفرض كون فعلية الواجب المشروط و الموقت منوطة بحصول الشرط و حلول الوقت، فلا فعلية لهما قبل حصول الشرط و قبل حلول الوقت ( (و لا)) فعلية ( (بعدهما)) أي لا فعلية ايضا للواجب المشروط و الموقت بعد حصول الشرط و حلول الوقت ( (و هو كذلك)) أي عدم فعليتهما بعد الشرط و الوقت واضح- ايضا- مثل عدم فعليتهما قبلهما ( (لعدم التمكن منه)) أي لعدم التمكن من امتثال التكليف ( (بسبب الغفلة)).

(1) توضيحه: انك قد عرفت ان محل الاشكال في العقاب في الواجب المشروط و المؤقت في الفرضين المتقدمين: و هما ما اذا لم يتسع المجال للفحص أو التعلم و الامتثال مع الالتفات الى احتمال التكليف و مخالفته لو كان، او ما اذا اتسع المجال لهما و لكن المكلف كان حال حصول الشرط و حلول الوقت غافلا اصلا. و لما كان من المسلم صحة عقاب تارك الفحص او التعلم في الفرضين اجيب بوجوه:

ص: 263

فلا إشكال حينئذ في المشروط و المؤقت، و يسهل بذلك الامر في غيرهما لو صعب على أحد، و لم تصدق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه و ليس بالاختيار، و لا يخفى أنه لا يكاد ينحل هذا الاشكال إلا بذاك (1)، أو الالتزام بكون

______________________________

الأول: ما التزمه المحقق الاردبيلي و صاحب المدارك (قدس سرهما) بان العقاب على نفس ترك الفحص و ترك التعلم، لان الوجوب فيهما نفسي لا مقدمي، غايته انه وجوب تهيئي، فان الوجوب التهيئي من الوجوب النفسي، و هو ما كان غرض الوجوب فيه هو التهيؤ لواجب آخر و ليس من الوجوب المقدمي، فان الوجوب المقدمي ما كان نفس وجوبه مترشحا من واجب آخر، و الواجب التهيئي ليس وجوبه مترشحا من وجوب آخر، و لكن الغرض الداعي الى وجوبه هو ما يتعلق بواجب آخر. و فرق واضح بين كون نفس الوجوب مترشحا من وجوب آخر، و بين كون الغرض من الوجوب يعود الى واجب آخر كما تقدم بيانه في مبحث الواجب النفسي و الغيري. و على كل فاذا كان وجوب الفحص و التعلم نفسيا فالعقاب يكون على تركهما لا مخالفة التكليف المشروط و الموقت. و الى هذا اشار بقوله: ( (و لذا التجأ)) في مقام الجواب عن الاشكال في العقاب على مخالفة المشروط و الموقت فيما لو ترك الفحص او التعلم وادى ذلك الى المخالفة فيهما فاضطر ( (المحقق الاردبيلي و صاحب المدارك (قدس سرهما) الى الالتزام بوجوب التفقه و التعلم)) وجوبا ( (نفسيا تهيئيا)) لا وجوبا مقدميا، و مع كون الوجوب فيهما نفسيا ( (فيكون العقوبة على ترك التعلم نفسه لا على ما ادى اليه)) ترك التعلم ( (من المخالفة)) للواجب المشروط و المؤقت.

(1) لا يخفى ان الالتزام بالوجوب النفسي في التفقه و التعلم كما يحل الاشكال في الواجب المشروط و المؤقت، من جهة العقاب، كذلك يحل الاشكال في غير الواجب المشروط و الموقت، كما لو ترك الفحص و التعلم و التفقه في الواجب المطلق و الموسع

ص: 264

المشروط أو المؤقت مطلقا معلقا، لكنه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم، فيكون الايجاب حاليا، و إن كان الواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه، و لا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته (1).

______________________________

وادى الى المخالفة و لكنه كان غافلا حين المخالفة اصلا، كما تقدمت الاشارة اليه في انه على نحوين: لانه تارة يكون محتملا للتكليف، و اخرى يكون غافلا ... فلو استشكل احد في صحة العقاب في خصوص الغافل التارك للتعلم و التفقه على مخالفته لنفس التكليف، فالالتزام بالعقاب على نفس ترك التفقه و التعلم لوجوبه النفسي لا على مخالفة التكليف يحل الاشكال ايضا.

و ينبغي ان لا يخفى ان المخالفة في الواجب المطلق و الموسع انما تتحقق بالموت إلّا اذا قلنا بوجوب المبادرة فيهما، فانه لو انكشف للمكلف وجوبهما فلا تتحقق المخالفة لو اتى بالمامور به فيهما، و انما تتحقق المخالفة في نفس ترك المبادرة اليهما. نعم في المؤقت الذي يتسع المجال فيه للفحص أو التعلم و للامتثال و يكون هناك احتمال للتكليف عند المكلف تتحقق المخالفة في ترك نفس الواجب. و الى هذا اشار بقوله:

( (فلا اشكال حينئذ)) بناء على الوجوب النفسي لنفس التعلم و ان العقاب يكون على تركه لا على المخالفة ( (في الواجب المشروط و الموقت و يسهل بذلك)) أي بهذا المبنى ( (الامر في غيرهما)) أي في غير الواجب المشروط و المؤقت ( (لو صعب على احد)) و استشكل في عقاب التارك الغافل ( (و لم تصدق)) عنده ( (كفاية الانتهاء الى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه و)) انه ( (ليس بالاختيار)).

(1) يشير الى الوجه الثاني الذي يمكن الجواب به عن الاشكال في الفرضين في تبعة ترك التعلم و الفحص من ناحية العقاب. و حاصله: ان الاشكال كان من جهة ان

ص: 265

.....

______________________________

المشروط و المؤقت لا وجوب لهما قبل تحقق الشرط و قبل حلول الوقت حتى يجب التعلم و الفحص من باب المقدمية، و لا بعدهما لفرض عدم الاتساع او الغفلة المانعين عن فعلية التكليف فلا وجوب للمقدمة ايضا بعدهما ... اما مع الالتزام بالواجب المعلق في المشروط و الموقت فان الموقت ايضا من الواجب المشروط إلّا ان شرطه الوقت، فيكونان واجبين قبل حصول الشرط و قبل حلول الوقت، و يجب على هذا الفحص و التعلم من باب المقدمية، و عليه يرتفع اشكال العقاب على المخالفة للتكليف بتركهما، لوضوح عدم الاشكال في العقاب على مخالفة الواجب اذا أدى ترك المقدمة الى مخالفته، و حيث انه لا عقاب على نفس ترك المقدمة فالعقاب على مخالفة الواجب من تبعات ترك المقدمة، و حيث كان الالتزام بالواجب المعلق لازمه وجوب ساير مقدمات الواجب المشروط و المؤقت قبل الشرط و الوقت، و هو مما لا يسعه الالتزام به، لانه من المسلم عدم وجوب ساير المقدمات في المشروط و الموقت قبل الشرط و الوقت، فلذلك لا بد من الالتزام بانه قد اخذ في ساير المقدمات في الواجب المشروط و الموقت- عدا مقدمية الفحص و التعلم- شي ء يقتضي عدم وجوبهما الا بعد الشرط و الوقت، بان يقال- انه بعد الالتزام بالواجب المعلق فيهما بارجاع القيد فيهما الى المادة لا الهيئة و هي الوجوب-: ان ما عدا الفحص و التعلم من المقدمات قد اخذ في الواجب المشروط و الموقت القدرة الخاصة بالنسبة اليهما و هي القدرة عليه من قبل ساير مقدماتهما بعد حصول الشرط و حلول الوقت، فلا تجب الطهارة قبل الوقت مثلا للصلاة و ان كان وجوب الصلاة قبل الوقت، لان الطهارة التي هي مقدمة للصلاة هي الطهارة التي تكون القدرة على الصلاة بالنسبة اليها حاصلة بعد حلول الوقت لا مطلق الطهارة، و هكذا ساير المقدمات عدا وجوب التعلم و الفحص. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (انه لا يكاد ينحل هذا الاشكال إلّا بذاك)) و هو الوجوب النفسي الذي ذهب اليه المحقق الاردبيلي و صاحب المدارك ( (او)) ينحل بالالتزام ( (بكون المشروط او المؤقت مطلقا)) أي كل واجب مشروط

ص: 266

.....

______________________________

و كل واجب مؤقت نلتزم بكون وجوبهما ( (معلقا)) و السبب في الاطلاق بالتزام الوجوب المعلق في كل مشروط و مؤقت هو وجوب التعلم مطلقا لكل مشروط و مؤقت. و حيث قد عرفت انه من المسلم عدم وجوب ساير المقدمات في المشروط و المؤقت قبل الشرط و الوقت اشار الى انه نحو وجوب لا تكون مقدماته الوجودية واجبة قبل تحقق الشرط و قبل حلول الوقت، لانه قد اخذت فيها قدرة خاصة كما عرفت بقوله: ( (لكنه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلا بالوجوب قبل الشرط او الوقت)) لانه قد اخذ فيه القدرة عليه من قبل ساير مقدماته بعد الشرط و الوقت ( (غير التعلم)) فانه لو يؤخذ فيه من جهته شي ء فيسري اليه الوجوب قبل حصول الشرط و الوقت لتحقق الوجوب قبل ذلك، لان الشرط و الوقت بناء على المعلق يرجعان الى المادة لا الى الهيئة: أي يرجعان الى متعلق الوجوب دون نفس الوجوب ( (فيكون)) نفس ( (الايجاب)) في الواجب المعلق ( (حاليا و ان كان)) نفس ( (الواجب فيه استقباليا)) و لكن ذلك الواجب ( (قد اخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه)) أي مقدمته ( (و لا غير التعلم من)) جميع ( (مقدماته قبل)) تحقق ( (شرطه او)) حلول ( (وقته)) لانه قد اخذ في الواجب بالنسبة الى ساير مقدماته عدا التعلم قدرة خاصة و هي القدرة بعد الشرط و بعد حلول الوقت.

و لا يخفى انه يمكن ان يجاب عن الاشكال المذكور بوجه ثالث، من دون الالتزام بالوجوب النفسي للتعلم و لا بالواجب المعلق، بل نقول: انما يجب الفحص أو التعلم مع كون الواجب مشروطا او مؤقتا لا وجوب لهما قبل الشرط و الوقت، من ناحية ان تفويت التكليف في ظرفه بسبب ترك الفحص او ترك التعلم الموجب للغفلة عنه بعد حلول الوقت او الشرط- فيما اذا كان الوقت يسع للامتثال و الفحص او التعلم- مما تصح المؤاخذة عليه عقلا، و كذلك تفويت الغرض من المكلف به بسبب ترك الفحص او التعلم اذا كان لا يسع المجال لهما و للامتثال بعد الشرط او الوقت مما تصح المؤاخذة عليه ايضا عند العقل، فالعقاب على التفويت الحاصل بسبب ترك

ص: 267

و أما لو قبل بعدم الايجاب إلا بعد الشرط و الوقت، كما هو ظاهر الادلة و فتاوى المشهور، فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلم نفسيا، لتكون العقوبة- لو قيل بها- على تركه لا على ما أدى إليه من المخالفة،

______________________________

التعلم او الفحص. و اليه المصنف اشار في الهامش، إلّا انه انما يحكم العقل بذلك حيث يعلم ان الغرض لازم التحصيل مطلقا و ان التكليف تام الاقتضاء. اما اذا احتمل كون الغرض ليس لازم التحصيل مطلقا، بل فيما اذا عرض حصول الشرط من باب الاتفاق او ان التكليف ليس بتام الاقتضاء بل كان لحصول الشرط او الوقت دخل في تمامية اقتضائه فلا يحكم العقل بصحة العقاب من باب التفويت. و اللّه العالم.

و قد يجاب في المقام بوجه رابع: و هو ان نفس احتمال التكليف مع فرض امكان معرفته بالتفقه او الظفر به بالفحص منجز له و مصحح للعقاب على مخالفته.

و لا يخفى ما فيه، فان احتمال التكليف انما يكون منجزا او مصححا للعقاب على مخالفة التكليف فيما اذا كان التكليف المحتمل مطلقا او موسعا او مشروطا او موقتا، و لكنه كان بعد تحقق الشرط و حلول الوقت مما يسع التعلم او الفحص و الامتثال، و كان المكلف ملتفتا الى الاحتمال بعد الشرط او الوقت. اما في الواجب المشروط و الموقت في الغرضين مما كان المجال بعد الشرط او الوقت لا يسع للفحص أو التعلم و للامتثال، او كان يسع لذلك و لكنه كان المكلف غافلا فلا يكون الاحتمال منجزا، لما مر من الاشكال من عدم وجوب الفحص و التعلم قبل الوقت و الشرط و لا بعدهما، اذ بعد حكم العقل بعدم فعلية مثل ذلك التكليف بعد تحقق الشرط و حلول الوقت لا وجه لان يكون احتماله منجزا. و لعله لذلك ايضا لم يشر اليه المصنف، و حصر الجواب في الامرين المذكورين من الالتزام بالوجوب النفسي و الواجب المعلق.

ص: 268

و لا بأس به كما لا يخفى (1)، و لا ينافيه، ما يظهر من الاخبار من كون وجوب التعلم إنما هو لغيره لا لنفسه، حيث أن وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره فيكون مقدميا (2)،

______________________________

(1) توضيحه: انه بعد ما عرفت من انحصار الجواب عن الاشكال في الامرين، و لما كان الالتزام بالواجب المعلق خلاف ظاهر الادلة في الواجب المشروط و المؤقت، فان الظاهر من ادلتها كون الشرط و الوقت قيدا للوجوب و انه لا وجوب قبل الشرط و قبل الوقت، فان الظاهر من قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ 27] هو كونه لا وجوب قبل الدلوك، و كذلك مثل قوله تعالى: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ 28] انه لا وجوب قبل الاستطاعة، و كما ان الواجب المعلق خلاف ظاهر ادلة الموقت و المشروط، كذلك هو خلاف المشهور ايضا، فان المستفاد من فتاوى المشهور انه لا وجوب في المشروط و الموقت قبل الشرط و الوقت. فعلى هذا ينحصر الجواب عن الاشكال المذكور فيهما بالتزام كون التعلم واجبا نفسيا، و يكون العقاب على تركه لا على مخالفة التكليف الذي ادى اليه ترك التعلم فيما كان مشروطا او مؤقتا، و عبارة المتن واضحة، و الضمير في تركه و اليه يعودان الى التعلم، و المراد من المخالفة هي مخالفة التكليف الذي ادى اليه ترك التعلم.

(2) حاصله: ان الالتزام بالوجوب النفسي في اخبار التعلم قد يقال بمنافاته لما يظهر من اخبار التعلم، فان الظاهر منها كون وجوب التعلم لغيره لا لنفسه كما هو ظاهر قوله عليه السّلام من انه يقال للعبد يوم القيامة: هل علمت، فان قال: نعم، قيل: فهلا عملت، و ان قال: لا، قيل له: هلا تعلمت، فان الظاهر منها ان الامر بالتعلم لان يعمل، فان سؤاله عن العلم و حضه على التعلم بقوله هلا تعلمت انما هو لكونه

ص: 269

.....

______________________________

طريقا لان يعمل، فان قوله فهلا عملت ظاهر في ذلك. و اذا كان مدلول اخبار التعلم هو الوجوب لغيره فكيف يمكن الالتزام بالوجوب النفسي في التعلم؟

و الجواب في رفع هذه المنافاة هو ما تقدم في مبحث الواجب النفسي و الغيري:

من ان الفرق بين الوجوب النفسي و الوجوب الغيري هو كون الوجوب الغيري وجوبا مترشحا من وجوب آخر، فالواجب الغيري هو الواجب المترشح وجوبه من واجب آخر، و الوجوب النفسي هو ما لا يكون وجوبه مترشحا من وجوب آخر سواء كان وجوبه لغرض في نفسه او لغرض في غيره، فالواجب النفسي الذي لا يكون مترشحا وجوبه من واجب آخر، بل كان الغرض من وجوبه ليس في نفسه بل في غيره سواء كان غيره واجبا او ليس بواجب هو واجب نفسي كالواجب النفسي الذي كان وجوبه لغرض في نفس الواجب.

فاتضح: ان الالتزام بالوجوب النفسي في التعلم لا ينافيه ما يظهر من اخبار التعلم، فان الظاهر منها كون الغرض من الامر بالتعلم هو في غيره، لا ان وجوب التعلم وجوب غيري مترشح من غيره، و لذا قال (قدس سره): ( (لا ينافيه)) أي لا ينافي الالتزام بالوجوب النفسي في التعلم ( (ما يظهر من الاخبار)). ثم اشار الى وجه توهم المنافاة بقوله: ( (من كون وجوب التعلم)) المستفاد من ظاهر الاخبار ( (انما هو)) وجوب ( (لغيره لا)) وجوب ( (لنفسه)) فيكون على هذا التوهم ان المستفاد من الاخبار هو الوجوب الغيري في التعلم و هو ينافي الالتزام بالوجوب النفسي فيه. ثم اشار الى رفع المنافاة بقوله: ( (حيث ان وجوبه ل)) غرض في ( (غيره لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره فيكون مقدميا)) أي ان الواجب الغيري المقدمي هو الذي يكون وجوبه مترشحا من غيره، لا الذي يكون الغرض من وجوبه في غيره، فان الواجبات النفسية ما كان الغرض لوجوبها في غيرها لا في نفسها.

ص: 270

بل للتهيؤ لايجابه، فافهم (1).

و أما الاحكام، فلا إشكال في وجوب الاعادة في صورة المخالفة، بل في صورة الموافقة أيضا في العبادة، فيما لا يتأتى منه قصد القربة (2) و ذلك

______________________________

في احكام ترك الفحص

(1) توضيحه: ان الواجب التهيئي هو ما كان واجبا لأن يتهيأ المكلف لخطاب آخر، كالامر بالوضوء- مثلا- قربيا من وقت الصلاة، فان الامر به لان يتهيأ المكلف لخطاب الصلاة اول وقتها. و لا يخفى ان الواجب النفسي الذي يكون الغرض من وجوبه في غيره قد يكون وجوبه تهيئيا و قد لا يكون تهيئيا، و قد مر من المصنف ان الوجوب النفسي الذي التزم به في التعلم هو وجوب تهيئي للواجب المشروط و المؤقت، فيجب على المكلف قبل تحقق وجوب الواجب المشروط و المؤقت التعلم ليتهيأ الى الخطاب بالمشروط و المؤقت بعد الشرط و الوقت، و هذا هو مراده من قوله: ( (بل للتهيؤ لا يجابه)) أي ان وجوب التعلم ليس وجوبا مقدميا غيريا بل وجوبا نفسيا لاجل التهيؤ لايجاب غيره في وقته.

و اما قوله: ( (فافهم)) فيمكن ان يكون اشارة الى ان الالتزام بالوجوب النفسي تهيؤا في المشروط و الموقت للفرار عن الاشكال في الفرضين، واحد الفرضين ليس فيه خطاب فعلى بعد زمان الشرط و الوقت، فلا وجه لكون الوجوب النفسي في المقام للتهيؤ مطلقا، اذ لا خطاب هناك للمشروط و الموقت على ما هو المفروض في الاشكال.

(2) لما فرغ من الكلام في المقام الأول، و هو تبعة ترك الفحص ... شرع في المقام الثاني: و هو احكام ترك الفحص. و توضيحه: انه لو ترك الفحص و لم يأت بشي ء فانكشفت المخالفة و انه هناك امر بشي ء، فلا اشكال في لزوم الاتيان سواء كان المامور به عبادة أم معاملة بالمعنى الاعم. و اذا احتمل دخالة شي ء في المأمور به و ترك الفحص عنه و حينئذ: فاما ان يكون ما قد اتى به موافقا للواقع، و اما ان لا يكون موافقا، و في الثاني لا اشكال في ان القاعدة تقتضي البطلان فيه، لعدم الاتيان بما هو

ص: 271

.....

______________________________

المامور به سواء كان معاملة او عبادة. نعم فيما اذا كانت العبادة صلاة و قلنا بشمول حديث لا تعاد الصلاة الا في الخمس للجهل و لو عن تقصير، و كان المتروك غير احد الخمسة كانت الصلاة صحيحة، و إلّا فباطلة. و اما في الأول فلا اشكال في الصحة فيما كان المامور به معاملة بالمعنى الاعم للاتيان بتمام المامور به على الفرض. و ما سيأتي من عدم الصحة في بعض الفروض فيما اذا كان المامور به عبادة لا مجال له في المعاملة بالمعنى الاعم، لما سيتضح من ان عدم الصحة في العبادة انما هي لعدم تأتي قصد القربة، و لا تشرط القربة في المعاملة بالمعنى الاعم.

و اما اذا كان عبادة: فتارة يكون المكلف في حال العمل غافلا تماما عن احتمال دخالة شي ء في المامور به عدا ما يأتي به، و لا شبهة في تأتي قصد القربة منه. و اخرى يكون المكلف في حال العمل ملتفتا الى احتمال الدخالة و ترك الفحص و لكن عمله كان موافقا للمأمور به واقعا، و لكنه حيث لا يتأتى منه قصد القربى مع احتمال الدخالة فلا يقع عمله عباديا فلا يكون صحيحا، مثلا اذا قلنا بعدم امكان اجتماع الغصب و الصلاة و لكن قلنا بتقديم جانب الامر على النهي، فلو صلى في المغصوب غافلا فلا اشكال في صحة الصلاة لتأتي قصد القربة منه، و ان صلى في المغصوب مع احتمال دخالة عدم المغصوبية في الصلاة و ترك الفحص فلا تقع صلاته صحيحة، و ان بنينا على تقديم جانب الامر على النهي، لعدم تأتي قصد القربة من المكلف مع احتماله دخالة عدم الغصب في الصلاة. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (و اما الاحكام)) المترتبة على ترك الفحص ( (فلا اشكال في وجوب الاعادة)) في العبادة و المعاملة بالمعنى الاعم ( (في صورة المخالفة بل في صورة الموافقة ايضا)) و لكنه ( (في)) خصوص ( (العبادة فيما لا يتأتي منه قصد القربة)) اما في صورة الموافقة و تأتي قصد القربة فلا اشكال في الصحة للاتيان بتمام المامور به مع عدم خلل في قصد القربة.

ص: 272

لعدم الاتيان بالمأمور به مع عدم دليل على الصحة و الاجزاء (1)، إلا في الاتمام في موضع القصر أو الاجهار أو الاخفات في موضع الآخر، فورد في الصحيح- و قد أفتى به المشهور- صحة الصلاة و تماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقا، و لو كان عن تقصير موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها، لان ما أتى بها و إن صحت و تمت إلا أنها ليست بمأمور بها (2).

______________________________

(1) هذا تعليل للحكم بوجوب الاعادة في صورة المخالفة، و هو ما عرفت من ان مقتضي القاعدة هي الاعادة، لعدم الاتيان بالمأمور به على الفرض، و وقوع المامور به صحيحا منوط باحد امرين: احدهما: عقلي و هو الاتيان بتمام المامور به، فانه مع الاتيان بتمام المامور به فالعقل يحكم بالصحة. ثانيهما: و هو ان يقوم دليل شرعي على الصحة و ان كان المأتي به ناقصا عن تمام ما امر به و المفروض عدم الاتيان بتمام المامور به في صورة المخالفة، و عدم قيام دليل شرعي على الصحة مطلقا في مقام ترك الفحص. و قد اشار الى الأول بقوله: ( (و ذلك لعدم الاتيان بالمأمور به)) و اشار الى الثاني بقوله: ( (مع عدم دليل على الصحة و الاجزاء)).

(2) قد استثني من القاعدة المقتضية للبطلان في مقام ترك الفحص مع المخالفة موردان: احدهما: الاتيان بالاتمام في موضع القصر. ثانيهما: الاتيان بالجهر في موضع الاخفات، او الاخفات في موضع الجهر. اما الاتيان بالقصر في موضع الاتمام فليس داخلا في الاستثناء، لعدم ورود دليل على الاكتفاء بالقصر في مورد التمام.

نعم قد ورد الدليل على الاكتفاء بالاتمام في موضع القصر دون العكس، و ورود الدليل ايضا على الاكتفاء بالجهر و الاخفات مطلقا كل في مورد الآخر.

اما الدليل على الأول فهو الصحيح الوارد عن زرارة و محمد بن مسلم (قالا قلنا لابي جعفر عليه السّلام رجل صلى في السفر اربعا أ يعيد ام لا؟ قال عليه السّلام ان كان قرئت عليه آية التقصير و فسرت له فصلى اربعا اعاد، و ان لم تكن قرئت عليه و لم يعلمها

ص: 273

.....

______________________________

فلا اعادة عليه)(1) و هو ظاهر في عدم الاعادة في مقام الاتيان بالتمام في مقام القصر عند ترك الفحص.

و اما الدليل على الثاني فهو ما ورد في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر عليه السّلام (في رجل جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه، و اخفى فيما لا ينبغي الاخفاء فيه فقال عليه السّلام: أي ذلك فعل متعمدا فقد تقض صلاته و عليه الاعادة، فان فعل ذلك ناسيا او ساهيا او لا يدري فلا شي ء عليه و قد تمت صلاته)(2) و قوله عليه السّلام: أو لا يدري ظاهر في عدم الاعادة مع المخالفة بالجهر و الاخفات في حال جهله و عدم درايته الشامل باطلاقه لصورة ترك الفحص. و لما كان الدليل في نفسه صحيحا في كلا المقامين افتى المشهور على طبقه في المقامين، فقالوا بصحة الصلاة في الموضعين فأفتوا بصحة خصوص صلاة من صلى الاتمام في موضع القصر دون العكس، و صحة صلاة من جهر في مقام الاخفات، و بالعكس فيما اذا كان عن جهل مطلقا و لو كان الجهل عن تقصير، و من الواضح ان الجهل عن تقصير انما هو لترك الفحص. نعم فيما اذا كان عن تقصير مع التزامهم بصحة الصلاة في الموضعين التزموا فيهما باستحقاق العقاب على ترك المامور به التام لانه ترك للمامور به التام عن تقصير.

و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (الا في الاتمام في موضع القصر)) دون القصر في موضع الاتمام ( (و)) في ( (الاجهار أو الاخفات)) مطلقا بصحة كل منهما ( (في موضع الآخر)). و اشار الى ورود ذلك في الخبر الصحيح بقوله: ( (فورد في الصحيح)) و هما صحيح زرارة و محمد بن مسلم و صحيح زرارة المتقدمين. و اشار الى افتاء المشهور على طبقهما بقوله: ( (و قد افتى به المشهور)) فان فتواهم على ( (صحة الصلاة و تماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقا)) سواء كان عن قصور او عن

ص: 274


1- 29. ( 1) وسائل الشيعة: ج 5، باب 17 من أبواب صلاة المسافر حديث 4.
2- 30. ( 2) وسائل الشيعة: ج 2، باب 26 من أبواب القراءة حديث 1.

إن قلت: كيف يحكم بصحتها مع عدم الامر بها؟ و كيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها، حتى فيما إذا تمكن مما أمر بها؟ كما هو ظاهر إطلاقاتهم، بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الاتمام و الاخفات و قد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا، ضرورة أنه لا تقصير هاهنا يوجب استحقاق العقوبة، و بالجملة كيف يحكم بالصحة بدون الامر؟ و كيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الاعادة (1)؟

______________________________

تقصير. و اشار الى التزامهم باستحقاق العقوبة فيما كان عن تقصير بقوله: ( (و لو كان عن تقصير موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة)) التامة ( (المامور بها)).

ثم اشار الى الوجه في استحقاق العقوبة بقوله: ( (لان ما أتى بها)) من الصلاة الناقصة ( (و ان صحت و تمت)) لعدم لزوم الاعادة و ان انكشف الخلاف في الوقت ( (إلّا انها ليست بمأمور بها)) أي لان الصلاة الناقصة التي اتى بها الجاهل المقصر ليست بمأمور بها، و قد ترك الصلاة التامة المامور بها عن تقصير، و لذا حكموا باستحقاق العقاب على ترك الصلاة التامة، مع حكمهم بصحة الصلاة الناقصة الماتي بها و بعدم الاعادة مع الاتيان بها و ان كانت غير مامور بها.

(1) قد عرفت ان الموردين المذكورين و هما الاتمام في موضع القصر و الجهر و الاخفات كل منهما في موضع الآخر قد استثنيا من القاعدة في المخالفة عند ترك الفحص التي تقتضي الاعادة في الوقت عند انكشاف الخلاف، و قد عرفت ان المشهور قد استثناهما من القاعدة، و لازم الاستثناء هو عدم الاعادة و لو كان الوقت متسعا بعد تبين الخلاف. و التزم المشهور- ايضا- باستحقاق العقوبة على ترك المامور به التام و ان وسع الوقت له بعد تبين الخلاف، و التزم المشهور- ايضا- بصحة ما اتى به من العبادة الناقصة مع انها ليست بمأمور بها ... و لذلك استشكل على المشهور باشكالين اشار اليهما في المتن، و هناك اشكال ثالث لم يشر اليه المصنف.

ص: 275

.....

______________________________

و الاشكال الأول هو ان العبادة الناقصة التي التزم المشهور بصحتها لا تخلو: اما ان لا يكون فيها امر فكيف حكموا بصحتها مع ان العبادة لا تصح من دون قصد الامر؟ و ان كان فيها امر فلا بد و ان يكون تعيينيا، لوضوح كون امر الفريضة تعيينيا لا تخييريا، مع ان القول بالتخيير لا يجتمع مع القول بالعقوبة على ترك بعض افراد ما وقع فيها التخيير. و كون الامر بالناقص تعيينيا ينافي كون الامر التعييني في المقام هو المتعلق بالصلاة التامة دون هذه الصلاة الناقصة و لذا يقولون باستحقاق العقوبة على مخالفته. و قد اشار الى هذا الاشكال اجمالا بقوله: ( (كيف يحكم بصحتها مع عدم الامر بها)).

الاشكال الثاني: هو ان المشهور كما عرفت افتوا بعدم الاعادة مع اتساع الوقت و تبين الخلاف، مع التزامهم باستحقاق العقوبة على المخالفة و المفروض اتساع الوقت، فمن صلى تماما في موضع القصر- مثلا- ثم انكشف الخلاف له و ان فرضه كان القصر لا اعادة عليه و ان اتسع الوقت للاعادة، و حيث ان الاتمام لا امر به، و الامر متعلق بالقصر و هو الطبيعة بين الحدين من الزوال- مثلا- الى المغرب، فكيف يحكم المشهور بعدم الاعادة مع التمكن باتيان ما امر به في وقته و التمام الذي اتى به ينبغي ان يكون بحكم عدم الاتيان بشي ء لفرض عدم الامر به اذ لا فرق بين عدم الاتيان اصلا و بين الاتيان بغير المامور به. و كيف يحكمون باستحقاق العقوبة على مخالفة المامور به مع ان الوقت متسع لاتيانه؟

و بعبارة اخرى: ان استحقاق العقاب على المخالفة انما يكون بعد انتهاء الوقت في المؤقت، و مع فرض بقاء الوقت و عدم الاتيان بالمامور به لا تصدق المخالفة الموجبة لاستحقاق العقاب.

و الحاصل: ان حكم المشهور بصحة الصلاة في الموردين ينافي كونها لا امر بها كما في الاشكال الأول، و ينافي استحقاق العقاب على مخالفة المامور به مع امكان الاتيان به كما في الاشكال الثاني. و قوله عليه السّلام- في الخبر- قد تمت صلاته، يقتضي

ص: 276

لو لا الحكم شرعا بسقوطها و صحة ما أتى بها (1).

______________________________

ان هناك امرا بها و انه لا عقوبة على مخالفة القصر و لا على الجهر و الاخفات كل في موضع الآخر.

ثم لا يخفى ان هذا الاشكال الثاني و ان انحل الى اشكالين: احدهما الحكم بعدم الاعادة مع اتساع الوقت لاتيان المامور به. و ثانيهما: الحكم باستحقاق العقاب المستلزم لتحقق المخالفة و المفروض سعة الوقت للاعادة فلا مخالفة، إلّا ان المهم هو الحكم منهم باستحقاق العقاب مع سعة الوقت، حيث انه لا يصدق التقصير مع امكان الاعادة، و لذلك اشار اليه بقوله: ( (و كيف يصح الحكم)) من المشهور ( (باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي امر بها)) و هي القصر مثلا بعد الاتيان بالاتمام ( (حتى فيما اذا كان مما امر بها)) بان كان الوقت متسعا لصلاة القصر ( (كما هو ظاهر اطلاقاتهم)) فان الظاهر منهم هو الاطلاق في الالتزام باستحقاق العقاب و لو ( (بان علم)) المكلف ( (بوجوب القصر او الجهر)) مثلا ( (بعد)) اتيانه ( (ب)) الاتمام و الاخفات و)) الحال ( (قد بقى من الوقت مقدار اعادتها قصرا او جهرا)).

ثم اشار الى وجه الاشكال و ان استحقاق العقوبة انما هو لصدق التقصير، و مع فرض امكان الاعادة بسعة الوقت لها لا تقصير بقوله: ( (ضرورة انه لا تقصير هاهنا)) أي مع فرض سعة الوقت للاعادة و لم يفت المامور به بين الحدين فلا تقصير مع هذا الفرض ( (يوجب)) الحكم ب ( (استحقاق العقوبة)).

و لا يخفى ان قوله (قدس سره): ( (و بالجملة ...- الى قوله- من الاعادة)) هو من الاجمال بعد التفصيل، فقد اشار فيه الى الاشكالين: من عدم الوجه لحكم المشهور بالصحة مع عدم الامر بالاتمام مثلا، و من عدم الوجه لحكمهم باستحقاق العقوبة على القصر مع سعة الوقت للاعادة قصرا.

(1) أي ان ظاهر ما يستفاد من الخبر هو عدم استحقاق العقوبة على القصر لقوله قد تمت صلاته، فانه ظاهر في ان ما اتى به من الاتمام واف بتمام ما للصلاة من الأثر،

ص: 277

قلت: إنما حكم بالصحة لاجل اشتمالها على مصحلة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها، و إن كانت دون مصلحة الجهر و القصر، و إنما لم يؤمر به لاجل أنه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الاكمل و الاتم (1).

______________________________

و مع الوفاء بتمام الاثر لا وجه لاستحقاق العقوبة على القصر. و منه يظهر ان ما اتى به من الاتمام مامور به ايضا، لوضوح ان ما كان وافيا بتمام ما للصلاة من الاثر لا بد و ان يكون مامورا به. فالظاهر من الشارع كما يدل عليه الصحيح هو حكمه بسقوط العقوبة و صحة الصلاة، و الى هذا اشار بقوله: ( (لو لا الحكم شرعا بسقوطها)) أي بسقوط العقوبة ( (و صحة ما اتى بها)) من الصلاة.

و اما الاشكال الثالث فحاصله: ان الاتمام ان كان مشتملا على تمام المصلحة فلا وجه للعقاب على القصر بعد الاتيان بما يفي بتمام مصلحته، و ان لم يكن وافيا بتمام مصلحته فلا وجه للحكم بعدم الاعادة، لفرض كون المصلحة ملزمة و لم تستوف و قد بقى من الوقت ما يسع لاستيفائها.

(1) لا يخفى ان ما اجاب به (قدس سره) واف بدفع الاشكالات الثلاثة كلها.

و حاصله: ان ما اتى به و هو الاتمام- مثلا- لم يشتمل على تمام المصلحة بل كان مشتملا على مقدار منها هو بحد الالزام ايضا، و ان ما فات منها هو ايضا ملزم لا يمكن استيفاؤه، فالحكم بالصحة انما هو لكونه مشتملا على هذا المقدار من المصلحة، و لا امر بها لان الامر بالفريضة واحد تعييني. و حيث ان هناك ما يشتمل على حد الالزام- ايضا- فلا وجه للامر التعييني بالاتمام المشتمل على بعض المصلحة و ان كان بحد الالزام ايضا، فلا بد و ان يكون الاتمام في موضع القصر لا امر به، و يصح لاشتماله على مقدار من المصلحة هو بحد الالزام، و بهذا يندفع الاشكال الأول و هو الحكم بالصحة مع عدم الامر به.

ص: 278

.....

______________________________

و به يندفع الاشكال الثاني ايضا بكلا نحويه، فان استحقاق العقوبة انما هو لتفويت مقدار من المصلحة الملزمة ايضا تقصيرا، و عدم صحة الاعادة في الوقت انما هو لعدم امكان استيفاء تلك المصلحة الفائتة.

و يندفع به الاشكال الثالث ايضا، لان ما اتى به لما لم يكن وافيا بتمام المصلحة و كان الفائت مقدار مصلحة ملزمة لذا صحت العقوبة، و لما كان المأتي به مشتملا على مقدار من المصلحة لا يمكن مع استيفائها استيفاء ما فات من المصلحة لذلك كان لا مجال للاعادة و ان بقى الوقت.

و قد اشار الى اندفاع الاشكال الأول بما ذكره بقوله: ( (قلت انما حكم بالصحة)) في الاتمام مع عدم الامر بها ( (لاجل اشتمالها)) أي لاجل اشتمال الصلاة في فرض الاتمام مثلا ( (على مصلحة تامة لازمه الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها و ان كانت دون مصلحة الجهر و القصر)) و لا بد من كونها دون مصلحة الجهر و القصر، اذ لو كانت مثلهما لوقع التخيير بينهما فيما اذا لم تكن مصلحتها مشترطة بظرف الجهل، و اذا كان مشترطة بظرف الجهل فلا عقاب على ترك الجهر و القصر، لفرض كونها في ظرف الجهل تامة مثل الجهر و القصر، فلم يفت من المطلوب شي ء، و مع الاتيان بمثل الفائت تماما لا وجه للعقاب على الفائت. و اشار الى انها مع اشتمالها على المصلحة اللازمة الاستيفاء لا امر بها، لان الصلاة القصرية و المشتملة على الجهر- مثلا- اتم منها و اكمل و هي المشتملة على المصلحة التامة الكاملة، و مع الامر بها لا يعقل الامر بهذه الناقصة و ان اشتملت على المصلحة المهمة اللازمة بقوله: ( (و انما لم يؤمر بها)) أي و انما لم يؤمر بهذه الناقصة مع كونها لازمة و مهمة ( (لاجل انه امر بما كانت واجدة لتلك المصلحة)) مع زيادة كونها ( (على النحو الاكمل و الاتم)) و انما لا يجتمع مع الامر بالاكمل الاتم الامر بالناقص لان الامر بالناقص اما ان يكون: تعيينيا، او تخييرا، او بنحو تعدد المطلوب، او بنحو الترتب. و لا وجه لواحد من هذه الاربعة، و ليس هناك صورة معقولة للامر غير هذه الانحاء الاربعة.

ص: 279

.....

______________________________

و من الواضح انه لا وجه للامر التعييني بالناقص لقيام الاجماع و الضرورة على ان الامر التعييني في المقام واحد و هو المتعلق بالاكمل، مضافا الى انه لو كان الامر بالناقص تعيينيا لصح العقاب على تركه، إلّا ان يقال انه مع وجدان الاكمل لمصلحة الناقص لا وجه للعقاب على الناقص مع الاستيفاء لمصلحته.

و من الواضح- ايضا- انه لا وجه للامر بالناقص على نحو التخيير، لانه لا وجه للتخيير- اولا- مع كون الاتم الاكمل مشتملا على مصلحة ملزمة زائدة على الناقص.

و ثانيا: ان لازم التخيير عدم العقاب على ترك بعض افراد ما فيه التخيير.

و لا وجه للامر بالناقص بنحو تعدد المطلوب، لوضوح ان المراد من تعدد المطلوب هو اشتمال طبيعي الصلاة الشاملة للاتمام و للقصر على المصلحة الناقصة الملزمة، و اشتمال الصلاة مع القصر على مصلحة ملزمة اخرى. و لو كان لنفس الاتمام خصوصية لما كان من تعدد المطلوب، بل كان من تباين المطلوب و حيث ان الالتزام بتعدد المطلوب لتصحيح الامر فلا بد و ان يكون هناك امران: امر منبعث عن مصلحة طبيعي الصلاة، و امر بالصلاة مع خصوصية القصر. و لا وجه للتأكد في نفس الامر و انما التأكد في ما يوجب الامر، فيجوز ان يكون في الشي ء مصلحة ملزمة واحدة فينبعث اليه امر، و يجوز ان يكون فيه مصلحتان ملزمتان فينبعث منهما امر به آكد من الأول، فالالتزام بكون طبيعي الصلاة لها امر لازمه اجتماع المثلين، و هو البعثان على متعلق واحد، لان الامر بطبيعي الصلاة الشامل للقصر لازمه الامر بطبيعي الصلاة الجامع للقصر و الاتمام، و حيث فرض ان في نفس القصر مصلحة ملزمة اخرى و لها امر آخر كما هو المفروض من تعلق الامر بالقصر، فيلزم من ذلك اجتماع الامرين في صلاة القصر، مضافا الى ان لازم ذلك ان لنا امرين تعيينيين لا امرا واحدا تعيينيا.

و اما الامر بالناقص على نحو الترتب فستجي ء الاشارة اليه، و انه غير معقول ايضا.

ص: 280

و أما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الاعادة فإنه بلا فائدة، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها، و لذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلا- مع تمكنه من التعلم- فقد قصر، و لو علم بعده و قد وسع الوقت.

فانقدح أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الاتمام، و لا من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الاخفات، و إن كان الوقت باقيا (1).

______________________________

و اذا لم يصح الامر بالصلاة الناقصة على احد هذه الانحاء الاربعة فيتعين ان لا يكون بها امر، و ان الامر الموجود هو الامر بالصلاة على النحو الاكمل الاتم لا غير.

فاتضح مما ذكرنا الوجه في صحة الصلاد الناقصة و عدم الامر بها.

(1) حاصل الجواب عن الاشكال الثاني، و هو عدم الوجه لحكم المشهور باستحقاق العقوبة على ترك القصر مطلقا و لو كان الوقت متسعا للاعادة

و الجواب عنه: ان استيفاء تلك المصلحة الناقصة لا يبقي مجالا لاستيفاء المصلحة الملزمة في القصر، فالوقت و ان كان باقيا إلّا انه لا يتمكن من الاعادة، فاستحقاق العقوبة لاجل تفويت تلك المصلحة الملزمة في صلاة القصر تقصيرا، و المقصر بحكم العامد من ناحية استحقاق العقوبة، و بقاء الوقت لا فائدة فيه بعد ان لا يكون مجال لاستيفاء المصلحة بالصلاة قصرا بعد الصلاة اتماما.

و الحاصل: ان الاعادة حيث لا يكون فيها استيفاء للمصلحة لا فائدة فيها، فبقاء الوقت و عدمه على حد سواء، فمن تمكن من التعلم و تركه و اتى بالاتمام في موضع القصر بمجرد اتيانه بالاتمام يحصل منه التقصير الموجب لاستحقاق العقوبة، لاتيانه بما لا يبقى معه مجال لاستيفاء مصلحة القصر و لو بقى الوقت، و اتضح ان الوقت و ان وسع الاعادة إلّا انه لا يتمكن من الاعادة المتكفلة للمصلحة، و الاعادة غير المتكفلة لها هي صورة إعادة لا إعادة حقيقة، لانها لا فائدة فيها و بحكم العدم، و مثل الاتمام في موضع القصر الاجهار في موضع الاخفات و بالعكس حرفا بحرف، و لذا قال

ص: 281

إن قلت: على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب فعلا، و ما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام، و حرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام (1).

______________________________

(قدس سره): ( (و اما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الاعادة ف)) الوجه فيه ( (انها بلا فائدة)) لانها صورة اعادة لا اعادة حقيقة ( (اذ)) المفروض انه ( (مع استيفاء تلك المصلحة)) الناقصة ( (لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة)) التامة ( (التي كانت في)) صلاة القصر ( (المامور بها)) و يتضح من هذا الوجه لفتوى المشهور باستحقاق العقوبة و لو مع سعة الوقت، لان المصلحة الناقصة مجرد استيفائها يمنع من استيفاء المصلحة التامة، فلا فائدة في سعة الوقت للاعادة لانها اعادة صورية لا حقيقية لعدم التمكن منها، و اليه اشار بقوله: ( (و لذا لو أتى بها)) أي بالناقصة ( (في موضع الآخر)) و هي التامة ( (جهلا مع)) فرض ( (تمكنه من التعلم فقد قصر)) بمجرد اتيانه بالناقص ( (و لو علم بعده)) أي بعد الاتيان ( (و قد وسع الوقت)) للاعادة الصورية. و اشار الى ان الوقت انما يتسع للاعادة الصورية دون الاعادة الحقيقية، لانه لا يتمكن منها بعد الاتيان بالناقص بقوله: ( (فانقدح انه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الاتمام)) و ان بقى الوقت ( (و لا من الجهر كذلك)) أي و لا يتمكن من صلاة الجهر صحيحة ( (بعد فعل صلاة الاخفات و ان كان الوقت باقيا)).

(1) توضيح الحال يتوقف على بيان امرين: الأول: انه قد ظهر مما مر ان الاتمام في موضع القصر و الاجهار في موضع الاخفات و بالعكس موجب لعدم المجال لاستيفاء المصلحة التامة الكاملة من القصر و لا من الاخفات و بالعكس، و لازم هذا كون صلاة التمام و الصلاة مع الجهر- مثلا- ضدا لصلاة القصر و الصلاة مع الاخفات، و ليس الضدان الا ما كان وجود احدهما موجبا لان لا يبقى مجال معه لوجود الآخر.

ص: 282

.....

______________________________

الثاني: ان الكعبي ذهب الى ان وجود احد الضدين مقدمة لعدم الضد الآخر، و لذلك انكر المباح، لانه اما ان يكون مقدمة لترك الحرام فيكون واجبا، او مقدمة لترك واجب فيكون حراما .. و ذهب المشهور الى ان عدم الضد من مقدمات وجود الضد الآخر، لان من جملة ما يتوقف عليه وجود الضد عدم المانع عن وجوده، لتوقف كل موجود على علته التامة المركبة من وجود المقتضي و الشرط، و من الشرط عدم المانع و لما كان وجود الضد مانعا عن وجود ضده كان عدم الضد شرطا لوجود الضد، لانه من عدم المانع الذي هو جزء العلة التامة لوجود الضد.

فاذا عرفت هذا ... نقول: انه اذا كان الاتمام و الجهر- مثلا- ضدا للصلاة التامة، و بوجودهما لا يبقى مجال للاتيان بصلاة القصر و لا بالصلاة المشتملة على الاخفات، فبناء على مذهب الكعبي تكون صلاة الاتمام و الصلاة مع الجهر حراما، لانهما يكونان مقدمة لعدم القصر و لعدم الاخفات، و من الواضح كون الواجب هو صلاة القصر، و الصلاة مع الاخفات، و ترك الواجب حرام، و مقدمة الحرام حرام، و اذا كانت صلاة الاتمام و الصلاة مع الجهر حراما لا يعقل وقوعهما عبادة و ان اشتملا على المصلحة الملزمة، اذ لا يعقل التقرب بالحرام، و لا بد من وقوع العبادة مقترنة بقصد القربة، و قصد ما في العبادة من المصلحة و ان كان كافيا في وقوعها قربية، إلّا انه حيث لا تكون محرمة، فانه لا يعقل ان يقع المبغوض على صفة المقربية. و على هذا النحو ذكر الاشكال في العبادة.

و اما بناء على مذهب المشهور القائلين بكون عدم الضد من مقدمات وجود الضد، لا ان وجود الضد من مقدمات عدم الضد .. فوجه الاشكال: ان صلاة القصر و الصلاة مع الاخفات يتوقف وجودهما مشتملين على المصلحة الكاملة على ترك صلاة الاتمام و ترك الصلاة مع الجهر، و من الواضح كون مقدمة الواجب واجبة، فيكون ترك صلاة الاتمام و ترك الصلاة مع الجهر واجبا، و اذا كان تركهما واجبا كان فعلهما محرما، لوضوح كون نقيض الواجب حراما، ففعل صلاة الاتمام

ص: 283

قلت: ليس سببا لذلك، غايته أنه يكون مضادا له، و قد حققناه في محله أن الضد و عدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا (1).

______________________________

و فعل الصلاة مع الجهر يكون حراما لانهما نقيضان لتركهما الواجب لكونه مقدمة لصلاة القصر و للصلاة مع الاخفات الواجبين، و اذا كان فعلهما حراما منع من وقوعهما على نحو المقربية، لما عرفت من عدم معقولية وقوع ما هو محرم عبادة مقربة. و قد عرفت ان المصنف لم يتعرض للاشكال على هذا المبنى الثاني، و انما تعرض له على المبنى الأول، و ان كان ما يأتي منه من الجواب يكون جوابا عن الاشكال على المبنى الثاني ايضا. و على كل فقد اشار الى الاشكال على المبنى الأول بقوله: ( (ان قلت على هذا)) أي على ما ذكرت من عدم امكان استيفاء المصلحة التامة من صلاة القصر و من الصلاة مع الاخفات بعد فعل صلاة الاتمام و الصلاة مع الجهر، فهما ضدان لصلاة القصر و لصلاة الاخفات، و حينئذ ( (يكون كل منهما في موضع الآخر)) أي يكون كل من صلاة الاتمام في موضع القصر و الصلاة مع الجهر في موضع الصلاة مع الاخفات ( (سببا لتفويت الواجب فعلا)) فان الصلاة بنحو الاتمام تكون سببا لفوات المصلحة التامة في صلاة القصر الواجبة فعلا، و كذلك صلاة الاجهار في موضع صلاة الاخفات فانها تكون سببا لتفويت المصلحة التامة في صلاة الاخفات الواجبة فعلا ( (و)) من الواضح ان ( (ما هو سبب لتفويت الواجب كذلك)) بان لا يبقى مجال للواجب فعلا بسببه ( (حرام)) فعله ( (و)) لا يصح وقوعه عبادة لان ( (حرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام)).

(1) و حاصله ما تقدم بيانه في مبحث الضد من انه لا مقدمية لاحد الضدين بالنسبة الى الآخر مطلقا، لا لوجود احد الضدين بالنسبة الى عدم الآخر و لا لعدم احد الضدين بالنسبة الى وجود الآخر، بل غاية ما ثبت هو كون وجود الضد و عدم الضد الآخر متلازمين في التحقق، و لا يسري حكم احد المتلازمين الى الآخر ...

و من هذا يتضح ان صلاة الاتمام ليست سببا لتفويت المصلحة في صلاة القصر، بل

ص: 284

لا يقال: على هذا فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا- في موضع القصر و الجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما- لكانت صلاته صحيحة، و إن عوقب على مخالفة الامر بالقصر أو الجهر (1).

______________________________

صلاة الاتمام و عدم استيفاء المصلحة من صلاة القصر متلازمان، و ليس بينهما سببية اصلا، و كذلك الجهر و الاخفات.

فظهر انه لا وجه للاشكال بالنحو الأول: من دعوى كون صلاة الاتمام مقدمة لعدم صلاة القصر لتكون محرمة لان ترك صلاة القصر محرم. و لا وجه له على النحو الثاني من دعوى كون عدم صلاة الاتمام مقدمة واجبة لصلاة القصر لتكون محرمة ايضا لان نقيض الواجب حرام، و لذا قال (قدس سره): ( (ليس سببا لذلك)) أي ليس اتيان كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الآخر، بل ( (غايته انه يكون)) كل من صلاة الاتمام و صلاة الجهر ( (مضادا له)) أي مضادا لما هو الواجب فعلا و هو صلاة القصر و صلاة الاخفات و لا سببية بين الضدين اصلا، فلا وجود احد الضدين سبب لعدم الضد الآخر و لا عدم احد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر. نعم هناك تلازم بين وجود الضد و عدم الضد الآخر، و المتلازمان لا يسري حكم احدهما الى الآخر، و انما السريان منوط بالتوقف و العلية، و لذا قال (قدس سره): ( (و قد حققناه في محله)) أي في مبحث مسألة الضد ( (ان الضد و عدم ضده متلازمان)) و لا سراية في المتلازمين ( (و ليس بينهما توقف)) و علية ( (اصلا)).

(1) حاصله اشكال آخر على ما التزم به من تصحيح العقاب لمن صلى تماما في موضع القصر و جهرا في موضع الاخفات و بالعكس لترك الفحص و التعلم تقصيرا، مع التزامه باشتمال ما اتى به على مصلحة لازمة في حد ذاتها و ان كانت دون المشتملة على المصلحة التامة الكاملة. و ملخص هذا الاشكال: انه بعد اشتمال الاتمام و الجهر- مثلا- على ترك المصلحة اللازمة في حد ذاتها ينبغي ان يلتزم بصحة الاتيان بالاتمام أو الجهر و لو مع العلم بان الغرض هو القصر و الاخفات و ان عوقب على ترك

ص: 285

فإنه يقال: لا بأس بالقول به لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة و لو مع العلم، لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل، و لا بعد أصلا في اختلاف الحال فيه باختلاف حالتي العلم بوجوب شي ء و الجهل به، كما لا يخفى (1).

______________________________

القصر و الاخفات عمدا. اما صحة الاتيان بها فلاجل اشتمالها على المصلحة اللازمة و عدم احتياج صحة الصلاة معها الى الامر كما مر بيانه، بل نفس قصد الاتيان بما اشتمل على تلك المصلحة الملزمة كاف في صحة ما اتى به و عباديته. و اما العقاب على ترك القصر و الاخفات فلتفويت المصلحة اللازمة فيها ايضا عن علم و عمد، و لانه اذا صح العقاب مع التقصير في صورة الجهل صح العقاب مع العلم و العمد بطريق اولى، و هذا مما لا يسع احد الالتزام به، خصوصا مع تصريح الصحيحين المتقدمين بلزوم الاعادة مع العمد، لقوله في الأول: ان كان قرئت عليه آية التقصير و فسرت له و صلى اربعا اعاد، و لقوله في الثاني أي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته و عليه الاعادة. و على كل فقد اشار الى لازم ما ذكره هو الالتزام بصحة الاتيان و لو مع العلم و العمد بقوله: ( (على هذا)) و هو اشتمال الاتمام و الاخفات- مثلا- على المصلحة اللازمة في حد ذاتها غير المحتاجة عباديتها و وقوعها صحيحة الى قصد الامر انه ( (فلو صلى تماما او صلى اخفاتا في موضع القصر و الجهر)) و لو كان ذلك ( (مع)) العمد و ( (العلم بوجوبهما في موضعهما)) بان صلى تماما مع علمه بان فرضه القصر، و كذلك الاخفات في موضع الجهر و بالعكس ( (لكانت صلاته صحيحة)) لعدم احتياج الصحة فيهما الى الامر و اشتمالها على المصلحة اللازمة و ان كانت دون حد المصلحة التامة التي تفوت بعد الاتيان بهما، و لذا صح العقاب على تركها و اليه اشار بقوله: ( (و ان عوقب على مخالفة الامر بالقصر أو الجهر)).

(1) حاصل الجواب: ان ما التزمه (قدس سره) من صحة الصلاة الناقصة مع التقصير و العقاب على ترك الصلاة التامة غاية ما يلزمه هو الالتزام باشتمال صلاة الاتمام في

ص: 286

.....

______________________________

موضع القصر و الصلاة مع الاخفات او الجهر كل في موضع الآخر على المصلحة في حال الجهل، كما دل الصحيحان على صحة الصلاة في الموردين في حال الجهل، و لازم هذا هو اشتمالها على المصلحة المذكورة مقيدة بحال الجهل، فلو دل دليل على صحتهما في حال العلم و العمد ايضا لالتزمنا باشتمالهما على المصلحة في هذه الحال ايضا و لقلنا بالصحة ايضا.

و الحاصل انه لا مانع عقلا من ان يكون الجهل دخيلا في اشتمالهما على المصلحة المذكورة، و عند انتفائه بالعلم لا يكونان مشتملين على المصلحة فلذا لا يقعان صحيحين في حال العمد و العلم.

فاتضح مما ذكرنا: ان المدار على الدليل الدال على الصحة، فان دل على الاختصاص بحال الجهل استكشفنا كون الجهل دخيلا في ترتب المصلحة، و ان دل الدليل على الصحة في حال العلم ايضا استكشفنا عدم دخالة الجهل.

و الحاصل انه انه لا مانع من القول بالصحة في حال العلم و العمد لو كان هناك دليل شرعي يدل على الصحة في ذلك المقام، و لكن حيث انه لم يقم دليل شرعي على ذلك و انما قام على الصحة مقيدة بحال الجهل، فلا بد من الالتزام بهذا المقدار لاحتمال دخالة الجهل في ترتب المصلحة. و قد اشار الى ذلك بقوله: ( (فانه يقال لا بأس بالقول به)) أي لا بأس بالقول بالصحة في حال العلم و العمد ( (لو دل الدليل على انها تكون مشتملة على المصلحة و لو مع العلم)) و حيث انه لم يدل دليل شرعي على ذلك و انما دل على الحصة في حال الجهل فلا وجه للقول به ( (لاحتمال اختصاص ان يكون كذلك)) أي لاحتمال ان يكون الاشتمال على المصلحة مقيدا ( (في صورة الجهل)) ثم اشار الى انه لا مانع عند العقل من ان يكون لحالتي العلم و الجهل دخل في عدم ترتب المصلحة و ترتبها بقوله: ( (و لا بعد اصلا في اختلاف الحال فيه)) أي في عدم ترتب المصلحة و ترتبها ( (باختلاف حالتي العلم بوجوب شي ء و الجهل به)).

ص: 287

و قد صار بعض الفحول بصدد بيان إمكان كون المأتي به في غير موضعه مأمورا به بنحو الترتب، و قد حققناه في مبحث الضد امتناع الامر بالضدين مطلقا، و لو بنحو الترتب، بما لا مزيد عليه فلا نعيد (1).

______________________________

(1) قد عرفت ان صحة الصلاة مع الاتمام في موضع القصر في مقام الجهل انما هي لاشتمالها على المصلحة- و كذلك الجهر و الاخفات- لا لانها مأمور بها، فان الامر بها على ما عرفت انما يكون لوجوه اربعة و هي: الامر التعييني، و التخييري، او على نحو تعدد المطلوب. و قد تقدم الكلام في عدم امكانه على هذه الثلاثة ...

و الرابع ان يكون الامر على نحو الترتب، و هو الذي صار اليه بعض الفحول- و هو كاشف الغطاء- من تصحيح قصد الامر في المقام على نحو الترتب.

و توضيحه: ان تصحيح الامر بالمهم مع العقاب على ترك الاهم بنحو الترتب يتأتى في المقام ايضا، لان القصر و الاتمام متضادان كالازالة و الصلاة، و القصر هو المامور به اولا كالامر بالاهم و هو الازالة مثلا، و حيث لم يكن المكلف بصدد امتثاله فلا مانع من ان يأمر المولى بالاتمام كما يامر بالمهم و هو الصلاة، حيث لم يكن المكلف بصدد امتثال الازالة، و كما يعاقب على ترك الازالة للعصيان كذلك يعاقب في المقام على ترك القصر للعصيان، لان المفروض كون الجهل عن تقصير، و هو بحكم العامد من حيث العصيان و صحة العقاب عليه.

و قد اجاب عنه المصنف على مختاره: من عدم امكان الامر على نحو الترتب، و ان الترتب غير معقول كما تقدم بيانه مفصلا في مبحث الضد، فتصحيح قصد الامر في المقام بنحو الترتب فاسد لعدم معقولية الترتب من أصله في مقامه. و قد اشار الى التصحيح بنحو الترتب بقوله: ( (و قد صار بعض الفحول بصدد بيان امكان كون الماتي به في غير موضعه)) كالاتمام في المقام الماتى به في غير موضعه، لان موضعه هو القصر دون الاتمام، بان يقصد الامر به و يكون ( (مامورا به على نحو الترتب)) كما يكون المهم مامورا به مع الاتيان به في غير موضعه، فان موضعه هو الامر بالاهم

ص: 288

ثم إنه ذكر لاصل البراءة شرطان آخران: أحدهما: أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.

ثانيهما: أن لا يكون موجبا للضرر على آخر.

______________________________

و هو الازالة، و لكنه حيث يعصى المكلف و لا يأتي بالاهم فلا مانع من ان يكون المهم مامورا به على نحو الترتب. و اشار الى الجواب بعدم صحة ذلك في المقام لعدم صحة اصل القول بالترتب بقوله: ( (و قد حققناه في مبحث الضد)) و حاصل التحقيق هو ( (امتناع الامر بالضدين مطلقا)) لا بنحو العرضية و لا بنحو الطولية التي هي مبنى الترتب: أي لا بنحو افعل هذا الاهم، و افعل هذا الضد المهم، كل منهما في عرض الآخر، و لا بنحو الطولية و الترتب: أي بنحو افعل الاهم، فان لم تفعل الاهم فافعل المهم. و اليه اشار بقوله: ( (و لو بنحو الترتب)).

ثم لا يخفى انه بناء على القول بالترتب في محله من صحة الامر بالمهم عند عصيان الاهم فيمكن الاتيان بالمهم بنحو قصد امتثال امره، لكنه لا يتأتى في المقام ذلك، و الوجه في عدم تأتيه هو ان الامر بالمهم بنحو الترتب انما يكون حيث يتحقق العصيان للاهم، بنحو ان يكون الامر بالمهم مقارنا لعصيان الامر بالاهم، فزمان عصيان الامر بالاهم هو زمان الامر بالمهم، فالامر بالمهم يكون مقارنا في الزمان لعصيان الامر بالاهم، و لذا يصح للمولى- بناء على الترتب- ان يقول ان لم تفعل الاهم فافعل المهم، و لا يتأتى هذا في المقام، لان عصيان الامر بالقصر لا يكون مقارنا لاتيان الاتمام، بل انما يكون بعد استيفاء مقدار من المصلحة لا يتأتى معها استيفاء مصلحة القصر، و ذلك بعد الانتهاء من الاتيان بالاتمام، و مع انتهاء الاتيان به لا وجه للامر به، لوضوح عدم صحة الامر بالاتمام بعد الاتمام، فقبل انتهاء الاتيان به لا امر به على نحو الترتب، لعدم تحقق عصيان القصر، و بعد تحقق عصيان القصر لا امر بالاتمام لفرض الاتيان به، فلا يتأتى التصحيح في المقام على نحو الترتب، و ان قلنا بصحة الترتب في محله.

ص: 289

و لا يخفى أن أصالة البراءة عقلا و نقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص لا محالة تكون جارية، و عدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية و الاباحة أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية، لو كان موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له فلا محيص عن ترتبه عليه بعد إحرازه (1)، فإن لم

______________________________

شرطان آخران لأصل البراءة

(1) الذي ذكر هذين الشرطين هو الفاضل التوني، و من الواضح انهما غير شرط الفحص الذي تقدم الكلام فيه، و قد عرفت انه شرط للبراءة، اما لجريانها كما في البراءة العقلية لان اللابيان الذي هو موضوعها يراد به عدم البيان فيما كان المعتاد وجود البيان فيه، و هو ككتب الحديث و موارد الاجماعات المستفادة من فتاوى الفقهاء في كتبهم و الكتاب الكريم و ما ورد من الاحاديث المعتبرة في تفسيره، و لا يكاد يحصل عدم البيان الماخوذ موضوعا في البراءة العقلية الا بعد الفحص في تلك الموارد و اليأس عن الدليل فيها .. او لكون الفحص شرطا للعمل بها و ان لم يؤخذ عدم البيان في موضوعها كالبراءة النقلية، لان الموضوع فيها هو الشك في الحكم و عدم العلم به، و لكنه دل الدليل على عدم جواز العمل بها الا بعد الفحص كما تقدم بيانه. و الحاصل: ان هذين الشرطين غير شرط الفحص.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 7 ؛ ص290

لا يخفى ان الشرط الأول المذكور و هو ان لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى غير صحيح على كل حال، لان المراد منه ان كان عدم جريان البراءة في نفي الحكم الثابت في موردها من جهة اخرى كوجوب الاحتياط في الفروج أو الدماء الثابت في مورد البراءة فهو واضح البطلان، لان عدم جريانها فيه انما هو لثبوت الحكم الشرعي، و المفروض ان موضوعها هو الشك في الحكم الشرعي فلا تجري البراءة العقلية لوجود البيان للحكم، و لا تجري البراءة النقلية للعلم بالحكم، و لا يصح عد هذا من شرائط البراءة بل مرجعه الى عدم الموضوع للبراءة.

و ان كان المراد منه عدم جريانها في الحكم المشكوك غير هذا الحكم الثابت من جهة اخرى بكلا قسميه الآتيين، و الاول ما كان الموضوع فيه هو عدم الحكم في مرتبة

ص: 290


1- 31. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

.....

______________________________

الظاهر كما لو شككنا في نجاسة مغلي التمر فجرت البراءة عن نجاسته، و قد ثبت لنفي نجاسة المشكوك في الظاهر عدم المانعية من ناحية الصلاة فيها. و الثاني: ما كان الموضوع للحكم الثابت من جهة اخرى هو الملازم لمورد البراءة، و ذلك كما في المثال و لكن كان الحكم الثابت في موردها هو شرطية الطهارة للصلاة، فانه يلازم نفي النجاسة في المشكوك بالبراءة ثبوت الطهارة للمشكوك في مرحلة الظاهر، و الطهارة الثابتة بقوله عليه السّلام كل شي ء طاهر هي موضوع لجواز الصلاة في ذلك المشكوك طهارته، فهو ايضا غير صحيح، لان الحكم الشرعي الثابت في مورد البراءة اما ان يكون الموضوع فيه هو عدم الحكم في مرتبة الظاهر الحاصل بالبراءة، او كان الموضوع فيه امرا ملازما لعدم الحكم في الظاهر. فان كان الموضوع هو نفس عدم الحكم في الظاهر الحاصل بواسطة البراءة فالبراءة جارية و يثبت بواسطتها نفي التكليف ظاهرا، و يثبت بواسطتها ايضا الحكم الشرعي الذي موضوعه عدم الحكم في مرتبة الظاهر، لانه من الواضح عدم معقولية مانعية الحكم عن البراءة الذي موضوعه نفي التكليف في مرتبة الظاهر الحاصل بواسطة البراءة. و ان كان الموضوع فيه هو الامر الملازم لنفي التكليف في مرتبة الظاهر فالبراءة تجري في نفي الحكم المشكوك، و الحكم الشرعي الذي موضوعه الامر الملازم لنفي الحكم في مرتبة الظاهر يثبت ايضا لتحقق موضوعه قطعا، لان المفروض ان موضوعه هو الملازم لعدم الحكم في مرتبة الظاهر، و عدم الحكم في مرتبة الظاهر مقطوع به و ان كان ثبوته واقعا مشكوكا فيه، و مع فرض كون الملازم ملازما لعدم الحكم في مرتبة الظاهر المقطوع به لا بد و ان يكون الملازم مقطوعا به، لوضوح كون القطع باحد المتلازمين موجبا للقطع بالملازم الآخر له، و ليس من الاصل المثبت، فان الاصل المثبت ما كان الحكم ثابتا لاحد المتلازمين تعبدا، و حيث لا ملازمة بين ثبوت الحكم تعبدا لاحد المتلازمين في ثبوته تعبدا للملازم الآخر فلذا كان ثبوت الحكم للملازم الآخر من الاصل المثبت، بل حتى فيما اذا قام الدليل على حجية الظن في خصوص احد المتلازمين فانه لا يكون موجبا لثبوت الحكم في الملازم

ص: 291

.....

______________________________

و ان حصل الظن به، لفرض اختصاص حجية الظن باحد المتلازمين دون الآخر، كما لو قام الدليل على حجية الظن في القبلة فانه يحصل الظن بالزوال اذا زالت الشمس عن ذلك الخط، و لكنه لا يكون هذا الظن حجة بل لا بد من العلم بالزوال او قيام البينة عليه. و على كل فالحكم المرتب على الملازم المقطوع به في مورد نفي التكليف في مرتبة الظاهر يثبت بنفسه لثبوت موضوعه، و لا يكون مانعا عن جريان البراءة في نفي التكليف في مرتبة الظاهر، لان الحكم الملازم ثبوته لنفي التكليف في مرتبة الظاهر كيف يكون مانعا عما ينفي التكليف في مرتبة الظاهر؟ مضافا الى ان المانع عن البراءة هو المثبت للتكليف في موردها الذي يكون مجرى للبراءة لو لا الدليل عليه، و من الواضح ان مجرى البراءة هو التكليف الفعلي الواقعي في مرتبة الظاهر، و موضوع هذا الحكم الشرعي هو الملازم لنفي التكليف، فموضوع كل منهما غير موضوع الآخر، و لا يعقل مانعية تكليف لموضوع عن تكليف لموضوع آخر ... هذا كله فيما اذا كان الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى اما نفس عدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف في مرتبة الظاهر الثابت بالبراءة العقلية او النقلية، او كان الموضوع له ما هو الملازم لذلك.

و اما اذا كان الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى هو نفي التكليف واقعا لا ظاهرا: أي كان الحكم مرتبا على نفي التكليف الواقعي لا على نفي الحكم في مرتبة الظاهر و عدم استحقاق العقوبة على مخالفته فسيأتي الاشارة اليه.

و قد اشار الى ما ذكرنا من ان الحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى اذا كان مرتبا على نفي التكليف ظاهرا و عدم استحقاق العقاب على مخالفته، او كان مرتبا على الملازم له لا يعقل يكون مانعا عن جريان البراءة، و يكون عدمه شرطا في جريانها بقوله: ( (و لا يخفى ان اصالة البراءة عقلا و نقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص)) الذي هو اهم موارد جريان البراءة، لان مورد العلم الاجمالي الذي يلزم من ارتكاب طرفيه المخالفة العملية لا مجرى للبراءة فيه قطعا، و الذي لا يلزم منه

ص: 292

يكن مترتبا عليه بل على نفي التكليف واقعا، فهي و إن كانت جارية إلا أن ذاك الحكم لا يترتب، لعدم ثبوت ما يترتب عليه بها، و هذا ليس بالاشتراط (1).

______________________________

مخالفة عملية في جريانها و عدم جريانها قولان: فان قلنا بعدم الجريان فحاله حال ما يلزم منه مخالفة عملية. و ان قلنا بجريانها فحالها حال الشبهة البدوية. و على كل فان البراءة في الشبهة البدوية بعد الفحص ( (لا محالة تكون جارية و)) لا يمنع عن جريانها الحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى، فيما اذا كان الموضوع المرتب عليه هو نفس ( (عدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية)) او كان الموضوع له هو الحكم بالحل الظاهري ( (و الاباحة)) ظاهرا المستفادة من قوله كل شي ء لك حلال ( (او)) كان الموضوع له نفس ( (رفع التكليف الثابت ب)) رفع ما لا يعلمون، فالمستفاد من ( (البراءة النقلية)) المتكفل لها قاعدة الحل و دليل الرفع كان هو الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى ( (او)) كان الموضوع له ( (ملازما له فلا محيص عن ترتبه عليه بعد احرازه)) و قد عرفت انه في كلا الفرضين لا يكون مانعا عن جريان البراءة.

(1) يشير بهذا الى ما كان الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى هو عدم التكليف و نفيه واقعا لا ظاهرا، كما لو شككنا في مال كونه لزيد و الاصل البراءة، فالبراءة تنفي كونه لزيد في مرحلة الظاهر، و لكن نفي حرمة التصرف في مال الغير المنوط بإذنه لا يثبت بمجرد كونه ليس لزيد ظاهرا، بل لا بد من ثبوت كونه ليس لزيد واقعا حتى لا يكون التصرف فيه منوطا باذنه. فانه ايضا لا يكون مانعا عن جريان البراءة في مرحلة الظاهر، لان المفروض فرض الشك في الحكم الواقعي لا العلم بعدمه، فلا يترتب الحكم الذي موضوعه نفي التكليف واقعا فكيف يكون مانعا عن جريان البراءة في مقام الشك فيه؟ و منه يظهر عدم ترتب الحكم الشرعي الذي كان موضوعه مرتبا على عدم التكليف واقعا بواسطة البراءة، لانها انما تنفي التكليف في

ص: 293

و أما اعتبار أن لا يكون موجبا للضرر، فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر و إن لم يكن مجال فيه لاصالة البراءة، كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالادلة الاجتهادية، إلا أنه حقيقة لا يبقى لها مورد، بداهة أن الدليل الاجتهادي يكون بيانا و موجبا للعلم بالتكليف و لو

______________________________

مرتبة الظاهر دون الواقع فلا يتحقق بجريانها ما هو الموضوع له. و قد اشار الى عدم مانعيته عن جريان البراءة بقوله: ( (فهي و ان كانت جارية)) و اشار الى عدم ترتبه بواسطة جريان البراءة بقوله: ( (إلّا ان ذاك الحكم)) الذي كان موضوعه بحسب الفرض هو عدم التكليف واقعا لا ظاهرا ( (لا يترتب)) بواسطة جريان البراءة ( (لعدم ثبوت)) موضوعه و ( (ما يترتب عليه بها)) أي بواسطة البراءة.

و قد اتضح مما ذكرنا: ان هذا الشرط الأول الذي ذكره شرطا لجريان البراءة بمعنى كون تحققه مانعا عن جريانها ليس هو بمانع عن جريانها، و الى هذا اشار بقوله:

( (و هذا ليس بالاشتراط)).

ثم لا يخفى ان المصنف ذكر في الفرض الأول احتمالين: احتمال كون الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى نفس نفي التكليف في مرتبة الظاهر، و احتمال كون الموضوع له الملازم لنفي الحكم في مرتبة الظاهر، و في الفرض الثاني لم يذكر الا كون الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى هو نفي التكليف الواقعي، و لم يذكر احتمال كون الموضوع له هو الملازم لنفي التكليف الواقعي.

و لعل السبب في عدم ذكره هو وضوح الحال فيه مما ذكره في نفي التكليف الواقعي من حيث عدم مانعيته عن جريان البراءة، لعدم ثبوته بعد تحقق موضوعه لفرض الشك في الحكم الواقعي، و لازمه الشك في ملازمه ايضا، فعلى فرض كونه مانعا لا تتحقق مانعيته مع الشك في تحقق موضوعه. و اما من حيث عدم ثبوته بادلة البراءة فلانه بعد ان كانت البراءة لا تقتضي ثبوت الملزوم الذي هو نفي التكليف الواقعي فعدم اقتضائها لثبوت الملازم له بطريق اولى. و اللّه العالم.

ص: 294

ظاهرا، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك، فلا بد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي، لا خصوص قاعدة الضرر، فتدبر، و الحمد للّه على كل حال (1).

______________________________

(1) يشير الى الجواب عن الشرط الثاني الذي ذكره الفاضل التوني للبراءة. و حاصله:

ان دليل البراءة انما يجري حيث لا يكون موجبا للضرر على الآخر، كما لو فرضنا- مثلا- شك فاعل النجش في حرمة النجش، و لم يكن هناك دليل خاص على حرمته فلا تجري البراءة عن حرمة النجش بعد ان كان النجش ضررا على الغير، فان دليل لا ضرر حاكم على دليل البراءة.

و حاصل الجواب: ان اصالة البراءة العقلية منها و النقلية لا موضوع لها مع وجود الدليل الاجتهادي على الحكم، و قاعدة الضرر دليل اجتهادي على رفع الحكم في مورد البراءة، و هي حاكمة على ساير الادلة الأخر فضلا عن البراءة، و من الواضح ان الشرط للبراءة انما هو في مقام يكون موضوع البراءة محققا، فالمانع يكون حينئذ مانعا عن مجرى البراءة، اما اذا كان لا موضوع للبراءة من رأس فلا وجه للمانعية.

فالفاضل التوني ان كان مراده من اشتراط عدم الضرر في جريان البراءة هو كون دليل الضرر مانعا مع تحقق موضوع البراءة فهو غير صحيح، لان الموضوع للبراءة العقلية هو اللابيان، و مع تحقق دليل الضرر فالبيان متحقق فلا موضوع لها، و الموضوع لدليل الرفع و قاعدة الحل هو عدم العلم، و دليل الضرر علم، و مع تحقق العلم لا موضوع لهما ايضا. و ان كان مراده انه لا موضوع للبراءة مع دليل الضرر فهو صحيح لكنه لا يختص هذا بدليل الضرر، بل لا بد من عدم وجود أي دليل اجتهادي آخر على الحكم في مورد البراءة، فلم يظهر وجه التنصيص لقاعدة الضرر بخصوصها.

و قد اشار الى حكومة قاعدة الضرر على البراءة، إلّا انه ليس من باب الشرط لجريانها، بل هو لعدم الموضوع للبراءة و ان قاعدة الضرر تحكم على ساير الاحكام

ص: 295

ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر و الضرار على نحو الاقتصار (1)، و توضيح مدركها و شرح مفادها، و إيضاح نسبتها مع الادلة المثبتة للاحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الاولية أو الثانوية، و إن كانت اجنبية عن مقاصد الرسالة، إجابة لالتماس بعض الاحبة (2).

______________________________

قاعدة (لا ضرر و لا ضرار)

الواقعية و الظاهرية فضلا عن البراءة بقوله: ( (و اما اعتبار ان لا يكون موجبا للضرر فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر و ان لم يكن مجال فيه لاصالة البراءة)) بل لا مجال مع تحقق قاعدة نفي الضرر للادلة الأخر من الادلة الاجتهادية الدالة على الحكم واقعيا كان أو ظاهريا. و الى هذا اشار بقوله: ( (كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالادلة الاجتهادية)) و اشار الى انه ليس هذا من الشرط بل هو لعدم الموضوع للبراءة بقوله: ( (إلّا انه حقيقة لا يبقى لها مورد بداهة ان الدليل الاجتهادي يكون بيانا)) فلا موضوع للبراءة العقلية ( (و)) يكون ( (موجبا للعمل بالتكليف و لو ظاهرا)) فلا موضوع لدليل الرفع و قاعدة الحل. و اشار الى ان المراد من الاشتراط هو عدم الموضوع للبراءة، فلا يختص ذلك بقاعدة الضرر بل كل دليل دل على الحكم في مورد البراءة و لو كان حكما ظاهريا لا موضوع معه للبراءة بقوله: ( (فان كان المراد من الاشتراط ذلك فلا بد من اشتراط ان لا يكون على خلافها)) أي على خلاف البراءة ( (دليل اجتهادي)) اصلا ف ( (لا خصوص)) لنفس ( (قاعدة الضرر)).

جهات البحث في القاعدة اربع

(1) لا يخفى ان قاعدة الضرر من القواعد الفقهية، لان المستفاد منها حكم شرعي بلا واسطة و هو الجعل الشرعي لرفع الحكم الضرري، اما بلسان رفع موضوعه، او برفع الحكم الضرري بنفسه لا بلسان رفع موضوعه كما سيأتي بيانه. و حيث ان وضع الكتاب للبحث عن المسائل الاصولية فالبحث عن قاعدة الضرر اجنبي عن مقصده، و لذا قال: ( (و ان كانت)) أي قاعدة الضرر ( (اجنبية عن مقاصد الرسالة)).

(2) الجهات التي اشار اليها المصنف الى البحث عنها في قاعدة الضرر أربع: جهة السند، و اليها اشار بقوله: ( (توضيح مدركها)) أي توضيح جهة حجيتها من ناحية

ص: 296

فأقول و به أستعين: إنه قد استدل عليها بأخبار كثيرة:

منها: موثقة زرارة (1)، عن أبي جعفر عليه السّلام: إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الانصار، و كان منزل الانصاري بباب البستان، و كان سمرة يمر إلى نخلته و لا يستأذن، فكلمه الانصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فجاء الانصاري إلى النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم فشكا إليه،

______________________________

السند. و جهة الدلالة المستفادة منها و اليها اشار بقوله: ( (و شرح مفادها)) و جهة نسبتها مع الادلة الدالة على الاحكام للموضوعات بعناوينها الاولية كالادلة الدالة على وجوب الصلاة و حرمة الخمر و اليها اشار بقوله: ( (و ايضاح نسبتها)) أي ايضاح نسبة قاعدة الضرر ( (مع الادلة المثبتة للاحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الاولية)) فان مثل الصلاة و الخمر هو العنوان الاولي الذي ثبت الحكم له وجوبا او حرمة. وجهة نسبتها مع الادلة المثبتة لاحكام الموضوعات بعناوينها الثانوية كالوجوب الثابت للشي ء بعنوان كونه اطاعة الوالدين، او بعنوان كونه منذورا، فانه حكم بالوجوب للشي ء لا بعنوانه الاولي، بل بعنوان ثانوي و هو كونه اطاعة للوالدين او كونه منذورا. و اما بعنوانه الاولي فليس ذلك الشي ء بواجب كما لو امر احد الوالدين ابنه بفعل شي ء مباح بذاته او راجح، كأن يسافر الى محلّ او يكرم مؤمنا، فان السفر بنفسه مباح و الاكرام للمؤمن راجح بذاته، و لكن بعنوان كونهما اطاعة الوالدين يكونان واجبين بعد تعلق الامر بهما لزوما من احد الوالدين، و هذا عنوان ثانوي للشي ء لا اولي. و مثله النذر المتعلق براجح فانه قبل تعلق النذر ليس بواجب بعنوان نفسه، بل هو راجح بناء على اشتراط الرجحان في متعلق النذر، او مباح بناء على صحة تعلقه بالمباح، و لكن بعد تعلّق النذر به يكون واجبا بعنوان كونه منذورا و هو عنوان ثانوي لا اولي. و اليه اشار بقوله: ( (او الثانوية)).

(1) انما كانت هذه الرواية موثقة بحسب الاصطلاح لا صحيحة لوجود ابن بكير في جملة رجال السند و هو من الموثقين.

ص: 297

فأخبر بالخبر، فأرسل رسول اللّه و أخبره بقول الانصاري و ما شكاه، فقال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلما أبى ساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء اللّه، فأبى أن يبيعه، فقال: لك بها عذق في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم للانصاري: اذهب فاقلعها و ارم بها إليه، فإنه لا ضرر و لا ضرار.

و في رواية الحذاء عن أبي جعفر عليه السّلام مثل ذلك، إلا أنه فيها بعد الإباء ما أراك يا سمرة إلا مضارا، اذهب يا فلان فاقلعها و ارم بها وجهه إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة (1) و غيرها و هي

______________________________

(1) العذق بفتح العين المهملة و سكون الذال المعجمة كفلس، هو النخلة بحملها، و العذق بكسر العين و سكون الذال هو عنقود التمر كما في مجمع البحرين، و الحائط هو البستان، و كان البستان للانصاري و منزله بباب بستانه، و في هذا البستان نخلة واحدة لسمرة بن جندب، و لما كان الطريق الى البستان من منزل الانصاري لان منزله على باب بستانه، فكان سمرة يدخل منزل الانصاري لان يصل لنخلته التي في بستان الانصاري، و لكنه كان يدخل منزل الانصاري من دون استئذان اهل المنزل بدخوله، و كثيرا ما يكون نساء المنزل على غير استعداد، فلذلك شكاه الانصاري الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و طلب منه محض الاستئذان للدخول بتوسط رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و مع ذلك لم يستجب سمرة لطلب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، فلذا ساومه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و بذل له اضعافا مضاعفة لقيمة نخلته فلم يقبل سمرة، فاضاف رسول اللّه له العذق في الجنة المستلزم لدخوله للجنة فلم يقبل ايضا، فظهر بوضوح ان غرض سمرة الانصاري دون المالية الدنيوية و الثواب الاخروي، و ليس ذلك ببعيد عن طبع سمرة، فان التاريخ حدثنا ان سمرة لما استخلصه زياد على البصرة قتل الكثير من الابرياء بأرجل الخيل، لانه كان يخرج مع حاشيته على الخيل راكضين في الطرق المأهولة بالمارة فتدوس خيله كل من لا يستطيع الابتعاد عنها، فبلغ المقتولون بارجل خيله

ص: 298

كثيرة (1) و قد ادعي تواترها، مع اختلافها لفظا و موردا، فليكن المراد به تواترها إجمالا، بمعنى القطع بصدور بعضها، و الانصاف أنه ليس في دعوى التواتر كذلك جزاف (2)، و هذا مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها و انجبار ضعفها، مع أن بعضها موثقة، فلا مجال للاشكال فيها من جهة سندها، كما لا يخفى (3).

______________________________

آلافا مؤلّفة، و لا يكاد ينقضي عجبي من البخاري كيف يعد روايته من الصحاح، مضافا الى ما صدر منه من الوضع للحديث الكاذب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و غير ذلك من مطاعنه المذكورة في كتب الرجال.

(1) المراد هي الروايات الواردة المتضمنة للاضرر و لا ضرار من دون اشارة فيها الى قصة سمرة.

(2) المدعي لتواترها هو فخر المحققين. و حيث ان الرواية لم تبلغ التواتر اللفظي و لا المعنوي بمعنى كون مضمونها و معناها متواترا، فلا بد و ان يكون المراد من تواترها هو التواتر الاجمالي الذي اشار الى تفسيره في العبارة بقوله: ( (بمعنى القطع بصدور بعضها)). و قد اشار المصنف الى ان دعوى تواترها الاجمالي ليس ببعيد بقوله:

( (و الانصاف ... الى آخر الجملة)).

(3) حاصله: انها لو لم تكن متواترة فالعلم باستناد المشهور اليها في مقام الفتوى بكسبها صفة الوثوق الموجب لاندراجها فيما هو الحجة من الاخبار، لما مرّ من أن استناد المشهور الى الرواية الضعيفة في مقام الفتوى يوجب انجبار ضعف سندها. هذا مع ان بعض الروايات موثقة زرارة، و الرواية الموثقة بحسب الاصطلاح هو كون الرواية بعض رواتها غير امامي و لكنه ثقة مأمون، و الرواية انما عدّت من الموثق لاشتمالها على ابن بكير و هو فطحي و لكنه ثقة مامون، فلا شبهة في ان قاعدة لا ضرر و لا ضرار من حيث. سندها حجة و قد اشار المصنف الى كلا الامرين في عبارته، و هي واضحة ايضا.

ص: 299

و أما دلالتها، فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع، من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال، تقابل العدم و الملكة (1)، كما أن الاظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر جي ء به تأكيدا، كما يشهد به إطلاق المضار على سمرة، و حكي عن النهاية لافعل الاثنين، و إن كان هو الاصل في باب المفاعلة، و لا الجزاء على الضرر لعدم تعاهده من باب المفاعلة (2)،

______________________________

المراد من لفظة: الضرر، و الضرار، و (لا)

(1) هذه الجهة الثانية و هي الكلام فيما يستفاد من القاعدة في مقام الدلالة، و هي عبارة عن ثلاث كلمات: لفظة الضرر، و لفظة الضرار، و لفظة (لا). و ببيان المراد من هذه الكلمات الثلاث يتضح المراد من القاعدة.

اما لفظة الضرر فقد فسروه بانه النقص في النفس، او الطرف كالعضو، او العرض، او المال. و حيث ان النقص امر عدمي فلا يكون بين الضرر و بين النفع تضاد بحسب الاصطلاح، لان التضاد اصطلاحا هو المعاندة و التقابل بين الامرين الوجوديين كالسواد و البياض مثلا. و يظهر من المصنف ان الضرر في قبال النفع، و حيث ان النفع هو الزيادة فيكون الضرر هو عدم الزيادة عمّا من شأنه الزيادة، فيكون التقابل بينهما من تقابل العدم و الملكة. و لا يخفى انه بعد أن كان الضرر هو النقص، و حيث ان عدم الزيادة لا تستلزم النقص دائما بل ربما تكون عدم الزيادة و لا نقص، فالظاهر ان الضرر هو عدم التمامية عمّا من شأنه ان يكون تاما، فان كل ما ليس بتام فيما شأنه ان يكون تاما فهو ناقص، و هو مستلزم لعدم الزيادة قطعا، فالضرر يقابل التمامية اولا و بالذات، و يقابل الزيادة التي هي النفع ثانيا و بالعرض، و لعل هذا هو مراد المصنف بقوله: ( (ان الضرر هو ما يقابل النفع من النقص ... الى آخر الجملة)).

(2) الظاهر ان الضرر هو اسم لحاصل المصدر، فان مصدر باب ضرّ يضرّ هو الضرّ، فالضرر اسم للمصدر. و الفرق بين المصدر و اسم المصدر امر اعتباري.

و اما لفظة الضرار فيظهر من عبارة المصنف ان فيه وجوها ثلاثة:

ص: 300

.....

______________________________

الأول: ان يكون المراد به هو الضرر، و جي ء به تأكيدا كما هو مختاره.

الثاني: ان يكون المراد به هو الضرر الذي يكون في قبال الضرر، لانه مصدر باب المفاعلة، فهو من ضار يضار ضرارا، كقاتل يقاتل قتالا، و باب المفاعلة هو فعل الاثنين. فالمراد منه هو فعل الشخص ضرر الغير في قبال الضرر الذي هو فعل الغير ايضا، كما ان القتال هو فعل القتل لمن يفعل القتل، و المعانقة هو فعل العناق لمن يفعل العناق ايضا.

و الحاصل: ان باب المفاعلة يدلّ على المشاركة، فالضرار هو فعل ضرر لمن يفعل الضرر، لانه مصدر باب المفاعلة الدالة على المشاركة، و عليه فلا بد و ان يكون الضرر فعل الاثنين في باب الضرار.

الثالث: ان يكون المراد من الضرار هو الجزاء على الضرر، و لازم كونه الجزاء على الضرر هو تضرر المجازى للمجازى، فهو اخص من باب المفاعلة، فانه لا يشترط فيها ذلك، فان المقاتلة هي ارادة قتل من يريد القتل لا مجازاة من فعل القتل، لصدق المقاتلة على الاثنين و لم يصل قتل احدهما الى الآخر.

اذا عرفت هذا ... فنقول: انه يظهر من المصنف ان المراد من الضرار في القاعدة هو الضرر و قد جي ء به تأكيدا، بعد تسليمه ان الاصل فيه هو فعل الاثنين لانه مصدر باب المفاعلة الدالة على المشاركة، الّا انه حيث اطلق في المقام المضار على سمرة فان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال له- بعد إبائه عن كل ما عرضه عليه- انك رجل مضار، و المضار هو المتلبس بالضرار. و حيث لم يكن فعل سمرة للضرر في قبال ضرر من الانصاري، بالنسبة اليه، بل لم يكن هناك الا ضرر واحد و هو من سمرة بالنسبة الى الانصاري، فقرينة المقام تدل على ان المراد من الضرر بعد تلبس سمرة به هو الضرر منه وحده و هو فعل الواحد لا فعل الاثنين، فيتعيّن الوجه الأول في الضرر دون الوجه الثاني.

ص: 301

.....

______________________________

و اما الوجه الثالث فيرده: اولا: انه لا تدل باب المفاعلة عليه، و ليس المفهوم منها هو الجزاء على الفعل كما عرفت في قاتل و اشباهها. و ثانيا: اطلاق المضار على سمرة و لم يكن فعله للضرر جزاء منه، حيث لم يكن للانصاري ضرر بالنسبة اليه.

ثم لا يخفى ان ما ذكره المصنف من كون المراد من الضرر في المقام هو الضرر و جي ء به للتأكيد قد حكي عن بعض اللغويين، كما يدلّ عليه ما في نهاية ابن الاثير فانه بعد ان ذكر حديث لا ضرر و لا ضرار- بزيادة في الاسلام كما انها موجودة في بعض روايات هذه القاعدة من طرقنا ايضا- و بعد ان فسر الضرر بانه ضد النفع و ان الضرر فعل الواحد، و الضرار فعل الاثنين ... قال في آخر كلامه: قيل هما بمعنى و تكرارهما للتأكيد، و مراده من قوله هما بمعنى: أي بمعنى واحد، و لازم كون الضرار تأكيدا هو كون المعنى الواحد هو الضرر الذي هو فعل الواحد.

و قد اشار المصنف الى جميع ما ذكرنا، فاشار الى ان الاظهر هو الوجه الأول، و ان المراد من الضرار هو الضرر الذي هو فعل الواحد بقوله: ( (ان الاظهر ان يكون الضرار بمعنى الضرر جي ء به تأكيدا)) و اشار الى الاستدلال عليه باطلاق المضارّ الذي فاعل الضرار على سمرة و فعله كان فعل الواحد بقوله: ( (كما يشهد به اطلاق المضارّ على سمرة)) و اشار الى انه هو محكى عن بعض اللغويين في النهاية بقوله:

( (و حكى عن النهاية)) و اشار الى تسليم كون الاصل في باب المفاعلة هو فعل الاثنين لدلالتها على المشاركة بقوله: ( (لا فعل الاثنين)) أي ان المراد من الضرار في المقام هو فعل الواحد لا فعل الاثنين للقرينة ( (و ان كان)) أي فعل الاثنين ( (هو الاصل في باب المفاعلة)) لدلالتها على المشاركة بحسب الاصل. و اشار الى الوجه الثالث بقوله:

( (و لا الجزاء على الضرر)) أي كما انه ليس المراد من الضرار في المقام فعل الاثنين، كذلك ليس المراد منه في المقام الجزاء على الضرر. و اشار الى وجه ردّه بقوله:

( (لعدم تعاهده من باب المفاعلة)) أي لم يعهد في باب المفاعلة ان يراد بها الجزاء على فعل الغير.

ص: 302

و بالجملة لم يثبت له معنى آخر غير الضرر (1).

______________________________

(1) حاصله: انه بعد ان اطلق المضارّ على سمرة، فهو ان لم يكن قرينة على ان المراد من الضرار في المقام هو الضرر الذي هو فعل الواحد، فلا اقل من ان يكون لا دلالة له على فعل الاثنين، فلم يثبت للضرار في المقام معنى آخر غير معنى الضرر.

و الحاصل: انه لو تنزلنا عن ظهوره في كونه للتأكيد، فلا اقل من اجماله و انه لا ظهور له في غير معنى الضرر كما لا يخفى. و لا يخفى انه لازم تسليم كون الاصل في باب المفاعلة هو المشاركة و فعل الاثنين هو استعمال الضرار في المقام في الضرر الذي هو فعل الواحد من المجاز، و قد دلّت عليه القرينة و هي اطلاق المضار على سمرة. الّا انه لا ينبغي تسليم ذلك، و ليس الاصل في باب المفاعلة هو المشاركة و فعل الاثنين، و الثابت من الاستعمالات في القرآن و في الاستعمالات المتعارفة عدم دلالة باب المفاعلة على المشاركة و فعل الاثنين. اما في القرآن فكقوله تعالى: وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ 32] و كقوله تعالى: وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ 33] و كقوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ 34] فان المهاجرة و المناداة في الآية و المراءاة ليس من فعل الاثنين و المشاركة، و غير ذلك مما هو في الذكر الكريم كنافقوا و شاقوا. و اما الاستعمالات المتعارفة كقولهم: سافر، و باشر الامر، و ساعده الحظ و ناجى ربه و صادق على الامر، و جازف فيه، و شاهد الشي ء و غير ذلك، فان باب المفاعلة في هذه الموارد كلها لا يدل على المشاركة و فعل الاثنين، و ليس استعمالها من المجاز لعدم لحاظ العلاقة فيها. و الفرق بين باب المفاعلة التي هي من المزيد و الفعل المجرد كجلس و جالس و ضرب و ضارب هو ان باب المفاعلة يدل على التصدي لايصال

ص: 303

كما أن الظاهر أن يكون (لا) لنفي الحقيقة، كما هو الاصل في هذا التركيب حقيقة أو ادّعاءً، كناية عن نفي الآثار، كما هو الظاهر من مثل: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد و يا أشباه الرجال و لا رجال فإن قضية البلاغة في الكلام هي إرادة نفي الحقيقة ادّعاءً (1)،

______________________________

احتمالات اربعة للفظة (لا)

المبدأ و التصدي للايصال هو فعل الفاعل، فان كان المجرد لازما فهو يدل على محض وجود المبدأ، فان جلس تدل على ايجاد الجلوس، و جالس تدل على فعل الفاعل له مع الغير و التصدي لايصاله له، فان جالس تدل على ان الفاعل فعل الجلوس مع الغير. و ان كان المجرد متعديا فهو يدل على وصول الفعل من الفاعل الى الغير، فضرب زيد عمرا تدل على وصول ضرب زيد عمرا، بخلاف ضاربه فانها تدل على التصدّي لايصال زيد الضرب الى عمرو، و لذلك يصدق ضرب زيد عمرا و ان كان الذي رفع يد زيد مثلا و ضرب بها عمرا كان غير زيد. و لا يصح ذلك في ضارب زيد عمرا، لدلالتها على ان الفاعل هو المتصدي لايصال الضرب لعمرو.

و اذا كان هذا هو الفرق بين باب المفاعلة و المجرد، فالفرق بين الضرر و الضرار ان الضرر هو النقص الصادر من الفاعل سواء كان راجعا الى نفسه او الى غيره، و الضرار هو التصدّي لايصال الضرر الى الغير، و لذلك كان سمرة مضارا لانه كان متصدّيا لايصال الضرر الى الانصاري و هو استعمال حقيقي لا مجاز فيه، فالمنفي بقاعدة الضرر و الضرار هو النقص من دون التصدّي فيه للايصال، و النقص مع التصدّي فيه للايصال. و اللّه العالم.

(1) لا يخفى ان المشار اليه في عبارة المتن احتمالات اربعة للفظة (لا): الأول: كون (لا) لنفي حقيقة مدخولها- و هو الضرر- ادّعاءً. الثاني: كون المنفي بها الحكم الضرري. الثالث: كون المنفي هو نوع خاص من الضرر و هو الضرر غير المتدارك.

الرابع: كون (لا) ليست بنافية، بل هي ناهية عن فعل الضرر.

و مختار المصنف هو الأول، و توضيحه يحتاج الى بيان امور:

ص: 304

.....

______________________________

الأول: ان (لا) حيث كانت للنفي فلا بد لها من منفي يكون هو المدخول لها، و لا بد و ان يكون المستفاد من ظهور (لا) النافية لمدخولها هو نفي حقيقة مدخولها، لدلالتها على النفي و مدخولها على الحقيقة، فظهورها الاولي هو نفي حقيقة مدخولها. و حيث الظاهر من الاسناد هو الاسناد الحقيقي فيكون ظهورها الاولى نفي حقيقة مدخولها حقيقة، فتدل مثل (لا رجل في الدار) على نفي حقيقة الرجل في الدار حقيقة. و مثل (لا صلاة إلّا بطهور) على نفي حقيقة الصلاة من غير طهور حقيقة.

الثاني: انه حيث يتعذر ارادة نفي الحقيقة حقيقة، اما لقيام الدليل على عدم نفيها حقيقة كقوله لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد، حيث قام الدليل على صحة الصلاة في المحلّ المجاور للمسجد، او لقرينة تقوم في نفس الكلام على ذلك كقوله يا اشباه الرجال و لا رجال، فانه لما كان المخاطبون هم رجال حقيقة فلا يكون المراد من لا رجال هو نفي الحقيقة حقيقة. و حينئذ فالمراد بلا نفي الحقيقة ادّعاءً بلحاظ أن الصلاة في غير المسجد غير الواجدة للكمال هي كما لو لم تكن بصلاة حقيقة، فيكون المستفاد منها نفي حقيقة الصلاة ادّعاءً لا حقيقة. و كذلك الحال في لا رجال فانهم حيث كانوا ناقصين عن درجة الكمال و هي الشجاعة لتقاعسهم عن الحرب فلذلك نفى حقيقة الرجالية عنهم ادّعاءً. فالمثلان المذكوران في عبارة المتن هما لنفي الحقيقة ادّعاءً، لا لنفي الحقيقة حقيقة ليقال بانه كان المناسب ان يمثل بقوله عليه السّلام:

(لا صلاة إلّا بطهور). و حيث كان الضرر مما يترتب على الفعل الخارجي حقيقة في الخارج فلا يعقل ان يكون المراد بلا النافية للضرر هي النفي له حقيقة، بل المراد بها نفي حقيقة الضرر ادّعاءً لا حقيقة.

الثالث: ان المراد من هذا النفي الادعائي لحقيقة الضرر هي نفي الآثار الشرعية الجعلية المترتبة على الموضوعات الضررية و الاحكام الضررية، فالمنفي في الوضوء الضرري هو الحكم المتعلق به لو لا هذه القاعدة، و كذلك المنفي في المعاملة الضررية

ص: 305

.....

______________________________

هو صحتها المترتبة منها لو لا هذه القاعدة. و المنفي في قصة سمرة الحكم الضرري و هو سلطنته على نخلته و حرمة التصرّف فيها بالقلع، فانه بعد ان كان مضارا فلا سلطنة له على نخلته و لا يحرم قلعها، لان سلطنته عليها ضررية و حرمة التصرّف فيها بالقلع ضررية ايضا، فالسلطنة و حرمة التصرف حكمان ضرريان، و انما كان المنفي هو الآثار الشرعية الجعلية لان الضرر له اثر تكويني و هو غير مرفوع عن الضرر قطعا و يترتب عليه كلما تحقق الضرر، بخلاف اثره الشرعي الجعلي، فحيث انه بيد الشارع جعله فبيد الشارع رفعه، مع ان المناسب لمقام الشارع بما هو شارع رفع الآثار الشرعية دون التكوينية لانها هي المرتبطة به بما هو الشارع، و اما التكوينية فمرتبطة به بما هو مكوّن لا شارع. فقضية لا ضرر ان كانت خبرية بلسان الحكاية عن رفع الضرر خارجا ادّعاءً فهي باعتبار رفع ما يترقب تعلقه به و ترتبه عليه. و ان كانت انشائية فهي رفع للضرر في مقام الانشاء ادّعاءً- ايضا- باعتبار رفع ما يترتب تعلقه به و ترتبه عليه.

الرابع: ان الحقيقة الادعائية هي مجاز في الاسناد و ليس فيها تصرف في امر لفظي لا باستعمال له في غير ما وضع له، و لا بتقدير كلام فيه، فحيث يدور الامر بينها و بين المجاز في الكلمة او التقدير فهي اولى، لان نفي الحقيقة ادّعاءً اقرب الامور الى نفي الحقيقة حقيقة، فيتعين نفيها ادّعاءً بعد تعذر نفيها حقيقة. و قد اشار المصنف الى ان الاصل الاولي في (لا) رفع حقيقة مدخولها حقيقة، فان تعذر فالاصل الثاني فيها هو رفع الحقيقة ادّعاءً بقوله: ( (ان الظاهر ان يكون لا لنفي الحقيقة كما هو الاصل في هذا التركيب)) اولا ان يكون لنفي الحقيقة ( (حقيقة)). و اشار الى انه مع تعذّر الحقيقة حقيقة فالاصل ثانيا في هذا التركيب هو رفع الحقيقة ادّعاءً بقوله: ( (او ادّعاءً)) و اشار الى ان رفع الحقيقة ادّعاءً هو يكون كناية عن رفع الآثار الشرعية بقوله: ( (كناية عن رفع الآثار)). ثم مثّل لرفع الحقيقة ادّعاءً بقوله: ( (كما هو الظاهر ... الى آخر الجملة)). و اشار الى ان الرفع الادعائي هو المناسب للرفع

ص: 306

لا نفي الحكم (1)

______________________________

الحقيقي بعد تعذره بقوله: ( (فان قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادّعاءً)) و انما كانت قضية البلاغة هي الرفع الادعائي بعد تعذّر الرفع الحقيقي، لان الحقيقة المرفوعة آثارها هي بحكم العدم، فناسب ان يدعى رفعها كناية عن رفع آثارها، و المراد من الآثار هي الاعم مما يترتب عليها كالصحة في المعاملة الضررية، او ما يتعلق بها كالحكم الشرعي المتعلق بالموضوع الضرري، او الحكم الذي يترتب عليه الضرر كالملكية او السلطنة الموجبين للضرر.

(1) قد عرفت ان الاحتمالات المشار اليها في المقام الرابع اربعة، و قد مضى الكلام في الأول، و هو كون (لا) لنفي الحقيقة ادّعاءً ... فاشار الى الاحتمال الثاني بقوله:

( (لا نفي الحكم)) و حاصله: ان المنفي بلا هو الحكم الذي ينشأ منه الضرر، فيكون النفي على هذا نفيا حقيقيا لا ادعائيا، لان الحكم الذي ينشأ منه الضرر منفي حقيقة لا ادّعاءً، و يكون النفي لنوع خاص من انواع الضرر، و هو الحكم الذي يكون سببا للضرر لو لا هذه القاعدة. و هذا هو ظاهر الشيخ الاعظم في رسائله ... و ملخص المتحصّل من استدلاله عليه: ان هذه القضية اما ان تكون انشائية و يكون الشارع قد انشأ بقوله لا ضرر النفي في المقام، فلا بد و ان يختصّ بالضرر الآتي من قبل الشارع، و هو الضرر الآتي من قبل حكمه، لان حكمه هو الذي بيده رفعه و وضعه بما هو شارع .. و ان كانت القضية خبرية فالامر كذلك ايضا، لان المناسب لاخبار الشارع بما هو شارع ان المنفي المخبر عنه في المقام مما يعود اليه بما هو شارع و هو الحكم فانه هو الذي يعود اليه رفعه و وضعه بما هو شارع. هذا كلّه مع قيام القرينة على ان المنفي مما يرجع الى الشارع، كقوله في الاسلام، و قيام قرينة المقام على ذلك ايضا و هو انه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بعد قوله لا ضرر قال للانصاري اقلعها و لازم جواز القلع ان يكون المرفوع سلطنة سمرة و هو حكم وضعي، و حرمة التصرّف في مال الغير و هو حكم تكليفي.

فتحصّل ان المنفي و المرفوع بهذه القاعدة هو الحكم الذي ينشأ منه الضرر.

ص: 307

أو الصفة (1)، كما لا يخفى.

______________________________

و لا يخفى ان لازم هذا هو اختصاص القاعدة برفع الاحكام التي ينشأ منها الضرر و لا تشمل الموضوعات الضررية.

و فيه اولا: انه لا وجه لحملها على ما يوجب الاختصاص بالحكم الضرري دون الموضوع الضرري، بعد امكان حملها على ما يشمل الموضوع ايضا، و هو رفع الضرر ادّعاءً كناية عن رفع ما يترقب منه و ما يتعلق به.

و ثانيا: ان ما ذكره من المناسبة للشارع بما هو شارع، و القرينة اللفظية و هي في الاسلام، و القرينة المقامية و هي قضية سمرة، لا توجب تعيين كون المرفوع هو الحكم، بل ما ذكر يناسب ايضا الحمل على الادعاء لرفع ما يعود الى الشارع بما هو شارع.

و ثالثا: ما اشار اليه من ان كون المنفي هو الحكم الضرري يستلزم اما المجاز في الكلمة، بان يستعمل لفظة الضرر في الحكم الضرري مجازا، او الاضمار للفظة الحكم بان يكون التقدير لا حكم يوجب الضرر. و المجاز في الكلمة و الاضمار كلاهما لا ينبغي ان يصار اليهما بعد امكان عدم التصرّف في اللفظ بالحمل على النفي الادعائي، فانه من المجاز في الاسناد و التصرّف فيه في امر عقلي، مضافا الى مناسبته للرفع الحقيقي لان الحقيقة التي لا أثر لها بحكم العدم.

(1) يشير الى الاحتمال الثالث، و هو ان المنفي هو الضرر غير المتدارك. و ينبغي ان لا يخفى ان هذا الاحتمال ليس في قبال الاحتمالين الاولين، بل المراد منه ان الضرر المنفي سواء كان الحقيقة بنحو الادعاء، او كان الحكم الذي ينشأ منه الضرر، فالمنفي فيه ليس هو المطلق، بل خصوص غير المتدارك منه. و لعل وجهه ان المتدارك منه ليس من الضرر فلا تكون القاعدة شاملة له، ففي مثل موارد الضرر الذي حكم الشارع بالتضمين فيه لا يكون الضرر منفيا لتداركه بحكم الشارع في مورده بالتضمين:

و فيه اولا: انه ان كان المنفي خصوص الضرر غير المتدارك، و الضرر المتدارك لا يكون منفيا بهذه القاعدة ... فالمراد من التدارك ان كان هو التدارك الاخروي

ص: 308

و نفي الحقيقة ادّعاءً بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير أو في الكلمة (1)، مما لا يخفى على من له

______________________________

فلا يبقى للقاعدة من الموارد الا القليل، لان جميع الاحكام الضررية كالوضوء المضرّ بالنفس او الطرف لا يكون منفيا لتداركه بالاجر و الثواب، بل يكون من افضل الاعمال لانه اشقها. و كذلك بذل المال الكثير المضر بذله بالشخص ازاء ماء الوضوء لا يكون منفيا بالقاعدة ايضا لانه ايضا متدارك بالاجر الاخروي، مع ان الفقهاء على النفي في هذين الموردين و اشباههما بهذه القاعدة، هذا مضافا الى انه لو كان المراد هو الضرر غير المتدارك بالثواب يكون منافيا لقضية سمرة التي طبق النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم عليها قاعدة الضرر، لوضوح ان الضرر العائد من سمرة الى الانصاري لا ريب في انه للانصاري الاجر و الثواب في قباله. و ان كان المراد من التدارك هو التدارك المالي فيكون المتحصّل منها ان الضرر المنفي هو الضرر غير المتدارك بالمال، و الضرر غير المنفي هو الضرر المتدارك بالمال، فيكون المراد بالقاعدة نفيا و اثباتا هي الاضرار المالية. فهو ايضا ينافي استدلال العلماء بها في الاضرار غير المالية، و ينافي تطبيق القاعدة على سمرة، لان ضرره للانصاري لم يكن ضررا ماليّا.

و ثانيا: ان كون المراد من الضرر المطلق المنفي في القاعدة هو خصوص غير المتدارك منه، اما باستعمال المطلق في الخاص ابتداء مجازا او باضمار الصفة و تقديرها، و كلاهما خلاف الظاهر لا يصار اليه الّا بدالّ يدلّ على ذلك، و ليس في الكلام ما يدلّ عليه، و اما نفس تعذّر الحمل على الرفع الحقيقي فلا يكون قرينة عليه بعد ما عرفت من ان حمله على الرفع الادعائي اقرب الاحتمالات اليه.

(1) حاصله: ان نفي الحقيقة ادّعاءً لازمه استعمال كل من (لا) و مدخولها فيما وضعا له من غير تصرّف فيهما. و مرجع الفرق بين الادعائي و الحقيقي ان الاصل الاولي هو كون الداعي لنفي الحقيقة هو كون الواقع كذلك حقيقة، و في الادعائي هو كون الداعي لنفي الحقيقة ليس هو الواقع، بل ادعاء ذلك، و حيث انه لا يكون

ص: 309

معرفة بالبلاغة (1).

و قد انقدح بذلك بعد إرادة نفي الحكم الضرري، أو الضرر غير المتدارك، أو إرادة النهي من النفي جدا (2)، ضرورة بشاعة

______________________________

النفي الادعائي جزافا بل لا بد و ان يكون بلحاظ شي ء، فيمكن ان يكون الداعي لنفي الحقيقة ادّعاءً هو نفي الحكم الذي يوجب تحققه تحقق هذه الحقيقة، او نفي الصفة التي يمكن ان تلحق هذه الحقيقة، و مآله الى نفي خصوص الحقيقة المتصفة بهذه الصفة. و من الواضح ان دواعي الاستعمال لا تستلزم التصرّف في مقام الاستعمال.

فاتضح ان النفي الادعائي للحقيقة لا يستلزم مجازا او اضمارا، بخلاف ما اذا اريد ابتداء من هذا التركيب هو نفي الحكم او نفي الصفة، فانه يستلزم اما المجاز في الكلمة باستعمال لفظ الحقيقة في خصوص سبب من اسبابها و هو الحكم، او استعمال العام في احد انواعه بالخصوص و هو الخاص، لان الضرر المتصف بكونه غير متدارك نوع خاص من حقيقة الضرر العام، او يستلزم الاضمار، بتقدير الحكم في الأول، و غير المتدارك في الثاني، بخلاف ما اذا كان الداعي لنفي الحقيقة ادّعاءً احدهما، فانه لا يستلزم شيئا من ذلك اصلا لا مجازا في الكلمة و لا اضمارا. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (و نفي الحقيقة ادّعاءً بلحاظ)) كون الداعي له هو نفي ( (الحكم او الصفة غير نفي احدهما)) من الحكم او الصفة ( (ابتداء)) فانه لا يستلزم شيئا لا مجازا في الكلمة و لا اضمارا و اما نفي احدهما بهذا التركيب ابتداء فانه يستلزم اما ( (مجازا في التقدير)) و هو الاضمار ( (او)) مجازا ( (في الكلمة)).

(1) يشير بهذا الى وجه ترجيح النفي الادعائي- مضافا الى عدم استلزامه خلاف الظاهر لا إضمارا و لا مجازا في الكلمة- ان نفي الحقيقة ادّعاءً بلحاظ امر من الامور من انواع الكناية التي هي ابلغ الاساليب في مقام النفي او الاثبات.

(2) حاصله: انه بعد ما عرفت من ترجيح الحمل على النفي الادعائي بعد تعذّر النفي الحقيقي .. يتضح صحة الاحتمال الأول، و هو كون المراد بلا ضرر نفي الآثار

ص: 310

استعمال الضرر و إرادة خصوص سبب من أسبابه، أو خصوص غير المتدارك منه (1)، و مثله لو أريد ذاك بنحو التقييد، فإنه و إن لم يكن

______________________________

الشرعية المترقبة من الضرر سواء كانت حكما ضرريا او موضوعا ضرريا، دون الاحتمال الثاني، و هو كون المراد بلا ضرر نفي خصوص الحكم الضرري. و اليه اشار بقوله: ( (بعد ارادة نفي الحكم الضرري))، و دون الاحتمال الثالث و هو كون المنفي خصوص الضرر غير المتدارك، و اليه اشار بقوله: ( (او الضرر غير المتدارك)).

قوله (قدس سره): ( (او ارادة النهي ... الخ)) يشير الى الاحتمال الرابع، و هو كون المراد من النفي في المقام هو النهي، فمرجع لا ضرر الى النهي عن ايجاد الضرر، فانه بعد ما اتضح ترجيح الاحتمال الأول لا وجه لهذا الاحتمال ايضا، و سيأتي الاشارة الى ان حمل النفي في المقام على النهي لا وجه له ايضا.

(1) ظاهر عبارة المتن ان لا ضرر نفي للضرر مطلقا، فلا وجه لتخصيصه بخصوص احد اسبابه و هو الضرر الناشئ من الحكم، مع ان الضرر ينشأ من الحكم الضرري و من الموضوع الضرري. و يمكن ان يكون مراده من البشاعة ان ظاهر لا ضرر هو نفي الشي ء الضرري بلحاظ ذاته من دون لحاظ تعلق الحكم به، كشراء الماء للوضوء بالثمن الغالي جدا، و كالمعاملة الغبنيّة، و كالوضوء الذي يعود بضرر على البدن، و كسلطنة سمرة المستلزمة للضرر على الانصاري، فان هذه الامثلة و اشباهها مما يترتب عليها الضرر بذاتها، فالمنفي بلا ضرر امثال هذه الامور التي تستلزم الضرر بذاتها لا بملاحظة تعلق الحكم، و يكون رفع الضرر في هذه الامور من باب رفع الاثر بلسان رفع موضوعه و هو الضرر، و لازم ذلك رفع الحكم المتعلق بهذه الامور. اما الشي ء الذي لا يكون ضررا بذاته بل ينشأ من الحكم بالجمع بينه و بين غيره الضرر فليس مشمولا للقاعدة، فاذا كانت الاحكام متعلقة بامور غير ضررية و لكن لزم من الحكم بالجمع بينها ضرر فلا يكون منفيا بهذه القاعدة. و قد رتب على هذا ثمرة، و هو ما تقدّم منه (قدس سره) في الانسداد من ان دليل لا ضرر و لا حرج لا يشمل

ص: 311

ببعيد، إلا أنه بلا دلالة عليه غير سديد (1)، و إرادة النهي من النفي و إن

______________________________

الاحتياط في الجمع بين الاطراف للاحكام المعلومة بالاجمال، لان المنفي بلا ضرر ما هو ضرر بذاته من دون تعلق الحكم به، لان متعلقات الاحكام ليست بذاتها ضررية، و انما لزم الضرر من الحكم بالجمع بينها، فالضرر ناشئ من الحكم لا مما هو ضرر بذاته من دون تعلق الحكم.

و لا يخفى انه انما كان ظاهر العبارة هو الاحتمال الأول و هو انه لا وجه لحمل ما ظاهره الاطلاق و الشمول للحكم الضرري و الموضوع الضرري على خصوص الحكم الذي يتسبب منه الضرر، بعد ان كان الضرر مسببا عن الحكم و عن الموضوع، لاجل العطف بقوله: ( (او خصوص غير المتدارك)) عليه فان الظاهر من هذا العطف هو انه كما لا وجه لحمل الضرر على خصوص سبب من اسبابه و هو الحكم الضرري بالخصوص، كذلك لا وجه لان يراد منه خصوص غير المتدارك منه بعد ان كان المنفي هو الضرر المطلق الشامل للمتدارك و غير المتدارك. و اللّه العالم.

(1) توضيحه: ان هذا راجع لخصوص غير المتدارك، و قد تقدّم منه في صدر العبارة:

ان ارادة خصوص الضرر غير المتدارك بنحو المجاز في الكلمة لا وجه له. اما اذا اريد خصوص الضرر غير المتدارك بنحو تعدد الدال و المدلول فلا يستلزم مجازا في الكلمة، الّا انه بعيد لا ينبغي ان يصار اليه لانه رفع يد عن الاطلاق من دون دلالة دليل على التقييد.

و حاصل العبارة: ان مثل اطلاق الضرر و ارادة خصوص غير المتدارك منه مجازا ما اذا اريد خصوص غير المتدارك بنحو تعدّد الدال و المدلول، فان ارادته بنحو تعدّد الدالّ و المدلول و ان لم يكن بعيدا الّا انه يحتاج الى دليل يدل على التقييد، و مع عدم وجود الدليل على التقييد لا يرفع اليد عن الاطلاق، و لذا قال (قدس سره):

( (و مثله)) أي و مثل ارادة خصوص غير المتدارك مجازا ( (لو اريد ذاك)) أي خصوص غير المتدارك و لكنه ( (بنحو التقييد)) و تعدّد الدال و المدلول ( (فانه و ان لم

ص: 312

كان ليس بعزيز، إلا أنه لم يعهد من مثل هذا التركيب (1)، و عدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة لا يكاد يكون قرينة على إرادة واحد

______________________________

يكن ببعيد)) لعدم بشاعة التقييد بنحو تعدّد الدال و المدلول ( (الّا انه بلا دلالة عليه غير سديد)) لانه رفع يد عن الاطلاق من دون دلالة على التقييد، لانه رفع يد عن حجة من غير حجة.

(1) قد عرفت مما مر ان ظاهر هذا التركيب نفي الحقيقة حقيقة، و اذا كان متعذرا فاقرب الامور اليه هو نفي الحقيقة ادّعاءً، لانه يحافظ على ظهور (لا) في النفي و ظهور المدخول في ان المراد به معناه الحقيقي، و انما التصرّف في امر عقلي و هو ادعاء كون هذا النفي نفيا حقيقيا، فلا وجه لرفع اليد عن النفي بعد امكان بقائه على حاله.

هذا مضافا الى ما اشار اليه في المتن بقوله: ( (و ارادة النهي من النفي و ان كان ليس بعزيز إلّا انه لم يعهد من مثل هذا التركيب)). و حاصله: ان اطلاق الجمل المنفية و ارادة النهي منها موجود و مستعمل كثيرا، كمثل لا يكفي و لا يجزي و لا يصح، فان المراد بها النهي عن فعل ما لا يكفي و ما لا يجزي و ما لا يصح، الّا ان ارادة النهي من مثل هذا التركيب و هو النفي المسلط على الحقيقة غير معهود في الاستعمال، بل ربما يكون ارادة النهي من النفي فيها في بعضها غير معقول، كمثل لا شك لكثير الشك، و لا سهو في النافلة، و لا سهو في سهو، اذ لا يعقل ان يكون المراد منها نهي كثير الشك عن شكه، و لا النهي عن فعل السهو في النافلة، و لا النهي عن فعل السهو في السهو.

ثم لا يخفى انه ينبغي ان يكون مراده من عدم المعهودية لإرادة النهي من هذا التركيب هو عدم معهودية ارادة ذلك في مقام يمكن حمله على نفي الحقيقة ادّعاءً، و الّا فربما يكون حمله على النهي متعينا كقوله تعالى:

ص: 313

منها، بعد إمكان حمله على نفيها ادعاء، بل كان هو الغالب في موارد استعماله (1).

______________________________

فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ 35] فانه من الواضح انه لم يرد منها رفع آثار الرفث و الفسوق و الجدال، بل المراد منها النهي عنها في الحج.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا: ان هذا التركيب ربما يكون المتعيّن فيه النفي كمثل لا شك و لا سهو، و ربما يكون المتعيّن فيه النهي كمثل لا رفث و لا جدال، و ربما يكون الظاهر منه النفي كمثل لا ضرر و لا ضرار.

(1) حاصله: دفع دخل، و هو انه لا يقال: ان الداعي لحمل لا ضرر في المقام على احد الاحتمالات المذكورة هو عدم امكان ارادة نفي الضرر حقيقة على وجه الحقيقة.

فانه يقال: ان عدم امكان ارادة النفي الحقيقي منها لا يوجب ان يكون المراد منها احد الاحتمالات الثلاثة، بل لا بد من ملاحظة الاقرب منها الى النفي الحقيقي، و قد عرفت ان اقرب الاحتمالات اليه هو النفي الادعائي، مضافا الى ان الغالب في الاستعمالات التي يتعذّر فيها النفي الحقيقي ارادة النفي الادعائي منها، فالغالبية هي بنفسها تقتضي ترجيح ما هو الغالب حيث لا يكون بنفسه اقرب الى الامر الحقيقي؟

فكيف به اذا كان النفي الادعائي في نفسه اقرب الاحتمالات الى النفي الحقيقي؟ و قد اشار الى الدخل المذكور بقوله: ( (و عدم امكان ارادة نفي الحقيقة حقيقة)). و اشار الى الجواب عنه بان محض عدم امكان ارادة النفي الحقيقي لا يقتضي احد الاحتمالات على وجه التعيين، بل لا بد من الحمل على اقرب الامور اليه و هي النفي الادعائي بقوله: ( (لا يكاد يكون قرينة)) أي لا يكاد يكون عدم امكان النفي الحقيقي قرينة ( (على ارادة واحد منها)) أي واحد من الاحتمالات الثلاثة المذكورة بالخصوص ( (بعد امكان حمله)) على ما هو اقرب منها و هو النفي الادعائي فيترجّح

ص: 314

ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للافعال بعناوينها (1)،

______________________________

نسبة القاعدة مع أدلة الاحكام الأولية

حمل التركيب المذكور ( (على نفيها)) أي على نفي الحقيقة ( (ادّعاءً))، ثم اشار الى الترقي بقوله: ( (بل كان هو الغالب في موارد استعماله)) بان الغلبة في مقام الاستعمال في معنى يقتضي الحمل عليه، و ان لم يكن هو بذاته اقرب المعاني الى المعنى الحقيقي فكيف ما اذا كان هو بنفسه اقرب ايضا؟

(1) هذه هي الجهة الثالثة من الجهات التي اشار للبحث عنها في هذه القاعدة في اول المسألة، و هي نسبة هذه القاعدة مع ادلة الاحكام الاولية الثابتة للموضوعات بما لها من العناوين، كالحرمة الثابتة للخمر او الغصب، و مثل الوجوب الثابت للصلاة او الوضوء.

و توضيح ذلك: ان الحكم الاولي الثابت للشي ء بعنوانه، تارة: يكون موضوعه نفس عنوان الضرر، كمثل من اضرّ بطريق المسلمين فهو له ضامن.

و اخرى: يكون موضوع الحكم ما كان الضرر ذاتيا له كمثل الجهاد و الزكاة، فان وجوب مثل الجهاد و الزكاة و ان لم يكن موضوعه هو عنوان الضرر كالسابق، الّا ان الجهاد حيث ان لازمه تعريض النفس للتلف فالضرر ذاتي له، و مثله الزكاة فان لازمها نقص المال فالضرر ذاتي لها.

و ثالثة: يكون موضوع الحكم ما ليس الضرر ذاتيا له، بل كان مما قد يعرضه الضرر كالوضوء و الغسل، فانه قد يعرضهما الضرر و ليس الضرر ذاتيا لهما.

اما نسبة القاعدة مع الصورة الاولى، و هي الحكم الاولي الذي كان موضوعه نفس الضرر، كمثل من اضرّ بطريق المسلمين فهو له ضامن، فلا اشكال في عدم معارضة لا ضرر له، و لا دلالة لها على نفي الحكم الثابت لنفس عنوان الضرر، لان كل موضوع لحكم له نحو من الدخالة في ثبوته و تحققه، فالضرر لما كان موضوعا للضمان فيكون له نحو من الدخالة في ثبوت الحكم بالضمان. و حيث ان المستفاد من دليل لا ضرر هو كون الضرر رافعا للحكم، فلازم ذلك ان يكون موضوع ذلك

ص: 315

.....

______________________________

الحكم الذي يرفع بلا ضرر هو غير الضرر نفسه، فانه لو كان رافعا حتى للحكم الذي موضوعه نفس الضرر للزم ان يكون الضرر بنفسه دخيلا في ثبوت الحكم و رافعا للحكم و هو محال، لوضوح عدم امكان كون ما يثبت الشي ء رافعا لذلك الشي ء، فالضرر لما كان موضوعا للضمان و دخيلا في ثبوته فلا يكون مرفوعا بقاعدة لا ضرر، لانها انما ترفع الحكم الذي يكون موضوعه غير الضرر بنفسه، فلا تعارض بين قاعدة لا ضرر و بين الدليل الدال على ثبوت الحكم لنفس عنوان الضرر.

و اما نسبة القاعدة مع الصورة الثانية، و هي ما كان موضوع الحكم ذاتية الضرر كالجهاد و الزكاة، فانه ايضا لما ذكرنا لا تعارض بينه و بين قاعدة الضرر، لان الموضوع للحكم اذا كان ضرريا بذاته فمعناه ان الموضوع بما هو ضرري له دخالة في ثبوت الحكم، و قد عرفت انه لا يعقل ان يكون الضرر بما انه له دخالة في تحقق الحكم رافعا لنفس ذلك الحكم، فلا بد و ان يكون موضوع الحكم المرفوع بلا ضرر هو ما كان الضرر عارضا غير لازم لذاته، لا ما كان لازما ذاتيا له، فلا تعارض بينهما ايضا.

و اما نسبة القاعدة مع الصورة الثالثة، و هي ما كان موضوع الحكم مما قد يعرضه الضرر، و ليس لازما ذاتيا له كسائر موضوعات الاحكام الاوليّة كالبيع و الوضوء، فانها قد يعرضها الضرر كالبيع الغبني و قد لا يعرضه كالبيع الذي لا غبن فيه، و مثله الوضوء فانه قد يكون ضرريا و قد لا يكون. فان هذه الصورة هي الصورة هي التي يكون الحكم فيها منتفيا بقاعدة لا ضرر. و سيأتي التعرّض لبيان وجه النسبة بين القاعدة و بينها و ان نفي القاعدة للحكم فيها من باب تقديم القاعدة عليها للتوفيق العرفي او للحكومة.

و قد اشار المصنف الى هذه الصورة الاخيرة، و ان الحكم فيها هو المنفي بلا ضرر دون غيرها بقوله: ( (ثم الحكم الذي اريد نفيه بنفي الضرر)) من باب رفع الشي ء بلسان رفع موضوعه ( (هو الحكم الثابت للافعال بعناوينها)) التي يكون الضرر عارضا غير لازم لذاتها.

ص: 316

أو المتوهم ثبوته لها كذلك في حال الضرر (1) لا الثابت له بعنوانه، لوضوح أنه العلة للنفي، و لا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه و ينفيه بل يثبته و يقتضيه (2).

______________________________

(1) ظاهر هذه الجملة انه لا يشترط في النفي المستفاد من لا ضرر ان يكون نافيا لحكم ثابت لموضوعه، بل قد يكون نافيا للحكم المتوهّم ثبوته للموضوع.

و حاصله: ان قاعدة لا ضرر كما تكون رافعة للحكم الثابت تكون رافعة ايضا للحكم المحتمل الثبوت، كمقدمة الواجب فانه لو قلنا بوجوبها شرعا ثم عرضها الضرر فالضرر يكون رافعا لهذا الحكم الثابت لموضوعه لو لا هذه القاعدة و ان توقفنا في وجوبها شرعا لاحتمال كون وجوبها عقليا لا شرعيا، فاذا عرضها الضرر فلا نحتمل وجوبها شرعا حينئذ. و بالجملة ان ما يعرضه الضرر من الموضوعات لا حكم شرعي له عند عروض الضرر عليه، سواء كان حكمه ثابتا له لو لا هذه القاعدة او كان حكمه متوهّم الثبوت، و لذا قال (قدس سره): ( (او المتوهّم ثبوته لها كذلك)) أي ان الافعال المتوهّم ثبوت الحكم لها بعناوينها هي مثل الافعال التي يكون الحكم ثابتا لها بعناوينها ف ( (في حال الضرر)) لا حكم شرعي لهذه الافعال، سواء كان الحكم ثابتا لها او متوهّما.

فاتضح ان غرض المصنف بيان انه لا حكم شرعي لهذه الافعال عند عروض الضرر عليها ... فلا يرد عليه ان مفاد لا ضرر رفع الحكم بلسان رفع الموضوع، فان كان للموضوع حكم شرعي فهو من العناوين الثابت لها الحكم لو لا القاعدة، و ان لم يكن للموضوع حكم شرعي فلا معنى لرفع القاعدة له، لما عرفت من ان الغرض بيان ان ما يعرضه الضرر لا حكم شرعي له عند عروض الضرر عليه سواء كان حكمه ثابتا او متوهّما.

(2) يشير بهذا الى الصورة الاولى، و هي عدم رفع قاعدة الضرر للحكم الثابت لنفس عنوان الضرر، و لذا قال (قدس سره): ( (لا الثابت له بعنوانه)) أي ان الحكم

ص: 317

و من هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه و أدلة الاحكام، و تقدم أدلته على أدلتها- مع أنها عموم من وجه- حيث أنه يوفق بينهما عرفا، بأن الثابت للعناوين الاولية اقتضائي، يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلته (1)، كما هو الحال في التوفيق بين سائر الادلة المثبتة

______________________________

المنفي بلا ضرر هو الحكم الذي موضوعه غير نفس الضرر ( (لا)) ان المنفي بها هو الحكم ( (الثابت له)) أي لنفس الضرر ( (بعنوانه)). و اشار الى وجه ذلك بقوله:

( (لوضوح انه)) أي لوضوح ان المستفاد من قاعدة لا ضرر هو كون ( (العلة للنفي)) نفس الضرر، و ما كان نافيا لا يعقل ان يكون مثبتا لما ينفيه، و لازم شمول القاعدة حتى لعنوان الضرر نفسه هو كون الضرر نافيا و مثبتا ( (و)) من الوضح انه ( (لا يكاد يكون الموضوع)) هو بنفسه ( (يمنع عن حكمه)) أي يمنع عن حكم نفسه ( (و ينفيه بل)) الموضوع ( (يثبته)) أي يثبت حكم نفسه ( (و يقتضيه)). فلا تعارض قاعدة الضرر مثل من اضرّ بطريق المسلمين فهو له ضامن، و ليس لها دلالة على نفي الضمان عمّن اضر بطريق المسلمين. و لا يخفى انه لم يشر المصنف هنا الى حكم الصورة الثانية، و لكنه قد عرفت ان الحال فيها كحال الصورة الاولى التي اشار اليها.

(1) أي مما ذكره من كون المستفاد من لا ضرر كون العلة لنفي الحكم الثابت لموضوعه هو الضرر العارض عليه .. يتضح تقديم دليل الضرر على ادلة الاحكام الدالة على ثبوت الحكم لموضوعاتها.

و توضيح ذلك: انه لا خلاف في تقديم دليل نفي الضرر على ادلة الاحكام الاولية الثابتة للافعال بما لها من العناوين، و انما الخلاف في ان التقديم هل هو للتوفيق العرفي بينهما كما يراه المصنف، او للحكومة كما هو رأي الشيخ الاعظم؟

و من الواضح ايضا ان النسبة بين قاعدة الضرر و كل واحد من موضوعات الاحكام هو العموم من وجه، لصدق دليل البيع- مثلا- في البيع الذي لا ضرر فيه كغير البيع الغبني، و صدق الضرر في غير البيع كالوضوء الضرري و تصادقهما على البيع

ص: 318

.....

______________________________

الغبني ... و لا ينبغي ان يتوهم ان النسبة هي العموم و الخصوص بجعل ادلة الاحكام كلها طرفا واحدا في قبال دليل نفي الضرر، فان النسبة على هذا و ان كانت هي العموم و الخصوص لأخصيّة دليل الضرر من ادلة الاحكام فيما اذا جعلت طرفا واحدا، الّا انه لا وجه لجعل ادلة الاحكام كلها طرفا واحدا، لوضوح ان المتعارضين هما الحجتان المتنافيتان، و ليست ادلة الاحكام كلها حجة واحدة بل كل واحد منها حجة في قبال دليل نفي الضرر، و اذا كان كل واحد منهما حجة بنفسه كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه كما عرفت.

ثم لا يخفى ان القاعدة الاولى في تعارض العامين من وجه لا تقتضي تقديم احدهما بالخصوص، بل هي اما التساقط و الرجوع الى غيرهما، او التخيير بناء على شمول ادلة التخيير للعامين من وجه.

إلّا انه فيما اذا كان دليل احدهما بالنسبة الى حكمه من باب الاقتضاء و دليل الآخر بالنسبة الى نفي ذلك الحكم عن موضوعه من باب المانع، او فيما كان احدهما بالنسبة الى الآخر له لسان الحكومة عليه، فلا بد من تقديم ما كان لسانه لسان المانع على ما كان من باب الاقتضاء، او ما كان له لسان الحكومة على المحكوم. و لما كانت الحكومة عند المصنف مختصة بما اذا اشتمل دليلها على التفسير و الشرح اللفظي كلفظة اعني- مثلا- دون ما كان ما له بنظر العرف عند الجمع بينهما هو الشرح و التفسير، فلذلك لم يذهب الى حكومة دليل نفي الضرر لانه ليس فيه شرح لفظي، و ذهب الى ان الوجه في التقديم للاضرر هو كونه علة لنفي الحكم و مانعا عن ثبوت ادلة الاحكام بالنسبة الى احكامها، لانها لها حيثية الاقتضاء. و ليس المراد من انها لها حيثية الاقتضاء بالنسبة الى احكامها ان المستفاد منها حكم اقتضائي، بل مع كون المستفاد منها هو الحكم الفعلي بمعنى انها تؤثر لو لا المانع، فانها لها بالنسبة الى الاحكام هذه الحيثية لان ادلة الاحكام هي بداعي جعل الداعي، و كما يصح البعث بداعي جعل الداعي فعلا حيث لا يكون هناك مانع، كذلك يصح البعث بداعي

ص: 319

.....

______________________________

جعل الداعي بنحو الاقتضاء بمعنى كون البعث داعيا حيث لا يوجد المانع، فيكون مع عدم المانع فعليا و مع وجود المانع يكون اقتضائيا.

و بعبارة اخرى: ان ادلة الاحكام لا يستفاد منها العلية التامة لتحقق الحكم بحيث تنفي الدليل الدال على المانع، و دليل المانع يستفاد منه فعلية المنع و النفي، فمع الجمع بينهما يوفق عرفا بحمل ادلة الاحكام على الاقتضاء بالمعنى الثاني، و لازم ذلك هو تقديم ادلة المنع و النفي عليها. و قد اشار الى ان النسبة بينهما هي العموم من وجه، و مع ذلك يقدم دليل الضرر عليها، لان المستفاد منه كونه علة لنفي الحكم، و من الواضح ان علة النفي مانعة عن الثبوت، فلدليل الضرر دلالة على فعلية المنع بقوله:

( (و من هنا لا يلاحظ النسبة)) أي و ممّا ذكرنا من انه العلة للنفي لا تكون القاعدة- في تعارض هذين العامين من وجه- هي القاعدة الاولى في ذلك فلا يلاحظ ما تقتضيه النسبة ( (بين ادلة نفيه)) أي ادلة نفي الحكم المستفاد من روايات لا ضرر (و ادلة الاحكام و)) ان الوجه في المقام يقتضي ان ( (تقدّم ادلته)) أي ادلة لا ضرر ( (على ادلتها)) أي على ادلة الاحكام ( (مع انها عموم من وجه)) و قد عرفت ان القاعدة الاولى في العامين لا تقتضي تقديم احدهما. و اشار الى بيان الوجه في هذا التقديم و انه هو التوفيق العرفي بقوله: ( (حيث انه يوفق بينهما)) أي يوفق بين ادلة الاحكام و دليل لا ضرر ( (عرفا)) بعد تعارضهما في المورد الذي تصادقا فيه ( (بان الثابت للعناوين الاولية)) حكم ( (اقتضائي)) بالمعنى الذي ذكرناه من انه يكون فعليا مع عدم المانع لا فعليا مطلقا، و لا بد حينئذ من ان يقدم عليها ما ( (يمنع عنه)) أي عن الحكم ( (فعلا)) و هو ( (ما عرض عليها من عنوان الضرر ب)) سبب ( (ادلته)) المستفاد منها كون الضرر علة لنفي الحكم فعلا.

ص: 320

أو النافية لحكم الافعال بعناوينها الثانوية، و الادلة المتكفلة لحكمها بعناوينها الاولية (1).

______________________________

(1) حاصله: ان الضرر بعد ان كان مما يعرض عناوين موضوعات الاحكام الاولية و انها تكون ضررية و غير ضررية، فالادلة الدالة على الحكم لهذه الموضوعات هي الادلة المتكفلة لحكم لاحق لعنوان اولي، و قد يطلق عليها الادلة الاولية، و دليل الضرر حيث كان دالا على نفي الحكم عن هذه الموضوعات متى عرض عليها الضرر فالضرر عنوان ثانوي يلحق هذه الموضوعات، و دليل الضرر هو الدليل المتكفّل لحكم هذه الموضوعات بعنوانها الثانوي و هو الضرر العارض عليها، و قد يطلق عليه الدليل الثانوي. و منه ظهر ان كل دليل دلّ على حكم لاحق لهذه العناوين الاوليّة بعنوان آخر يعرض عليها هو من الادلة المتكفّلة لحكم الافعال بالعنوان الثانوي.

و لا يخفى ان هذه المتكفلة للافعال بعناوينها الثانوية: تارة مثبتة لتكليف غير تكليف العنوان الاولي كدليل النذر المتعلق بعنوان مباح او راجح فانه يدل على ثبوت حكم الوجوب لهذه العناوين بالعنوان الثانوي و هو عنوان النذر، و يكون هذا العنوان الاولي- بما هو منذور- واجبا لا بعنوانه الاولي، لعدم كونه بعنوانه الاولي واجبا كما هو المفروض. و اخرى: يكون الدليل المتكفّل لحكم الافعال بالعنوان الثانوي نافيا للحكم كدليل الحرج فانه كدليل الضرر يدل على نفي الحكم عن الافعال بالعنوان الاولي متى عرض عليها الحرج. و لما كان الدليل الثانوي دالا على غير الحكم الاولي لهذه العناوين سواء كان مثبتا لحكم آخر غير حكمه كدليل النذر الدال على الوجوب لما كان بعنوانه الاولي مباحا او راجحا، او كان دالا على نفي الحكم الاولي كدليل الحرج- فلا بد من وقوع المعارضة بين الادلة الاولية و هذه الادلة الثانوية، و هما من العامين من وجه، لان العنوان الاولي يكون منذورا و يكون غير منذور، و النذر قد يتعلق به و قد يتعلق بغيره من العناوين الأخر، و كذلك دليل الحرج فانه قد يعرض هذا العنوان الاولي و قد لا يعرضه بل يعرض غيره، و العنوان الاولي قد

ص: 321

نعم ربما يعكس الامر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء، بل بنحو العلية التامة.

و بالجملة الحكم الثابت بعنوان أولي: تارة يكون بنحو الفعلية مطلقا، أو بالاضافة إلى عارض دون عارض، بدلالة لا يجوز الاغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له، فيقدم دليل ذاك العنوان على دليله. و أخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الاغماض عنها

______________________________

يكون حرجيا و قد يكون غير حرجي، و ان القاعدة الاولى في العامين من وجه لا تقتضي التقديم و لكن التوفيق العرفي بينهما يقتضي تقديم العنوان الثانوي.

اما في الدليل الثانوي النافي للحكم كدليل الحرج فالحال فيه واضح، لانه مثل دليل الضرر و ما مرّ في دليل الضرر يأتي فيه عينا حرفا بحرف.

و اما الدليل الثانوي المثبت للحكم كادلة النذور و شبهه و ادلة الشرط فمضافا الى الدليل الشرعي الصريح في تقدمها على الادلة الاولية و ان المنذور المباح- مثلا- او الراجح يكون واجبا بتعلق النذر به ان التوفيق بينهما عرفا ايضا يقتضي تقديم الادلة الثانوية، اما لما مر من انه يرى الادلة الاولية بنحو الاقتضاء بمعنى انها مقتضية لفعلية الحكم ما لم يعرض ما ينافيه، سواء كان المنافي مثبتا لحكم غير حكمه او نافيا لحكمه كما هو مسلك المصنف، او لانه يراه حاكما عليه كما هو رأي الشيخ الاعظم، و على كل فتقدّم الادلة الثانوية على الادلة الاوليّة، و لذا قال (قدس سره): ( (كما هو الحال في التوفيق بين سائر الادلة المثبتة)) للتكليف كدليل النذور و شبهه و دليل الشرط ( (او النافية لحكم الافعال بعناوينها الثانوية)) كدليل الحرج ( (و بين الادلة المتكفلة لحكمها بعناوينها الاولية)) فان الوجه الموجب لتقديم لا ضرر على الادلة الاولية هو الموجب ايضا لتقديم ساير الادلة الثانوية على الادلة الاولية.

ص: 322

بسببه عرفا، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد المقتضي، و أن العارض مانع فعلي (1)، هذا و لو لم نقل بحكومة دليله على دليله، لعدم

______________________________

(1) توضيحه: ان الادلة الاولية: تارة لا يكون لها اطلاق يشمل مورد الضرر كالأدلة الواردة في مقام اصل التشريع و ان هناك احكاما و فرائض و حيث فرض ورودها في مقام بيان التشريع و ليست في مقام البيان من غير هذه الجهة فلا تعارض قاعدة الضرر، و اخرى يكون لها اطلاق يقتضي ثبوت الحكم كالادلة الدالة على وجوب الوضوء و الصلاة و حرمة الخمر و صحة البيع و لزومه، و هذه الادلة باطلاقها تشمل مورد الضرر، فان دليل الوضوء مثلا يشمل باطلاقه الوضوء الضرري فهي معارضة له، و لكن قد عرفت ان الجمع بينها و بين دليل الضرر يقتضي تقديم دليل الضرر عليها.

و ثالثة: يكون الدليل الاولي دالا على ان الحكم ثابت بعلته التامة انه ثابت في كل حال، كما قد يقال ذلك في مثل على اليد ما اخذت حتى تؤدي من دلالته على كون اخذ اليد علة تامة للزوم التأدية، سواء لم يلزم من التأدية ضرر كما في اداء العين المأخوذة بنفسها من دون استلزام ذلك لتكلّف او خسارة، او لزم الضرر للتأدية في مقام ايصالها بنفسها او في تأدية مثلها او قيمتها.

و رابعة: يكون الدليل دالا على ثبوت الحكم الاولي بنحو العلية التامة في حال من الاحوال لا في جميع الاحوال، كمثل ما دلّ على شراء ماء الوضوء و ان كان بالثمن غير المتعارف، او ما دلّ على ان من اجنب متعمدا و هو مريض فيجب عليه الغسل و لو لزوم الضرر.

و لا يخفى انه في الصورة الثالثة و الرابعة لا يقدّم دليل الضرر على الدليل الاولي، بل لا بد من تقديم الدليل الاولي عليه، لانه بعد ان كان دالا على ثبوت الحكم لعلته التامة فلا وجه لحمله على الاقتضاء، و حيث انه يدلّ بالالتزام على ان هذا الحكم لا مانع له و لا رافع له، فبناء على مسلك المصنف التوفيق العرفي بينهما يقتضي

ص: 323

.....

______________________________

تقديم الدليل الاولي على الدليل الثانوي و هو دليل نفي الضرر، لان دليل نفي الضرر يدل على ان وجود الضرر وجود المانع، و المانع انما يكون مانعا للحكم الذي لم يثبت بعلته التامة، و اما الحكم الثابت لعنوانه بعلته التامة فلا بد و ان لا يكون هناك ما يمنعه. و بعبارة اخرى: ان عنوان موضوع الحكم ربما يكون علّة تامة للحكم، و عليه فلا بد و ان لا يمنعه مانع، فالدليل الاولي اذا دلّ- مثلا- على ان عنوان الموضوع علة تامة للحكم فلا بد ان لا يكون عدم الضرر من اجزاء علّة الحكم، و الّا لم يكن عنوان الموضوع هو العلة التامة، فالعرف يرى تقديم الدليل الدال على ذلك على الدليل الدال على انه له حكم الرفع للحكم.

و اما على مسلك الحكومة فالدليل الدال على العلية التامة له لسان الشرح لكون الدليل الدال على الرفع للحكم ليس برافع له، بل لا بد و ان يكون رافعا لغيره، و الحال في مثل الدليل الدال على ان الحكم ثابت حتى مع الضرر أوضح، فتقديمه على دليل الضرر لا مناص عنه. و قد اشار الى تقديم الدليل الاولي على الدليل الثانوي في مطلق ما افاد العلية التامة بقوله: ( (نعم ربما يعكس الامر)) فيقدم الدليل الاولي على الدليل الثانوي و ذلك ( (فيما احرز بوجه معتبر)) كقرينة خاصة او قرينة عامة كمناسبة الحكم للموضوع تدل على ( (ان الحكم في المورد ليس)) ثبوته ( (بنحو الاقتضاء بل)) ثبوته لموضوعه ( (بنحو العلية التامة)) لموضوعه بالنسبة اليه، و عليه فلا بد من ان ينعكس الامر و يقدم الدليل الاولي على الدليل الثانوي .. ثم اشار الى ان العلّية التامة: تارة تكون بنحو الاطلاق، و اخرى بالنسبة الى مورد دون مورد كدليل لزوم الغسل لمن اجنب متعمدا في حال المرض بقوله: ( (و بالجملة الحكم الثابت بعنوان اولي تارة يكون بنحو الفعلية مطلقا)) و بالنسبة الى جميع العوارض كدليل على اليد ( (او بالاضافة الى عارض دون عارض)) كمثل لزوم الغسل و لو مع استلزامه للضرر فيما اذا اجنب المريض متعمدا ( (ب)) واسطة العلية التامة المستفادة من ( (دلالة لا يجوز الاغماض)) عنها ( (بسبب دليل حكم العارض المخالف له)) أي

ص: 324

ثبوت نظره إلى مدلوله، كما قيل (1).

ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين، كدليل نفي العسر و دليل نفي الضرر مثلا، فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو لم يكن من

______________________________

لا يؤخذ بالعارض المخالف للعنوان الاولي ( (فيقدم دليل ذاك العنوان)) الاولي ( (على دليله)) أي على دليل العارض المخالف له. هذا كله فيما اذا استفيدت العلية التامة للحكم من العنوان الاولي. و اما اذا لم تستفد العلية التامة من العنوان الاولي اما لعدم القرينة الخاصة على العلية التامة، او لعدم المناسبة المقتضية لها، فقد عرفت انه يقدّم دليل العنوان الثانوي عليه للتوفيق العرفي، و إلى هذا اشار بقوله: ( (و اخرى يكون)) دليل العنوان الاولي ليس ( (على نحو)) العلية التامة، ففيما ( (لو كانت هناك دلالة)) للعنوان الاولي ( (للزم الاغماض عنها بسببه)) أي بسبب دليل المعارض ( (عرفا حيث كان اجتماعهما قرينة)) عند العرف ( (على انه)) أي على ان العنوان الاولي هو ( (بمجرد المقتضي)) لا العلية التامة ( (و ان العارض مانع فعلي)) عن حكمه.

(1) حاصله: ان دليل العنوان الثانوي يتقدّم للتوفيق العرفي كما عرفت، لا لحكومة دليل العنوان الثانوي على دليل العنوان الاولي كما هو مسلك الشيخ الاعظم، لان الشرط في حكومة دليل على دليل ان يكون الحاكم شارحا لفظيا لدليل المحكوم، و المفروض عدم الشرح اللفظي للعنوان الثانوي و هو دليل الضرر، لانه ليس في دليل الضرر ما يدل باللفظ على انه ناظر و شارح للعنوان الاولي. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (هذا)) أي ان دليل المعارض الذي هو العنوان الثانوي يتقدّم للتوفيق العرفي ( (و لو لم نقل بحكومة دليله)) أي دليل العارض ( (على دليله)) أي على دليل العنوان الاولي. ثم اشار الى الوجه في عدم الحكومة بقوله: ( (لعدم ثبوت نظره)) أي لعدم ثبوت نظر دليل العارض لفظا بالنسبة ( (الى مدلوله)) أي الى مدلول العنوان الاولي ( (كما قيل)) أي كما ادعى الشيخ الاعظم ذلك في رسائله.

ص: 325

باب تزاحم المقتضيين، و إلا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى و إن كان دليل الآخر أرجح و أولى، و لا يبعد أن الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب، بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما، لا من باب التعارض، لعدم ثبوته إلا في أحدهما، كما لا يخفى، هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر (1).

______________________________

نسبة القاعدة مع أدلة الاحكام الثانوية

(1) هذه هي الجهة الرابعة التي اشار اليها في صدر المسألة و هي الكلام في قاعدة الضرر بالنسبة الى الدليل الثانوي. ثم لا يخفى ان الضرر كما يعرض للعنوان الاولي كالوضوء و البيع، كذلك يعرض للعنوان الثانوي كمثل النذر المتعلق بالراجح اولا، ثم بعد تعلقه به عرضه الضرر، فان دليل الضرر يتقدم عليه لعين ما مرّ في تقدمه على العنوان الاولي، لانه رافع للحكم الذي عرض الضرر على موضوعه. هذا حال دليل الضرر بالنسبة الى العنوان الثانوي الذي لم يكن لسانه كلسان دليل الضرر، كدليل الحرج و نفي العسر فان لسانه كلسان دليل الضرر من المانعية و أنّ وروده في مقام الامتنان على الامة، و لا يجري فيه ما مرّ من التوفيق العرفي بين دليل الضرر و دليل العنوان الاولي او العنوان الثانوي الذي لم يكن لسانه كلسان دليل الضرر.

و مما ذكرنا يظهر وجه الانقداح في قوله: ( (ثم انقدح بذلك)) فان المراد منه انه بعد ان عرفت ان تقديم دليل الضرر على العنوان الاولي او الثانوي لانه يدل على المانعية- تعرف انه لا يتأتى هذا في دليل الضرر بالنسبة الى دليل الحرج و نفي العسر، لانه مثله لسانا و موردا.

اذا عرفت هذا ... فنقول: اذا توارد دليل الضرر و دليل نفي الحرج على مورد كما اذا علمنا لزوم ارتكاب احد الامرين و كان احدهما ضرريا و الآخر حرجيا، كما لو توقف انقاذ غريق- مثلا- اما على السباحة و دخول الماء و كان مضرا، او استجار من لا يضره الماء و لكن استيجاره كان حرجيا، ففي مثل هذا يتعارض دليل نفي الضرر و دليل الحرج، و حيث كان مما لا بد من ارتكاب احدهما، فهل يتقدم دليل

ص: 326

.....

______________________________

الضرر و يتعيّن ارتكاب ما فيه الحرج، او يتقدّم دليل الحرج و يتعيّن ارتكاب ما فيه الضرر؟

و توضيح الحال في ذلك اجمالا: ان الدليلين المتنافيين اذا لم يحرز المقتضي في كليهما كانا متعارضين، و يعامل معهما معاملة المتعارضين من التساقط، او الترجيح لما فيه المزية منهما، او التخيير كما سيأتي تفصيله في باب التعارض ان شاء اللّه تعالى.

و اذا احرز المقتضي فيهما معا فهما متزاحمان يتقدم اقواهما مقتضيا و ان كان دليل الآخر اقوى سندا و ارجح دلالة.

ثم لا يخفى ان دليل الضرر و الحرج من المتزاحمين غالبا، لاحراز المقتضي فيهما بالوجدان على الاكثر. نعم ربما يصادف نادرا ان لا يحرز بالوجدان مقتضاهما كما لو كان كل من الضرر و الحرج مستندا الى الاخبار بان قامت البينتان عليهما و كانت كلّ بيّنة تدعي احدهما بخصوصه و تنفي الآخر، و لكنه فرض نادر، فان الضرر و الحرج غالبا مما يحرزان بالوجدان فهما من المتزاحمين غالبا. و قد اشار الى توارد خصوص دليل الضرر و دليل الحرج بقوله: ( (ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين ... الى آخر الجملة)) ثم اشار الى ان معاملة المتعارضين غير معاملة المتزاحمين بقوله: ( (فيعامل معهما معاملة المتعارضين)) من التساقط، او الترجيح لأقواهما سندا او دلالة، أو التخيير مطلقا، او في خصوص مقام، هذا ( (لو لم يكن)) الحال بينهما ( (من باب تزاحم المقتضيين و إلّا)) أي و ان كانا من باب التزاحم ( (فيقدم ما كان مقتضية اقوى و ان كان دليل)) المزاحم ( (الآخر ارجح)) منه سندا ( (و اولى)) منه دلالة. ثم اشار الى ان الغالب في دليل الضرر و الحرج كونهما من المتزاحمين لا المتعارضين بقوله: ( (و لا يبعد ان الغالب في توارد العارضين)) المذكورين ( (ان يكون)) الحال بينهما ( (من ذاك الباب)) أي من باب التزاحم ( (ب)) سبب ( (ثبوت المقتضي فيهما)) معا ( (مع تواردهما لا)) أن الباب فيهما ( (من باب

ص: 327

و أما لو تعارض مع ضرر آخر، فمجمل القول فيه أن الدوران إن كان بين ضرر شخص واحد أو اثنين (1)، فلا مسرح إلا لاختيار أقلهما لو كان، و إلا فهو مختار (2).

______________________________

تعارض الضررين

التعارض)) الذي لم يكن المقتضي محرزا الا في احدهما لا في كل منهما، و اليه اشار بقوله: ( (لعدم ثبوته)) أي المقتضي ( (الا في احدهما كما لا يخفى)).

(1) لما فرغ من الكلام في معارضة قاعدة الضرر للعناوين الاولية كالوضوء و البيع مثلا و العناوين الثانوية كدليل العسر و الحرج ... اشار الى ما لو تعارض ضرر مع ضرر، و يظهر من عبارة المتن ان صور التعارض أربع:

الاولى: ان يعارض الضرر ضررا آخر يكون كلاهما واردين على شخص واحد، و كان ذلك الشخص الواحد هو نفس المضر، بان دار امره بين ضررين لا بد له من ارتكاب احدهما، كما لو اكره- مثلا- على ارتكاب احد ضررين عائدين الى نفسه.

الثانية: ان يكون الضرران عائدين الى شخص واحد، و لكنه كان ذلك الشخص غير فاعل الضرر، بان اكره زيد- مثلا- على اضرار شخص آخر كعمرو بأحد ضررين.

الثالثة: ان يكون الضرران بالنسبة الى شخصين، و ذلك بان يكره زيد على ان يضر اما عمرا او بكرا ... و قد اشار الى هذه الصور الثلاث بقوله: ( (ان الدوران ان كان بين شخص واحد)) و هذا يشمل الصورتين الاوليين و هو ما اذا كان الضرران عائدين الى شخص فاعل الضرر نفسه و ما اذا كانا عائدين الى غيره. و بقوله: ( (او اثنين)) اشار الى الصورة الثالثة.

(2) لا يخفى ان الحكم بلزوم اختيار اقل الضررين انما هو لو كان. و اما ان لم يكن هناك اقل بان كانا متساويين فالتخيير بينهما هو حكم الصور الثلاث جميعها.

ص: 328

.....

______________________________

و توضيح الحال ببيان امرين: الأول: ان المراد من الاقل في عبارة المتن ما يشمل الاخف ايضا، لان التفاوت بين الضررين: تارة يكون من جهة القلّة و الكثرة، كما لو كان الضرران ماليين و كانت خسارة احدهما عشرة و خسارة الآخر عشرين.

و اخرى: يكون التفاوت بينهما من ناحية الشدّة و الضعف، كما لو كان احد الضررين اتلاف مال و كان الضرر الآخر الضرب المؤلم مثلا، فانه يقال لا ضعف الضررين في الاستعمالات المتعارفة انه اقل الضررين، و ان كان الاولى التعبير عنه بأخف الضررين. و على كل فمراد المصنف ما يشمل الشدّة و الضعف، لوضوح عدم خفاء انه لو دار الامر بين ضرب مؤلم و بين قطع عضو فالضرب المؤلم يتعيّن ترجيحه، فلا خصوصية للترجيح بالقلّة في قبال الكثرة.

الثاني: ان دليل الضرر وارد مورد الامتنان، و لما كان احد الضررين مما لا بد من وقوعه فلا حكم فعلي من الشارع بالنسبة اليه، و لما كان الاقل موجودا لا بحدّه في ضمن الاكثر، و كان الاخف كالموجود لا بحدّه في ضمن الاشد، فلا يكون مشمولا لقاعدة نفي الضرر لحتمية وقوعه، و يتعيّن جريان دليل لا ضرر في رفع الاكثر و الاشد للمنة في رفعه من جهة الزيادة التي فيه، و ليس مما لا بد من وقوعه حتى لا يجري فيه دليل نفي الضرر. هذا اذا كان الضرران متفاوتين. و اما اذا كانا متساويين فالحكم هو التخيير بينهما، لان ما لا بد منه هو احدهما و لا مرجح لاحدهما على الآخر فيتعيّن التخيير بينهما، كما لو اكره على خسارة عشرة دراهم او دينار، و كانت قيمة الدينار عشرة دراهم، او على تخسير الغير عشرة دراهم او دينارا، او تخسير عمرو عشرة دراهم. او تخسير بكر عشرة دراهم. هذا فيما اذا لم يمكن توزيع العشرة على الاثنين. و اما اذا امكن التوزيع بان اراد المكره عشرة دراهم و لو بان تكون خمسة من عمرو و خمسة من بكر فانه يتعيّن التوزيع، لان ما لا بد منه هو الخمسة من كل منهما، و اما الخمسة الاخرى فبالنسبة الى كل واحد منهما مما تشمله قاعدة الضرر فتكون منفيّة بها فيتعيّن توزيع العشرة عليهما.

ص: 329

و أما لو كان بين ضرر نفسه و ضرر غيره، فالاظهر عدم لزوم تحمله الضرر، و لو كان ضرر الآخر أكثر، فإن نفيه يكون للمنة على الامة، و لا منة على تحمل الضرر، لدفعه عن الآخر و إن كان أكثر.

نعم لو كان الضرر متوجها إليه، ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر (1)، اللهم إلا أن يقال: إن نفي الضرر و إن كان للمنة، إلا أنه

______________________________

فظهر مما ذكرنا: ان الحكم باختيار اقل الضررين لو كان، و الّا فالتخيير واضح بالنسبة الى الصورة الاولى و الثانية مما كان الضرر متوجها لشخص واحد سواء كان هو فاعل الضرر او غيره.

و اما بالنسبة الى الصورة الثالثة مما كان الضرر متوجها لشخصين غير فاعل الضرر، فان تساويا و امكن التوزيع فهو و إلّا فالتخيير و ان لم يتساويا فان احرز تعيين احد الضررين كما لو دار الامر- مثلا- بين تخسير احدهما مالا يسيرا و قطع عضو من الآخر فالظاهر انه يتعيّن الخسارة المالية اليسيرة، و ان لم يحرز التعيين لاحدهما، فان قلنا بان الامتنان في الضرر نوعي بمعنى ان الامة كلها بمنزلة شخص واحد فلا محالة من مراعاة اخف الضررين و اقلهما، لانه على هذا المبنى يكون الاثنين بمنزلة الشخص الواحد، و ان قلنا ان الامتنان في الضرر شخصي و عليه فلا وجه لتحمل احدهما الضرر و اخراج الآخر، فلا مناص عن التخيير.

و منه يظهر: ان حكم المصنف باختيار اقل الضررين لو كان و الّا فالتخيير بالنسبة الى خصوص الصورة الثالثة جاء في بعض محتملاتها و اللّه العالم.

إلّا ان يقال- بما سيأتي في وجه التامل- من انهما خطابان توجها لشخص واحد و قد احرز موضوعهما فهما متزاحمان، و عليه فلا مناص من تقديم اخفهما ضررا.

(1) هذه الصورة الرابعة، و هي ما اذا كان الامر دائرا بين ضررين احدهما يعود الى نفس الشخص الفاعل و الثاني يعود الى غيره: فتارة يكون الضرر متوجها بطبعه الى نفس الشخص الفاعل و لكنه يمكنه دفعه عن نفسه و توجيهه الى الغير، كما لو اكره

ص: 330

.....

______________________________

شخص على دفع مال عن نفسه و كان يمكنه ان يدفع الضرر عن نفسه و توجيهه الى الغير. و اخرى يكون الضرر متوجها بطبعه الى الغير، و لكن كان فاعل الضرر يمكنه ان يوجه الضرر لنفسه و يدفعه عن الغير. و ثالثة: لا يكون الضرر متوجها الى احدهما بل كان الضرر بالنسبة اليهما في عرض واحد، و سيأتي بيان الحكم فيها.

و اما بالنسبة الى الصورتين الاوليين فان الحكم في هاتين الصورتين واحد، و هو انه لا بد ان يتحمل الضرر من كان الضرر متوجها اليه دون من لم يتوجه اليه الضرر، لان قاعدة نفي الضرر بالنسبة الى من لم يتوجه اليه جارية، و بالنسبة الى من توجه الضرر اليه غير جارية: اما جريانها بالنسبة الى من لم يتوجه اليه بطبعه فواضح، لانه بحسب الاسباب التكوينية لم يتحتّم الضرر بالنسبة اليه فيكون مشمولا لادلة نفي الضرر، فلا يلزم الفاعل بتحمل الضرر فيما اذا كان الضرر بطبعه متوجها الى الغير، و لا يجوز له دفع الضرر عن نفسه باضرار الغير فيما اذا كان الضرر بطبعه متوجها اليه، فان ضرر نفسه غير منفي و اضراره الغير منفي .. و اما عدم جريانها بالنسبة الى من توجه الضرر اليه فلان المرفوع بادلة الضرر هو رفع الحكم الشرعي للموضوع الضرري، و اما نفس الضرر التكويني المتوجه باسبابه التكوينية فغير مشمول لقاعدة نفي الضرر.

و الحاصل: ان الضرر المحتّم الوقوع باسبابه لا وجه لرفعه تشريعا، بل رفعه يكون من الرفع التكويني، و اما غير المحتّم الوقوع فهو الذي يمكن ان يرفع تشريعا، لامكان ان يكون نفيه تشريعا لنفي اثره موجبا لعدم وقوعه. و قد اشار المصنف الى الصورة الاولى بقوله: ( (نعم لو كان الضرر متوجها اليه ... الى آخر الجملة)) و منه يفهم حكم الصورة الثانية، و هي ما اذا كان الضرر بطبعه متوجها الى الغير فان المناط فيهما واحد.

و اما الصورة الثالثة، و هي ما اذا لم يكن الضرر متوجها الى احدهما بل كان الضرر بالنسبة اليهما في عرض واحد، و ذلك مثلا كما لو اراد شخص ان يحفر

ص: 331

.....

______________________________

بالوعة في ملكه و كان حفرها مضرا بدار الغير او ببالوعته او بئره، و كان ترك حفر البالوعة مضرا ايضا بالنسبة الى المالك، فهل يجوز له حفر البالوعة في ملكه و ان اضرّت بالغير ام لا يجوز له ذلك؟ و هذه الصورة هي مراد المصنف من قوله: ( (و اما لو كان بين ضرر نفسه و ضرر غيره)) و مختار المصنف عدم لزوم تحمّل المالك الضرر في هذه الصورة و ان استلزم ذلك ضرر الآخر ضررا اكثر من الضرر على المالك، وفاقا للمحكى عن الشيخ و عن العلامة (قدس سرهما)، و لذا قال (قدس سره):

( (فالاظهر عدم تحمله الضرر ... الى آخر الجملة)) و الوجه الذي اشار اليه في المتن هو ان قاعدة نفي الضرر للامتنان الشخصي، و لما كان حفر البالوعة ضررا على الغير و ترك حفرها مضرا على المالك فيتعارض الضرران و يتساقطان، و يرجع الى قاعدة الناس مسلطون على اموالهم و هي تقتضي جواز ذلك للمالك و ان لزم منه ضرر الغير.

لا يقال: انه اذا كان ضرر الغير اكثر فان ضرر المالك يعارضه من ضرر الغير ما كان بقدره، و يبقى الضرر الزائد على الغير لا معارض له فينفى بقاعدة الضرر.

فانه يقال: اذا كان الامتنان شخصيا فالضرر المنفي بالنسبة الى كل واحد غير الضرر المنفي على الآخر، و المنّة في اصل نفي الضرر عن كل واحد منهما، فلكل واحد منهما منّة غير المنّة على الآخر، فالتعارض يكون بين الحكم الامتناني لكل واحد منهما بالنسبة الى الحكم الامتناني للآخر، و لا وجه لترجيح منّة على منّة و لذا قال (قدس سره): ( (فان نفيه يكون للمنّة)) الشخصية ( (على الامة)) و كل واحد من الامة الضرر منفي عنه حيث يكون نفيه منّة عليه، و تحمل كل واحد منهما للضرر دون الآخر خلاف المنّة عليه، فلا وجه لان يتحمّل احدهما الضرر بخصوصه لدفعه عن الآخر، و لما كان الضرر بالنسبة الى كل منهما و رفعه بالنسبة الى كل منهما منّة عليه فتتعارض المنتان، فلا وجه لان يتحمّل الضرر من كان ضرره اقل من ضرر

ص: 332

بلحاظ نوع الامة، و اختيار الاقل بلحاظ النوع منّة (1)، فتأمل (2).

______________________________

الآخر، فان تحمّل كل منهما للضرر خلاف المنة عليه، و لذا قال (قدس سره): ( (و لا منة على تحمّل الضرر لدفعه عن الآخر و ان كان)) ضرر الآخر ( (اكثر)).

(1) حاصله: انه انما يتعارض المنتان فيما اذا كان الامتنان في القاعدة شخصيا، و اما اذا كان الامتنان فيها نوعيا، بان كان الملحوظ في القاعدة رفع الضرر عن نوع الامة فالامة كلها بمنزلة الشخص الواحد، و على هذا فلا تعارض بين متنين، و يعود حكم الضرر في الشخصين الى حكم الضرر بالنسبة الى شخص واحد، و قد عرفت في الضرر بالنسبة الى الشخص الواحد انه يترجح النفي للاكثر، لان نفي الاكثر من المنّة بلحاظ الاقل، و لذا قال (قدس سره): ( (اللهم إلّا ان يقال ان نفي الضرر و ان كان للمنّة إلّا انه)) نوعي لا شخصي و هو ( (بلحاظ نوع الامة)) و الامة كلها كالشخص الواحد ( (و)) و اذا كان كذلك فلا بد من ( (اختيار)) الضرر ( (الاقل)) لان نفي الضرر الاكثر ( (بلحاظ النوع منه)).

(2) يمكن ان يكون اشارة الى انه حتى لو قلنا بان الامتنان شخصي و لكن الخطابين في المقام يتوجهان لشخص واحد، لوضوح انه كما لا يجوز للشخص ان يضر نفسه، كذلك لا يجوز له ان يضر غيره، و الامتنان علّة لنفي الضرر، و من الواضح ان عدم جواز اضرار الغير المنّة في رفعه تعود الى الغير لا الى فاعل الضرر بالغير، و اذا تنافى الخطابان المتوجهان لشخص واحد و احرز موضوع كل منهما كانا من المتزاحمين، و المتزاحمان يلاحظ أقواهما مناطا، و حيث كان المفروض ان الضرر في احدهما اقوى لفرض كثرته فيكون هو المقدّم، و لما كان حفر البالوعة- مثلا- مستلزما لضرر اكثر من ترك حفرها فخطاب الشخص برفع اليد عن ضرر الغير يكون اقوى من الخطاب بنفي الضرر عن نفسه. و اللّه العالم.

ص: 333

فصل

في الاستصحاب: و في حجيته إثباتا و نفيا أقوال للاصحاب (1).

و لا يخفى أن عباراتهم في تعريفه و إن كانت شتى، إلا أنه تشير إلى مفهوم واحد و معنى فارد (2)، و هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع

______________________________

فصل: في الاستصحاب

اشارة

(1) لا يخفى ان الاقوال في حجية الاستصحاب و عدمه اطلاقا و تقييدا انهاها الشيخ الاعظم أولا في رسائله الى احد عشر قولا: بالحجيّة مطلقا، و قول بعدم الحجيّة مطلقا، و التسعة الباقية في التفصيلات، ثم ذكر في آخر كلامه ما حاصله: ان الاقوال اكثر من ذلك يعرفها من تتبعها في كلمات الاصحاب.

تعريف الاستصحاب

(2) حاصله: ان للاستصحاب في كلمات القوم تعاريف متعددة، فانه قد عرّفه بعضهم بانه إبقاء ما كان، و عرّفه بعضهم بانه اثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأول، و عرّفه بعضهم بأنه كون حكم او وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق، الى غير ذلك من التعاريف الأخر له في كلماتهم .. و بعد اختلاف التعبيرات في كلامهم في مقام التعريف للاستصحاب فهل ان الاستصحاب معنى واحد عندهم اختلفوا في التعبير عنه، او انه معان متعدّدة؟

ثم لا يخفى انه هناك امر آخر نبّه عليه المصنف في كلامه، و هو ان مدرك الاستصحاب على ما سيأتي ثلاثة: بناء العقلاء، و الظن بالملازمة بين ثبوته سابقا و بقائه لاحقا او بالملازمة بين ثبوته سابقا و الظن ببقائه، و النصّ و الاجماع. و يظهر من بعضهم ان الاستصحاب هو نفس احد هذه الامور الثلاثة، و هو خطأ لما سيأتي.

و سيظهر ايضا ان للاستصحاب معنى واحدا و ليس له معان متعدّدة، فاختلاف التعبيرات ليس لانه عندهم ذو معان متعدّدة، بل هو عندهم بمعنى واحد. و سيظهر ايضا ان هذه الامور الثلاثة هي مدرك حجية الاستصحاب لا انها نفس الاستصحاب، لوضوح كون مدرك حجية شي ء غير نفس ذلك الشي ء ... و على كل

ص: 334

.....

______________________________

فقد ذهب المصنف الى انه معنى واحد عندهم، استدل على ما ذهب اليه كما اشار اليه في ذيل كلامه: انه لو كان للاستصحاب عندهم معان متعددة لما تقابل فيه الاقوال، و لما كان النفي و الاثبات عندهم واردين على مورد واحد بل على موردين.

و حاصله: انه قد عرفت اختلاف اقوال القوم في الاستصحاب، فقد نفاه بعضهم، و أثبته بعض، و فصّل فيه آخرون، و يرجع التفصيل الى اثبات من جهة و نفي من جهة اخرى، فان كان الاستصحاب عندهم بمعنى واحد كان النفي و الاثبات، و التفصيل كل ذلك وارد منهم على شي ء واحد قطعا، و اذا كان للاستصحاب عندهم معان متعددة فلا يقطع بكون النفي و الاثبات منهم واردا على شي ء واحد، مثلا اذا كان الاستصحاب عند بعضهم هو نفس الظن بالملازمة بين الثبوت و البقاء او الملازمة بين الثبوت و الظن بالبقاء، و عند البعض الآخر هو نفس بناء العقلاء على عدم رفع اليد عن اليقين بالثبوت السابق عند الشك في الزمان اللاحق، فمن الواضح ان القائل به للملازمة بين الثبوت و الظن بالبقاء مثلا ينفي كونه هو بناء العقلاء، و لا يكون نفيه لذلك نفيا منه للاستصحاب لفرض قوله به للظن، فلا يكون النفي و الاثبات منهم واردا على شي ء واحد. و ظاهر تحريرهم للمسألة و نقلهم للاقوال فيها هو كون النافي نافيا للاستصحاب، و المثبت مثبتا لنفس ما نفاه النافي، لا ان النافي ينفيه بمعنى و المثبت يثبته بمعنى آخر.

فاتضح انه لو كان الاستصحاب عندهم له معان متعددة لما كان القول به بمعنى و القول به بمعنى آخر من الاقوال المتقابلة في الاستصحاب لاثبات كل واحد منهما له، و لما كان نفي احدهما للآخر نفيا للاستصحاب، بل نفيا لان يكون معنى الاستصحاب هو المعنى الذي قاله.

و بعبارة اخرى: ان ظاهر اختلافهم نفيا له و اثباتا هو الاختلاف منهم في حجيته، لا الاختلاف في معناه.

ص: 335

ذي حكم شك في بقائه (1): إما من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم

______________________________

(1) لا يخفى ان ظاهر عبارة المتن كون الاستصحاب هو نفس الحكم بالبقاء، و ظاهر المشهور ان الاستصحاب هو نفس بقاء الحكم او الموضوع ذي الحكم، و النزاع في حجية الاستصحاب و عدمها- بناء على انه هو الحكم بالبقاء- معناه ان القائل بالحجية يقول بوجود الحكم، و القائل بالعدم يقول بعدمه، فتكون الحجية في الاستصحاب كالحجية في المفاهيم، فان القول بحجية المفهوم معناه القول بوجود المفهوم، و من يقول بعدم حجيته معناه القول بعدم وجود المفهوم.

و اما بناء على انه هو نفس بقاء ما كان حكما او موضوعا، فالنزاع في حجيّته و عدمها يكون من باب النزاع في حجيّة خبر الواحد، لوضوح ان من يقول بحجية الاستصحاب مرجعه الى حكم الشارع ببقاء ما كان، اما لبناء العقلاء، او للظن بالملازمة مثلا، او لقيام الاخبار الدّالة على هذا الحكم من الشارع المتعلق ببقاء ما كان، لبداهة ان نفس عنوان بقاء ما كان متحقق دائما، و النزاع يكون في الحكم المتعلق به و عدمه فيكون كالنزاع في حجية خبر الواحد، فان نفس خبر الواحد متحقق دائما، و النزاع في حجيّته انما هو في اعتبار الشارع له و الحكم منه بتصديقه و عدم حكم الشارع بتصديقه.

ثم لا يخفى ان المتيقن و المشكوك قد يكون حكما كما لو شكّ في نجاسة الماء المتغير بالنجاسة بعد زوال التغيير، و ربما يكون موضوعا ذي حكم كما لو شكّ في خمرية مائع بعد ان كان خمرا سابقا. و الى هذا اشار بقوله: ( (ببقاء حكم او موضوع ...

الى آخر الجملة)).

ص: 336

العرفية (1) مطلقا، أو في الجملة (2) تعبدا، أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا.

و إما من جهة دلالة النص أو دعوى الاجماع عليه كذلك، حسبما تأتي الاشارة إلى ذلك مفصلا (3).

______________________________

(1) لا يخفى انه قد اشرنا الى ان مدرك حجية الاستصحاب منحصرة في ثلاثة كما سيأتي البحث عنها: الأول: بناء العقلاء على الاخذ باليقين السابق بعد لحوق الشك في الزمان الثاني، و امضاء الشارع لهذا البناء العقلائي.

الثاني: الظن، و مرجعه اما الى الملازمة بين الثبوت السابق و الظن بالبقاء، او الى الظن بالملازمة بين الثبوت و البقاء، و لازمه الظن بالبقاء و اعتبار الشارع لهذا الظن.

الثالث: كون مدرك حجية الاستصحاب هي الاخبار الآتية او الاجماع.

و منه يتضح: ان الاستصحاب ليس هو نفس بناء العقلاء او نفس الظن، لان مدرك الحجية لشي ء لا يكون هو ذلك الشي ء، ضرورة لزوم التعدّد و التباين بين المدرك و بين ما قام المدرك على حجيّته.

(2) المراد من قوله مطلقا هو قيام بناء العقلاء في احكامهم العرفية على الاخذ بالاستصحاب مطلقا، من دون تفصيل منهم بين الشك الناشئ من احتمال عدم بقاء المقتضي، او من جهة عروض الرافع، و من دون تفصيل بين المستصحب الوجودي و العدمي، و غير ذلك من التفصيلات. و المراد من قوله: ( (او في الجملة)) هو دعوى بناء العقلاء على الاخذ بالاستصحاب في خصوص احد التفصيلات.

(3) أي ان بناء العقلاء في الاستصحاب من باب التعبّد. و حيث ان ظاهر التعبّد بالشي ء هو الاخذ به من دون ملاحظة حيثية تعليليّة تكون هي المناط للاخذ به ..

اشكل الامر في التعبّد العقلائي، بدعوى ان العقلاء بما هم عقلاء لا يعقل ان ياخذوا بشي ء من دون ملاحظة حيثية تعليلية له، بل البناءات العقلائية- دائما- في الامور

ص: 337

.....

______________________________

الخاصة ترجع الى بنائهم على امور عامة واضحة الحيثية تكون تلك الامور الخاصة منطبقا لها، فان بناءهم على مدح فاعل بعض الافعال و ذم فاعل بعض الافعال انما هو لبنائهم على حسن العدل و قبح الظلم حفظا للنظام، و حيث ان فاعل الحسن يستحق المدح و فاعل الظلم يستحق الذم لذا قام بناؤهم على المدح لفاعل الفعل الذي ينطبق عليه عنوان الحسن، و على الذم لفاعل الفعل الذي ينطبق عليه عنوان الظلم، فليس للعقلاء في بنائهم تعبّد محض، و انما التعبّد في الاحكام الشرعية لعدم امكان احاطة الخلق بعلل التشريع غالبا.

و يمكن ان يجاب عنه: بان المراد من ان بناء العقلاء في حجية الاستصحاب من باب التعبد انه لما كان الاستصحاب متقوّما باليقين السابق، فبناء العقلاء على الاخذ باليقين عند عروض الشك: ان كان لوثاقة اليقين عندهم و انهم لا يرفعون اليد عن اليقين بمجرد عروض الشك لانه من المستحكمات، و لا يرفعون اليد عن المستحكم الّا بمستحكم مثله، فحيث ان الشك ليس من المستحكم فلا يرفعون به اليد عن اليقين فلا يكون بناؤهم في الاستصحاب من باب التعبّد.

و ان كان بناؤهم على الاستصحاب ليس لما ذكرنا، بل للتحفظ على الواقعيات ما لم يتبين انتفاؤها، فان هذا البناء منهم يكون اشبه بالاحتياط في المقام، لا لانه منطبق حيثية بالخصوص، فحيث انه لم يكن لحيثية بالخصوص بل كان للتحفظ على الواقع عبّر عنه بانه بناء تعبّدي: أي انهم يتعبّدون بالواقع الثابت و لا يرفعون اليد عنه بمجرد احتمال انتفائه في الزمان الثاني.

و يمكن ان يجاب عنه: بان التعبّد بالشي ء ليس هو الاخذ به من دون ملاحظة حيثية تعليلية له، بل المراد بالتعبّد هو الاخذ باحد طرفي الشك و البناء عليه و الغاء احتمال خلافه في مقام العمل، و حيث ان المفروض في المقام هو الشك في بقاء ما كان متحققا سابقا في الزمان الثاني، فالبناء منهم على تحققه و بقائه عملا و الغاء احتمال عدم بقائه تعبّد منهم ببقائه، و ليس التعبّد الّا الاخذ باحد طرفي الشك مع فرض الشك.

ص: 338

و لا يخفى أن هذا المعنى هو القابل لان يقع فيه النزاع و الخلاف في نفيه و إثباته مطلقا أو في الجملة، و في وجه ثبوته، على أقوال.

ضرورة أنه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به الناشئ من العلم بثبوته، لما تقابل فيه الاقوال، و لما كان النفي و الاثبات واردين على مورد واحد بل موردين (1)، و تعريفه بما ينطبق

______________________________

و لا يخفى ان المصنف اشار الى حصر المدرك في هذه الثلاثة بقوله: ( (اما من جهة بناء العقلاء ... الى آخر الجملة)) و هو المدرك الأول. و بقوله: ( (أو للظن به الناشئ ... الى آخر الجملة)) و هو المدرك الثاني. و بقوله: ( (و اما من جهة النص ...

الى آخر الجملة)) و هو المدرك الثالث ... و لا ينبغي ان يتوهّم ان الاجماع مدرك رابع، لان المراد من المدرك الثالث هو كون حجية الاستصحاب لدلالة الدليل الشرعي عليه، و لا فرق في الدليل الشرعي بين كونه اخبارا او اجماعا.

(1) قد عرفت ان مختار المصنف ان الاستصحاب الذي وقع الكلام في حجيته نفيا و اثباتا هو بمعنى واحد عند الكل، و ليس له معان متعددة عندهم ... و بعد ان ذكر معنى الاستصحاب و هو الحكم ببقاء حكم او موضوع ذي حكم، و ذكر انحصار مدركه في الامور الثلاثة- شرع في الاشارة الى ما مرّ ذكره من الاستدلال على مختاره:

و هو ان الوجه في كون الاستصحاب بمعنى واحد عند الكل انه لو لم يكن بمعنى واحد لما تقابل فيه الاقوال، و انما يتقابل فيه الاقوال نفيا و اثباتا مطلقا او في خصوص بعض التفصيلات فيما اذا كان بمعنى واحد، و لذا قال (قدس سره): ( (ان هذا المعنى)) الواحد ( (هو القابل لان يقع فيه النزاع و)) لان يقع ( (الخلاف في نفيه و اثباته مطلقا او في الجملة)) بان يكون الاستصحاب حجة في بعض التفصيلات ( (و)) هذا المعنى الواحد هو الذي اختلف القوم ( (في وجه ثبوته)) من انه لبناء العقلاء او للظن او للنص ( (على اقوال)) في ثبوته و نفيه و في مدرك ثبوته ايضا ( (ضرورة انه لو كان الاستصحاب)) عندهم بمعان متعددة بان كان ( (هو نفس بناء العقلاء)) عند بعض

ص: 339

على بعضها، و إن كان ربما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه (1)، إلا أنه حيث لم يكن بحد و لا برسم بل من قبيل شرح الاسم، كما هو الحال في التعريفات غالبا، لم يكن له دلالة على أنه نفس الوجه،

______________________________

و عند الآخرين بمعنى آخر ( (او)) كان هذا ( (الظن به الناشئ من العلم بثبوته)) عند بعض و عند الآخرين بمعنى آخر ( (لما تقابل فيه)) أي لما تقابل في الاستصحاب ( (الاقوال و لما كان النفي)) من بعضهم ( (و الاثبات)) من آخرين ( (واردين على مورد واحد)) كما مر بيانه ( (بل)) كان النفي و الاثبات في ( (موردين)) كما عرفت.

(1) لما فرغ من الاستدلال على ما اختاره من كون الاستصحاب هو بمعنى واحد عند الكل ... اشار الى وجه القول الآخر و هو كون الاستصحاب ذا معان متعدّدة.

و حاصل الوجه الذي اشار اليه في المتن هو: ان تعاريف الاستصحاب مختلفة و الاختلاف بينها ليس اختلافا في محض التعبير، فان بعضها ما يدلّ على انه هو الإبقاء لما كان، و بعضها يدلّ على ان الاستصحاب هو الظن بالبقاء او بالملازمة بين الثبوت و البقاء. و من الواضح ان هذا الاختلاف ليس من الاختلاف في محض التعبير، لصراحة كون الابقاء غير الظن بالبقاء حقيقة، و لازم كون الاختلاف بين التعاريف اختلافا حقيقيا هو كون المعرّف و هو الاستصحاب مختلف الحقيقة عندهم، و الى هذا اشار بقوله: ( (و تعريفه)) أي و تعريف الاستصحاب ( (بما ينطبق على بعضها)) كتعريفه بانه الظن بالبقاء المنطبق على غير ما ذكره من كونه الحكم ببقاء حكم او موضوع ( (و ان كان)) هذا ( (ربما يوهم ان لا يكون)) بمعنى واحد عند الكل و ( (هو الحكم بالبقاء بل)) يقتضي ( (ذاك الوجه)) الآخر و هو كون الاستصحاب ذا معان متعدّدة عندهم، الّا انه لما توهّم لما سيأتي الجواب عنه، فلا يكون هذا مما يقابل ما استظهره من كونه بمعنى واحد عند الكل.

ص: 340

بل للاشارة إليه من هذا الوجه (1)، و لذا لا وقع للاشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس، فإنه لم يكن به إذا لم يكن بالحد أو الرسم بأس (2).

______________________________

(1) هذا هو الجواب عن هذا التوهّم. و حاصله: انه قد مر غير مرة ان تعاريف القوم ليست تعاريف حقيقية يكون الغرض منها بيان تعريفه بحقيقته و حدّه بجنسه و فصله و لا بخاصته و هو تعريفه برسمه بحيث توجب تمييزه عن جميع ما عداه، بل هي تعاريف لفظية لمجرد شرح الاسم و الاشارة اليه بوجه ما، فتعاريف القوم ليست بحدّ للمعرّف و لا رسما له، و اذا لم تكن تعاريف حقيقية و كانت تعاريف لفظية فالاختلاف فيها لا يكون موجبا لاختلاف المعرّف، لامكان ان يقصد في كل تعريف الاشارة بوجه غير الوجه الآخر الذي يشير به التعريف الآخر، و الاشارة الى الشي ء بمدركه و مناطه من وجوه الاشارة اليه، فلا يكون التعريف المنطبق على الظن- مثلا- موجبا لكون الظن هو الاستصحاب في قبال من كان ظاهر تعريفه هو الحكم بالبقاء، و لذا قال (قدس سره): ( (إلّا انه)) أي ان ما ذكر في هذا الوهم من ان بعض التعاريف مما ينطبق على معنى الاستصحاب غير الذي ذكرناه لا يستلزم المدعى من اختلاف معنى الاستصحاب عندهم و تعدّده في نظرهم، لانه انما يقتضي ذلك حيث تكون التعاريف تعاريف حقيقية و ( (حيث لم يكن)) التعاريف حقيقية و ليست هي ( (بحدّ و لا برسم بل)) هي ( (من قبيل شرح الاسم كما هو الحال في)) ساير ( (التعريفات غالبا لم يكن له)) أي لم يكن للتعريف ( (دلالة على انه نفس الوجه)) أي على ان المدلول هو المعرّف و هو الوجه الذي اريد تعريفه حقيقة ( (بل)) يكون مدلول التعريف ( (للاشارة اليه)) أي للاشارة الى المعرّف ( (من هذا الوجه)) و قد عرفت انه يجوز الاشارة في التعريف اللفظي باي وجه من وجوه المعرّف.

(2) حاصله: انه كما يكون ما ذكرنا- من كون التعاريف لفظية- جوابا عن دعوى تعدّد معنى الاستصحاب، كذلك يترتّب عليه ايضا انه لا وقع للاشكال على هذه

ص: 341

فانقدح أن ذكر تعريفات القوم له، و ما ذكر فيها من الاشكال، بلا حاصل و طول بلا طائل (1).

ثم لا يخفى أن البحث في حجيته مسألة أصولية، حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الاحكام الفرعية، و ليس مفادها حكم العمل بلا واسطة، و إن كان ينتهي إليه (2)، كيف؟ و ربما لا يكون

______________________________

الاستصحاب مسألة اصولية

اشارة

التعاريف بعدم الاطراد و بعدم الانعكاس: أي بكونها غير جامعة و لا مانعة، لان الاشكال على التعاريف بذلك انما يصح حيث تكون تعاريف حقيقية لا لفظية، لوضوح كون التعريف اللفظي قد يكون اعم من المعرف و قد يكون اخص منه، لان الغرض منه الاشارة الى المعرّف بوجه ما، و يجوز الاشارة بالاعم و بالاخص، و لذا قال (قدس سره): ( (لم يكن به)) أي لم يكن بعدم الاطراد و بعدم الانعكاس فيما ( (اذا لم يكن)) التعريف حقيقيا، و ليس ( (بالحدّ او الرسم بأس)) و بأس هو الاسم للم يكن أي: لم يكن بأس بعدم الاطراد و بعدم الانعكاس فيما اذا كان التعريف لفظيا لا حقيقيا.

(1) وجه الانقداح واضح، فان التعاريف اذا كانت لفظية لا بأس بعدم اطرادها و عدم انعكاسها، فلا داعي لذكرها بتمامها و كفاية ذكر واحد منها، لان الغرض منه الاشارة بنحو من الانحاء. و ايضا لا وجه لذكر ما اشكل عليها لانه انما يحسن في الحدود و الرسوم لا في التعاريف اللفظية.

(2) وقع الخلاف عند القوم في الاستصحاب في كونه مسألة اصولية البحث فيها بحث عن قاعدة تقع في طريق الاستنباط كالبحث عن حجية الظواهر و خبر الواحد، او انه مسألة فقهيّة عامة و البحث عنها كالبحث عن قاعدة الطهارة و قاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده؟

و لا سيخفى انه بناء على كونه قاعدة فقهية يكون البحث عنه في الاصول استطراديا لانه ليس من مسائله، و انما استطرد الاصولي البحث عنه لانه قاعدة عامة

ص: 342

.....

______________________________

كالمسائل الاصولية ... و مختار المصنف انها مسألة اصولية، و لذا قال (قدس سره):

( (ان البحث في حجيته)) أي ان البحث في حجية الاستصحاب بحث اصولي لان الاستصحاب ( (مسألة اصولية)).

و توضيح ذلك: ان الاستصحاب بعد ثبوت حجيته ان كان بالنسبة الى الحكم الخاص المستصحب كالوجوب او الحرمة، او الموضوع المستصحب كالخمرية و الكرّيّة- من قبيل التطبيق كقاعدة الطهارة بالنسبة الى طهارة الماء المشكوك طهارته و نجاسته، فلا محالة يكون الاستصحاب قاعدة فقهيّة. و ان كان بالنسبة الى المستصحب الخاص حكما او موضوعا من قبيل خبر الواحد الدالّ على حكم خاص كالوجوب او على موضوع ذي حكم كالصعيد، فلا بد و ان يكون الاستصحاب مسألة اصولية ..

فالعمدة في المقام بيان حال الاستصحاب بالنسبة الى حكم العمل هل هو من باب الاستنباط و مما ينتهي اليه مع الواسطة، او انه بالنسبة الى حكم العمل هو من باب التطبيق و مما ينتهي اليه بلا واسطة؟

و بعبارة اخرى: انه لا بد في الاستنباط من التغاير الحقيقي بين المستنبط منه و المستنبط، و لا يكفي صرف التغاير المفهومي، فان التغاير بين المستنبط منه و هو حجيّة خبر الواحد و المستنبط و هو وجوب الصلاة الخاصة- مثلا- تغاير حقيقي، لان خبر الواحد المجعولة حجيته التي هي تصديق العادل غير الوجوب الذي قام عليه الخبر الواحد، و حقيقة كل منهما غير حقيقة الآخر ... و اما التطبيق فلا يكون التغاير بينه و بين المنطبق عليه تغايرا حقيقيا، فان الحكم في قاعدة الطهارة هو طهارة المشكوك، و المنطبق عليه و هو الماء المشكوك- مثلا- فرد من افراد هذه الطبيعة العامة، و فرد العام عين العام و ليس بمغاير له حقيقة.

فاذا عرفت هذا ... نقول: ان حجية الاستصحاب سواء كانت لبناء العقلاء او للاخبار و هو جعل الجري العملي على طبق اليقين بعد عروض الشك، فالموضوع المجعول له الاعتبار في الاستصحاب هو اليقين السابق، و حكمه هو جعل الجري

ص: 343

.....

______________________________

العملي على طبقه عند الشك، و عدم جواز نقضه كما هو لسان الاخبار كلا تنقض اليقين بالشك، و من الواضح ان المستصحب حكما كان او موضوعا هو متعلق اليقين، و التغاير بين اليقين و المتيقّن حقيقي، فمرجع حجيّة الاستصحاب الى قضية موضوعها اليقين و محمولها لزوم الجري عليه و عدم جواز نقضه، و هذه هي القضية التي تقع في طريق الاستنباط، و هي القضية المستنبط منها، و هي غير القضية المستنبطة و هي وجوب الصلاة الخاصة او كرية الماء و غير ذلك ...

لا يقال: ان مرجع الجري العملي على طبق اليقين و عدم جواز نقضه الى جعل الحكم المماثل، و اذا كان معناه هو جعل الحكم المماثل على طبق ما قام عليه اليقين كان المتحصّل من حجية الاستصحاب جعل حكم ظاهري عام عملي بلا واسطة، و ليست القاعدة الفقهية الّا جعل حكم العمل بلا واسطة.

فانه يقال، اولا: ان مرجع صدق العادل- بناء على ما يستفاد من بعضهم- هو جعل الحكم المماثل لما قام عليه خبر العادل بلسان انه الواقع، فحال الاستصحاب حال الخبر الواحد من هذه الجهة.

و ثانيا: ان كون مرجع حجية الاستصحاب او حجية الخبر الى جعل الحكم المماثل لا دخل له بكون المسألة ليست اصوليّة، فان مرجع الاستصحاب او الخبر الى جعل الحكم المماثل معناه ان صدّق العادل هو جعل لتصديق العادل و لعدم جواز نقض اليقين في مقام الجعل و الاعتبار، و لكنه يستلزم جعل الحكم المماثل على طبق الخبر و على طبق ما قام عليه اليقين ... و المدار في الفرق بين المسألة الاصوليّة و القاعدة الفقهية هو مقام الجعل و الاعتبار، فان كان المجعول حكما لا يتعلّق بالعمل بلا واسطة بل بواسطة كانت المسألة اصولية، و ان كان المجعول حكما يتعلق بالعمل بلا واسطة كانت قاعدة فقهية. و من الواضح ان المجعول في الاستصحاب هو النهي عن نقض اليقين، كما ان المجعول في الخبر هو الامر بتصديق العادل، و كل منهما ليس كالحكم المجعول في قاعدة الطهارة، فان المجعول فيها هو الحكم بطهارة المشكوك، و هو حكم

ص: 344

مجرى الاستصحاب إلا حكما أصوليا كالحجية مثلا (1)، هذا لو كان الاستصحاب عبارة عما ذكرنا.

______________________________

يتعلّق بالعمل بلا واسطة، بخلاف حرمة النقض و وجوب التصديق فانه و ان انتهى الامر فيهما الى حكم العمل إلّا انه بواسطة عنوان حرمة النقض و عنوان وجوب التصديق.

و مما ذكرنا يتضح: انه لا فرق في الاستصحاب بين كونه في الشبهة الحكمية او في الشبهة الموضوعية، لانه في كل منهما انما ينتهي به الامر الى الحكم الكلي كما في الشبهة الحكمية، او الحكم الجزئي كما في الشبهة الموضوعية، بواسطة حرمة نقض اليقين.

و على كل فقد اشار الى الوجه في كون الاستصحاب مسألة اصوليّة بقوله:

( (حيث يبحث فيها)) أي في مسألة الاستصحاب ( (ل)) أجل ( (تمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الاحكام الفرعية)) لان المبحوث عنه في الاستصحاب هو ان العقلاء او الشارع هل اعتبروا حرمة نقض اليقين السابق و لزوم الجري على طبقه، أو لم يعتبروا ذلك؟ .. و بناء على حجية الاستصحاب فالمستفاد هو عدم جواز رفع اليد عن اليقين السابق و لزوم الجري على طبقه في ظرف الشك، فمفاد حجية الاستصحاب مما ينتهي الى العمل، و لكنه بواسطة و هي حرمة نقض اليقين ( (و ليس مفادها)) أي و ليس مفاد حجية الاستصحاب هو ( (حكم العمل بلا واسطة و ان كان ينتهي)) مفاد حجية الاستصحاب ( (اليه)) أي الى حكم العمل بلا واسطة و هو الحكم الفرعي الفقهي.

(1) هذا وجه ثان للاستدلال على كون الاستصحاب مسألة اصولية. و حاصله: انه لو كان مسألة فقهية مما تتعلق بالعمل بلا واسطة لما امكن ان يدلّ على حجية مسألة اصوليّة، لانه اذا كان بنفسه حكما فقهيا يتعلق بالعمل بلا واسطة فهو و ان كان قاعدة عامة، الّا انه لا بد و ان يكون جميع افرادها احكاما فقهية، و لا يعقل ان يكون احد

ص: 345

و أما لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته، أو الظن به الناشئ من ملاحظة ثبوته، فلا إشكال في كونه مسألة أصولية و كيف كان (1)، فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده: القطع بثبوت شي ء، و الشك في بقائه (2)، و لا يكاد يكون الشك في البقاء إلا مع

______________________________

مصاديقها مسألة اصولية مما تتعلق بالعمل بواسطة. و من الواضح ان مجرى الاستصحاب ربما يكون مسألة اصولية، كما لو شككنا في حجية الخبر فان الاستصحاب يجري و يكون مفاده عدم حجية الخبر، او شككنا في حجية خبر الفطحيين مثلا لان جملة من الفطحيين من ثقات اصحاب الصادق عليه السّلام، ثم قالوا بعده بامامة عبد اللّه الافطح مدة سبعين يوما، و هي المدة التي عاشها عبد اللّه بعد ابيه عليه السّلام، و بعده رجعوا الى موسى بن جعفر عليه السّلام، فنستصحب حجية خبرهم في هذه المدّة للشك في كون رجوعهم الى عبد اللّه هل يوجب خروجهم عن حجية الخبر ام لا؟ و نتيجة هذا الاستصحاب نفس الحجية و هي حكم اصولي، و الى هذا اشار بقوله: ( (كيف)) لا تكون حجية الاستصحاب حجية مسألة اصولية ( (و)) الحال انه ( (ربما لا يكون مجرى الاستصحاب الا حكما اصوليا كالحجية مثلا)).

تقوّم الاستصحاب بأمرين: اليقين السابق، و الشك اللاحق

(1) حاصله: ان الخلاف في مسألة الاستصحاب في كونها مسألة اصولية او فقهية انما يتأتى حيث يكون الاستصحاب هو ما ذكره، و هو الحكم ببقاء حكم او موضوع ذي حكم. و اما لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء، او كان هو نفس الظن بالبقاء، فلا اشكال في كونه مسألة اصولية، لوضوح ان بناء العقلاء، او الظن ليس حكما عمليا فقهيا، فحجية بناء العقلاء على البقاء، و حجية الظن بالبقاء حجية مسألة اصولية، و عبارة المتن واضحة.

(2) حاصله: ان الاستصحاب يتقوّم بامرين و هما ركناه: اليقين السابق المتعلّق بثبوت شي ء، و الشك في بقائه في الزمان اللاحق. و قد ظهر هذان الامران من التعريف المذكور، لان كون الاستصحاب هو الحكم ببقاء حكم او موضوع ذي

ص: 346

اتحاد القضية المشكوكة و المتيقنة بحسب الموضوع و المحمول (1)، و هذا مما

______________________________

اعتبار وحدة القضيتين

حكم شك فيه، فان لفظ البقاء معناه استمرار ما ثبت، و ثبوت الشي ء في السابق لا يكون الّا باليقين به و القطع بتحققه، لان لازم كون ما ثبت مشكوكا فيه في الزمان اللاحق هو كون المراد من ثبوته ثبوته في مرحلة القطع و اليقين، لانه في حال كونه مشكوكا فيه اذا لم يكن هناك يقين به في السابق لا يكون الشك فيه من خصوصيات الزمان اللاحق، لانه في الزمان السابق ايضا يكون مشكوكا.

فاتضح: ان كون الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما شك فيه يدلّ على الامرين:

اليقين السابق بالثبوت المستفاد من البقاء، و الشك اللاحق المستفاد ايضا من الشك في البقاء، و عبارة المتن واضحة.

(1) حاصلة: انه بعد ما عرفت من تقوم الاستصحاب بامرين: اليقين بشي ء في الزمان السابق، و الشك في بقائه في الزمان اللاحق- يتضح انه لا بد في الاستصحاب من اتحاد القضية المتيقنة و القضية المشكوكة موضوعا و محمولا، و لا فرق بينهما الّا في كون القضية في الزمن السابق متعلق اليقين و في الزمان اللاحق متعلق الشك، مثلا لو علمنا بكرّية ماء في الزمان السابق، ثم شككنا في كرّيته في الزمان اللاحق، فمتعلق اليقين هو كرّية الماء و متعلق الشك هو نفس كرية هذا الماء، فالقضية المتيقنة في الزمان السابق هي ان هذا الماء مقطوع الكرّية أمس مثلا، و القضية المشكوكة في اللاحق هو ان هذا الماء مشكوك الكرّية هذا اليوم، فالموضوع في القضيتين متحد و هو هذا الماء، و المحمول في القضيتين متحد ايضا و هو كرّية هذا الماء، و لكن القضية السابقة متعلق اليقين بكرّيته، و القضية الثانية متعلق الشك بها ... و اما ان هذا الاتحاد مما لا بد منه، فلوضوح ان الاستصحاب لما كان هو الحكم ببقاء ما كان، و اذا اختلف الموضوع او المحمول في القضيتين لا يكون الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما كان، فانه لو كان المشكوك غير هذا الماء، او كان المشكوك فيه كرّية غير هذا الماء لا يكون الحكم حكما

ص: 347

لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة (1).

______________________________

توهّم عدم جريان الاستصحاب مع اتحاد القضيتين و الجواب عنه

بقائيا، بل يكون الحكم حكما آخر غير الحكم الذي كان، و لذا قال (قدس سره):

( (و لا يكاد يكون الشك في البقاء الا مع اتحاد ... الى آخر الجملة)).

(1) لا يخفى ان ما ذكره من لزوم اتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة موضوعا و محمولا و انه به قوام الاستصحاب، و الّا لا يكون من الاستصحاب الذي هو الحكم ببقاء ما كان- يوهم عدم جريان الاستصحاب، بدعوى: ان الشك يلازمه عدم اتحاد القضيتين، لان اتحاد القضيتين موضوعا و محمولا، و انه لا فرق بينهما بما هما قضيتان الّا في كون الاولى متعلقة لليقين و الثانية متعلقة للشك، لازمه كون الموضوع المتحقق في القضية السابقة هو الموضوع عينا المتحقق في القضية اللاحقة، و الشك منشؤه هو احتمال عدم ثبوت المحمول الثابت له فيما سبق في الزمان الثاني، و لكن الشك في ثبوت المحمول للموضوع في الزمان الثاني انما ينشأ من احتمال عدم بقاء الموضوع، مثلا اذا كان الموضوع للحكم المتعلق لليقين في الزمان السابق هو الصلاة المتيقنة الوجوب سابقا، فعروض الشك في وجوبها لاحقا انما ينشأ من كون الموضوع للوجوب السابق هو الصلاة المقيدة بوقت او بحضور الامام مثلا، و الّا فيما اذا كان الموضوع للوجوب هو الصلاة من غير قيد اصلا فلا يعقل ان نشك في وجوبها في الزمان اللاحق، فالشك في الحكم في الزمن الثاني منشؤه الشك في موضوع الحكم، و اذا كان الموضوع مشكوكا فيه فلازمه عدم اتحاد القضية المتيقنة و القضية المشكوكة، لوضوح كون الموضوع في القضية المتيقنة هو الصلاة المقيدة، و الموضوع في القضية المشكوكة هو الصلاة المجردة عن ذلك القيد، فلا يجري الاستصحاب الذي هو ابقاء الحكم الثابت للموضوع السابق لنفس الموضوع في الزمان اللاحق.

و توضيح الجواب عن هذا التوهّم: انه لا وقع لهذا الاشكال في ما كان المستصحب موضوعا ذا حكم في الجملة، لان الموضوع ذا الحكم قد يكون الشك فيه ناشئا من الشك في الموضوع، كما اذا تيقنا بقيام زيد في السابق، ثم شككنا في قيامه

ص: 348

و أما الاحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل أم النقل، فيشكل حصوله فيها، لانه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلا من جهة الشك في بقاء موضوعه، بسبب تغيّر بعض ما هو عليه مما احتمل دخله فيه حدوثا (1) أو

______________________________

اشكال حصول اتحاد القضيتين في استصحاب الاحكام الشرعية

في الزمان اللاحق للشك في وجود زيد، فان الشك في ثبوت المحمول قد نشأ من الشك في ثبوت الموضوع و هو وجود زيد، و ربما يكون الشك في قيام زيد ناشئا من الشك في انتهاء ارادة زيد لاستمرار القيام، فوجود زيد الموضوع في القضية المتيقنة هو بنفسه متحقق في القضية المشكوكة، و الشك في المحمول لا يستلزم الشك في الموضوع، و من الواضح ان الموضوع في القضية المتيقنة هو وجود زيد لا وجود زيد المقيد بكونه مريدا للقيام، فان ارادته انما هي العلة لحدوث القيام، و ليست جزء الموضوع، لان الذي يعرضه القيام نفس ذات زيد الموجودة، لا ذات زيد مع كون ارادته جزء الموضوع لما يعرضه القيام.

فاتضح مما ذكرنا: ان هذا الاشكال لا وقع له في بعض الموضوعات الخارجية.

نعم لهذا الاشكال مجال للتوهّم في استصحاب الاحكام الكلية الفرعيّة، و سيأتي بيانه و الاشارة الى دفعه ان شاء اللّه تعالى، و لذا قال (قدس سره): ( (هذا مما لا غبار عليه)) أي ان اتحاد القضية المتيقنة و القضية المشكوكة لا غبار عليه ( (في الموضوعات الخارجية في الجملة)) كما في مثال الشك في استمرار القيام للشك في انتهاء ارادة زيد الموجدة له، فلا يتاتى منه الاشكال الآتي في استصحاب الاحكام الفرعية الكليّة.

(1) توضيحه: ان المستصحب: تارة يكون موضوعا ذا حكم، و قد عرفت الحال فيه و انه قد يكون الشك في المحمول ناشئا من الشك في الموضوع، و قد لا يكون، فلا وجه للاشكال بعدم جريان الاستصحاب فيه قطعا. و اخرى: يكون المستصحب حكما جزئيا و الحال فيه كالحال في الموضوع، لان طهارة بدن زيد المتيقنة سابقا قد تكون مشكوكة لاحتمال عروض النجاسة على البدن، و قد تكون مشكوكة للشك في

ص: 349

.....

______________________________

موتة و حياته، فلا مجال ايضا للاشكال المذكور بعدم جريان الاستصحاب مطلقا في الاحكام الجزئية و ان الشك دائما يكون ناشئا من الشك في الموضوع.

و اما الاحكام الشرعية الكلية فللاشكال المذكور من عدم اتحاد القضيتين مجال فيها و مما ذكرنا يتضح ان مراد المصنف من الاحكام الشرعية هي الاحكام الكلية منها.

و توضيح الاشكال فيها: ان الاحكام الكليّة اما عقلية كحسن العدل و قبح الظلم، و حيث ان الشارع رئيس العقلاء و واهب العقل لهم، فلا بد ان يكون حكمه مطابقا و موافقا لحكمهم، فيكون الحكم في هذه القضايا شرعيا ايضا. و من الواضح ان هذه الاحكام العقليّة اذا احرز الموضوع فيها لا مجال لتخلّف الحكم فيها، و لا يعرض الشك في الحكم الّا لعروض الشك فيما هو موضوع الحكم فيها، مثلا اذا احرز كون ضرب اليتيم للتأديب فلا اشكال في حسنه و مشروعيته، و لا يشك في مشروعيته الّا فيما اذا لم يحرز كونه للتأديب، و مع عدم احراز ذلك يكون الموضوع في القضية المتيقنة هو الضرب المحرز كونه للتأديب، و في القضية المشكوكة هو الضرب الذي لم يحرز كونه للتأديب، فلم يتحد الموضوع في القضيتين.

و اما الاحكام الكلية الشرعيّة كحرمة الخمر و وجوب صلاة الجمعة مثلا، فمن الواضح ان الاحكام الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد و هي جهات الحسن و القبح التي من اجلها يحكم الشارع بالحرمة و الوجوب، فاذا كانت الاحكام الشرعية تابعة للحسن و القبح، و الحسن و القبح تابعان لاضافات و قيود في الفعل المحكوم بالحسن او القبح، لان الخمر- مثلا- المحكومة بالحرمة هي الخمر التي لا يتوقف عليها حياة المريض، و صلاة الجمعة المحرز فيها المصلحة هي التي تكون في حضور الامام، فلا محالة يكون الشك في حرمة الخمر في حال توقف حياة المريض عليها و الشك في صلاة الجمعة في حال عدم حضور الامام انما ينشأ من الشك في ما هو الموضوع للوجوب و الحرمة، لبداهة ان الخمر التي هي الموضوع للحرمة لو كانت هي الخمر غير المقيدة بشي ء لما شك في حرمتها في حال توقف حال المريض، كما لا يشك في

ص: 350

بقاء، و إلا لما يتخلّف الحكم عن موضوعه إلا بنحو البداء بالمعنى

______________________________

حرمة قتل الانسان اذا توقف عليه حياة انسان آخر، و انما يعرض الشك في حال توقف الحياة عليها لاجل الشك في كون الخمر التي هي الموضوع للحرمة هل هي الخمر المقيدة بعدم توقف الحياة عليها، او انها الخمر غير المقيدة بشي ء؟

فاتضح: ان الشك في الاحكام الكلية انما ينشأ من الشك في ثبوت الموضوع للحكم المتيقن، و اذا كان الشك في الموضوع فلم يحصل ما هو اللازم في مجرى الاستصحاب من لزوم احراز اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة و القضية المشكوكة.

و بعبارة اخرى: انه بعد كون الحسن و القبح تابعين للوجوه و الاضافات، و انها هي العلّة في انطباق الحسن و القبح على الفعل، و ان الاحكام الشرعية تابعة لهذه الاضافات فما هو الموضوع للحكم الشرعي هو الفعل المقيد بوجوه و اضافات خاصة- يتبين انه لا يعرض الشك في الحكم الكلي للموضوع الّا من الشك في ثبوت ما هو الموضوع في زمان الشك، و مع الشك في الموضوع لا تتحد القضية المشكوكة و القضية المتيقنة، فلا تكون الاحكام الكليّة مجرى للاستصحاب لتقوّمه باتحاد الموضوع في القضيتين. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (و اما الاحكام الشرعية)) الكلية ( (سواء كان مدركها العقل)) كحسن العدل و قبح الظلم ( (ام النقل)) كحرمة الخمر ( (فيشكل حصوله)) أي يشكل حصول الاستصحاب ( (فيها)) المتقوم باحراز اتحاد الموضوع في القضيتين ( (لانه لا يكاد يشك في بقاء الحكم الا من جهة الشك في بقاء موضوعه بسبب تغير)) الموضوع من جهة ( (بعض ما هو عليه)) من القيود و الاضافات ( (مما احتمل دخله فيه حدوثا)) ككون الخمر المحرم على المكلف شربها المتيقنة سابقا هي حرمة شرب الخمر في حال صحة المكلف: أي ان الموضوع للحرمة المتيقنة هي الخمر التي لا يتوقف عليها حياته، فكون الخمر مما لا يتوقف عليها الحياة مما يحتمل ان يكون له دخل في ثبوت الحرمة و حدوثها لها، فالشك في حرمتها في حال المرض ينشأ من الشك في تغير ما عليه الموضوع الذي ثبت و حدث له الحكم.

ص: 351

المستحيل في حقه تعالى، و لذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا (1).

______________________________

الاشارة الى ردّ ما ذكره الشيخ الاعظم (قده) في الرسائل

(1) يشير الى ردّ ما ذكره الشيخ في رسائله (قدس سره)، و حاصله: ان هذا الاشكال قبل ان يجاب عنه بما يأتي، لا بد و ان يستثنى منه فيما اذا كان الشك في الحكم من جهة رافعية الموجود للحكم، كالشك في بقاء الطهارة لاحتمال كون المذي العارض بعدها رافعا لها، فان الموضوع في القضيتين محرز الاتحاد. و كذلك فيما اذا كان الشك في الحكم الكلي من اجل احتمال عروض النسخ عليه الرافع للحكم بقاء لا حدوثا. و قد ذكر المصنف (قدس سره) وجها لهذا الاستثناء في المقامين حاصله: ان الموضوع للحكم الكلي محرز في المقامين، لان عدم الرافع للحكم لا يعقل ان يكون دخيلا في موضوع الحكم، لان كون الشي ء رافعا لحكم يتوقف على ثبوت الحكم المرفوع حتى يكون الرافع رافعا له، فلو كان عدم الرافع للحكم دخيلا في الموضوع للزم الدور، لتوقف الحكم على موضوعه الذي بعضه عدم الرافع للحكم، و يتوقف عدم الرافع للحكم على تحقق الحكم، لان العدم المضاف الى الرافع بما هو مضاف الى الرافع لا يتحقق الّا بالرافع، و يتوقف تحقق الرافع للحكم على تحقق الحكم، فيتوقف الحكم على ما هو متوقف عليه. و اذا كان عدم الرافع مما لا يحتمل دخله في الموضوع فالشك في بقاء الحكم للموضوع- من جهة احتمال عروض الرافع، سواء كان من جهة وجود الرافع كالنسخ، او من جهة رافعية الموجود كالمذي المتعقب للطهارة لا يكون ناشئا من الشك في الموضوع، و عليه فيحرز اتحاد الموضوع في هذين الموردين.

و الجواب عنه: ان هذا الاشكال و هو عدم الاتحاد ينحصر الجواب عنه بما يأتي، و لا يستثنى منه هذان الموردان ايضا. اما مورد الشك لاحتمال النسخ فلان النسخ في حقه تعالى ليس رفعا كما هو في الممكن، لان الممكن مما يجوز عليه الجهل، فحينئذ يجوز ان يرى الممكن- أولا- ان هذا الحكم مستمر أبدا لجهله بما يكون رافعا له، ثم

ص: 352

.....

______________________________

يبدو له ما هو الرافع فينسخ ما تخيّل ثبوته مستمرا لجهله بالرافع، و اما الشارع تعالى شانه المحيط بجميع ما كان و ما يكون المستحيل في حقه الجهل فنسخه ليس رفعا حقيقة، بل دفع حقيقة و ان كان ظاهرا كونه رافعا، و اذا كان النسخ دفعا و بيانا لنهاية امد الحكم فلا بد و ان يكون العلة في الانتهاء هو عدم كون الموضوع للحكم بقاء على ما كان عليه من كل جهة، و الّا لم يرفع الحكم و لا يكون امده منتهيا، لوضوح انه مع فرض الموضوع على ما هو عليه من كل جهة لازمه فرض تحقق العلة التامة للحكم، و مع تحقق العلة التامة للحكم كيف يمكن دفعه و انتهاء امده .. فاتضح: ان احتمال النسخ لازمه احتمال تغير الموضوع عمّا كان عليه.

و اما الشك من جهة رافعيّة الموجود فالموضوع للحكم حدوثا و ان كان لا يعقل دخالة عدم الرافع فيه، الّا ان احتمال رافعية الموجود انما هي لاحتمال ان الشارع قد شرّع الرافع بعد ان شرّع الحكم حدوثا، و مرجع هذا الاحتمال الى ان الشارع قد اعتبر في استمرار الحكم بقاء زيادة شي ء في الموضوع، و هو عدم عروض المذي عليه، فيكون الموضوع بقاء هو الطهارة التي لم يعرض عليها المذي. و من الواضح ان اعتبار زيادة قيد في الموضوع بقاء كاعتبار قيد في الموضوع حدوثا من ناحية ما نحن فيه من كون الشك في الحكم بقاء ناشئا من احتمال اختلاف الموضوع حدوثا و بقاء، فلا فرق بين الشك الناشئ من احتمال النقصان لتغيّر ما اعتبر في الموضوع حدوثا، و بين الشك الناشئ من احتمال اعتبار قيد زائد في الموضوع بقاء، و في كلا الفرضين لازمه عدم الاتحاد في الموضوع بين القضيتين، و لذلك عمّم الاشكال في المتن و لم يستثن.

و يمكن انه أشار باطلاق قوله: ( (او بقاء)) الى الشك في رافعيّة الموجود، كما انه اشار صراحة الى الشك في وجود الرافع من جهة احتمال النسخ بقوله: ( (و إلّا لا يتخلّف الحكم عن موضوعه إلّا بنحو البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى)) أي انه لا ينبغي ان يقال ان الشك من جهة احتمال وجود الرافع و هو النسخ للحكم لا

ص: 353

و يندفع هذا الاشكال، بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما، و إن كان مما لا محيص عنه في جريانه، إلا أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا في تحققه و في صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه، و كان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم له، مما يعد بالنظر العرفي من حالاته- و إن كان واقعا من قيوده و مقوماته- كان جريان الاستصحاب في الاحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها لاجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها، مما عد من حالاتها لا من مقوماتها، بمكان من الامكان (1)، ضرورة صحة إمكان دعوى بناء

______________________________

اتحاد القضيتين بنظر العرف

يشمله الاشكال المذكور، بدعوى ان النسخ رفع الحكم عن موضوعه في الزمان الثاني و لازمه اتحاد الموضوع في القضيتين.

فانه يقال: ان النسخ بمعنى الرفع حقيقة و ان كان لازمه اتحاد الموضوع في القضيتين إلّا انه مستحيل في حقه تعالى، فالنسخ انما هو لانتهاء امد الحكم، و لا يكون الانتهاء الّا لتغيّر بعض ما كان الموضوع عليه من القيود و الاضافات، لانه مع تماميته من كل جهة لا يعقل النسخ، لاستلزام ذلك تخلّف المعلول عن علته التامة، و هو تعالى حيث كان عالما بان الموضوع يفقد بعض قيوده التي لها دخل في لزوم ثبوت الحكم له، فلا بد و ان يكون النسخ رفعا في الظاهر و في الواقع دفعا لا رفعا، و اذا كان دفعا فمعناه تخلّف الموضوع بقاء في اللاحق عمّا كان عليه من القيود حدوثا في السابق، و اليه اشار بقوله: ( (و لذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا)).

فاتضح: ان اشكال عدم اتحاد الموضوع في القضيتين مطرد و شامل حتى للشك من جهة احتمال النسخ.

(1) توضيحه: انه سيأتي ان الموضوع المعتبر اتحاده في القضيتين في مقام الاستصحاب هل هو الموضوع الدّقي العقلي؟ و على هذا فكل ما يراه العقل من مقومات الموضوع لا بد في تحققه في مقام الشك، مثلا ان لسان الدليل الشرعي مختلف كما لو قال الماء

ص: 354

.....

______________________________

المتغير بالنجاسة نجس، فانه بحسب لسان الدليل ان الموضوع هو الماء المتغيّر. و لو قال الماء ان تغيّر بالنجاسة فهو نجس فالموضوع بحسب لسان الدليل هو الماء و التغيّر بحسب ظاهر الدليل علّة للنجاسة لا انه داخل في الموضوع، و لكنه بحسب الدّقة العقلية ان الموضوع فيهما واحد و هو الماء المتغيّر، فان قلنا ان الموضوع في الاستصحاب- دقيّا- كان الماء المتغيّر هو الموضوع، و ان كان لسان الدليل الشرعي كون الماء هو الموضوع و التغيّر علة.

او ان الموضوع المعتبر تحققه في الاستصحاب هو ما يستفاد من لسان الدليل الشرعي و لا اعتبار بالموضوع الدّقي، و عليه فالمدار في تحقق الموضوع- مثلا- كما في المثال المتقدم ان كان هو الماء المتغيّر فلا اتحاد للموضوع في القضيتين في مقام الشك في بقاء النجاسة عند زوال التغيّر، لان الموضوع في القضية المتيقن هو الماء المتغيّر، و في القضية المشكوكة هو الماء. و ان كان هو الماء فاتحاد الموضوع في القضيتين متحقق ...

و بعبارة اخرى: ان قال المتغيّر بالنجاسة ينجس فالموضوع بحسب ظاهر الدليل الماء المتغيّر، و ان قال الماء ان تغير ينجس فالموضوع هو الماء.

أو ان الموضوع هو ما يراه العرف موضوعا، و المتبع في بقاء الموضوع و عدم بقائه هو نظر العرف لا الدقة العقلية و لا لسان الدليل الشرعي. و المراد من كون الحكم في موضوع الاستصحاب هو العرف ليس كون العرف هو المتبع في تعيين مصاديق الموضوع حتى يقال ان العرف انما يتبع في تعيين المفاهيم لا في تشخيص المصاديق و تعيينها، بل المراد منه هو كون العرف محكما بحسب ما يجده من ارتكازه العرفي في المناسبة بين الحكم و الموضوع ... و يدل على ان مرادهم هو هذا المعنى هو ذهاب من قال بان المدار في الموضوع على نظر العرف- في قبال القول بكونه هو لسان الدليل الشرعي او الدقة العقلية- الى ان الموضوع بمرتكزاته العرفية بحسب مناسبة الحكم و الموضوع هو الماء لا الماء المتغيّر، و ان كان ظاهر لسان الدليل كونه هو الماء المتغيّر أو

ص: 355

.....

______________________________

الدقة العقلية، و كذلك قوله الكلب نجس فان العرف يرى بحسب مرتكزاته ان معروض النجاسة هو جسد الكلب لا حيوانيته.

و الحاصل: ان كون الموضوع بنظر العرف، ليس ان مصداق مفهوم الموضوع موكول الى العرف، بل المراد ان القضية حيث انها عبارة عن موضوع و محمول فالمحمول فيها حيث انه كعرض يعرض على الموضوع، فالذي يعرضه هذا العرض أي شي ء هو عند العرف؟ .. و بعبارة اخرى: ان هذا العروض المدار في تعيينه هو العرف دون العقل او لسان الدليل.

فاذا عرفت هذا فنقول: ان المختار- كما ستأتي الاشارة اليه- كون الحكم في موضوع الاستصحاب هو نظر العرف دون الدّقة و دون لسان الدليل .. يتضح الجواب عن هذا الاشكال، لان المدار في اتحاد القضيتين موضوعا هو ما يراه العرف موضوعا، فالعرف اذا رأى ان الموجب للشك هو انتفاء ما يراه مقوما للموضوع فلا يكون هناك مجرى للاستصحاب لعدم الاتحاد، و ان كان العرف يرى ان الموجب للشك هو انتفاء ما هو بحسب رأيه من حالات الموضوع و عوارضه لا من مقوماته فالموضوع متحد في القضيتين، و انما ينشا الشك بحسب نظر العرف من احتمال دخالة ما هو منتف في حال الشك في ثبوت الحكم لا في ما هو الموضوع للحكم، فلا يكون الشك في الحكم بحسب نظر العرف ملازما للشك في الموضوع دائما، بل المدار في الاتحاد و عدمه على نظر العرف في كون المنتفى مقوما للموضوع او من حالاته و عوارضه؟

فظهر مما ذكرنا: ان الاتحاد في القضيتين مما لا بد منه في جريان الاستصحاب، الّا ان المرجع في اتحاد القضيتين بحسب الموضوع هو نظر العرف، و بهذا يندفع الاشكال بكون الشك في الحكم في الزمان اللاحق ملازما دائما للشك في ما هو موضوع الحكم في الزمان السابق، لما عرفت من ان نظر العرف بحسب مرتكزاته من حيث مناسبة الحكم و الموضوع من جهة عروض المحمول للموضوع مختلف، فقد يرى ما كان

ص: 356

.....

______________________________

متحققا في زمان اليقين و مرتفعا في زمان الشك من مقومات الموضوع فلا يجري الاستصحاب لعدم الاتحاد، و قد يراه انه من حالاته و عوارضه فيجري الاستصحاب لثبوت الاتحاد. و الى هذا اشار بقوله: ( (و يندفع هذا الاشكال بان الاتحاد في القضيتين بحسبهما)) أي بحسب القضية المتيقنة و القضية المشكوكة ( (و ان كان مما لا محيص عنه في جريانه)) أي في جريان الاستصحاب، لان الاستصحاب كما مرّ بيانه هو الحكم ببقاء ما كان، و لا يعقل ان تكون حقيقة الاستصحاب هي الحكم ببقاء ما كان الّا مع الاتحاد موضوعا و محمولا في القضيتين، و ان الفرق بينهما بمحض اليقين في الزمان السابق و الشك في الزمان اللاحق، فلزوم الاتحاد في القضيتين في مقام جريان الاستصحاب مما لا بد منه ( (إلّا انه لما كان)) المدار في تحقق الاتحاد في القضيتين ما هو ( (بحسب نظر العرف)) اتحاد و كان ذلك ( (كافيا في تحققه)) أي في تحقق الاتحاد ( (و في صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه)) و ان لم يكن هناك اتحاد بحسب الدّقة او لسان الدليل ( (و كان)) نظر العرف مختلفا في ( (بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيات التي)) كان ( (يقطع معها بثبوت الحكم له)) أي للموضوع، لوضوح تحقق اليقين بالحكم في الزمان السابق و لكنه مع ذلك كانت تلك الخصوصيات ( (مما يعدّ بالنظر العرفي من حالاته)) أي من حالات الموضوع و عوارضه لا من مقوماته ( (و ان كان واقعا)) بالنظر الدّقي او بحسب لسان الدليل ( (من قيوده و مقوماته كان جريان الاستصحاب)) متحققا ( (في الاحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها)) أي في الاحكام لتحقق الاتحاد في القضيتين موضوعا و محمولا، و لا يكون الشك في الاحكام ( (لاجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها)) أي في الاحكام ( (مما عدّ)) بحسب نظر العرف ( (من حالاتها)) أي من حالات الموضوعات ( (لا من مقوماتها)) مما يضر بجريان الاستصحاب، لانه بعد فرض كون المنتفى مما يعدّ من الحالات لا المقومات فالموضوع في القضيتين متحد و كان جريان الاستصحاب ( (بمكان من الامكان)) كما هو واضح.

ص: 357

العقلاء على البقاء تعبدا، أو لكونه مظنونا و لو نوعا، أو دعوى دلالة النص أو قيام الاجماع عليه قطعا (1)، بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا.

______________________________

(1) يشير بهذا الى دفع ما يمكن ان يقال: ان كون الموضوع بحسب نظر العرف انما يصحّ القول به فيما اذا كان مدرك حجية الاستصحاب هي الاخبار، لانها لما كانت بلسان لا تنقض اليقين بالشك، و من الواضح ان المخاطب بحرمة النقض هو المكلف، و لازم هذا كون المدار على ما يراه العرف نقضا لليقين، ففيما اذا كان الموضوع متحدا بحسب نظره كان من نقض اليقين بالشك، و فيما لم يكن متحدا لم يكن ذلك من نقض اليقين بالشك.

و اما اذا كان مدرك الاستصحاب هو بناء العقلاء تعبدا، او كان المدرك هو الظن النوعي بالملازمة، او كان المدرك هو الاجماع، فلا مجال لدعوى كون الموضوع بحسب نظر العرف، لان بناء العقلاء قائم على عدم رفع اليد عن حكم ما هو الموضوع واقعا، و كذلك الظن فانه يرجع اما الى الظن الشخصي بالملازمة بين الثبوت و البقاء، او الى الظن النوعي بتلك الملازمة، و على كل فلا بد من كون البقاء بقاء لما هو الموضوع واقعا لا بحسب نظر العرف. و اما الاجماع او السيرة فحيث انهما لبيّان فالقدر المتيقن منهما هو الموضوع الواقعي لا العرفي.

و حاصل الدفع: هو انه لا مانع من كون بناء العقلاء قائما على التعبّد ببقاء ما هو الموضوع بحسب نظر العرف و مثله الظن، و كذلك الاجماع و السيرة فانهما و ان كانا لبيّين إلّا انه لا مانع من دعوى كون القدر المتيقن منهما هو الموضوع العرفي. و لا يخفى ان الدفع انما كان بمحض الامكان، لما سيأتي ان عمدة الدليل على حجيّة الاستصحاب هو الاخبار و هو المدرك الصحيح للحجية، و لذلك كان محض الامكان في ردّ هذا الاشكال كافيا، و عبارة المتن واضحة. و ضمير ( (عليه)) راجع الى ما تقدّم: و هو كون الموضوع بحسب نظر العرف. و قوله: ( (قطعا)) معناه ان امكان هذه

ص: 358

أما الاول فواضح، و أما الثاني، فلان الحكم الشرعي المستكشف به عند طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه، مما لا يرى مقوما له، كان مشكوك البقاء عرفا، لاحتمال عدم دخله فيه واقعا، و إن كان لا حكم للعقل بدونه قطعا (1).

______________________________

دفع ما يدعى من التفصيل بين كون الحكم عقليا فلا يجري الاستصحاب و بين النقلي فيجري

الدعوى مما لا يشك فيه، لوضوح القطع بامكان قيام بناء العقلاء و الظن و السيرة و الاجماع على الموضوع بحسب نظر العرف.

(1) يشير الى دفع ما يدعى من التفصيل بين كون الحكم عقليا فلا يجري الاستصحاب لعدم الاتحاد، و بين كونه نقليا فيجري الاستصحاب لتحقق الاتحاد. و حاصل هذه الدعوى: ان كون الموضوع في الاستصحاب بنظر العرف- لا دقيّا و لا بلسان الدليل- انما يجدي في تحقق الاتحاد في القضيتين في خصوص الاحكام الشرعية الكليّة دون الاحكام العقلية التي مرجعها الى حكم كلي لعناوين ادرك العقل حسنها و قبحها، و من الواضح ان الحكم في هذه القضايا يدور مدار تحقق العناوين التي هي المحكومة بذلك الحكم، و هي العلّة التامة للحكم عند العقل، فلا بد من ان يكون الشك في الحكم فيها ناشئا من الشك في ثبوت موضوعها، و الّا متى احرز موضوعها بما له من عنوانه لا يعقل ان يكون حكم ذلك العنوان المحرز مشكوكا.

و بعبارة اخرى: ان تلك العناوين علّة تامة للحكم، و لا يعقل تحقق الشك في المعلول الّا مع تحقق الشك في العلّة، لان العلّة و المعلول متلازمان يقينا و ظنا و شكا، فعروض الشك في الحكم ملازم لعروض الشك في الموضوع، فموضوع الاستصحاب و ان كان بيد العرف الّا انه لا يجدي في الاحكام العقلية، لعدم امكان ان يرى العرف عدم الملازمة بين العلّة التامة و معلولها، بخلاف الاحكام النقلية فان عنوان الموضوع فيها ليس هو العلّة التامة للحكم، و العلّة التامة له شي ء آخر، فلا مانع من حكم العرف بتحقق الموضوع في القضيتين، و لا يلازم الشك في الحكم فيها الشك في الموضوع.

ص: 359

.....

______________________________

و حاصل الدفع: ان التلازم بين الحكم الشرعي و الحكم العقلي في القضايا التي دليل الحكم فيها هو العقل انما هو في مقام تحقق الحكم و ثبوته لا في مقام عدم الحكم.

و توضيح ذلك: ان العقل في هذه القضايا اذا حكم بحكم الموضوع فلا بد و ان يطابقه حكم الشرع، لانه رئيس العقلاء و واهب العقل، فاذا حكم العقل- مثلا- بحسن الصدق لانه من العدل و بقبح الكذب لانه من الظلم، فلا بد و ان يحكم الشرع على طبقه فيأمر بالصدق و ينهى عن الكذب، و لكنه لا يستلزم عدم حكم العقل به لشكه في حسنه عدم حكم الشرع ايضا.

و الحاصل: ان العقل تارة: يحكم بقبح الكذب- مثلا- كالكذب الذي لم يتوقف عليه حفظ نفس او حفظ مال كثير. و اخرى: يحكم بحسن الكذب فيما اذا توقف عليه حفظ النفس. و ثالثة: يشك في حسنه و قبحه فيما اذا توقف عليه حفظ مال قليل.

فاتضح: ان انتفاء ما له دخل في ثبوت الحكم في القضايا العقلية: تارة يكون لانتفاء ما هو المقدم لثبوت الحكم للموضوع، و اخرى يكون لانتفاء ما له دخل في ثبوت الحكم و لكنه ليس بمقوم له، لما عرفت من ان الموضوع التام لحكم العقل بقبح الكذب هو الكذب الذي لا يتوقف عليه حفظ النفس و حفظ المال الكثير، فاذا توقف على الكذب حفظ النفس فيكون انتفاء عدم توقف حفظ النفس عليه لفرض كون الكذب مستلزما لاتلاف النفس من انتفاء المقوّم للموضوع، و متى توقف على الكذب حفظ المال القليل فان انتفاءه ما له دخل في ثبوت الحكم و ليس من المقوّم للموضوع عند العقل، و لذلك كان العقل شاكا في حكمه، ففي مقام الشك عقلا في قبح الكذب لعروض انتفاء ما ليس بمقوّم لثبوت الحكم له فلا يحكم فيه بحكم لا يستلزم عدم حكم الشارع ايضا، بل قد يحكم الشارع بحسنه فيأمر به اذا توقف عليه حفظ المال القليل، و قد يحكم بقبحه و ينهى عنه بحكم الاستصحاب باستصحاب ثبوت حرمته قبل عروض توقف حفظ المال القليل عليه.

ص: 360

إن قلت: كيف هذا؟ مع الملازمة بين الحكمين (1).

______________________________

استصحاب ما يثبت بالملازمة

فاتضح مما ذكرنا: ان الحال في الاحكام العقلية كالحال في الاحكام النقلية الشرعية، يدور الامر فيها مدار كون المنتفى في حال الشك مقوّما للموضوع و غير مقوم له، و ان كان له دخل في ثبوت الحكم له، ففي انتفاء المقوّم لا يجري الاستصحاب، و في مقام انتفاء غير المقوّم يجري الاستصحاب. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (بلا تفاوت في ذلك)) أي في جريان الاستصحاب ( (بين كون دليل الحكم نقلا)) كوجوب الصلاة و امثالها ( (او عقلا)) كحكم العقل بحسن الصدق و بقبح الكذب المطابق له حكم الشارع بالامر بالصدق و بالنهي عن الكذب، و انه في كليهما تارة يجري الاستصحاب لتحقق الاتحاد، و لا يجري اخرى لعدم تحقق الاتحاد في القضيتين ( (اما الاول)) و هو الاحكام النقلية الشرعية ( (فواضح)) كما مرّ بيانه ( (و اما الثاني)) و هو ما كان دليل الحكم عقليا ( (ف)) هو كالحكم النقلي ( (لان الحكم الشرعي المستكشف به)) أي المستكشف بالعقل تارة لا يكون مجرى للاستصحاب، و ذلك عند انتفاء ما هو المقوّم، و اخرى يكون مجرى للاستصحاب و ذلك ( (عند طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه)) و لكنه ( (مما لا يرى مقوّما له)) عند العرف و ( (كان مشكوك البقاء عرفا لاحتمال عدم دخله فيه واقعا و ان كان لا حكم للعقل بدونه قطعا)).

فظهر مما مرّ: ان التلازم بينهما في مرحلة وجود الحكم عقلا لا في مرحلة عدم الحكم عقلا، و انه في مرحلة حكم العقل بوجود الحكم لا بد من مطابقة حكم الشرع له، و اما في مقام عدم الحكم عقلا فالمدار على كون المنتفى مقوّما و غير مقوم.

(1) حاصله: انه اذا كان حكم الشرع في القضايا مستكشفا من حكم العقل فيقتضي ذلك التلازم بينهما، ففي مقام ثبوت حكم العقل يثبت حكم الشرع ايضا، و في مقام لا يكون للعقل حكم لا بد و ان لا يكون للشرع حكم ايضا، لوضوح الملازمة بين الكاشف و المنكشف، و الى هذا اشار بقوله: ( (كيف هذا)) أي كيف قلتم بالتفكيك

ص: 361

قلت: ذلك لان الملازمة إنما تكون في مقام الاثبات و الاستكشاف لا في مقام الثبوت، فعدم استقلال العقل إلا في حال غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال، و ذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل، كان على حاله في كلتا الحالتين، و إن لم يدركه إلا في إحداهما، لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه، أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلا، و إن كان لها دخل فيما اطلع عليه من الملاك (1).

______________________________

و بالملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع في مقام، و عدم الملازمة بينهما في مقام آخر ( (مع)) ان ( (الملازمة بين الحكمين)) مما لا مجال للتخلّف فيها.

(1) توضيحه يحتاج الى بيان امور: الاول: ان قضية حسن العدل و قبح الظلم مما لا شك للعقل فيها، و حكم الشرع مطابق لحكم العقل فيها.

الثاني: ان المدار في انطباق هذه القاعدة على الموضوعات يدور مدار العناوين المدرجة لها فيهما، فربما يكون الشي ء الواحد حسنا بعنوان كالصدق الذي لم يتوقف عليه حفظ النفس مثلا، و ربما يكون قبيحا كما فيما اذا توقف عليه حفظ النفس.

الثالث: ما عرفت من اختلاف المنتفى بين كونه مقوّما و غير مقوّم، و المجال للشك فيما اذا كان المنتفى غير المقوّم.

الرابع: ان لازم هذه الامور هو الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع في مقام الاثبات دون الثبوت و الواقع، بمعنى انه اذا حكم العقل بحكم في هذه القضايا فلا بد من حكم الشارع على طبقه، و اما اذا لم يكن للعقل حكم في مقام الشك لكون المنتفى غير المقوّم فاحتمال الثبوت و عدمه في وجدان العقل على السواء، و للشارع في هذا المقام الحكم اثباتا او نفيا لاطلاعه على الواقعيات: من كون انتفاء غير المقوّم تارة يكون غير موجب لنفي الحسن او القبح المقطوع به في الزمن السابق قبل عروض الانتفاء، و اخرى يكون موجبا لارتفاع ما كان عليه من عنوان خاص موجب للحسن

ص: 362

.....

______________________________

او القبح، و لكنه كان هناك ملاك آخر لاحدهما لم يطلع عليه العقل اصلا، كان ذلك ملاكا آخر للحسن او القبح موجبا لبقاء الحكم على ما كان عليه.

و بعبارة اخرى: ان هناك قضية واقعية قد توافق عليها العقل و الشرع و هي فعل الحسن و ترك القبح، و اما في مقام انطباق هذه القضية على الموضوعات، فربما تكون بيّنة الانطباق عند العقل، و ربما يكون الحال في مقام الانطباق مجملا عند العقل، و لكنه لا يعقل ان يكون مجملا عند الشارع المطلع على الواقعيات، ففي هذه الحال التي لا استقلال للعقل في الحكم فيها لاجمالها عنده لا تلازم بين العقل و الشرع، اذ ربما يكون الحكم على حاله عند الشارع المطلع على الواقعيات، لان انتفاء بعض القيود عن الموضوع المتيقن في حال الشك كان مما لا يضر ببقاء ما عليه الموضوع من المصلحة او المفسدة الموجبة لحسنه سابقا أو لقبحه، فيحكم ببقاء ما كان له من الحكم و يكون للموضوع حكمه في كلتا الحالتين. و ربما لا يكون الحكم عند الشارع باقيا على حاله، لان انتفاء بعض القيود عن الموضوع المتيقن مما يضر ببقاء المصلحة أو المفسدة الموجبة لحسنه أو قبحه. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (قلت ذلك)) أي ان ما قلناه من انه عند طروء انتفاء ما احتمل دخله مما لا يكون مقوّما للشارع ان يحكم باستمرار الحكم، و ان لم يكن للعقل حكم في تلك الحال، لا يضر بالملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع ( (لان الملازمة)) بينهما ( (انما تكون في مقام الاثبات و الاستكشاف)) أي في مقام يحكم العقل فيه بحكم يلازمه حكم الشرع، لان حكم العقل يكون كاشفا عن حكم الشرع و ( (لا)) ملازمة بينهما ( (في مقام الثبوت)) و الواقع، لوضوح محدوديّة نظر العقل و عدم محدوديّة نظر الشارع الذي لا تخفى عليه خافية ( (فعدم استقلال العقل الّا في حال غير ملازم لعدم حكم الشرع في تلك الحال)) لا يخفى ان عبارة المتن لا تخلو عن اغلاق و لا بد من تأويلها لإطباق النسخ عليها.

ص: 363

.....

______________________________

و حاصل شرحها: انه بعد ان ظهر ان للعقل حالتين: حالة يستقل فيها بالحكم، و حالة لا يستقل بالحكم فيها لإجمالها عنده .. يتضح ان الملازمة بينهما في الحال التي يستقل العقل فيها بالحكم دون الحال التي لا يستقل فيها، و المصنف اشار بقوله:

( (فعدم استقلال العقل الا في حال)) اشار الى ان هناك حالة اخرى لا يستقل العقل بها و حيث ان الملازمة بينهما في حال استقلال العقل بالحكم. و اما في حال عدم حكم العقل لعدم استقلاله فلا ملازمة بين العقل و الشرع، و لا يلازم في هذه الحال عدم حكم العقل عدم حكم الشرع ... و بعد ان اشار المصنف الى ان هناك حالتين اشار الى عدم الملازمة بينهما في الحال التي لا استقلال فيها بقوله: ( (غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال)) و هي الحالة الاخرى التي لا استقلال للعقل فيها و لا حكم له فيها. ثم اشار الى الوجه في عدم الملازمة في هذه الحال بقوله: ( (و ذلك لاحتمال ان يكون ما هو ملاك حكم الشرع)) المستكشف من حكم العقل في زمان اليقين ( (من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل)) في الزمان السابق لما كان الموضوع واجدا لجميع القيود هي باقية في زمان الشك، و انتفاء غير المقوّم عنه، و اذا كانت باقية واقعا فعند الشارع المطلع على الواقعيات ( (كان)) الحكم ( (على حاله في كلتا الحالتين و ان لم يدركه)) العقل ( (الّا في احداهما)) و هي حالة ما كان الموضوع واجدا لجميع القيود و هو زمان اليقين الذي كان العقل مستقلا فيه بالحكم و يستكشف منه حكم الشرع ايضا.

ثم اشار المصنف الى ان وجه بقاء الحكم في حال الشك على حاله يكون لاحتمالين: الاول: احتمال عدم دخالة ما انتفى من القيد في زمان الشك في ارتفاع المصلحة أو المفسدة، و اليه اشار بقوله: ( (لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه)) أي لاحتمال ان تكون تلك القيود التي ادرك العقل مع تحققها جميعا حسن الشي ء او قبحه لا يكون لانتفاء بعضها دخل في انتفاء ما عليه الشي ء واقعا من المصلحة أو المفسدة. و اشار الى الثاني و هو انه يحتمل ان يكون هناك ملاكان في الواقع لحسن

ص: 364

و بالجملة: حكم الشّرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا، لا ما هو مناط حكمه فعلا، و موضوع حكمه كذلك مما لا يكاد يتطرق إليه الاهمال و الاجمال، مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا، و هو ما قام به ملاك حكمه واقعا، فرب خصوصية لها دخل في استقلاله مع احتمال عدم دخله، فبدونها لا استقلال له بشي ء قطعا، مع احتمال بقاء ملاكه واقعا.

و معه يحتمل بقاء حكم الشرع جدا لدورانه معه وجودا و عدما (1)،

______________________________

الشي ء مثلا قد ادرك احدهما العقل فحكم بالحسن، و لم يدرك الملاك الآخر للحسن، و كان انتفاء بعض القيود مما له اثر في ارتفاع الملاك الذي ادركه العقل دون الملاك الآخر الذي لم يطلع عليه العقل، بل كان الملاك الآخر للحسن باقيا مع انتفاء القيود، و لذلك حكم الشارع ببقاء الحكم في زمان الشك، و إليه اشار بقوله: ( (او احتمال ان يكون معه)) أي مع الملاك الذي ادركه العقل ( (ملاك آخر)) لم يدركه العقل، و كان هذا الملاك متحققا في زمان الشك و انتفاء بعض القيود ( (بلا دخل لها فيه)) أي من غير دخل للقيود التي ادرك العقل لاجلها ملاك الحسن الذي كان حكمه لاجله في الملاك الآخر ( (اصلا و ان كان لها دخل فيما اطلع عليه من الملاك)).

(1) هذا اجمال لما مرّ منه، و محصّله: ان الملازمة مطّردة بين حكم العقل و حكم الشرع في هذه القضية و هي فعل الحسن و ترك القبيح. اما في مقام انطباق هذه القضية على الموضوعات فالملازمة غير مطردة دائما، بل في مقام اجتماع جميع القيود فحكم الشرع يطابق حكم العقل، و اما في مقام انتفاء ما له دخل و ليس بمقوّم فلا ملازمة بينهما، إذ ليس للعقل الحكم فيه لاحتمال دخل ما انتفى في عدم صدق عنوان الحسن او القبيح على المنتفى عنه تلك الخصوصية في حال الشك.

و الحاصل: ان العقل مع اجتماع جميع القيود في الموضوع يستقل بالحكم في الانطباق، و في مقام انتفاء الخصوصية التي ليست مقوّمة لا استقلال له بالحكم، و لكنه للشارع المطلّع على الواقعيات ابقاء الحكم الذي كان لموضوعه في حال الشك،

ص: 365

.....

______________________________

لاطلاعه على عدم دخل انتفاء تلك الخصوصية في انتفاء المصلحة او المفسدة التي كانت موجبة للحكم في حال اجتماع جميع القيود، أو لاطلاعه على انه هناك ملاك آخر للحسن او القبح الذي كان مما لم يدركه العقل، و لم يكن لانتفاء تلك الخصوصية دخل في انتفائه، و ان كان لها دخل في انتفاء ما كان من الملاك الذي ادركه العقل حال اجتماع القيود. و قد اشار الى اطراد الملازمة بينهما في مرحلة الواقع بقوله: ( (و بالجملة حكم الشرع انما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا)) و هي مرحلة الواقع في حكم كل منهما بفعل الحسن و ترك القبيح و ذلك فيما اذا اجتمعت جميع الشروط و القيود. اما في حال انتفاء بعض ما يحتمل دخله بحيث يحتمل انه ليس من مقوماته و لذلك لا يكون للعقل حكم عند انتفاء مثل ذلك القيد فللشارع في مثل هذا الحكم بالبقاء. و اشار المصنف الى عدم اطراد الملازمة بينهما في مرحلة الانطباق على الموضوعات، و ذلك فيما اذا كان المنتفى مما احتمل دخله، لا ما فيما كان مقوّما عند العقل بقوله: ( (لا ما هو مناط حكمه فعلا)) ثم اشار الى علّة اطراد الملازمة في مرحلة الواقع دون مرحلة الانطباق بقوله: ( (و موضوع حكمه كذلك)) أي و موضوع حكم العقل في مرحلة الواقع و هي قضية فعل ما هو الحسن و ترك ما هو القبيح ( (مما لا يكاد يتطرق اليه الاهمال و الاجمال)) لان فرض هذه القضية الواقعية فرض الحسن و تحققه و فرض القبح و تحققه، فلا اهمال و لا اجمال فيما هو موضوع الحكم و هو الحسن او القبح، فلا بد و ان يلحقه الحكم من العقل بانه ينبغي فعل الحسن و ترك القبيح، و يلحقه ترتّب المدح لفاعل الحسن و ترتّب الذم لفاعل القبيح، و يلازمه حكم الشرع في هذه القضية، و لما كان مدح الشارع ثوابه و ذمه عقابه فيستحق فاعل الحسن الثواب و يستحق فاعل القبح العقاب. و اشار الى عدم اطراد الملازمة في مرحلة الانطباق على الموضوعات بقوله: ( (مع تطرقه)) أي مع تطرق الاجمال ( (الى ما هو موضوع حكمه شأنا)) و هو الموضوع الذي له شان ان يقوم به ملاك الحسن و القبح و يكون محلا لانطباق تلك القاعدة و يلحقه لقيام الملاك به الحكم

ص: 366

فافهم و تأمل جيدا (1).

______________________________

الذي يكون لذلك الملاك واقعا، و الى هذا اشار بقوله: ( (و هو ما قام به ملاك حكمه واقعا)) و في هذه المرحلة و هي مرحلة انطباق ما هو الملاك للحكم واقعا على الموضوع لا اطراد للملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، ففي مرحلة اجتماع جميع الخصوصيات يستقل العقل بالحكم و يلحقه حكم الشرع ايضا و هي مرحلة اليقين، و في مرحلة الشك لاجل انتفاء بعض الخصوصيات غير المقوّمة لا يكون للعقل استقلال بالحكم، و لكنه للشارع الحكم لما عرفت من اطلاع الشارع و عدم اطلاع العقل. و الى هذا اشار بقوله: ( (فربّ خصوصية لها دخل في استقلاله)) أي في استقلال العقل بالحكم و ذلك في مرحلة اجتماع جميع القيود و الخصوصيات لان ما اجتمع فيه جميع القيود لا ريب في حسنه او قبحه، و لا يكون لانتفاء تلك الخصوصية دخل في ارتفاع ما هو الملاك واقعا. و اليه اشار بقوله: ( (مع احتمال عدم دخله)) و لا يخفى ان تذكير الضمير اما باعتبار الانتفاء، او باعتبار كون تلك الخصوصية قيدا، و كان ينبغي تأنيث الضمير، و ان مع عدم دخلها .. فتحصّل انه مع وجود تلك الخصوصية يستقل العقل بالحكم، و مع انتفائها لا استقلال له، و لذا قال: ( (فبدونها لا استقلال له)) أي للعقل ( (بشي ء)) من الحكم ( (قطعا)) لاحتمال دخلها في ارتفاع الملاك و عدم دخلها في ارتفاعه، و لما كان احد الاحتمالين بقاء الملاك و عدم ارتفاعه بارتفاعها، كان للشارع الحكم بالبقاء لاطلاعه على الواقع، ففي هذا الفرض يحتمل بقاء الحكم و يحتمل عدمه، و قد اشار الى انه مع احتمال بقاء الملاك يحتمل بقاء الحكم بقوله: ( (مع احتمال بقاء ملاكه واقعا و معه)) أي و مع احتمال بقاء الملاك ( (يحتمل بقاء حكم الشرع لدورانه)) أي لدوران حكم الشرع بقاء و ارتفاعا ( (معه)) أي مع الملاك ( (وجودا و عدما)) فله الحكم بالبقاء لاطلاعه على بقاء الملاك.

(1) ظاهره انه اشارة الى الدّقة ... و لكنه يحتمل ان يكون اشارة الى ما ذكره في طي عبارته المتقدمة على قوله و بالجملة، من انه يحتمل ان يكون هناك ملاك للحسن لم

ص: 367

ثم إنه لا يخفى اختلاف آراء الاصحاب في حجية الاستصحاب مطلقا، و عدم حجيته كذلك، و التفصيل بين الموضوعات و الاحكام، أو بين ما كان الشك في الرافع و ما كان في المقتضي، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة، على أقوال شتى لا يهمنا نقلها و نقل ما ذكر من الاستدلال عليها، و إنما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها، و هو الحجية مطلقا، على نحو يظهر بطلان سائرها (1)، فقد استدل عليه بوجوه:

______________________________

يطلع عليه العقل، و اذا جوّزنا هذا الاحتمال فلازمه عدم الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع في مقام الانطباق على الموضوعات، لانه كما يجوز ان يكون هناك ملاك للمصلحة مثلا لم يطلع عليه العقل، يجوز ايضا ان يكون هناك ملاك للمفسدة لم يطلع عليه العقل، و تنحصر الملازمة بينهما في محض قضية كون الحسن مما ينبغي فعله و القبيح مما ينبغي تركه ... و يحتمل ان يكون اشارة الى انه لا فرق بين انتفاء المقوّم و غير المقوّم، لانه اذا جوّزنا ان يكون هناك ملاك آخر لم يطلع عليه العقل فمن الجائز ايضا ان لا يكون لانتفاء المقوّم دخل في انتفائه ايضا، و انما غاية الامر انه مع انتفاء المقوّم ينتفي الملاك الذي ادركه العقل لفرض انتفاء ما هو المقوّم له. و اما الملاك الآخر الذي لم يطلع عليه فربما لا يكون منتفيا، فللشارع المطلع على الواقعيات الحكم بالبقاء و لو مع انتفاء ما هو المقوّم للملاك الذي ادركه العقل لبقاء الملاك الآخر الذي لم يطلع عليه العقل. و اللّه العالم.

(1) قوله (قدس سره): ( (المختار منها و هو الحجية مطلقا ... الخ)) و منه يتضح بطلان القول بعدم الحجية مطلقا، و بطلان التفصيل ايضا في حجية الاستصحاب من القول به في مقام دون مقام. و قد عرفت فيما مرّ ان التفاصيل التي ذكرها الشيخ الاعظم اولا تسعة، مضافا الى القول بالحجية مطلقا، و الى القول بعدم الحجية مطلقا، فتكون الاقوال التي ذكرها احد عشر قولا، ثم اشار في آخر كلامه انه هناك تفاصيل أخر.

ص: 368

الوجه الاول: استقرار بناء العقلاء من الانسان بل ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة، و حيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا (1).

______________________________

ادلة حجية الاستصحاب

الوجه الاول: بناء العقلاء
اشارة

(1) لا يخفى ان هذا الوجه الاول يرجع الى دعويين: الاولى: بناء استقرار العقلاء بما هم عقلاء و ملتفتون الى اعمالهم على الاخذ بالحالة السابقة. الثانية: دعوى استقرار بناء كل ذي شعور من كافة انواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة.

و حاصل الدعوى الاولى هي ادعاء سيرة العقلاء و قيامها بما هي سيرة عقلائية على العمل على طبق ما كان كسائر سيرهم، مثل سيرتهم على اتباع الظهورات، و سيرتهم على الاخذ بالخبر الواحد، و مثل هذه السير من العقلاء ليست من الارتكازيات بل هي امور اقتضتها مصالح عقلائية.

و حاصل الدعوى الثانية: ان العمل على طبق الحالة السابقة من الامور الارتكازية لكل ذي شعور، مثل هرب ذي الشعور عن موارد الخطر.

و على كل من الدعويين: من استقرار السيرة العقلائية او استقرار عمل كل ذي شعور بارتكازه على الجري و العمل على طبق الحالة السابقة لا يكتفى بذلك، بل لا بد لاثبات الحكم الشرعي من كون حكم الشارع هو الاخذ بالحالة السابقة عند عروض الشك الى ما يدل على الامضاء من الشارع لما قام عليه بناء العقلاء او لما استقر عليه عمل كل ذي شعور، و قد مرّ فيما تقدّم في مبحث الخبر و غيره ان عدم ردع الشارع لذلك كاف في امضائه له.

و محصّل هذا الوجه يتقوّم بامرين:

الاول: احراز البناء من العقلاء، و احراز كون عمل كل ذي شعور على الاخذ بالحالة السابقة عند عروض الشك في الزمان الثاني.

الثاني: امضاء الشارع الكافي فيه عدم ردعه.

ص: 369

و فيه: أولا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا، بل إما رجاء و احتياطا، أو اطمئنانا بالبقاء، أو ظنا و لو نوعا (1)، أو غفلة كما هو

______________________________

المنع من الاستدلال ببناء العقلاء

و من الواضح انه لا نحتاج الى اثبات احراز بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة في خصوص الاحكام الشرعية، لوضوح عدم خصوصية للاحكام الشرعية، بل هي عند العقلاء كسائر امورهم العرفية، لانه بعد ان كان عملا عقلائيا فلا يفرّق فيه عندهم بين الامور الشرعية و غير الشرعية. نعم لو وصل ردع من الشارع عنه لكانت سيرتهم مختصّة بخصوص الامور العرفية. هذا اولا. و ثانيا: لو احتجنا الى احراز ذلك في بناء العقلاء لما صحّ اشتراط احراز ذلك في عمل كل ذي شعور، بان يقال انه لا بد من احراز عمل ذوي الشعور على العمل على طبق الحالة السابقة في الاحكام الشرعية، لبداهة ان الامور الارتكازية الصادرة من الحيوان بطبيعته الحيوانية لا فرق فيها بما هي ارتكازية بين كون الحالة السابقة حكما شرعيا او غير شرعي. و قد اشار المصنف الى الامر الاول المتقوّم به هذا الوجه الاول بقوله: ( (استقرار بناء العقلاء من الانسان)) و اشار الى كونه من ارتكازيات كل ذي شعور بقوله: ( (بل ذوي الشعور ... الى آخر الجملة)) و اشار الى الامر الثاني المتقوّم به هذا الوجه و هو امضاء الشارع الذي يكفي فيه عدم الردع منه بقوله: ( (و حيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا)).

(1) توضيح هذا المنع الاول لهذا الوجه الاول من جهة دعوى استقرار بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة تعبدا يتوقف على بيان معنى البناء العقلائي التعبّدي.

و حاصله: ان معنى التعبّد من العقلاء هو كون عملهم على الاخذ بما كان ثابتا لاجل محض ثبوته السابق لا لشي ء غير ذلك، و انهم لا يرفعون اليه عنه لصرف كونه كان متعلقا لليقين الموجب لتحققه و ثبوته واقعا في السابق، مع التفاتهم الى كون الحالة في الزمان الثاني هي الشك في بقائه، و بهذا المعنى يكون ذلك تعبّدا منهم بابقاء ما كان، و يكون اصلا عمليا منهم في مقام الشك لا امارة او احتياطا او غير ذلك. و هذه

ص: 370

الحال في سائر الحيوانات دائما و في الانسان أحيانا (1).

______________________________

الدعوى في المقام ممنوعة لعدم احراز كون بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة لمحض ثبوت الشي ء سابقا و ان بناءهم فيه هو البناء على اصل عملي منهم في مقام الشك، و انهم يأخذون بالحالة السابقة لمحض ثبوتها من دون شي ء آخر، بل ملاحظة عمل العقلاء يقضي بانهم يأخذون بالحالة السابقة لاسباب متعددة:

- منها: رجاء اصابة الواقع حيث لا يحتملون المفسدة الفعلية في الاخذ بما كان متيقنا.

- و منها: الاحتياط فيما اذا كان الثابت سابقا مهمّا او كان مقطوع عدم المفسدة فعلا و محتمل المصلحة.

- و منها: انهم في الحالة الثانية لا يكون الوجود و العدم عندهم سواء، فلا يكون من مورد الشك و تساوي الطرفين، بل يكون الحاصل لهم فيها هو الاطمئنان بالبقاء.

- و منها: ان يكون اخذهم بما كان لاجل حصول ما يوجب الظن الشخصي او النوعي بالبقاء.

و قد اشار الى منع دعوى التعبّد العقلائي في المقام بقوله: ( (منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا))، و اشار الى الاسباب الموجبة لعملهم بقوله: ( (بل اما رجاء ...

الى آخر الجملة)).

(1) يشير بهذا الى منع دعوى كون العمل على طبق الحالة السابقة من ارتكازيات كل ذي شعور، بل هو لاجل الغفلة و الجري على ما اعتاده سابقا، لوضوح ان جري الحيوانات على الحالة السابقة ليست من الاخذ بالحالة السابقة مع الالتفات الى ذلك في الحالة الثانية، بل لان ذلك امر قد اعتادت فعله، و قد يفعل الانسان جريا على العادة من دون التفات منه الى عروض الشك له.

و منه يتضح: ان عمل الانسان العاقل بما هو ملتفت الى الشك لا بد و ان يكون لاحد الامور السابقة: من الرجاء، أو الاحتياط، او غير ذلك من الاطمئنان و غيره،

ص: 371

و ثانيا: سلمنا ذلك، لكنه لم يعلم أن الشارع به راض و هو عنده ماض، و يكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب و السنة على النهي عن اتباع غير العلم (1)، و ما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات،

______________________________

و عمله بما هو غير ملتفت الى الشك يرجع الى العمل على طبق ما اعتاده لغفلته عن شكه. و الى هذا اشار بقوله: ( (و في الانسان احيانا)).

(1) حاصله: انه لو سلمنا قيام بناء العقلاء و سيرتهم على الاخذ بالحالة السابقة و الجري على طبقها في مقام عملهم، إلّا انه من الواضح ان هذا المقدار لا يكفي في كون الاستصحاب حجة شرعا، بل لا بد من ضم امضاء الشارع لهذه السيرة العقلائية، و الامضاء و ان كان يكفي فيه عدم الردع، إلّا ان وجود ما يصلح لان يكون رادعا عنها يمنع عن كشف امضاء الشارع لها، و عموم الآيات الدالة على النهي عن اتباع غير العلم و الروايات الدالة ايضا على النهي عن اتباع غير العلم مما يصلح للردع، فلا ينفع قيام السيرة على العمل على طبق ما كان لان تكون حجة على الاستصحاب شرعا.

و لا يخفى ان كلامه هنا ينافي ما مر منه في حجية الخبر: من عدم امكان رادعية العمومات للسيرة و صلاحية السيرة لتخصيص العمومات من غير عكس.

و ملخصه انه لو قلنا: ان مخصصية السيرة تتوقف على اثبات عدم رادعية العمومات لها للزم الدور من الطرفين، لان اثبات رادعية العمومات يتوقف على عدم مخصصية السيرة المتوقف على اثبات رادعية العمومات لها، و توقف حجية السيرة و تخصيصها لها على اثبات عدم رادعية العمومات المتوقف على حجية السيرة و تخصيصها، فيكون التوقف من الطرفين.

و اما إذا قلنا: بان حجية السيرة و تخصيصها للعمومات لا يتوقف على اثبات عدم الرادعية، بل يكفي محض عدم الرادعية فيكون الدور من طرف واحد، و هو كون العمومات رادعة للسيرة دوريا، لوضوح ان كون العمومات رادعة يتوقف على

ص: 372

.....

______________________________

اثبات الردع، و اثبات الردع يتوقف على عدم مخصصية السيرة للعمومات المتوقف على اثبات الردع، و اما مخصصية السيرة فلا يتوقف على اثبات عدم الردع حتى تكون المخصصية متوقفة على اثبات عدم الردع المتوقف على المخصصية، بل يكفي في حجية السيرة عدم ثبوت الردع لا اثبات عدم الردع، و العدم لا يتوقف على شي ء حتى يكون موقوفا على المخصصية.

و لعل السبب في تبدل نظره هنا و اعتباره رادعية العمومات للسيرة: هو كون العمومات لها بالنسبة الى مدلولها العمومي اقتضاء ذاتي، و هذا الاقتضاء يؤثر في حجية العمومات فعلا اذا لم يزاحم بحجة اقوى منه، فالخاص التي هي السيرة انما تقدم على العام في مرحلة الحجية الفعلية لا في اقتضائها الذاتي كمدلول العام العمومي.

و يتحصل من هذا ان للعام اقتضاء بذاته للحجية، و نسبته اليها نسبة المقتضي الى مقتضاه، و الخاص و هي السيرة بالنسبة اليه لها مقام المانع عن فعلية تأثيره في الحجية، و اما اقتضاؤه للحجية فهو ذاتي له، و هو بخلاف السيرة فان اقتضاءها للحجية متقوم بعدم الردع، فالعمومات بالنسبة الى الردع لها مقام الاقتضاء، و السيرة بالنسبة الى حجيتها المزاحمة للعمومات الرادعة ليس لها مقام الاقتضاء، و لازم هذا كون مزاحمة العمومات في مقام الرادعية بالسيرة من قبيل مزاحمة ما ليس فيه الاقتضاء لما فيه الاقتضاء، و من الواضح لزوم تقديم ما له الاقتضاء على ما ليس له الاقتضاء في مقام المزاحمة. فيمكن ان يكون لهذا قدم المصنف هنا رادعية العمومات للسيرة.

و على كل فصريح المصنف هنا صلاحية الآيات و الروايات الناهية عن اتباع غير العلم للردع عن السيرة، و لذا قال (قدس سره): ( (و ثانيا سلمنا ذلك)) أي لو اعرضنا عن ما ذكرناه اولا: من منع استقرار بناء العقلاء تعبدا على الجري على طبق الحالة السابقة، و سلمنا استقرار بناء العقلاء تعبدا على ذلك ( (لكنه)) يحتاج الى امضاء الشارع له و رضاه به و ( (لم يعلم ان الشارع به راض و هو عنده ماض)) فان

ص: 373

فلا وجه لاتباع هذا البناء فيما لا بد في اتباعه من الدلالة على إمضائه (1)،

______________________________

استكشاف رضاء الشارع و امضائه لهذا البناء العقلائي يتوقف على عدم وجود ما يصلح لان يكون رادعا له شرعا ( (و)) من الواضح انه ( (يكفي في الردع)) شرعا ( (عن مثله)) أي عن مثل هذا البناء ( (ما دل من الكتاب و السنة)) من الآيات و الروايات الدالة ( (على النهي عن اتباع غير العلم)).

(1) و حاصله: انه كما ان الآيات و الروايات الناهية عن اتباع غير العلم تصلح للردع عن السيرة، كذلك ما دل على البراءة من الآيات و الروايات عند المجتهدين، او ما دل على الاحتياط عند الاخباريين يصلح لان يكون رادعا لهذه السيرة و البناء العقلائي، لان السيرة- بناء على تماميتها- تقتضي حجية الاستصحاب مطلقا سواء كان المستصحب الحكم او عدم الحكم، ففي مورد الشبهات الحكمية تكون السيرة هي الحجة على عدم الحكم فيها، فجعل الشارع في موردها شيئا آخر غيرها و هي البراءة لازمه ردع الشارع عنها، و إلّا لكان امضاؤه لها كافيا للدلالة على عدم الحكم.

و لا ينبغي ان يقال ان ادلة البراءة عامة شاملة للشبهات الحكمية و غيرها، و السيرة بالنسبة الى الشبهات الحكمية كدليل خاص و الخاص يقدم على العام.

لانه يقال: ان غير موارد الشبهات الحكمية هو من الموارد النادرة لا يصلح لان يكون هو المراد بأدلة البراءة، لعدم صحة الغاء حجية العام بالنسبة الى غالب الموارد و انحصار حجيته في المورد النادر، و لذلك لا يصح كثرة تخصيص العام بما يوجب انحصاره بالفرد النادر. هذا كله في رادعية ادلة البراءة ... و اما رادعية أدلة الاحتياط بالنسبة الى السيرة المقتضية لعدم الحكم في الشبهات الحكمية فواضح. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (و ما دل على البراءة أو الاحتياط)) فانه يصلح لان يكون رادعا للسيرة و هذا البناء العقلائي ( (فلا وجه)) مع وجود ما يصلح للردع عن هذا البناء ( (لاتباع هذا البناء)) في الاحكام المتوقف اتباعه فيها على امضاء الشارع لها، و لا يستكشف

ص: 374

فتأمل جيدا (1).

الوجه الثاني: إن الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق.

و فيه: منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء فعلا و لا نوعا، فإنه لا وجه له أصلا إلا كون الغالب فيما ثبت أن يدوم مع إمكان أن لا يدوم، و هو غير معلوم، و لو سلم، فلا دليل على اعتباره بالخصوص، مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم (2).

______________________________

الوجه الثاني: حجية الاستصحاب من باب الظن

امضاء الشارع مع وجود ما يصلح للردع من الشارع، و الى هذا اشار بقوله: ( (فيما لا بد في اتباعه من الدلالة على امضائه)).

(1) يمكن ان يكون اشارة الى ان العمومات الناهية عن اتباع غير العلم لو سلّمنا صلاحيتها للردع عن السيرة، الّا ان ما ذكره هناك من كون سياقها في مقام اصول الدين يمنع عن كونها في معرض الردع عن السيرة لان موردها الفروع.

و يمكن ان يكون اشارة الى ان كون ما دلّ على البراءة او الاحتياط رادعا للسيرة انما هو لاقتضاء السيرة الحجيّة مطلقا، و ما سيأتي من المصنف من دلالة الاخبار على حجيّة الاستصحاب مطلقا- ايضا- ينافيه ما دلّ على البراءة او الاحتياط، لبقائه من غير مورد ايضا فيما لو كان الاستصحاب حجة مطلقا. فما يجاب به عن اطلاق حجية الاستصحاب اذا كان دليله الاخبار، يجاب به عمّا اذا كان دليله السيرة.

و اللّه العالم.

(2) و حاصل هذا الوجه: ان اليقين السابق يلازمه الظن بالبقاء. و لا يخفى انه لو تمت دعوى ملازمة الظن اللاحق بالبقاء لليقين السابق بالثبوت، و حجية هذا الظن، لكان الاستصحاب امارة لا اصلا.

و على كل فيرد عليه: أولا: منع هذه الدعوى، و انه لا ملازمة بين اليقين و الثبوت في السابق و بين الظن اللاحق بالبقاء، لوضوح ان لكل من اليقين و الظن و الشك اسبابا تخصها و عللا توجبها، و من البيّن انه لا ملازمة بين علل هذه الامور،

ص: 375

.....

______________________________

لجواز انه بعد ارتفاع سبب اليقين السابق كما يمكن ان يحصل سبب يوجب الظن بالبقاء كذلك يمكن ان يحصل ما يوجب الشك بالبقاء.

لا يقال: ان دعوى الملازمة بين اليقين السابق و الظن اللاحق بالبقاء لا لخصوصية ذاتية بين اليقين السابق و الظن اللاحق، بل لاجل الغلبة فان الغالب فيما يثبت ان يدوم، و الغلبة اذا لم توجب الظن الشخصي الفعلي بالبقاء فلا محالة انها مما توجب الظن النوعي، فدعوى الملازمة بينهما سببها الغلبة.

فانه يقال: اولا ان دعوى الغلبة ممنوعة، و ليس الغالب في ما ثبت في السابق هو الدوام في الزمان اللاحق.

و ثانيا: لو سلّمنا هذه الدعوى فلا تكفي لحجيّة الاستصحاب شرعا، لعدم كون هذا الظن حجة بخصوصه. نعم لو تمت مقدمات الانسداد لكان هذا الظن حجة، و قد عرفت عدم تماميتها في مبحث الانسداد.

و ثالثا: لو سلّمنا كفاية هذا الظن في حجية الاستصحاب، الّا انه انما يكفي حيث لا يرد من الشارع نهي عن اتباع الظن، و قد عرفت دلالة الكتاب و السنة على النهي عن اتباع الظن، و يشمل بعمومه للظن الحاصل من الغلبة، الّا انك قد عرفت النظر في الآيات المتقدمة بانها واردة في اصول الدين، و لكن يكفي في عدم هذا الظن ما مرّ في اول مبحث الظن من ان الاصل عدم حجية الظن مطلقا، مضافا الى ما ورد عنهم عليهم السّلام من النهي عن اتباع الظن، و ان النهي عن القياس انما هو لكونه ظنا لا لخصوصية في القياس. و قد اشار الى منع هذه الدعوى أولا بقوله: ( (و فيه منع اقتضاء مجرد الثبوت ... الى آخر الجملة)). و اشار الى انحصار الوجه في دعوى ملازمة الظن بالبقاء لليقين بالثبوت بالغلبة بقوله: ( (فانه لا وجه له اصلا الّا كون الغالب ... الى آخر الجملة)) و اشار الى منع دعوى الغلبة بقوله: ( (و هو غير معلوم)). و اشار الى انه لو سلّمنا الغلبة فلا دليل على اعتبار الظن الحاصل منها بقوله: ( (و لو سلّم فلا دليل على اعتباره بالخصوص)) و بقوله بالخصوص اشارة

ص: 376

الوجه الثالث: دعوى الاجماع عليه، كما عن المبادئ حيث قال:

الاستصحاب حجة، لاجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم، ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا، و لو لا القول بأن الاستصحاب حجة، لكان ترجيحا لاحد طرفي الممكن من غير مرجح، انتهى (1) ... و قد نقل عن غيره أيضا.

و فيه: إن تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة مما له مبان مختلفة في غاية الاشكال، و لو مع الاتفاق، فضلا عما إذا لم يكن و كان مع الخلاف من المعظم، حيث ذهبوا على عدم حجيته مطلقا أو في الجملة (2)،

______________________________

الوجه الثالث: الاجماع

واضحة الى انه حيث لا تتمّ مقدمات الانسداد فحجية الظن تحتاج الى دليل خاص يدل عليها. و اشار الى انه لو قلنا بكفاية هذا الظن في الحجية إلّا انه حيث لا يرد منع عنه من الشارع، و قد ورد ما يدل بعمومه على النهي عنه بقوله: ( (مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم)) و هي ما تقدّم من الآيات و الروايات الناهية من اتباع الظن.

(1) المتحصّل من عبارة المبادئ المنقولة في المتن: هو ان الاصحاب اتفقوا على الاخذ بالحكم الذي كان متعلقا لليقين في مقام الشك فيه في الزمان اللاحق، و اتفاقهم هو الدليل على حجية الاستصحاب الذي هو إبقاء ما كان، فالاستصحاب حجة لهذا الاجماع، و لو لا قيام الاجماع عليه من الاصحاب لكان العمل على طبق الحالة السابقة من الترجيح لأحد طرفي الممكن من غير مرجح، لوضوح انه بعد فرض عروض الشك في الحكم في الزمان اللاحق يكون وجوده و عدمه على حدّ سواء، و مع كون وجوده و عدمه على حدّ سواء فترجيح طرف وجود الحكم على طرف عدمه لو لا قيام الاجماع عليه لكان من الترجيح بلا مرجح.

(2) و حاصله: ان الاجماع المدعى في المقام اما دعوى الاجماع المحصّل او دعوى الاجماع المنقول، و لا يصح دعوى الاجماع في المقام بكلا نحويه.

ص: 377

و نقله موهون جدا لذلك، و لو قيل بحجيته لو لا ذلك (1).

______________________________

امّا المحصّل منه فيرد عليه اولا: انه لا وجه لدعوى حجيّته في المقام مع فرض تسليم صغراه و هو اتفاق الاصحاب جميعا، لان اتفاق الاصحاب الذي يستكشف به رأي الامام هو الاتفاق الذي لا يكون محتمل المدرك، و من الواضح ان احتمال المدرك- بل احتمال ان هنا مدارك مختلفة- لحجية الاستصحاب موجود، و مع احتمال كون ذلك الاتفاق لمدرك او لمدارك لا يكون ذلك الاتفاق اجماعا. و إلى هذا اشار بقوله: ( (و فيه ان تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة مما)) تعددت مداركها و كان لها ( (مبان مختلفة في غاية الاشكال و لو مع)) فرض تسليمنا ( (الاتفاق)) المدعى.

و ثانيا: ان دعوى الاجماع و الاتفاق من الاصحاب غير مسلّمة لذهاب جماعة منهم الى عدم حجية الاستصحاب مطلقا، و ذهاب بعضهم الى حجيته في مقام دون مقام. و هذا مما يدل على انه لا اجماع على حجيّة الاستصحاب، و الّا لما انكره جماعة، و لما فصّل فيه آخرون.

و الحاصل: انه قد خالف فيه معظم الاصحاب بين منكر له من رأس، و بين مفصّل فيه بتفاصيل متعددة. و اذا كان الخلاف فيه متحققا عند معظم الاصحاب فكيف يمكن ان يدعى تحصيل الاجماع فيه؟ و الى هذا اشار بقوله: ( (فضلا عمّا اذا لم يكن)) اتفاق منهم ( (و كان مع)) عدم اتفاقهم ( (الخلاف)) في حجيّته ( (من المعظم حيث ذهبوا)) و بنوا ( (على عدم حجيته مطلقا او في الجملة)) فكيف يدعى الاتفاق من الاصحاب مع ان المعظم قائل بعدم الحجية اما مطلقا او في الجملة؟

(1) قد عرفت ما يرد على الاجماع المحصّل في هذه المسألة. و اما الاجماع المنقول الذي اشار اليه بقوله: ( (و نقله)) فيرد عليه، اولا: ما اوردناه على الاجماع: من عدم تماميته مع احتمال المدرك، و من ثبوت الخلاف من المعظم، و البناء منهم على عدم حجيته اما مطلقا او في الجملة. و الى هذا اشار بقوله: ( (موهون جدا لذلك)).

ص: 378

الوجه الرابع: و هو العمدة في الباب، الاخبار المستفيضة.

منها: صحيحة زرارة قال: قلت له: الرجل ينام و هو على وضوء، أ يوجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟ قال: يا زرارة، قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن، و إذا نامت العين و الاذن و القلب فقد وجب الوضوء، قلت: فإن حرّك في جنبه شي ء و هو لا يعلم، قال: لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجي ء من ذلك أمر بيّن، و إلا فإنه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين بالشك أبدا، و لكنه ينقضه بيقين آخر (1).

______________________________

الوجه الرابع: الاخبار
اشارة

و ثانيا: عدم حجيّة الاجماع المنقول في نفسه كما مرّ ذكره في مبحث الاجماع، و اليه اشار بالتعليق في قوله: ( (و لو قيل بحجيّته لو لا ذلك)) فان قوله و لو قيل بحجيّته ظاهر في الاشارة الى عدم صحة القول بحجيّته.

و الحاصل: انه لو قلنا بحجيّة الاجماع المنقول فلا نقول بها في المقام، لما مرّ ذكره في دعوى الاجماع المحصّل، و هو مراده من قوله: ( (لو لا ذلك)).

الخبر الاول: الاستدلال بصحيحة زرارة في الشك في الوضوء

(1) الحاصل: ان العمدة في الدلالة على الاستصحاب الاخبار التي منها صحيحة زرارة و هي (قال: قلت له: الرجل ينام و هو على وضوء، أ يوجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟ قال- عليه السّلام-: يا زرارة قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن، و اذا نامت العين و الاذن فقد وجب الوضوء، قلت فان حرّك في جنبه شي ء و هو لا يعلم قال- عليه السّلام- لا حتى يستيقن انه قد نام، حتى يجي ء من ذلك امر بيّن، و إلّا فانه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين بالشك ابدا، و لكنه ينقضه بيقين آخر)(1).

و لا يخفى ان هذه الرواية رواها شيخ الطائفة (قدس سره) بطريقه الصحيح الى الحسين بن سعيد عنه، عن حماد، عن حريز، عن زرارة. و اثبتها في جملة الحديث

ص: 379


1- 36. ( 1) تهذيب الاحكام: ج 1، ص 8.

.....

______________________________

المروي عنهم، و اثبتها الحسين بن سعيد في الحديث المروي عنهم ايضا، و اثبتها حريز في أصله ايضا ... فيظهر من هؤلاء الأجلاء عدم اعتنائهم باضمارها، و انها من المسلّم عندهم انها عن المعصوم عليه السّلام.

و الحاصل: ان صحيحة زرارة هذه من الاخبار الدّالة على الاستصحاب كما سيأتي، و هي مشتملة على سؤالين السؤال الاول عن الخفقة و الخفقتين. و الظاهر من هذا السؤال هو المفروغية عن كون النوم التام ناقضا للوضوء، و الّا لكان السؤال عنه اولى من السؤال عن بعض مراتبه و هي الخفقة و الخفقتين، و بعد كون النوم التام مفروغا عن كونه ناقضا لذلك سأل زرارة عن الخفقة و الخفقتين انها هل هي كالنوم التام الناقض ام لا؟ ... فمعنى قوله الرجل ينام و هو على وضوء، هو ان الرجل ينقض الوضوء بالنوم التام، فهل يوجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟ و لذلك اجابه الامام عليه السّلام ببيان مراتب النوم، و ان بعض مراتبه نوم العين، و النوم التام هو نوم القلب و الاذن، و ان نوم العين وحدها لا يوجب الوضوء، و اذا نامت العين و الاذن فقد وجب الوضوء ... و لا يخفى ان مرجع هذا السؤال الى الاستفسار عن شبهة حكمية، و ان النوم الناقض هل هو النوم بجميع مراتبه، فاجاب الامام بما حاصله: ان بعض مراتبه و هو نوم العين لا يوجب الوضوء، و الذي يوجب الوضوء هو نوم العين و الاذن.

و قد ظهر مما مرّ: انه لا داعي لان يكون قوله ينام الرجل يراد به الاشراف على النوم مجازا، بل مراد به معناه الحقيقي و هو النوم حقيقة.

و ما يقال من ان الداعي لحمل ينام على الاشراف على النوم هو ان حملة و هو على وضوء جملة حالية و لا بد من اقتران الحال بعامل الحال، و لما كان النوم و الوضوء لا يجتمعان فلذلك لزم حمل ينام على الاشراف على النوم.

فانه يقال: لا داعي للالتزام بوجوب اقتران عامل الحال مع الحال لا زمانا و لا وجودا، بل الحال لا تدل على اكثر من كونها قيدا للعامل، و هنا قوله و هو على

ص: 380

و هذه الرواية و إن كانت مضمرة إلا أن إضمارها لا يضر باعتبارها، حيث كان مضمرها مثل زرارة، و هو ممن لا يكاد يستفتي من غير الامام عليه السّلام لا سيما مع هذا الاهتمام (1).

______________________________

وضوء قيد لينام من حيث كونه ناقضا له اذا كان نوما تاما، و غير ناقض له اذا لم يكن نوما تاما.

و السؤال الثاني هو السؤال عما يكشف عن النوم الذي هو نوم العين و الاذن، و مرجعه الى السؤال عن شبهة موضوعيّة، و ان تحريك الشي ء في جنب الرجل بحيث يكون الرجل لا يعلم بذلك التحريك في جنبه و لا يحس به، هل يكشف عن النوم الناقض؟ و لما كان السؤال عن شبهة موضوعية اجابه الامام عليه السّلام بما حاصله: ان نفس عدم العلم بالتحريك ليس بكاشف، فقد لا يحس بالتحريك و لكنه لا يكون نائما النوم التام الناقض، و ان المدار على وجدانه و تحقق النوم عنده، فلذا قال عليه السّلام: لا حتى يستيقن انه قد نام، حتى يجي ء من ذلك أمر بين، و إلّا فانه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين بالشك أبدا، و لكنه ينقضه بيقين آخر.

(1) قد عرفت ان اثبات الأكابر لها في كتب الحديث يدل على ان مرجع الضمير في قوله قلت له هو الامام عليه السّلام، و ان المسئول منه هو عليه السّلام. و قد اشار المصنف في المتن الى جهتين تمنع من قدح الاضمار في هذه الصحيحة: الاولى: ان كون المضمر الذي هو السائل زرارة المعلوم جلالته علما و عملا، و انه من جلالة مقامه ان لا يسأل الا من الامام عليه السّلام، يمنع قدح الاضمار، و يعين ان المسئول منه هو الامام عليه السّلام.

و الى هذه الجهة اشار بقوله: ( (حيث كان مضمرها مثل زرارة ... الى آخر الجملة)).

الثانية: ان تكرير السؤال من زرارة و اهتمامه بمعرفة الحكم من حيث الشبهة الحكمية و الشبهة الموضوعية يدل على ان المسئول هو الامام عليه السّلام. و الى هذه الجهة اشار بقوله: ( (لا سيما مع هذا الاهتمام)).

ص: 381

و تقريب الاستدلال بها أنه لا ريب في ظهور قوله عليه السّلام: و إلا فإنه على يقين .. إلى آخره عرفا في النهي عن نقض اليقين بشي ء بالشك فيه، و أنه عليه السّلام بصدد بيان ما هو علة الجزاء المستفاد من قوله عليه السّلام: لا في جواب فإن حرك في جنبه .. إلى آخره، و هو اندراج اليقين و الشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية غير المختصة بباب دون باب (1)، و احتمال أن يكون الجزاء هو قوله: فإنه على يقين .. إلى آخره

______________________________

فاتضح من مجموع ما ذكرنا و ما اشار المصنف ان الاضمار في هذه الصحيحة غير قادح.

(1) لا يخفى ان الاستدلال بهذه الصحيحة على الاستصحاب هو في الفقرة الاخيرة و هي قوله عليه السّلام: و إلّا فانه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين بالشك ابدا، و لكنه ينقضه بيقين آخر.

و توضيح الاستدلال بها: ان قوله عليه السّلام (و إلّا ...) الى آخر الجملة، هي قضية شرطية مشتملة على الشرط و الجزاء، و الشرط هو المستفاد من قوله عليه السّلام و إلّا: أي و ان يستيقن انه قد نام. و اما الجزاء فالمحتملات التي اشار اليها المصنف في المتن ثلاثة:

الاحتمال الاول: ان الجزاء محذوف، و قوله فانه على يقين من وضوئه ... الى آخر قوله و لا ينقض اليقين بالشك هو العلة للجزاء المحذوف، و قد اقيمت العلة مقام المعلول الذي هو الجزاء المحذوف، و يكون التقدير و ان لم يستيقن انه قد نام فلا يجب الوضوء، لانه على يقين من وضوئه، و لا ينقض اليقين بالشك.

و المتحصل من ذلك: هو كون العلة المذكورة عبارة عن صغرى هي انه على يقين من وضوئه، و كبرى مستفادة من قوله و لا ينقض اليقين بالشك، و مرجع التعليل في هذا الكلام ان الرجل على يقين من وضوئه، و كل من كان على يقين من وضوئه لا ينقضه بالشك، لان اليقين لا ينقض بالشك، فالرجل ان لم يستيقن انه قد نام لا يجب عليه الوضوء، لانه من نقض اليقين بالشك. و على هذا الاحتمال يكون

ص: 382

.....

______________________________

جملة انه على يقين من وضوئه جملة خبرية، و هي و ما بعدها العلة للجزاء المحذوف، و هو عدم وجوب الوضوء. و لا يخفى ان الظاهر من قوله و لا ينقض اليقين بالشك انه هو العلة لعدم نقض الرجل يقينه بالوضوء بشكه في النوم، و من الواضح ان التعليل بهذه القضية هو التعليل بقضية ارتكازية، و لازم ارتكازية هذه القضية كونها كلية غير مختصة بباب اليقين بالوضوء و الشك فيه، و لا بالشك فيه من حيث النوم، لوضوح ان القضية الارتكازية هو عدم رفع اليد عن اليقين، لانه من نقض اليقين بالشك فيه، فلا خصوصية ليقين دون يقين و لا لشك دون شك، فلا اختصاص لها بخصوص باب اليقين و الشك في الوضوء، و لا بخصوص الشك فيه من حيث النوم، فانه بناء على الاختصاص بخصوص الشك من حيث النوم لا يستفاد منها الاستصحاب في باب الوضوء اذا كان الشك من غير ناحية النوم، و بناء على اختصاصها بخصوص باب اليقين و الشك في الوضوء لا يستفاد منها الاستصحاب في غير باب الوضوء، إلّا ان كون القضية ارتكازية يمنع عن هذين التوهمين، لما عرفت من ان الارتكاز هو لليقين بما هو يقين لوثاقته، و لاجلها لا يرفع اليد عنه لاجل الشك، و عليه فالمستفاد منها قضية كلية تشمل كل يقين و شك.

و منه يتضح: ان الالف و اللام في اليقين و الشك هما للجنس لا للعهد، فانها لو كانت عهدية لكان المراد منهما خصوص اليقين بالوضوء و الشك فيه، و هو ينافي كون القضية ارتكازية.

بل يمكن ان يقال: انه على فرض كون اللام عهدية فلا بد من رفع اليد عن احتمال الخصوصية، و هي كون المتعلق لليقين هو الوضوء، لان كون التعليل بقضية ارتكازية مفروغا عنها عند العقلاء- و هو الاخذ باليقين لوثاقته- يوجب الغاء الخصوصية، و عدم دخل المتعلق بما هو متعلق في القضية الارتكازية، بل هي مربوطة باليقين بما هو يقين لوثاقته، و حيث كانت ارتكازية القضية مما لا ريب فيها

ص: 383

.....

______________________________

و ظهور التعليل في كونه تعليلا بهذه القضية الارتكازية يكون قرينة على رفع الخصوصية، لانه اقوى من ظهور الخصوصية لو كان للخصوصية ظهور.

و مما ذكرنا يظهر ايضا الجواب عما يقال: بان احتمال دخل الخصوصية و ان لم يكن لها ظهور في الدخالة لكنه يجعل الكلام من المحفوف بمحتمل القرينية، و لا بد فيه من الاقتصار على القدر المتيقن، و القدر المتيقن ان لم يكن هو الاستصحاب في خصوص مورد الشك في الوضوء للنوم، فلا اقل من كونه مختصا بباب الوضوء ..

و وجه ظهور الجواب عنه ما مر من ظهور التعليل بالقضية الارتكازية، فانه يوجب عدم كون الكلام من المحفوف بمحتمل القرينية، بل الكلام يكون ظاهرا في ان التعليل للمضي على الوضوء و عدم نقضه بالشك لاجل اليقين و وثاقته بذاته و هو الامر الارتكازي المفروغ عنه. و قد اشار (قدس سره) الى ان مدخول الفاء هو علة للجزاء المحذوف اقيمت مقامه بقوله: ( (و انه عليه السّلام بصدد بيان ما هو علة الجزاء)) المحذوف ( (المستفاد من قوله عليه السّلام لا)) الواقعة ( (في جواب)) سؤال زرارة بقوله: ( (فان حرك في جنبه)) شي ء و هو لا يعلم.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 7 ؛ ص384

الحاصل: ان زرارة سأل عما يكشف عن تحقق النوم، بان التحريك في جنب الرجل و هو لا يعلم به هل يكشف عن نومه فيجب عليه الوضوء؟ فاجابه الامام عليه السّلام بقوله لا: أي انه لا يجب عليه الوضوء و ان كان لا يعلم بما حرك في جنبه.

و المستفاد من قول الامام عليه السّلام لا الجزاء المحذوف و هو لا يجب الوضوء، و العلة فيه كون الرجل على يقين من الوضوء و لا ينقض اليقين بالشك. و قد اشار الى ان المستفاد من هذا التعليل هو حجية الاستصحاب مطلقا و لا يرفع اليد عن أي يقين بالشك فيه، من دون خصوصية لليقين بالوضوء او لخصوصية الشك فيه من جهة النوم لكون التعليل بالقضية الارتكازية بقوله: ( (و هو اندراج اليقين و الشك ... الى آخر الجملة)).

ص: 384


1- 37. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

غير سديد، فإنه لا يصح إلا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه، و هو إلى الغاية بعيد (1)، و أبعد منه كون الجزاء قوله: لا ينقض .. إلى آخره

______________________________

(1) هذا هو المحتمل الثاني الذي اشار اليه في المتن، و هو كون الجزاء ليس بمحذوف، و انه هو نفس قوله: فانه على يقين من وضوئه، بان يراد من هذه الجملة هو الانشاء باطلاق الجملة الخبرية، و ارادة الانشاء بها اما من باب الكناية او من باب المجاز كقوله عليه السّلام: يعيد و يغتسل المراد بهما اعد و اغتسل.

و الحاصل: انه يراد من قوله ك فانه على يقين وضوئه هو انشاء ايجاب العمل حال الشك على طبق يقينه السابق.

و لا يخفى بعد هذا الاحتمال، لان حمل الجملة الخبرية على الانشاء خلاف الظاهر، انما يصار اليه حيث لا يمكن ابقاؤها على ظاهرها من كونها خبرية، و قد عرفت عدم المانع من ابقاء ظهورها على الخبرية و كونها من باب اقامة العلة للجزاء مقام الجزاء المعلول لها.

و الحاصل: ان قوله: (فانه على يقين من وضوئه) اما ان يكون من باب اقامة العلة للجزاء مقام الجزاء كما في المحتمل الاول. و اما ان يكون تمهيدا للجزاء، و يكون الجزاء قوله (و لا ينقض) كما هو مبنى المحتمل الثالث الذي سيأتي الاشارة اليه، و انه أبعد الاحتمالات. و اما ان يكون هو بنفسه الجزاء، و لا يصح كونه بنفسه جزاء الا بالتأويل لها بالانشاء كما هو مبنى هذا المحتمل الثاني. و اما كونه بنفسه جزاء من دون تأويل كما ذكره احتمالا آخر في الحاشية فهو غير صحيح كما بينه هناك، لان الجزاء مما له ترتب على الشرط، و الشرط هو المستفاد من قوله و إلّا و هو ان لم يستقن انه قد نام، و من الواضح انه لا يترتب على عدم الاستيقان بالنوم كونه على يقين من وضوئه سابقا، لجواز ان لا يكون مستيقنا بالنوم، و لا يكون ايضا على يقين من وضوئه السابق لتبدل يقينه فيما بعد باليقين بعدم الوضوء، فلا يكون الجزاء مما يترتب على الشرط، فينحصر كون قوله (فانه على يقين من وضوئه) جزاء بالتأويل

ص: 385

و قد ذكر فإنه على يقين للتمهيد (1).

______________________________

بالانشاء، و لذا قال (قدس سره): ( (و احتمال ان يكون الجزاء هو)) نفس ( (قوله فانه على يقين ... الخ)) و لا يكون الجزاء محذوفا فهو احتمال ( (غير سديد)) لما عرفت من انحصار كون نفس قوله (فانه على يقين من وضوئه) جزاء بتأويله بالانشاء، و الى هذا اشار بقوله: ( (فانه لا يصح إلّا بارادة لزوم العمل على طبق يقينه)) بتأويل كون المراد من قوله (فانه على يقين من وضوئه) الى انشاء الامر ببقاء الوضوء الذي مرجعه الى عدم وجوب الوضوء، و قد عرفت ايضا بعد هذا الاحتمال، و اليه اشار بقوله:

( (و هو الى الغاية بعيد)).

(1) هذا هو المحتمل الثالث المشار اليه في المتن، و هو ان يكون قوله: (فانه على يقين من وضوئه) ليس جزاء و لا علة للجزاء، بل تمهيدا للجزاء، و الجزاء هو قوله (و لا ينقض اليقين بالشك)، و يكون تقدير الكلام على هذا انه ان لم يستقن انه قد نام حيث انه على يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين بالشك. و لا يخفى ان هذا بعيد جدا مخالف لما عليه استعمالات اهل اللسان، فان مدخول الفاء اما ان يكون جزاء بنفسه او قائما مقام الجزاء، و اما ان يكون تمهيدا لجزاء مذكور بعده فلا يساعد عليه مبنى الاستعمالات في مقام الجزاء و الشرط، فانه اذا كان الغرض منه التمهيد لا يكون مدخولا للفاء، و ينبغي ان يقول هكذا: و إلّا حيث انه على يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين.

مضافا الى مناف آخر و هو عدم صحة عطف ما هو الجزاء بالواو على مدخول الفاء مع فرض كونه ليس بجزاء، و لذا قال (قدس سره): ( (و ابعد منه)) أي ابعد من المحتمل الثاني هذا الثالث و هو ( (كون الجزاء قوله لا ينقض ... الخ و قد ذكر فانه على يقين للتمهيد)) لبعد كون مدخول الفاء ليس بجزاء و لا قائما مقامه، و بعد عطف الجزاء بالواو على ما هو غير جزاء بل هو تمهيد للجزاء.

ص: 386

و قد انقدح بما ذكرنا ضعف احتمال اختصاص قضية: لا تنقض ..

إلى آخره باليقين و الشك في باب الوضوء جدا، فإنه ينافيه ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي لا تعبدي قطعا (1)، و يؤيده تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء في غير هذه الرواية بهذه القضية أو ما يرادفها، فتأمل جيدا (2).

______________________________

ضعف دعوى اختصاص الاستصحاب المستفاد من الصحيحة بباب الوضوء

(1) الظاهر ان وجه انقداح ضعف احتمال اختصاص الاستصحاب المستفاد من هذه الصحيحة بباب الوضوء، او بخصوص ما اذا كان الشك فيه ناشئا من النوم، من جهة كون قضية لا ينقض ارتكازية، و كل قضية ارتكازية كلية، و هناك ملازمة بينهما .. و منه يظهر انه لو بنينا على المحتمل الثاني و المحتمل الثالث لما كان ذلك موجبا للاختصاص المذكور ايضا، لان ظهور هذه القضية في كونها ارتكازية يمنع عن الاختصاص، سواء كان الجزاء محذوفا او كان الجزاء هو نفس قوله (فانه على يقين من وضوئه) بتأويله بالانشاء، او كان الجزاء نفس قضية (لا ينقض) و قوله (فانه على يقين من وضوئه) للتمهيد، لوضوح عدم منافاة جميع المحتملات لكون القضية ارتكازية، و مع كونها ارتكازية فلا بد من تعميم الاستصحاب المستفاد من هذه الصحيحة، و لا بد من كون اللام في اليقين و الشك للجنس، لا للعهد ليدعي كونه قرينة على الاختصاص، و لا تكون مجملة ليكون الكلام من المحفوف بمحتمل القرينية.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (فانه ينافيه)) أي فان الاختصاص ( (ينافيه ظهور التعليل)) في القضية ( (في انه)) تعليل ( (بامر ارتكازي لا)) بأمر ( (تعبدي)) فانه بناء على الاختصاص يكون بلا تنقض تعليل بأمر تعبدي لا ارتكازي.

قوله: ( (قطعا)) هذا من متعلقات قوله ينافيه، و تقدير الكلام ان الاختصاص ينافيه قطعا ظهور التعليل في انه بأمر ارتكازي.

(2) حاصل هذا التأييد ان هذه القضية وردت بلفظها كما في صحيحة زرارة الثانية و الثالثة الآتيتين، و ليس موردهما مورد تعلق اليقين و الشك بالوضوء، و وردت هذه

ص: 387

هذا مع أنه لا موجب لاحتماله إلا احتمال كون اللام في اليقين للعهد، إشارة إلى اليقين في فإنه على يقين من وضوئه (1) مع أن الظاهر أنه

______________________________

القضية بمضمونها كما في خبر الصفار و غيره، و هذا مما يقضي بان الوضوء في المقام من مصاديق هذه القضية و انها قضية كلية ارتكازية تشمل الوضوء و غيره. و لعل الوجه في ذكر هذا تأييدا هو ان الكلام فيما يستفاد من هذه الصحيحة، فاذا كان في هذه الصحيحة ما يكون قرينة على الاختصاص، او ما يجعل الكلام من المحفوف بمحتمل القرينية، فلا تكون هذه الصحيحة دالة على التعميم، و يكون التعميم من هذا اللفظ الوارد في غيرها لعدم قرينة هناك توجب التخصيص.

و بعبارة اخرى: ان كون هذا الكلام دالا على التعميم في غير هذه الرواية لا يستلزم دلالتها على التعميم في هذه الرواية، مع فرض وجود ما يقضي بالاختصاص، او الاجمال في هذه الرواية، و عبارة المتن واضحة.

(1) حاصله: ان مبنى دعوى الاختصاص بباب الوضوء، و ان الاستصحاب المستفاد من هذه الصحيحة هو عدم جواز نقض اليقين بالوضوء بالشك فيه، فلا يكون المستفاد منها الاستصحاب في غير باب الوضوء- هو كون اللام في اليقين في قوله و لا ينقض اليقين بالشك عهدية لا للجنس.

و بعبارة اخرى: ان تقدم قوله: ( (فانه على يقين من وضوئه)) على قوله: ( (و لا ينقض اليقين بالشك)) يقتضي كون اللام للاشارة الى خصوص هذا اليقين المتقدم، و هو اليقين بالوضوء، كاللام في قوله تعالى: أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ 38] فاليقين بالوضوء لما كان معهودا بالذكر فاللام في قوله لا ينقض اليقين تكون اشارة الى هذا المعهود، و اذا كانت اللام عهدية كان المستفاد منها هو الاستصحاب في خصوص باب الوضوء، بخلاف ما اذا كانت اللام في لا ينقض

ص: 388

للجنس، كما هو الاصل فيه، و سبق: فإنه على يقين .. إلى آخره لا يكون قرينة عليه، مع كمال الملاءمة مع الجنس أيضا (1)،

______________________________

اليقين للجنس فان اليقين بالوضوء يكون احد مصاديقها، فيكون المستفاد من الصحيحة الاستصحاب مطلقا في باب الوضوء و غيره. و الى ما ذكرنا اشار بقوله:

( (مع انه لا موجب لاحتماله)) أي لا موجب لاحتمال الاختصاص بباب الوضوء ( (إلّا احتمال كون اللام في اليقين)) في لا تنقض ( (للعهد)) لا للجنس لانها تكون ( (اشارة الى اليقين)) المتقدم ( (في)) قوله ( (فانه على يقين من وضوئه)) و اذا كانت اللام عهدية مشارا بها الى خصوص اليقين بالوضوء تكون دالة على الاستصحاب في خصوص باب الوضوء.

(1) حاصله: انه لا وجه لهذا الاحتمال و هو احتمال العهدية في اللام مع كونها للجنس.

و توضيح ذلك: ان الاصل في اللام الداخلة على اسم الجنس كونها للجنس لا للعهد، و حملها على العهد خلاف الظاهر، و لا يرفع اليد عن هذا الاصل بحملها على العهد الا حيث لا يمكن ارادة الجنس منها، و متى امكن ارادة الجنس منها لا بد من التحفظ عليه لانه الاصل في هذه اللام، و تقدم قوله فانه على يقين من وضوئه لا يقتضي رفع اليد عن هذا الاصل، لانه يلائم كون اللام جنسية و ان اليقين بالوضوء المتقدم هو من باب احد مصاديق اليقين، و ليس لتعلقه بالوضوء خصوصية، لما عرفت من كون الظاهر هو التعليل بالقضية الارتكازية المقتضية لذلك، فلا يكون تقدم اليقين موجبا لاحتمال كون اللام عهدية. نعم لو كان قوله فانه على يقين ينافي كون اللام في قوله لا ينقض اليقين للجنس لكان ذلك قرينة موجبة لحمل اللام على ان تكون عهدية و سببا للخروج عما هو الاصل في هذه اللام، و لكنك قد عرفت ملاءمة كون اللام للجنس، فلا موجب لرفع اليد عما هو الاصل في هذه اللام، و لذا قال (قدس سره): ( (مع ان الظاهر انه للجنس)) أي لا وجه

ص: 389

فافهم (1).

مع أنه غير ظاهر في اليقين بالوضوء، لقوة احتمال أن يكون من وضوئه متعلقا بالظرف لا ب (يقين)، و كان المعنى: فإنه كان من طرف وضوئه على يقين، و عليه لا يكون الاصغر إلا اليقين، لا اليقين بالوضوء، كما لا يخفى على المتأمل (2).

______________________________

لاحتمال كون اللام في اليقين في لا تنقض للعهد مع ان الظاهر انه للجنس ( (كما هو الاصل فيه)) اي كما هو الاصل في اللام الداخلة على اسم الجنس ( (و سبق)) قوله ( (فانه على يقين ... الخ لا يكون قرينة عليه)) أي لا يكون تقدم قوله انه على يقين قرينة على حمل اللام على العهد إلّا اذا كان ذلك منافيا لبقائها على ما هو الاصل و هو كونها للجنس، و قد عرفت عدم المنافاة ( (مع)) هذا الاصل في اللام، بل لقوله فانه على يقين ( (كمال الملاءمة مع الجنس ايضا)).

(1) لعله اشارة الى ما يمكن ان يقال ان ملاءمتها مع الجنس مع ملاءمتها للعهد لا يقتضي ظهورها في الجنس- الذي هو المطلوب فان عليه يتوقف ظهور الصحيحة في حجية الاستصحاب مطلقا- لان الكلام يكون من المحفوف بمحتمل القرينية فيكون مجملا من ناحية افادة الاطلاق.

فانه يقال: ان ظهور القضية في كونها ارتكازية يجعلها ظاهرة في الاطلاق، و عدم كون الكلام من المحفوف بمحتمل القرينية.

(2) توضيحه: كون اللام عهدية لا يوجب الاختصاص إلّا اذا كان (من وضوئه) متعلقا باليقين في قوله: (فانه على يقين من وضوئه)، لان المشار اليه باللام في قوله لا ينقض اليقين يكون هو اليقين المتقدم المتعلق للوضوء، اما اذا كان من وضوئه ليس متعلقا باليقين بل متعلقا بالظرف فاللام و ان كانت عهدية إلّا انها لا تفيد الاختصاص، لان المشار اليه يكون هو اليقين المطلق غير المتعلق للوضوء، فلا موجب للاختصاص.

ص: 390

.....

______________________________

و بيان ذلك: ان اليقين مما يتعدى بطبعه بالباء فيقال تيقنت بكذا، و الذي يتعدى بمن هو الظرف أي متعلق الظرف و هو متعلق (على)، فان الظرف ظرف مستقر و هو الذي يكون متعلقه محذوفا، فان (على) التي هي الظرف الجار متعلقها الاستقرار المحذوف، و التقدير فانه استقر على يقين، و هو الذي يتعدى بطبعه بمن، و يكون التقدير فانه استقر من وضوئه على يقين، و على هذا فلا يكون اليقين مقيدا بالوضوء ليلزم من كون اللام عهدية الاختصاص، فانه اذا كان اليقين غير مقيد بالوضوء و يكون (من وضوئه) متعلقا بالاستقرار لا باليقين لا يكون اليقين المشار اليه مقيدا، فلا وجه لاحتمال الاختصاص. و لما كان حرف الجر (من) المناسب لكون متعلقه الاستقرار الذي يتعدى بطبعه بمن دون اليقين الذي يتعدى بطبعه بالباء، كان الظاهر ان (من وضوئه) ليس متعلقا بيقين، فيكون المشار اليه- بناء على العهد- هو اليقين المجرد لا المقيد بالوضوء، و هو الصغرى للكلية في قوله و لا ينقض اليقين بالشك.

و المتحصل من ذلك: انه ان لم يستيقن بانه قد نام فلا يجب عليه الوضوء، لانه استقر من جهة وضوئه على يقين، و لا ينقض اليقين بالشك، و يكون المستفاد منها- بناء على العهد- ايضا حجية الاستصحاب مطلقا و عمومه لكل يقين سابق لحقه الشك. و الى ما ذكرنا اشار بقوله: ( (مع انه غير ظاهر في اليقين بالوضوء)) أي ليس الظاهر كون (من وضوئه) متعلقا باليقين حتى يوجب الاختصاص ( (لقوة احتمال ان يكون من وضوئه متعلقا بالظرف)) أي بمتعلق الظرف و هو الاستقرار المتعلق به على ( (لا)) ان يكون (من وضوئه) متعلقا ( (بيقين و كان المعنى)) بناء على هذا ( (فانه كان من طرف وضوئه على يقين و عليه لا يكون الاصغر الا اليقين)) المجرد ( (لا اليقين بالوضوء)) و اذا كان الاصغر لقوله (و لا ينقض اليقين بالشك) هو اليقين المجرد من التقييد بالوضوء، فيكون المستفاد من هذه الكبرى الكلية المنطبقة على الصغرى التي كان اليقين فيها مجردا غير مقيد هو حجية الاستصحاب لكل يقين سابق تعقبه الشك.

ص: 391

و بالجملة: لا يكاد يشك في ظهور القضية في عموم اليقين و الشك، خصوصا بعد ملاحظة تطبيقها في الاخبار على غير الوضوء أيضا (1).

ثم لا يخفى حسن اسناد النقض- و هو ضد الابرام- إلى اليقين، و لو كان متعلقا بما ليس فيه اقتضاء البقاء و الاستمرار، لما يتخيل فيه من الاستحكام بخلاف الظن، فإنه يظن أنه ليس فيه إبرام و استحكام و إن كان متعلقا بما فيه اقتضاء ذلك، و إلا لصح أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له، مع ركاكة مثل (نقضت الحجر من مكانه) و لما صح أن يقال: (انتقض اليقين باشتعال السراج) فيما إذا شك في بقائه للشك في استعداده، مع بداهة صحته و حسنه (2).

______________________________

الاستدلال على مختار المصنف (قده) و هو حجية الاستصحاب مطلقا

(1) حاصله: ان التأمل في هذه الصحيحة بعد الاحاطة بما مر لا يكاد معه يشك في ظهور قوله (و لا ينقض اليقين بالشك) في عمومه لكل يقين و شك، و لا اختصاص له باليقين بالوضوء خصوصا بعد ورود هذه القضية بلفظها مطبقة على غير اليقين بالوضوء كما في الصحيحة الثانية و الثالثة كما مر بيان ذلك في التأييد المتقدم.

(2) هذا شروع في الاستدلال على مختارة من كون الاستصحاب مطلقا حجة، من دون اختصاص له فيما اذا كان الشك في الرافع دون ما اذا كان الشك في المقتضي- على ما سيأتي الاشارة اليه- كما هو مختار الشيخ الاعظم وفاقا للمحقق الخونساري حيث خصا حجية الاستصحاب بخصوص الشك من جهة الرافع دون المقتضي.

و حاصل ما اشار اليه المصنف من كون المستفاد من القضية في الصحيحة من قوله عليه السّلام و لا ينقض اليقين بالشك هو حجية الاستصحاب مطلقا سواء كان الشك من جهة الرافع او من جهة المقتضى، و ذلك لان المدار فيها على كون رفع اليد عن اليقين السابق بالشك اللاحق مما يصدق عليه انه نقض لليقين بالشك. و حيث لا فرق في صدق هذه القضية بين كون الشك من جهة الرافع او من جهة المقتضى فلا مناص من الالتزام بعموم حجية الاستصحاب لها و لا وجه لاختصاصه بخصوص الرافع.

ص: 392

.....

______________________________

و توضيح ذلك: ان النقض يقابل الابرام، و الابرام في اللغة هو من البرم و الفتل، و هو جعل الحبل ذا هيئة تماسكية تكون في اجزائه من اندماج بعضها ببعض بسبب فعل المبرم و الفاتل للحبل، فان كان النقض هو الفتور الذي يكون في الحبل بعد ذهاب البرم و الفتل عنه كان التقابل بينهما تقابل التضاد، و ان كان النقض هو اعدام البرم و الفتل كان التقابل بينهما من تقابل العدم و الملكة، و لا يكون من تقابل التضاد لان التضاد تقابل الامرين الوجوديين، و لا يكون من تقابل السلب و الايجاب، لوضوح عدم ارتفاع تقابل السلب و الايجاب عن أي شي ء، و النقض و الابرام يرتفعان عما لا نقض له و لا ابرام. و على كل فالنقض و الابرام الحقيقي هو ما يكون في مثل الحبل و الغزل، كما في قوله تعالى: كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً(1) و النقض و الابرام بالنسبة الى اليقين و المتيقن لا يصح اسنادهما بنحو الحقيقة، و انما يصح بنحو المجاز، و حيث ان الابرام ذاتية الإحكام فالاستعمال مجازا لا بد ان يكون بملاحظة الإحكام الملحوظ في اليقين باعتبار وثاقته و إحكامه بالذات، لا في المتيقن و ان كان فيه إحكام إلّا ان إحكامه من جهة اليقين، و لذا اسند النقض في القضية في قوله عليه السّلام و لا ينقض اليقين بالشك. و وثاقة اليقين بما هو يقين لا يختلف الحال من جهة الشك فيه سواء كان من ناحية الرافع أو المقتضي.

و الذي يدلك على ان الإحكام في المتيقن ليس هو الملحوظ في القضية، هو انه لو كان الظن هو المتعلق لا يصح اسناد النقض، و ان كان متعلق الظن فيه إحكام ...

و يدل على ذلك ايضا انه من الاستعمال المناسب قولك نقضت البناء لما فيه من الإحكام، و من الاستعمال الركيك غير المناسب قولك نقضت الحجر من مكانه حيث يراد رفعه عن مكانه، لان رفع الحجر انما يكون للهيئة المكانية التي هي من مقولة

ص: 393


1- 39. ( 1) النحل: الآية 92.

.....

______________________________

الأين، و ليس في نفس هذه المقولة بما هي وثاقة و إحكام، و ان كان نفس الحجر فيه وثاقة و احكام يقتضي البقاء في مكانه لو لم يرفع، و لذلك من الاستعمال المناسب قولك نقضت الحجر حيث يراد بنقضه كسره و تقطيعه.

فظهر مما ذكرنا: ان المدار على ما هو الملحوظ من المناسبة، فحيث كان الملحوظ في قولك نقضت الحجر من مكانه هو المقولة التي لا وثاقة فيها بنفسها كان الاستعمال ركيكا، و ان كان الحجر بنفسه له وثاقة و إحكام من ناحية انه لو لم يرفع لكان له اقتضاء البقاء، بخلاف قولك نقضت الحجر بمعنى كسرته فانه من الاستعمال المناسب لان الملحوظ فيه جهة وثاقة الحجر لا جهة المقولة، فالمدار على ما هو الملحوظ سببا مصححا للاستعمال، و هو في المقام وثاقة اليقين دون المتيقن.

و يدل على ذلك- ثالثا- انه لو كان الملحوظ المتيقن لما حسن اسناد النقض الى اليقين، فيما اذا كان المتيقن ليس فيه وثاقة كما فيما اذا كان الشك من جهة المقتضي.

و الحاصل: ان الظاهر من قوله عليه السّلام و لا ينقض اليقين بالشك كون المصحح لهذا الاستعمال هو لحاظ وثاقة اليقين و إحكامه لا وثاقة المتيقن و إحكامه .. حتى يقال ان المتيقن، تارة يكون له وثاقة و إحكام فيما اذا كان الشك في بقائه من جهة عروض الرافع، فانه لو لا الرافع لكان باقيا فيكون جهة بقائه لها وثاقة و إحكام. و اخرى لا يكون للمتيقن له وثاقة إحكام كما اذا كان الشك فيه من جهة المقتضي، كما في بقاء السراج الذي يشك فيه لعدم استعداده للبقاء، فان مثل هذا المتيقن لا وثاقة فيه و لا إحكام، لما عرفت من عدم كون الملحوظ في مناسبة هذا الاستعمال هو وثاقة المتيقن، حتى يفرق فيه بين الشك من جهة الرافع و المقتضي، بل الملحوظ وثاقة اليقين الذي لا يفرق فيه من هاتين الجهتين. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: ( (لا يخفى حسن اسناد النقض و هو ضد الابرام)) بحسب الاصطلاح فيما اذا كان النقض بمعنى هيئة الفتور في الحبل بعد ارتفاع ابرامه، و بمعنى ما يشمل العدم و الملكة فيما اذا كان النقض عدم الابرام. و على كل فحسن اسناد النقض ( (الى اليقين)) لوثاقة اليقين

ص: 394

.....

______________________________

و إحكامه ( (و لو كان)) اليقين ( (متعلقا بما ليس فيه اقتضاء البقاء و الاستمرار)) كما فيما اذا كان الشك من جهة المقتضي، فالمدار في حسن اسناد النقض الى اليقين انما هو ( (لما يتخيل 40] فيه من الاستحكام)). في مقام الشك المتعقب له. و قد اشار الى ان الدليل على ان الملحوظ في القضية هو استحكام اليقين لا المتيقن بقوله: ( (بخلاف الظن فانه يظن انه ليس فيه ابرام و استحكام)) فيما اذا تعقبه الشك و لا يتخيل فيه الوثاقة و الاستحكام ( (و ان كان)) الظن ( (متعلقا بما فيه اقتضاء ذلك)) فظهر ان الملحوظ هو وثاقة اليقين دون المتيقن، و قد اشار الى الدليل الثاني بقوله: ( (و إلّا لصح ان يسند الى نفس ما فيه المقتضي له)) أي للاستحكام كالحجر فانه في نفسه له الاستحكام ( (مع)) وضوح ( (ركاكة مثل نقضت الحجر من مكانه)) أي رفعته، لا فيما اذا اريد من نقض الحجر كسره فانه لا ركاكة فيه .. و يدل على ان الملحوظ في حسن اسناد النقض هو وثاقة اليقين و استحكامه دون المتيقن انه يصح اسناد النقض و يحسن الى اليقين، فيقال انتقض اليقين فيما اذا كان الشك من جهة المقتضي، و لو كان المدار على المتيقن لما حسن اسناد النقض فيما اذا كان الشك من هذه الجهة، لعدم الاستحكام في المتيقن فيما اذا كان الشك في المقتضي. و الى هذا اشار بقوله:

( (و لما صح ان يقال انتقض اليقين باشتعال السراج فيما اذا شك في بقائه)) أي في بقاء السراج لا من جهة عروض مثل الهواء الرافع له، بل كان الشك في بقاء السراج ( (للشك في استعداده)) بنفسه للبقاء ( (مع بداهة صحته و حسنه)) كما عرفت فانه

ص: 395

و بالجملة: لا يكاد يشك في أن اليقين كالبيعة و العهد إنما يكون حسن إسناد النقض إليه بملاحظته لا بملاحظة متعلقه (1)، فلا موجب لارادة ما هو أقرب إلى الامر المبرم، أو أشبه بالمتين المستحكم مما فيه اقتضاء البقاء لقاعدة (إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى) بعد تعذر إرادة مثل ذاك الامر مما يصح إسناد النقض إليه حقيقة (2).

______________________________

يصح اسناد النقض و يحسن في مثل هذا الشك الى اليقين، و لو كان الملحوظ هو المتيقن لما حسن اسناد النقض اليه، لكون المفروض ان المتيقن لا وثاقة فيه و لا استحكام.

(1) حاصله: ان اليقين لما كان بنفسه فيه وثاقة و استحكام بذاته، مثل البيعة فان مبناها على الاستحكام، و لذا ناسب ان يكون محلها العنق، و انها كالعنق في المخالفة عليها، و لذا يقال لفلان بيعة في عنقي، و مثل وثاقة العهد فيما لو عاهد شخص شخصا على شي ء. و ظاهر القضية في قوله عليه السّلام: (و لا ينقض اليقين بالشك) هو اسناد النقض اليه، فلا موجب لمخالفة هذا الظاهر بعد ان كان في نفس اليقين من الوثاقة و الاستحكام ما يناسب اسناد النقض اليه بذاته لا من حيث متعلقه الذي هو المتيقن. و إلى هذا اشار بقوله: ( (انما يكون حسن اسناد النقض اليه)) أي الى اليقين ( (بملاحظته)) أي بملاحظة نفس ما في اليقين من الاستحكام ( (لا بملاحظة متعلقه)) الذي هو المتيقن و لا يخفى ان قول المصنف- و بالجملة- كتقديم لضعف مختار الشيخ الاعظم في اختصاص الاستصحاب بالشك من جهة الرافع دون ما اذا كان الشك من جهة المقتضي و انه غير مشمول لقضية لا تنقض.

(2) لا يخفى ان قوله: لإرادة ... الى آخر قوله حقيقة، هو نقل مضمون ما ذكره الشيخ مستدلا به على اختصاص حجية الاستصحاب بخصوص الشك في الرافع دون الشك في المقتضي. و توضيحه يتوقف على بيان امرين مرت الاشارة اليهما في طي الاستدلال لمختار المصنف:

ص: 396

.....

______________________________

الاول: ان الشك في بقاء ما كان ثابتا اذا كان من جهة احتمال عروض الرافع له فلا محالة يكون الشي ء الثابت سابقا مما له استعداد البقاء بنفسه لو لا عروض الرافع، كمثل مورد الصحيحة فان الوضوء له استعداد البقاء بنفسه لو لم يعرض النوم، و اذا كان الشك في بقاء الثابت من جهة المقتضي فلا بد و ان يكون ذلك فيما لم يحرز استعداد ما كان متحققا للبقاء، كالمثال الذي اشار اليه في المتن، و ذلك كما لو شك في بقاء السراج من جهة احتمال انتهاء مادة الشعال فيه، لا لعروض ما يطفئه كالهواء، و من الواضح في هذا المثال ان ما كان ثابتا سابقا لم يحرز استعداد بقائه في مقام الشك.

الثاني: ان النقض كما عرفت ضد البرم و هو حقيقة مما يختص بمثل الحبل و الغزل لا بمثل اليقين و المتيقن، فالنقض في الصحيحة ليس على وجه الحقيقة قطعا و هو جار على نحو المجاز، و لا بد في المجاز من كونه بملاحظة ما يناسب الحقيقة، و حيث ان المتيقن الذي له استعداد بذاته للبقاء له وثاقة و استحكام، بخلاف ما ليس له بذاته استعداد البقاء فانه ليس له وثاقة و استحكام، فالمناسب ان يكون ملاحظة استعمال النقض في المقام باعتبار ما كان الشك في الرافع لوثاقة ما كان ثابتا و استحكامه. اما ما ليس له استعداد البقاء فلا استحكام فيه حتى يناسب تعميم النقض له، و قد عرفت ان الشك اذا كان من جهة المقتضي لا يكون للمتيقن استعداد البقاء، فلا يكون له استحكام حتى يكون النقض في المقام شاملا له.

و بعبارة اخرى: ان ما ليس له استعداد البقاء هو مما ينتقض بذاته عند العرف فلا نقض له من ناقض، بخلاف ما كان له الاستعداد فانه مما لا ينتقض بذاته و لا يكون منقوضا الا لناقض ينقضه، فهو المناسب لان يكون رفع اليد عنه عند الشك نقضا له.

فاتضح: انه بعد تعذر الحقيقة في المقام لما عرفت من ان الحقيقة في النقض موردها مثل الحبل و الغزل لا اليقين و المتيقن، فلا بد من حمل الكلام المتعذر فيه

ص: 397

فإن قلت: نعم، و لكنه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقة، فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقن لما صح إسناد الانتقاض إليه بوجه و لو مجازا، بخلاف ما إذا كان هناك، فإنه و إن لم

______________________________

المعنى الحقيقي على اقرب المجازات الى المعنى الحقيقي، و قد عرفت ان أقرب الامور الى المعنى الحقيقي الذي يصح بمناسبته و اعتباره اسناد النقض هو المتيقن الذي له استعداد البقاء، لان الشك في بقائه انما يكون لاحتمال الرافع، فلذلك لا يكون المستفاد من الصحيحة الا حجية الاستصحاب في خصوص ما اذا كان الشك في الرافع.

و قد ظهر مما مر بيانه: ان ما ذكره الشيخ انما يتم حيث لا يمكن اسناد النقض في المقام باعتبار نفس اليقين كما هو ظاهر الصحيحة، فان ظاهرها انه باعتبار ما في نفس اليقين من الوثاقة و الاستحكام، و معه لا وجه لان يكون الاسناد بملاحظة المتيقن حتى يتم ما افاده الشيخ (قدس سره) و قد عرفت ان الاسناد اذا كان بملاحظة نفس اليقين فلا مانع من شموله للشك من جهة المقتضى كما مر بيانه مفصلا و لذا قال (قدس سره): ( (فلا موجب)) لاختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع ( (ل)) ما ذكره الشيخ من لزوم ( (ارادة ما هو اقرب الى الامر المبرم او اشبه بالمتين المستحكم مما فيه اقتضاء البقاء)) فانه هو الذي يكون اقرب الى الامر المبرم و بملاحظته يكون اسناد النقض ( (لقاعدة اذا تعذرت الحقيقة فاقرب المجازات اولى)) و حيث ليس اليقين و المتيقن من قبيل الحبل و الغزل فهو مما تعذرت الحقيقة فيه و ( (بعد تعذر ارادة مثل ذلك الامر)) الحقيقي ( (مما يصح اسناد النقض اليه حقيقة)) فيتعين ما هو الاقرب اليه و هو اسناد النقض باعتبار ما له اقتضاء البقاء الموجب للاختصاص بالشك في الرافع. و لكنه قد عرفت انه لا موجب لهذا بعد ان كان اليقين بنفسه مما فيه الاستحكام و المتانة، فلا وجه للعدول عما هو ظاهر الصحيحة من اسناد النقض اليه الى إسناده بملاحظة المتيقن حتى يتم ما ذكره الشيخ (قدس سره).

ص: 398

يكن معه أيضا انتقاض حقيقة إلا أنه صح إسناده إليه مجازا، فإن اليقين معه كأنه تعلق بأمر مستمر مستحكم قد انحل و انفصم بسبب الشك فيه، من جهة الشك في رافعه (1).

______________________________

(1) هذا وجه ثان لكون الاستصحاب مختصا بالشك بالرافع. و توضيحه يحتاج الى تمهيد مقدمة و هي: انه لا ريب في ان لليقين وثاقة و استحكاما يناسب اسناد النقض اليه، إلّا انه في المقام لا نقض لليقين حقيقة، و انما يصدق النقض لليقين حقيقة حيث يسري الشك الى اليقين، بان يشك في الزمان اللاحق شكا يسري الى اليقين السابق، كما لو تيقن بوجود زيد اليوم ثم شك في وجوده في غد على نحو يكون شاكا في وجوده امس كما هو مبنى قاعدة اليقين، و اما اليقين بالحدوث و الشك في البقاء فلا نقض فيه لليقين، لصحة اجتماع اليقين بالحدوث و الشك في البقاء حقيقة.

و حيث لا نقض لليقين حقيقة في المقام، و لا يعقل ان يكون المراد بالنقض في الصحيحة قاعدة اليقين، لانها قد طبقت على اليقين بالحدوث و الشك في البقاء، و لم يسر فيها الشك الى اليقين- فلا وجه لإرادة قاعدة اليقين بها في مورد اليقين بحدوث الوضوء و الشك في بقائه من جهة عروض بعض مراتب النوم.

اذا عرفت هذا ... فنقول: انه يتعين ان يكون المراد بها الاستصحاب، و لكنه حيث لا نقض هنا لليقين حقيقة فلا بد و ان يكون النقض للمتيقن حيث يكون الشك فيه من جهة الرافع، و الوجه في ذلك كما اشار اليه في المتن و فصله في حاشيته على الرسائل: ان المتيقن اذا كان له استعداد البقاء فاليقين بحدوثه يستلزم وجود اليقين ببقائه بنحو وجود المقبول في القابل، كوجود الانسان في النطفة فان للانسان وجودا في حال كونه نطفة من باب وجود المقبول بوجود القابل، فان النطفة حيث كان لها استعداد ان تكون انسانا فللإنسانية وجود فيها بهذا النحو من الوجود. و مثل ذلك اليقين بالمتيقن الذي له استعداد البقاء، فان اليقين بحدوثه يقين بحدوثه بالذات و ببقائه بالعرض بنحو نسبة المقبول الى القابل، لان وجود القابل وجود للقابل بالذات

ص: 399

.....

______________________________

و وجود للمقبول بالعرض، فاليقين السابق المتعلق بما له استعداد البقاء له نسبة الى الحدوث بالذات و الى البقاء بالعرض، لان ما له استعداد البقاء فله استعداد استمرار اليقين به بقاء، فاسناد النقض الى اليقين فيه انما هو بهذا اللحاظ.

فظهر مما ذكرنا: ان اسناد النقض الى اليقين انما هو بلحاظ المتيقن حيث يكون اليقين متعلقا بما له استعداد البقاء. اما ما ليس له استعداد البقاء فليس لليقين بالبقاء فيه نسبة تحقق المقبول في القابل .. و قد عرفت ان الشك من جهة المقتضي لازمه عدم تعلق اليقين حدوثا بما فيه استعداد البقاء، بخلاف الشك من جهة الرافع فان لازمه تعلق اليقين فيه حدوثا بما فيه استعداد البقاء.

و الحاصل: ان اسناد النقض الى ما ليس له استعداد البقاء ليس فيه ما يناسب النقض الحقيقي حتى يصح اسناد النقض باعتباره مجازا، و المجاز المصحح لاسناد النقض انما هو فيما اذا كان المتعلق لليقين حدوثا له استعداد البقاء .. و نتيجة ذلك انحصار حجية الاستصحاب بالشك في الرافع دون الشك في المقتضي. و قد اشار الى التمهيد المذكور و ان اليقين في باب الاستصحاب غير منتقض حقيقة فلا وجه لاسناد النقض اليه و ان له وثاقة و استحكاما و يتعين ان يكون اسناد النقض اليه باعتبار المتيقن بقوله: ( (نعم و لكنه حيث لا انتقاض ... الى آخر الجملة)) و اشار الى ان المتيقن الذي يناسب اسناد النقض فيه الى اليقين مجازا هو خصوص المتيقن الذي يكون الشك فيه من جهة الرافع و هو ما له استعداد البقاء بقوله: ( (فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقن)) الذي لازمه ان يكون الشك فيه من جهة الرافع ( (لما صح اسناد الانتقاض اليه بوجه)) اصلا ( (و لو مجازا)) لان اليقين بالحدوث فيه ليس له نسبة الى البقاء بالعرض كما عرفت، ( (بخلاف ما اذا كان هناك)) اقتضاء البقاء في المتيقن ( (فانه و ان لم يكن معه أيضا انتقاض)) لليقين بالحدوث ( (حقيقة إلّا انه صح اسناده اليه مجازا)) لان اليقين بالحدوث فيه بالذات له نسبة بالعرض الى البقاء، و اليه

ص: 400

قلت: الظاهر أن وجه الاسناد هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين و الشك ذاتا، و عدم ملاحظة تعددهما زمانا، و هو كاف عرفا في صحة إسناد النقض إليه و استعارته له، بلا تفاوت في ذلك أصلا في نظر أهل العرف، بينما كان هناك اقتضاء البقاء و ما لم يكن (1)،

______________________________

اشار بقوله: ( (فان اليقين معه)) أي مع اقتضاء البقاء في المتيقن ( (كأنه)) قد ( (تعلق بأمر مستمر مستحكم ... الى آخر الجملة)).

(1) لا يخفى ان عبارة المتن في مقام الجواب تحتمل وجهين: الاول: انه لم يلحظ في قضية لا تنقض اليقين بالشك عنوان اليقين بالحدوث و عنوان الشك في البقاء، المقتضي للحاظ تعدد الزمان ايضا من كون زمان اليقين السابق غير زمان الشك اللاحق، و ليس الملحوظ فيها الا كون الشك متعلقا بما تعلق به اليقين و ان متعلقهما واحد، و لاستحكام اليقين لا ينبغي ان يرفع اليد عنه بالشك. نعم لو كان الملحوظ في القضية عنوان الحدوث و البقاء المقتضي لتعدد الزمان لكان لما ذكر وجه، و حيث لم يلحظ ما يوجب الاثنينية و التعدد بل كان الملحوظ فيها هو اتحاد المتعلق فيهما لم يكن لما ذكر وجه، لانه لما كان الملحوظ اتحاد متعلقهما ففرض اتحاد متعلقهما فرض كون رفع اليد عن اليقين رفع يد عن نفس اليقين، و هو الوجه في اسناد النقض الى اليقين عند الشك، و انه مع فرض اتحاد المتعلق هو من نقض اليقين بالشك، و قد عرفت مساعدة العرف على صحة اسناد النقض الى اليقين بنحو الاطلاق، سواء كان متعلقا بما فيه اقتضاء البقاء، او لم يكن متعلقا به بان يكون متعلقا بما ليس له استعداد البقاء لوثاقة نفس اليقين و استحكامه عند العرف.

الوجه الثاني: ان مراد المصنف ان كون النقض ليس نقضا لليقين حقيقة انما هو حيث يتعدد الزمان في اليقين و الشك، لان اليقين الموجود في الزمان السابق لا ينتقض بالشك في الزمان اللاحق، اما لو حصل التغافل عن هذا عند اهل العرف فالشك يكون ناقضا لليقين عرفا لاتحاد متعلقهما، و العرف حيث تلقى عليه هذه

ص: 401

و كونه مع المقتضي أقرب بالانتقاض و أشبه لا يقتضي تعيينه لاجل قاعدة (إذا تعذرت الحقيقة)، فإن الاعتبار في الاقربية إنما هو بنظر العرف لا الاعتبار، و قد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله (1)،

______________________________

سؤال و جواب في المقام

القضية يفهم منها اتحاد المتعلق فيهما و يرى الشك ناقضا لليقين، و اذا كان الشك عند العرف نقضا لليقين فلا فرق فيه بين كون متعلقه ما فيه اقتضاء البقاء أو ما ليس فيه اقتضاء البقاء.

(1) يشير الى سؤال و جواب في المقام. و حاصل السؤال: انه و ان صح اسناد النقض الى اليقين باعتبار نفسه لوثاقته و استحكامه، إلّا انه يصح ايضا اسناده اليه باعتبار المتيقن، و اسناد النقض باعتبار المتيقن اقرب، لان المتيقن الذي له اقتضاء البقاء له وثاقة و استحكام، و لانه يصح الاسناد اليه و لو مع فرض التعدد من جهة الحدوث و البقاء فهو جامع للعنايتين، بخلاف الاسناد الى نفس اليقين فانه ليس فيه إلّا جهة واحدة، فلذا كان اسناد النقض باعتبار المتيقن اقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة.

و بالجملة: ان الاسناد باعتبار المتيقن الذي له اقتضاء البقاء مع وثاقته يصح الاسناد باعتباره لما مر ذكره في ان قلت، فهو اقرب لانه يصح فيه الاسناد باعتبار هاتين العنايتين، بخلاف الاسناد باعتبار اليقين نفسه فليس فيه إلّا عناية واحدة، و من الواضح ان ما فيه مجمع العنايتين يكون اقرب المجازات مما فيه عناية واحدة، و الحمل على اقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة من المسلمات المفروغ عنها.

و حاصل الجواب المشار اليه في المتن عن هذا السؤال: هو ان المدار في الاستعمالات المجازية على ما هو الاقرب بنظر العرف، و لما كانت العناية الثانية- التي مرت في ان قلت- عناية عقلية غير ملحوظة عند العرف فلم يبق الا الوثاقة و الاستحكام، و لما كانت الوثاقة و الاستحكام في نفس اليقين اقرب لمذاق العرف من وثاقة المتيقن الذي له اقتضاء البقاء، كان اللازم تنزيل الاستعمالات المجازية بعد تعذر الحقيقة على ما هو الاقرب عند العرف، و نتيجة ذلك اسناد النقض الى نفس اليقين

ص: 402

هذا كله في المادة (1).

و أما الهيئة، فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض بحسب البناء و العمل لا الحقيقة، لعدم كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار، سواء كان متعلقا باليقين- كما هو ظاهر القضية- أو بالمتيقن، أو بآثار اليقين بناء على التصرف فيها بالتجوز أو الاضمار، بداهة أنه كما لا يتعلق النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين،

______________________________

باعتبار وثاقته، و عليه فلا مانع من شمول قضية لا تنقض للشك في المقتضي ايضا.

و قد اشار الى حاصل السؤال بقوله: ( (و كونه مع المقتضى اقرب بالانتقاض اشبه)) أي و كون اسناد النقض الى المتيقن الذي له اقتضاء البقاء اقرب من اسناد النقض الى نفس اليقين باعتبار ذاته، لما عرفت من كونه جامعا للعنايتين. و اشار الى الجواب عنه بقوله: ( (لا يقتضي تعيينه)) لما ذكر من انه اذا كان جامعا للعنايتين يكون هو اقرب المجازات، و حينئذ لا بد من الحمل عليه ( (لاجل قاعدة اذا تعذرت الحقيقة)) فلا بد من الحمل على اقرب المجازات ( (فان)) ما ذكر موجبا للاقربية غير مسلم، لان ( (الاعتبار في الاقربية انما هو)) ما كان أقرب ( (بنظر العرف لا)) ما كان أقرب بحسب ( (الاعتبار)) العقلي، بل المدار على ما يراه العرف اقرب المجازات، و قد عرفت ان العرف يرى اسناد النقض الى نفس اليقين بلحاظ ذاته هو الاقرب عند العرف، و اذا كان هو الاقرب فلازمه هو حجية الاستصحاب مطلقا و ان كان الشك فيه من جهة المقتضي، لعدم التفاوت في نفس اليقين عند العرف بين ما كان الشك فيه لاجل الرافع او المقتضي، و اليه اشار بقوله: ( (و قد عرفت عدم التفاوت)) من ناحية المقتضي و الرافع ( (بحسب نظر اهله)) أي نظر اهل العرف.

(1) لا يخفى ان المراد من المادة هي النقض في قضية لا ينقض اليقين بالشك، و الكلام الذي تقدم كان كله في جهة اسناد النقض، و سيأتي الكلام من ناحية الهيئة و هي النهي في لا ينقض.

ص: 403

كذلك لا يتعلق بما كان على يقين منه أو أحكام اليقين (1)، فلا يكاد يجدي التصرف بذلك في بقاء الصيغة على حقيقتها، فلا مجوز له فضلا عن

______________________________

(1) الهيئة في قضية لا ينقض هو النهي المتعلق بالنقض، و مرجعه الى طلب الابقاء في ظرف الشك، و لا يعقل ان يكون المراد بالنهي عن النقض هو النهي عن النقض حقيقة، لان المطلوب عدم نقضه: اما اليقين، او احكام اليقين، او المتيقن، او احكام المتيقن. و لا سبيل الى ارادة واحد من هذه الاربعة:

اما اليقين فلا يعقل ان يكون المطلوب و المنهي عن نقضه هو اليقين بالحدوث، لانه اولا: ان المطلوب هو ابقاء اليقين لا حدوث اليقين. و ثانيا: ان طلب ابقاء اليقين بالحدوث في باب الاستصحاب من طلب الحاصل، و لا يعقل ان يكون المطلوب هو ايجاد يقين بالبقاء، لانه يقين أخر غير اليقين بالحدوث، فلا يكون تركه من النقض لليقين السابق حتى يكون منهيا عنه.

و اما احكام اليقين: بان النهي عن نقض اليقين النهي عن نقض احكام اليقين فهو واضح المحالية، لان احكام اليقين بما هي احكام ليست من فعل المكلف، و حيث لم تكن من فعله فليست امرا مقدورا له، فيكون النهي عن نقضها نهيا عن نقض أمر غير مقدور ... و الحاصل: ان الاحكام الشرعية لليقين و لغيره من افعال الشارع لا المكلف، فلا وجه لطلب الشارع النهي عن نقضها من المكلف.

و اما المتيقن بان يكون المراد من النهي عن نقض اليقين هو النهي عن نقض المتيقن، فان كان المتيقن نفس الحكم الشرعي فقد ظهر حاله مما مر من عدم معقولية النهي عن نقضه حقيقة من المكلف، و ان كان موضوعا لحكم شرعي فهو على نحوين: لانه تارة من الموضوعات الخارجة عن تعلق قدرة المكلف بها كالوقت مثلا و حال هذه النحو من الموضوع حال الحكم الشرعي في كون النهي عن نقضه نهيا عن غير المقدور، لان نقضه للمكلف غير مقدور. و اخرى يكون الموضوع مما يدخل تحت قدرة المكلف كالوضوء مثلا، و لكنه حيث كان الفرض فرض الشك فيها فهي ان

ص: 404

.....

______________________________

كانت باقية واقعا فلا وجه لطلبها و النهي عن نقضها لانه من طلب الحاصل، و ان كانت زائلة فلا محالة يكون مرجع الطلب الى طلب ايجادها ثانيا، و من الواضح ان وجودها ثانيا ليس من الابقاء لما كان.

و اما احكام المتيقن فحاله حال احكام اليقين.

فاتضح من جميع ما ذكرنا: ان النهي عن النقض حقيقة لا يعقل لا بالنسبة الى اليقين و لا بالنسبة الى المتيقن و لا بالنسبة الى احكامهما .. و بعد وضوح عدم امكان ارادة النهي عن النقض حقيقة، فلا بد و ان يكون المراد بالنهي عن النقض هو النهي عن النقض بحسب البناء و العمل، و مرجعه الى طلب البناء العملي على طبق ما كان، و لذا قال (قدس سره): ( (و اما الهيئة فلا محالة يكون المراد منها)) هو ( (النهي عن الانتقاض بحسب البناء و العمل لا)) بحسب ( (الحقيقة لعدم كون الانتقاض بحسبها)) أي بحسب الحقيقة ( (تحت الاختيار)) فيما اذا كان المنهي عن نقضه احكام اليقين أو احكام المتيقن او المتيقن الذي يكون خارجا عن قدرة المكلف كما مر تفصيله. و اما في غير هذه الامور فقد عرفت ان المانع عن النهي عن نقضها حقيقة غير ما ذكره من كونها ليست تحت الاختيار، فكون العلة في الجميع هو عدم القدرة لا يخلو عن تسامح. و على كل فلا يعقل ان يكون النهي عن النقض من النهي عن النقض حقيقة ( (سواء كان)) النهي ( (متعلقا باليقين كما هو ظاهر القضية)) في قوله عليه السّلام لا ينقض اليقين بالشك ( (او)) كان النهي متعلقا ( (بالمتيقن او بآثار اليقين بناء على التصرف فيها)) أي في القضية ( (بالتجوز او الاضمار)) فانه لو كان المراد النهي عن نقض المتيقن أو آثار اليقين فلا محالة من لزوم احد الامرين: اما التجوز باطلاق اليقين و ارادة المتيقن او آثار اليقين، او بالإضمار بان يكون التقدير لا تنقض متيقن اليقين او لا تنقض آثار اليقين. و على كل حال فلا يعقل النقض الحقيقي بالنسبة الى الجميع كما عرفت .. و لما كان اللازم الباطل عند المصنف في جميعها هو عدم دخول المنهي عنه تحت الاختيار أشار اليه بقوله: ( (بداهة انه كما لا يتعلق النقض الاختياري

ص: 405

الملزم، كما توهم (1).

______________________________

القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين كذلك لا يتعلق)) النقض الاختياري ( (بما كان على يقين منه)) أي بالمتيقن ( (او احكام اليقين)) فانه ايضا لا يتعلق النقض الاختياري بها.

التعريض بالشيخ الاعظم (قده)

(1) حاصله: التعريض من المصنف بالشيخ الاعظم، حيث استظهر من عبارة الشيخ انه لا مانع من النقض الحقيقي فيما اذا كان متعلقا بالمتيقن او باحكام اليقين، فلذلك اشار الى التعريض به بقوله: ( (فلا يكاد يجدي ... الخ)).

و حاصله: انه لا فرق في عدم امكان النقض الحقيقي بين كونه متعلقا باليقين او بالمتيقن او بآثار اليقين، فلا يجدي التصرف في اليقين بان يكون متعلق النهي عن النقض هو المتيقن أو آثار اليقين بالتجوز او الاضمار في دفع محذور تعلق النقض الحقيقي بهما، و حالهما حال اليقين في عدم امكان كون النقض بالنسبة اليهما من النقض الحقيقي.

و لا بد توضيحا للمقام من نقل عبارة الشيخ .. و نقول تمهيدا لبيان المطلب: ان الشيخ بعد ان بنى على ان النقض يختص بالشك في الرافع، لان ما له اقتضاء البقاء هو اقرب الاشياء الى الامر المبرم الى آخر بيانه و تفصيله ... قال الشيخ (قدس سره):

(ثم لا يتوهم الاحتياج الى تصرف في اليقين بارادة المتيقن منه، لان التصرف لازم على كل حال، فان النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلق بنفس اليقين على كل تقدير، بل المراد نقض ما كان على يقين منه و هو الطهارة السابقة او احكام اليقين)(1) ... انتهى المهم من كلامه (قدس سره) مما يتعلق بما نحن بصدده.

و توضيح مطلب الشيخ (قدس سره): انه ذكر ما يمكن ان يتوهم كونه ايرادا على مختاره من اختصاص الشك بالرافع، بان لازم كون الشك مختصا بالرافع لزوم رفع

ص: 406


1- 41. ( 1) فرائد الاصول: ج 2، ص 574( تحقيق عبد اللّه النوراني).

لا يقال: لا محيص عنه، فإن النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين و آثاره، لمنافاته مع المورد (1).

______________________________

اليد عن ظاهر القضية في اسناد النقض الى اليقين، و لا بد من التصرف فيه بارادة المتيقن، بخلاف ما اذا كان النقض مسندا الى نفس اليقين فانه لا يستلزم التصرف في ظاهر القضية، و إلى هذا اشار بقوله: ( (لا يتوهم الاحتياج الى تصرف في اليقين بارادة المتيقن منه)) ... و أجاب الشيخ عن هذا التوهم بقوله: لان التصرف لازم على كل تقدير، فان النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلق بنفس اليقين ... الى آخر عبارته. و حاصله: انه لا وجه لهذا التوهم لان التصرف في اليقين لا بد منه، لان النقض الاختياري لا يمكن ان يتعلق به. و من هذه العبارة استظهر المصنف ان الشيخ يرى ان تعلق النقض الحقيقي الاختياري بالمتيقن او احكام اليقين لا مانع منه، و انما لا يتعلق النقض الحقيقي الاختياري باليقين، فلذلك عرض به بقوله: ( (فلا يكاد يجدي التصرف بذلك)) أي لا يكاد يجدي التصرف بكون النقض متعلقا بالمتيقن أو باحكام اليقين اما بنحو التجوز او الاضمار ( (في)) دفع محذور تعلق النقض الحقيقي الاختياري بهما و ( (بقاء الصيغة على حقيقتها)) بل المحذور لازم على كل حال، سواء كان متعلقا باليقين او بالمتيقن او باحكام اليقين كما عرفت ( (فلا مجوز له)) أي فلا مجوز لهذا التصرف من هذه الناحية ( (فضلا عن الملزم كما توهم)).

(1) حاصله الاشارة الى اشكال يختص بخصوص اليقين. و بيانه: انه نسلم ان المراد من النهي المتعلق بالنقض هو طلب البناء و العمل على طبق ما كان، و لكن المراد من البناء العملي هو ترتيب الآثار على ما كان من اليقين في ظرف الشك، و اذا كان النقض مسندا الى اليقين لا الى المتيقن فلازم ذلك ترتيب ما لليقين من الآثار، و من الواضح ان اليقين الذي له الاثر هو اليقين الذي يكون تمام الموضوع او جزء الموضوع، و هو اليقين الموضوعي، و من البين ان مورد الصحيحة هو البناء العملي

ص: 407

فإنه يقال: إنما يلزم لو كان اليقين ملحوظا بنفسه و بالنظر الاستقلالي، لا ما إذا كان ملحوظا بنحو المرآتية و بالنظر الآلي، كما هو الظاهر في مثل قضية (لا تنقض اليقين) حيث تكون ظاهرة عرفا في أنها كناية عن لزوم البناء و العمل، بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما، و لحكمه إذا كان موضوعا، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل

______________________________

على ابقاء الطهارة و هي متعلق اليقين، و جل موارد الاستصحاب كذلك، فالمراد بالنهي عن النقض و ان كان هو البناء العملي إلّا انه لا بد من كون الذي يلزم البناء عليه هو متعلق اليقين، دون اليقين، فالتصرف في ظاهرها من اسناد النقض فيها الى نفس اليقين مما لا بد منه، بان يكون المراد من النهي عن النقض هو البناء العملي على ترتيب متعلق اليقين، فما ظاهره لزوم البناء العملي على اليقين لا بد من صرفه الى لزوم البناء العملي على المتيقن الذي هو المتعلق لليقين. و الى ما ذكرنا اشار بقوله:

( (لا يقال لا محيص عنه)) أي لا محيص عن كون المراد بالبناء العملي هو البناء عملا على طبق المتيقن فالتصرف مما لا بد منه، و الوجه في ذلك ما اشار اليه بقوله: ( (فان النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد يراد بالنسبة الى اليقين)) لان معنى البناء العملي هو ترتيب الآثار ( (و)) ليس المراد من لزوم ترتيب الآثار في الصحيحة ترتيب ( (آثاره)) أي ترتيب آثار اليقين ( (لمنافاته مع المورد)) لان مورد الصحيحة هو البناء العملي في مقام الشك على الطهارة، و الطهارة هي المتيقن و ليست الطهارة من آثار اليقين.

و الحاصل: ان اليقين الذي له الاثر هو اليقين الموضوعي، و هو غير مراد قطعا في قضية لا تنقض، بل المراد منها البناء العملي على ترتيب المتيقن، فلا محيص عن التصرف في ظاهرها.

ص: 408

لحكمه شرعا (1)، و ذلك لسراية الآلية و المرآتية من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلي، فيؤخذ في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه، مع عدم

______________________________

(1) و حاصل الجواب المشار اليه: هو ان الاشكال انما يتم فيما لو كان اليقين في القضية ملحوظا باللحاظ الاستقلالي، لا فيما اذا كان اليقين فيها ملحوظا باللحاظ الآلي.

و توضيحه: ان الواقع- مفعولا- في قضية لا تنقض اليقين هو مفهوم اليقين، و لا ريب ان مفهوم اليقين بما هو مفهوم اليقين لا اثر له، بل الاثر اما لما هو بالحمل الشائع يقينا، أو للمتيقن اما بنفسه حيث يكون المتيقن حكما، او حكمه فيما اذا كان المتيقن موضوعا لحكم. و على كل فمفهوم اليقين بما هو مفهوم لا اثر له، فهذا المفهوم الذي هو المفعول في القضية اما ان يراد به ما هو يقين بالحمل الشائع و هو نفس الانكشاف التام، او يراد به ما هو المنكشف بهذا الانكشاف و هو المتيقن. و اذا كان المراد به نفس الانكشاف يكون اليقين منظورا بالنظر الاستقلالي، اذ ليس مرادهم من الاستقلالية الا كون مفهوم الطبيعي مرادا به مصداق ذلك الطبيعي في الخارج. و اذا كان المراد به ما هو منكشف بهذا الانكشاف كان اليقين منظورا عندهم بالنظر الآلي، و وجه الآلية فيه ان كون المنكشف منكشفا تمام الانكشاف انما هو لحضوره بالحضور التام و اتصافه بهذه الصفة، و ليس الانكشاف الكامل و الحضور التام الا نفس اليقين، فمتعلق اليقين انما يكون واجدا لهذه الحالة بواسطة اليقين، و اليقين في هذه الحالة لا يكون الناظر له ناظرا اليه بما هو مصداق لطبيعي الانكشاف بل يكون منظورا اليه بما هو موجب لانكشاف متعلقه تمام الانكشاف، فاليقين صار طريقا لغيره، و لاجل هذا كان اليقين المنظور بهذا النظر منظورا بالنظر الطريقي الآلي عندهم لا الاستقلالي.

فاذا عرفت هذا ... فنقول: الظاهر ان المراد من البناء العملي في هذه القضية هو البناء العملي على ترتيب آثار اليقين الطريقي، و لا يكون ذلك الا البناء العملي على

ص: 409

.....

______________________________

المتيقن. و لا يخفى انه انما كان الظاهر من اليقين في المقام هو الطريقي لا الاستقلالي لانه قد صار للفظ اليقين و العلم و التبين و الظن ظهور ثانوي في ان المراد منها فيما اذا اخذت في دليل هو حيثية طريقيتها و آليتها لا استقلاليتها، نظير ظهور الامر الوارد في المعاملات في الارشاد الى صحة المعاملة.

لا يقال: ان نتيجة هذا الجواب ان المراد باليقين في القضية هو المتيقن، و هو خلاف ما مر من المصنف.

فانه يقال: فرق واضح بين كون المراد من اليقين هو المتيقن تجوزا او إضمارا، و بين كون المراد ترتيب آثار اليقين الطريقي في القضية، و ان كان مرجع هذه القضية المكنى بها عن البناء العملي هو البناء عملا على متعلق اليقين.

و بالجملة: ان المتحصل من المتن ان النهي عن النقض مسند الى اليقين، و هو كناية عن البناء العملي على ترتيب آثار اليقين الطريقي، و مآل طلب ترتيب آثاره- عملا- هو جعل الحكم المماثل لمتعلق اليقين السابق في ظرف الشك، لما سيأتي من ان المستفاد من دليل الاستصحاب عند المصنف هو جعل الحكم المماثل. فان كان متعلقه نفس الحكم كان المجعول في ظرف الشك حكما مماثلا للمتعلق، و ان كان متعلقه موضوعا ذا حكم كان المجعول حكما مماثلا للحكم الذي تعلق اليقين بموضوعه. و قد اشار (قدس سره) الى ان الاشكال انما يلزم فيما اذا كان اليقين في المقام ملحوظا باللحاظ الاستقلالي، و اما اذا كان اليقين ملحوظا باللحاظ الآلي الطريقي فلا يتم الاشكال، لان المراد من البناء العملي على طبقه هو البناء على طبق متعلقه بقوله:

( (انما يلزم لو كان اليقين ... الى آخر الجملة)). و اشار الى ان الظاهر من اليقين في القضية هو اليقين الطريقي للظهور الثانوي بقوله: ( (كما هو الظاهر في مثل قضية لا تنقض)). و اشار بقوله: ( (حيث تكون ظاهرة عرفا ... الى آخر الجملة)) الى ظهورين في هذه القضية: ظهور في كون المراد من اليقين هو اليقين الطريقي، و ظهور في كون المراد من النهي عن النقض انه كناية عن البناء العملي على طبق متعلق

ص: 410

دخله فيه أصلا، كما ربما يؤخذ فيما له دخل فيه، أو تمام الدخل (1)،

______________________________

اليقين. و اشار بقوله: ( (بالتزام حكم مماثل ... الى آخر الجملة)) الى كون المستفاد من دليل الاستصحاب هو جعل الحكم المماثل. و اشار الى عدم مساعدة الظهور في قضية لا تنقض على ترتيب آثار اليقين الاستقلالي بقوله: ( (لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل لحكمه شرعا)) بجعل الحكم المماثل لما كان اليقين فيه موضوعيا، لانه انما يكون ذلك حيث يكون اليقين ملحوظا بنحو الاستقلالية لا الآلية، و قد عرفت ان ظهور القضية في كون اليقين فيها ملحوظا بنحو الآلية و الطريقية.

(1) حاصله: دفع دخل يمكن ان يورد في المقام، و هو ان يقال: ان مصداق اليقين هو الذي يكون تارة ملحوظا بما هو مصداق حقيقة اليقين و ملحوظا بنفسه، و اخرى يكون ملحوظا بما هو طريق الى المتيقن. اما مفهوم اليقين الكلي فلا يكون منظورا دائما إلّا بالنظر الاستقلالي، و من الواضح ان الذي وقع مفعولا في القضية هو مفهوم اليقين لا مصداق اليقين.

و حاصل الدفع: انه من الواضح انه لا يراد في هذه القضية مفهوم اليقين بما هو مفهوم، لانه ليس له اثر حتى يلزم ترتيبه، فهذا المفهوم المنظور بالاستقلال قد كان عنوانا لمعنونه في الخارج، و حيث كان الظاهر من معنونه في الخارج هو فرد اليقين الطريقي، فلا محالة من سراية الآلية من المصداق الخارجي المعنون بهذا العنوان الى نفس العنوان، و المراد من هذه السراية هو كون مفهوم اليقين المنظور بالاستقلال قد اخذ في القضية لترتيب آثار اليقين الطريقي، و لما كانت آثار اليقين الطريقي هي آثار متعلقه و هو المتيقن كان اخذ اليقين في القضية بمفهومه في موضوع الحكم فيها- و هو النهي عن النقض- كناية عن البناء العملي، لاجل البناء العملي على المتيقن، مع عدم دخل اليقين في ذلك الحكم اصلا، لان المفروض ان الحكم هو البناء العملي على المتيقن، و لا دخل لليقين في مقام حكم المتيقن. و قد اشار الى ما ذكرنا من

ص: 411

فافهم (1).

ثم إنه حيث كان كل من الحكم الشرعي و موضوعه مع الشك قابلا للتنزيل بلا تصرف و تأويل، غاية الامر تنزيل الموضوع بجعل مماثل حكمه، و تنزيل الحكم بجعل مثله- كما أشير إليه آنفا- كان قضية لا تنقض

______________________________

الدفع بقوله: ( (و ذلك لسراية الآلية و المرآتية من اليقين الخارجي)) الذي هو معنون العنوان ( (الى مفهومه الكلي)) الذي هو العنوان ( (فيؤخذ)) اليقين بمفهومه ( (في موضوع الحكم)) في قضية لا تنقض مثلا ( (في مقام بيان حكمه)) أي في مقام بيان حكم اليقين الخارجي الطريقي، الذي عرفت ان حكمه هو البناء العملي على متعلقه الذي هو المتيقن ( (مع عدم دخله فيه اصلا)) أي مع عدم دخل اليقين بمفهومه و بما هو منظور بالاستقلال في ترتيب الحكم المقصود في القضية، ( (كما ربما يؤخذ)) اليقين بمفهومه المنظور بالاستقلال لاجل معنونه و مطابقه و هو اليقين الخارجي الاستقلالي لا الطريقي و هو اليقين الموضوعي ( (فيما له دخل فيه)) أي فيما كان لليقين الموضوعي دخل فيه بنحو جزء الموضوع للحكم ( (او)) فيما كان له ( (تمام الدخل)) و هو الحكم الذي كان اليقين فيه تمام الموضوع.

(1) لعله اشارة الى ما يمكن ان يقال: انه اذا كان اليقين في القضية و المأخوذ فيها مفعولا للكلام هو مفهوم اليقين المنظور بالاستقلال، و كان المراد في مقام الحكم هو اليقين الطريقي- يلزم الجمع بين اللحاظ الآلي و الاستقلالي، و الجمع بين هذين اللحاظين محال.

و الجواب عنه: ان المنظور بالاستقلال في القضية هو مفهوم اليقين، و الذي يكون طريقيا هو وجود اليقين خارجا، و هذا اليقين الخارجي لم يتحقق بوجوده الخارجي المختص به في القضية، و انما المتصور في القضية هو عنوانه و هو مفهوم اليقين، و لكنه بما هو عنوان لليقين الذي في ظرف وجوده يكون طريقيا و آليا .. فلا جمع بين اللحاظين.

ص: 412

ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية و الموضوعية (1)، و اختصاص المورد بالاخيرة لا يوجب تخصيصها بها، خصوصا بعد

______________________________

شمول الاستصحاب لكل من الشبهة الحكمية و الموضوعية

(1) الغرض شمول دليل الاستصحاب لكل من الشبهة الحكمية و الموضوعية.

و توضيح ذلك يحتاج الى بيان امور:

الاول: ان المتيقن في الشبهة الحكمية هو الحكم الكلي، كما لو شككنا- مثلا- في وجوب صلاة الجمعة في حال الغيبة. و المتيقن في الشبهة الموضوعية هو المجعول الجزئي، و لكنه تارة يكون نفس المجعول الجزئي هو المتعلق لليقين، كالطهارة الوضوئية في الصحيحة فانها بنفسها مجعول شرعي. و اخرى يكون المتيقن هو الموضوع للحكم المجعول، كالخمر المشكوك خمريته بعد اليقين بخمريته، او الماء المشكوك طهارته بعد اليقين بطهارته .. فظهر ان المتيقن في الشبهة الموضوعية أمر جزئي.

الثاني: ان العنوان في قضية لا تنقض هو عنوان اليقين و الشك، و هو بمدلوله يشمل ما كان متعلقه الحكم الكلي و الحكم الجزئي، سواء كان بنفسه متعلق اليقين أو كان موضوعه هو المتعلق له.

الثالث: ان كون مفاد الاستصحاب هو جعل الحكم المماثل لا يستلزم تصرفا و تأويلا، لان جعل الحكم المماثل مستفاد من لازم المدلول المطابقي الذي هو النهي عن نقض اليقين المكنى به عن البناء العملي على طبق ما كان، المستلزم ذلك لجعل الحكم المماثل في ظرف الشك، فتارة يكون حكما كليا مماثلا للحكم الكلي المتيقن، و اخرى يكون حكما جزئيا مماثلا للحكم المتيقن، و ثالثة يكون حكما جزئيا مماثلا لحكم الموضوع المتيقن.

فاذا عرفت هذا ... فنقول: ان المستفاد من قضية لا تنقض تنزيل متعلق الشك منزلة متعلق اليقين بهذا العنوان الشامل للشبهتين، و كون هذا العنوان الشامل يرجع الى جعل حكم مماثل للحكم تارة و لحكم الموضوع اخرى لا يقتضي تصرفا و تأويلا، و حاله كشمول حديث الرفع للشبهة الحكمية و الموضوعية بعنوان كونه مما لم يعلم.

ص: 413

ملاحظة أنها قضية كلية ارتكازية، قد أتي بها في غير مورد لاجل الاستدلال بها على حكم المورد، فتأمل (1).

______________________________

و متى كان العنوان بذاته له اطلاق و لا يستلزم الاطلاق فيه الى مئونة تصرف و تأويل ليحتاج الى ما يدل على ذلك التصرف و التأويل، فلا محالة من كون العنوان في هذه القضية شاملا لكل ما كان متعلق اليقين و الشك، سواء كان المستصحب حكما كليا كما في الشبهة الحكمية، او حكما جزئيا كما في الشبهة الموضوعية.

فتحصل مما ذكرنا: ان الاطلاق في قضية لا تنقض موجود و هو شامل لكلتا الشبهتين، و شموله لهما لا يحتاج الى تصرف و تأويل، فلا مناص من شمول دليل الاستصحاب للشبهة الحكمية و الشبهة الموضوعية. و قد اشار الى الامر الثاني المذكور بقوله: ( (ثم انه حيث كان كل من الحكم الشرعي)) في الشبهة الحكمية ( (و موضوعه)) في الشبهة الموضوعية ( (مع الشك قابلا للتنزيل)) لوضوح عدم المانع من تنزيل حكم منزلة حكم أو موضوع ذي حكم منزلة موضوع ذي حكم. و اشار الى الامر الثالث من انه اذا كان ذلك بعنوان شامل لهما لا يحتاج شموله لهما الى تصرف او تأويل ليحتاج الى قرينة تدل على ذلك بقوله: ( (بلا تصرف و تأويل)).

و اشار الى أن كون الاستصحاب دالا على جعل الحكم المماثل لا يستلزم ذلك تصرفا و تأويلا كما عرفت بقوله: ( (غاية الامر تنزيل الموضوع ... الى آخر الجملة)). و اشار الى انه بعد ان كان هذا الشمول متحققا في قضية لا تنقض و لا يستلزم تصرفا و تأويلا فلا محالة من كون قضية لا تنقض شاملة لكلتا الشبهتين بقوله: ( (كان قضية لا تنقض ... الى آخر الجملة)).

(1) يشير الى ما يمكن ان يقال: ان مورد الصحيحة هو الشبهة في المجعول الجزئي، و المورد في الاطلاق ان لم يوجب تقييد الاطلاق بما كان من سنخ المورد، فلا اقل من كونه موجبا لعدم احراز الاطلاق الشامل لسنخ المورد و لغيره و هو الشبهة الحكمية.

ص: 414

.....

______________________________

و الجواب عنه، أولا: ان المورد الذي يقتضي ذلك هو غير المورد الذي كان سوق القضية فيه يدل على انه احد مصاديق المعنى الكلي المستفاد من القضية، و قوله عليه السّلام في الصحيحة- فانه على يقين من وضوئه و لا ينقض اليقين بالشك- ظاهر في ان المورد احد مصاديق هذه الكلية.

و ثانيا: انه بعد ما عرفت من كون قضية لا تنقض كانت علة للحكم من باب كونها قضية ارتكازية لا ينبغي الريب في شمولها لكلتا الشبهتين، لوضوح عدم الفرق في القضية الارتكازية بينهما، و قد اشار الى الاشكال بقوله: ( (و اختصاص المورد)) في الصحيحة ( (بالاخيرة)) و هي الشبهة في المجعول الجزئي، و اشار الى الجواب الاول بقوله: ( (لا يوجب تخصيصها بها))، و اشار الى الجواب الثاني بقوله: ( (بعد ملاحظة انها قضية كلية ارتكازية ... الى آخر الجملة)).

ص: 415

ص: 416

الفهرس

ص: 417

ص: 418

الفهرس

تنبيهات البراءة: الاول اشتراط جريان البراءة بعدم وجود اصل موضوعي 1

أصالة عدم التذكية 3

جريان اصالة عدم التذكية اذا شك فيها و صور المسألة 6

صور الشك في التذكية بالشبهة الموضوعية 13

الثاني: حسن الاحتياط شرعا و عقلا 15

إشكال جريان الاحتياط في العبادات 16

الجواب عن الاشكال باستكشاف الأمر بالاحتياط لمّا و مناقشة المصنف (قده) فيه 18

الجواب عن الاشكال بترتب الثواب على الاحتياط 21

جواب الشيخ الأعظم (قده) عن الاشكال 23

ايراد المصنف (قده) على جواب الشيخ الأعظم (قده) 24

مختار المصنف (قده) في دفع الاشكال 27

الجواب الخامس في دفع الإشكال بأخبار من بلغ 33

المستفاد من دلالة أخبار من بلغ 37

الثالث: جريان البراءة و عدمها في الشبهة الموضوعية التحريميّة 49

أنحاء تعلق النهي بالطبيعة 50

الرابع: حسن الاحتياط ما لم يلزم منه اختلال النظام 57

دوران الأمر بين المحذورين 60

الوجوه و الأقوال في المسألة 60

مختار المصنف (قده) في المسألة 61

الموانع المتوهّمة عن شمول دليل الاباحة للمقام 62

ص: 419

الفهرس

عدم تأتي الوجوه كلها الّا على التوصليين أو كان احدهما المردد تعبديا 72

استقلال العقل بالتخيير بما لم يكن ترجيح في احدهما 75

دفع وهم ترجيح احتمال الحرمة لأولوية دفع المفسدة 78

أصالة الاحتياط 80

المقام الاول: دوران الأمر بين المتباينين 81

الاقوال في العلم الاجمالي خمسة 81

منجزية العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي من جميع الجهات 84

الفرق بين العلم التفصيلي و الاجمالي 88

منجزية العلم الاجمالي في التدريجيات 97

تنبيهات: الاول: الاضطرار الى بعض اطراف العلم الاجمالي 99

الثاني: شرطية الابتلاء بتمام الاطراف 112

الضابط في ما هو داخل في محل الابتلاء مما هو خارج عنه 115

المرجع عند الشك في الخروج عن محل الابتلاء 118

الثالث: الشبهة غير المحصورة 120

الرابع: ملاقي بعض اطراف الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي 125

وجوب الاجتناب عن خصوص الملاقى دون الملاقي 130

وجوب الاجتناب عن خصوص الملاقي دون الملاقى 132

وجوب الاجتناب عن الملاقي و الملاقى معا 135

المقام الثاني: في الأقل و الأكثر الارتباطيين 136

الاقوال في دوران الأمر بين الاقل و الاكثر الارتباطيين 137

فساد توهم انحلال العلم الاجمالي 138

ص: 420

الفهرس

مانع عدم الانحلال من ناحية الغرض 144

الجواب عنه بوجوه ثلاثة 151

تعريض المصنف (قده) بالوجوه الثلاثة 154

انحلال العلم الاجمالي بالاقل و الاكثر الارتباطيين بالبراءة الشرعية 170

جريان البراءة في الجزئية بلحاظ منشأ الانتزاع 174

تنبيهات: الاول: الدوران بين المطلق و المقيد و العام و الخاص 179

جريان البراءة الشرعية في المطلق و المشروط دون الخاص و العام 184

الثاني: الشك في اطلاق الجزء أو الشرط لحال النسيان 187

اشكال الشيخ الاعظم (قده) في امكان رفع الجزئية او الشرطية واقعا في خصوص الناسي، و جواب المصنف (قده) عنه 191

الثالث: الشك في اشتراط عدم الزيادة 194

اثبات صحة العبادة مع الزيادة باستصحاب الصحة 205

الرابع: الشك في اطلاق الجزء أو الشرط لحال العجز 209

استصحاب وجوب الباقي الفاقد للجزء المتعذر 214

الاخبار التي ادعي دلالتها على وجوب الباقي بعد التعذر 219

قاعدة الميسور 235

تذنيب: دوران الأمر بين الجزئية و المانعية و نحوهما 243

خاتمة: شرائط الاصول العملية 245

حسن الاحتياط المستلزم للتكرار 245

اشتراط البراءة العقلية بالفحص 248

الاستدلال بالاجماع و العقل بوجوب الفحص بالبراءة النقلية 250

استدلال المصنف (قده) بالكتاب و السنة على اعتبار الفحص 254

ص: 421

الفهرس

اعتبار الفحص بالتخيير العقلي 257

في تبعة ترك الفحص و ترك التعلم 258

في احكام ترك الفحص 271

شرطان آخران لأصل البراءة 290

قاعدة (لا ضرر و لا ضرار) 296

جهات البحث في القاعدة اربع 296

المراد من لفظة: الضرر، و الضرار، و (لا) 300

احتمالات اربعة للفظة (لا) 304

نسبة القاعدة مع أدلة الاحكام الأولية 315

نسبة القاعدة مع أدلة الاحكام الثانوية 326

تعارض الضررين 328

فصل: في الاستصحاب 334

تعريف الاستصحاب 334

الاستصحاب مسألة اصولية 342

تقوّم الاستصحاب بأمرين: اليقين السابق، و الشك اللاحق 346

اعتبار وحدة القضيتين 347

توهّم عدم جريان الاستصحاب مع اتحاد القضيتين و الجواب عنه 348

اشكال حصول اتحاد القضيتين في استصحاب الاحكام الشرعية 349

الاشارة الى ردّ ما ذكره الشيخ الاعظم (قده) في الرسائل 352

اتحاد القضيتين بنظر العرف 354

ص: 422

الفهرس

دفع ما يدعى من التفصيل بين كون الحكم عقليا فلا يجري الاستصحاب و بين النقلي فيجري 359

استصحاب ما يثبت بالملازمة 361

ادلة حجية الاستصحاب 369

الوجه الاول: بناء العقلاء 369

المنع من الاستدلال ببناء العقلاء 370

الوجه الثاني: حجية الاستصحاب من باب الظن 375

الوجه الثالث: الاجماع 377

الوجه الرابع: الاخبار 379

الخبر الاول: الاستدلال بصحيحة زرارة في الشك في الوضوء 379

ضعف دعوى اختصاص الاستصحاب المستفاد من الصحيحة بباب الوضوء 387

الاستدلال على مختار المصنف (قده) و هو حجية الاستصحاب مطلقا 392

سؤال و جواب في المقام 402

التعريض بالشيخ الاعظم (قده) 406

شمول الاستصحاب لكل من الشبهة الحكمية و الموضوعية 413

الفهرس 417

آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

ص: 423

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.